الوضع في ليبيا بين الانتخابات واحتمالات تجدد الحرب

مقدمة:

يناقش هذا التقرير الوضع في ليبيا بين احتمال تجدد الحرب وفعل صندوق الذخيرة واحتمال عقد الانتخابات وحكم صندوق الاقتراع، مُستعرضًا ما يدفع/يمنع حدوث أي من هذيْن السيناريوهين، ثم يتطرق التقرير إلى مقاربة لحل الأزمة؛ استنادًا لخبرة عقد من الربيع العربي من دون تجاوز الخصوصية الليبية، وقبل هذا يستعرض التقرير سياقات وحواضن الأزمة الليبية الراهنة، وفي الخاتمة يستعرض التقرير بعض الخلاصات والنتائج.

أولا- الواقع الليبي: سياقات وحواضن

قبل التطرق لسيناريوهات المستقبل ومقاربات الحل يستعرض التقرير بعض السياقات التي يمثل التعرض لها ضرورة لفهم الظاهرة، فضلًا عن التنبؤ بمستقبلها، وصولًا إلى طرح تصور لحل تأزمها الحالي. وتتمثل أهم هذه السياقات المحيطة بالوضع الليبي والمؤثرة فيه فيما يلي:

1- يصعب القول أن ليبيا دولة تمتلك مؤسسات أو أن لديها أجهزة بالمعني التقليدي المتعارف عليه للدولة ومؤسساتها، وإنما أجسام يصِّحُ وصفها بالصورية؛ مرجع ذلك سنوات من الحكم الفردي الشخصي طوال فترة القذافي، فمثلًا الجيش لا يفرض سلطانه على كامل التراب الوطني فضلًا عن انقسامه، ولا الداخلية قادرة على فرض الأمن، فضلًا عن انتشار السلاح وتعدد الميليشيات المحلية والدولية[1]، والمصرف المركزي منقسم والرواتب متأخرة، وإنتاج النفط متعثر والوقود شحيح. وإجمالًا يمكن وصف المشهد الحالي اليوم بأنه مشهد “فراغ القوة وازدواج السلطة”، إذ لا توجد سلطة واحدة متفق عليها تحظى بشرعية طوعية كاملة ولا قوة قاهرة تملك بسطوتها إجبار القوى الأخرى على الانصياع لها[2].

2-كثيرًا ما يتم التغيير في ليبيا برعاية ودعم خارجي؛ فبداية من سقوط القذافي والتدخل الخارجي فيه وصولًا إلى حالة انعدام القدرة لدى الأطراف الداخلية منذ ثورة فبراير وحتى الآن، جرت الأحداث المهمة خارج البلاد ثم تم توظيف وترتيب الداخل بناء على ذلك؛ مثل الاتفاق السياسي (الصخيرات/المغرب)، والمؤتمرات الدولية (برلين1/برلين2)، وكذلك تدخل الأمم المتحدة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. فمنذ اتفاق الصخيرات 2015، والخارج هو مصدر الشرعية للحكومات وما تتخذه من إجراءات. ولذلك يمكن القول أن الخلل الأساسي في المشهد السياسي الليبي يكمن في تحول مصدر الشرعية من الداخل للخارج، فقد تم تجاوز كل القوانين الوطنية وخيارات الشعب الليبي، واعتماد اتفاقيات صُمِّمت خلف الكواليس كدستور يحكم العملية السياسية بعيدا عن السلطات التشريعية والقضائية الليبية، كما غاب الحوار الوطني على المستوى السياسي والاجتماعي عن كل التسويات السياسية المتفق عليها، وهو ما يجعل كل الأجسام الموجودة في المشهد السياسي اليوم فاقدة لمقومات الشرعية الدستورية والانتخابية.

وفي ظل هذه الظروف فإن قرار سحب الثقة من حكومة الدبيبة الذي أصدره البرلمان في 21 سبتمبر الماضي يعتبر في حكم العدم، كما كان قرار البرلمان بإقالة محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، وكذلك قرار حكومة السراج بمنع تداول العملة الصادرة عن روسيا، والقرار الصادر –أكثر من مرة– بالقبض على خليفة حفتر، ومثلها كثير من القرارات. فمنذ إسقاط حكم السلطات التشريعية والقضائية في 2015، وتعطيل اعتماد مشروع الدستور المنجز منذ 2017 واعتماد الاتفاقات المبرمة في الصخيرات وجنيف ومخرجات المؤتمرات الدولية كدستور للعملية السياسية، ارتبطت شرعية القرارات الوطنية برضا بعثة الأمم المتحدة والأطراف الخارجية الفاعلة، وهو ما لم يتوفر في قرار سحب الثقة أو أي من القرارات المذكورة آنفا[3].

3- يأتي التدخل الدولي هذه المرة من قبل الأمم المتحدة في شكل الاعتماد على مقاربة الانتخابات كحل للأزمة أو كسبيل لإنهاء النزاع، وهي عملية قفز على حقائق الواقع أو هروب من تحدياته نحو مشروع إجرائي، فضلًا عن أن هذه المقاربة المتجاوزة للواقع القافزة نحو الانتخابات وإن كانت نجحت في البرتغال عام 1974، إلا أنها تظل مهددة بالفشل الكبير ما لم يسبقها تهيئة مناسبة للواقع المحتضن لنتائجها، وبالتالي يتجدد الانقسام أو تعود الحرب أو كليهما، وهو ما يعني مزيدًا من التأزم[4].

فهي تقفز على المشهد متجاهلة جذور المشكلة وأسبابها، حيث تتجاهل انقلابات خليفة حفتر وتنكره للعملية السياسية في كل مرة وتتغاضى عن التدخلات الخارجية المزعزعة لاستقرار البلاد، كما أنها تصادر القرار الوطني عبر تحديد مسار العملية السياسية وطبيعة الاتفاقيات المبرمة والشخصيات الموقعة عليها، كما أنها تتجاهل حتى إقرار الدستور والاتفاق على القاعدة القانونية التي ستُجرى على أساسها الانتخابات، وهو ما يصنع حالة من الفوضى القانونية والسياسية، وعلى سبيل الذِكر لا الحصر فإن لجنة الـ75 المختارة من قِبل بعثة الأمم المتحدة تملك صلاحيات دستورية وتشريعية وقانونية لا تملكها أي سلطة وطنية؛ حيث يحق لها اعتماد الحكومة وسحب الثقة منها وإعداد مقترحات قوانين وقاعدة دستورية مؤقتة، وبعد رحيل مهندسة حوار جنيف المبعوثة الأممية ستيفاني وليامز[5] أصبحت لجنة الـ75 عاجزة حتى عن عقد اجتماعاتها الدورية والطارئة؛ حيث طالب 46 عضوًا من أعضاء اللجنة في 26 سبتمبر الماضي المبعوث الأممي يان كوبيش بعقد جلسة طارئة لمناقشة مستجدات المشهد السياسي، وهو تجسيد واضح لحالة الضعف والارتهان التي وصلت لها الشخصيات المتصدرة للمشهد السياسي[6].

4- الديمقراطية كعملية سياسية متعددة المستويات والإجراءات ليست بالقيمة المتجذرة أو الحاكمة في الحالة الليبية نظرًا لاعتبارات تاريخية وآنية متعددة؛ لأنها لو كانت كذلك لنجح الداخل خلال عقد كامل من الزمن في الانتقال ذاتيًا لحكومة واحدة ونظام سياسي مستقر، ولكن الخارج الآن (الأمم المتحدة) وبعد عقد من الزمن يراهن على الدفع نحو الانتخابات كحل للنزاع، ولذلك فإن تصور نجاح هذه العملية مشروط بتهيئة البيئة الداخلية بالشكل الذي يجعل الديمقراطية قابلة للعيش والعمل.

5- الخارج حتى على مستوى المؤسسات الدولية ليس نزيهًا ولا مُحصنًا في تعامله مع القضية الليبية، وإنما هو جزء من عملية صراع نفوذ دولي يتم من خلاله إعادة تشكيل المشهد من داخل هذه المؤسسات الأممية، وهو ما ثبتت صحته في تسريبات صحيفة الجارديان لمراسلات رئيس بعثة الأمم المتحدة برناردينو ليون مع وزير الخارجية الإمارتي عبد الله بن زايد بتاريخ  31 ديسمبر 2014، التي يقول فيها ليون لابن زايد: “في رأيي أن الخطة بـ(عقد مؤتمر سلام) أسوأ من إجراء حوار سياسي لأنه سيعامل الطرفين وكأنهما متساويين”، ويقول في نفس المراسلة: “إنه لن يشمل كل الأطراف في الحوار السياسي وأنه يعمل على تقويض شرعية المؤتمر الوطني وأن كل خطواته تمت بالتنسيق مع أعضاء من برلمان طبرق وسفير ليبيا في الإمارات “العارف النايض”، كما قال إنه “يعمل على تفكيك التحالف القائم بين تجار مصراتة والإسلاميين”، ويختم ليون رسالته بقوله إنه عُرِض عليه منصب رفيع كمستشار أعلى لكل بعثات الأمم المتحدة للوساطة، وهذا سيمنح للإمارات تأثيرًا على معظم بعثات الوساطة، لكن بالطبع إذا أردتم مني الاكتفاء بمنصبي في الأكاديمية الدبلوماسية سأرفض العرض”. وعلى عكس المتوقع لم تُحدِث تسريبات الجارديان تبعات سياسية رغم خطورتها، فقد نُشِرت في نوفمبر 2015 أي بعد مغادرة ليون لمنصبه وبعد الإعلان عن توقيع الاتفاق السياسي (الصخيرات) بالأحرف الأولى في 11 يوليو 2015 والذي تم في ظل رفض المؤتمر الوطني لمسودة الاتفاق المقترحة.

وعلى الرغم من رفض غالبية أعضاء برلمان طبرق والمؤتمر الوطني للاتفاق السياسي إلا أن بعثة الأمم المتحدة مضت في مسارها واختارت شخصيات سياسية ومسؤولين من الطرفين (البرلمان والمؤتمر) لتوقيع الصيغة النهائية من الاتفاق في 17 ديسمبر 2015، وأُعلن عن أعضاء المجلس الرئاسي الذي شمل 5 نواب و3 أعضاء مثلوا مناطق وأطراف مختلفة من الصراع وهم: أحمد معيتيق رجل أعمال- يمثل مصراتة، فتحي المجبري موالي لحفتر وإبراهيم الجضران من منطقة الهلال النفطي، وعلي القطراني ممثل حفتر، وموسى الكوني كممثل للجنوب، وعبدالسلام كاجمان –ممثل الإخوان- من الجنوب، عمر الأسود يمثل الزنتان، محمد عماري ممثل التجمع الإسلامي من الشرق، أحمد حمزة ممثل مؤيدي النظام السابق من الجنوب، وجرى تنصيب فايز السراج عضو برلمان طبرق كرئيس للمجلس الرئاسي، وجدير بالذكر في هذا السياق أن ليون وضع اسم فايز السراج -عضو برلمان طبرق- كرئيس للمجلس الرئاسي قبل الإعلان بلحظات عن توقيع الاتفاق.

رغم أن المجلس وحكومة الوفاق حظيا بدعم دولي وأصبحا الممثلين الشرعيين للبلاد في المحافل الدولية، وأعلن الإسلاميون المشاركون في الحكومة التوافقية أن الاتفاق السياسي أنهى انقلاب حفتر بجرة قلم، وأن الدولة الليبية استعادت شرعيتها الدولية؛ إلا أن حفتر أعلن رفضه للاتفاق واستمر في عملياته العسكرية في شرق البلاد ضد الإسلاميين وفي جنوبها ضد الكتائب التابعة للوفاق، وفي المقابل أعلن المجلس الرئاسي أن القوات التابعة له لن تتورط في نزاع مسلح مع الشركاء السياسيين[7]، لتكتمل بذلك صورة عدم النزاهة أو الحيادية التي تدفع أو تحكم عمل الفاعلين الدوليين والمؤسسات الأممية في ليبيا.

6- القبيلة في المجتمع الليبي لا هي بالقوية الفاعلة ولا هي بالضعيفة الغائبة، فهي كيان لا يفعل بذاته وإنما يجري توظيفه بشكل دائم لخدمة أهداف بعض الأطراف، فلا نستطيع أن نقول أن ليبيا دولة قبلية ولا يمكن أن نجزم بكونها دولة مؤسسات[8]، وهو ما يُضيف صعوبة جديدة أمام نجاح الانتخابات كإجراء لإنهاء النزاع، خصوصًا بعد اعتماد المُحاصصة المناطقية من قبل الأمم المتحدة في اختيار لجنة ال 75، وكذلك في تشكيل الحكومة الحالية حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة[9].

ثانيًا- سيناريوهات المستقبل:

يمكن أن يتجه مسار الوضع الليبي نحو أحد سيناريوهين، نستعرض ملامح كل منهما فيما يلي:

  • سيناريو الانتخابات واستقرار البلاد

يعد سيناريو إجراء الانتخابات هو الأقرب وفقا للاعتبارات الزمنية والإجرائية، إذ أنها حسب موعدها ستتم في غضون أقل من شهر من الآن (في 24 ديسمبر 2021)، وحتى في حال تأجيل الانتخابات الرئاسية يمكن إجراء الانتخابات البرلمانية. وبالإضافة للاعتبارات الزمنية فإن ثمة عددا من العوامل تدفع نحو إجراء الانتخابات في موعدها، هذه العوامل على النحو التالي:

1- تدخُّل تركيا عسكريًا وسياسيًا واستواء كفتي القوة العسكرية في الداخل الليبي، وهو ما أدى لوقف زحف حفتر وقواته نحو العاصمة طرابلس في مطلع أبريل 2019، ومكّن حكومة الوفاق الوطني برئاسة السراج وبعدها حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة من التواجد والسيطرة على أجزاء كبيرة من الإقليم بعد أن تمت محاصرتها من قبل وهددت فعليًا بفقد وجودها بشكل كامل، هذا التدخل لم يؤدِ فقط لتمكين حكومة الوفاق من حماية وجودها والتوجه بالهجوم نحو مناطق سيطرة حفتر، وإنما أدى لقناعة الفاعلين والداعمين بأن عملية الحسم العسكري من خلال حفتر لم تعُد ممكنة بل أصبح يواجه تحديًّا كبيرًا في حماية ما يقع تحت سيطرته، ولذلك كان التحذير المصري للجانب التركي بعدم تجاوز خط سرت-الجفرة، وبعدها حدثت تفاهمات مصرية تركية في عدد كبير وهام من الملفات والقضايا، وإن كان لم يظهر بعدُ حجم وطبيعة التفاهم المصري/التركي في الملف الليبي فهو حادث بالضرورة وستظهر معالمه ونتائجه في وقت ما، ولكن يبقى أن التدخل التركي نقل الموقف المصري من دعم حفتر عمليًا للسيطرة على كامل ليبيا عسكريًا إلى حمايته من الانهزام العسكري ومغادرة الحرب إلى التفاهم، وبعد فقد إمكانية الحسم عسكريًا فإن مجهود الأطراف والمكونات الداخلية وكذلك الفواعل الدولية يتجه نحو العملية الانتخابية على أمل أن تحقق ما لم تحققه الحرب، كلٌ حسب مصلحته.

2- تغير القيادة في الولايات المتحدة الأمريكية من أوباما وترامب إلى بايدن، وبالتالي تغير سياسة الابتعاد عن الملف الليبي أو عدم الاهتمام به أو حتى الاكتفاء بمجرد الوساطة والتواصل مع أطرافه خلال إدارتيْ أوباما وترامب، إلى الدفع نحو تسويته مع إدارة بايدن، التي تعتمد سياسة كاملة تتجه لتسوية الملفات والقضايا المختلفة. هذا الدفع الأمريكي نحو التسوية تمثل في اهتمام أكبر بالملف الليبي، وتدشن من خلال المبادرة التي طرحتها أمريكا لحل الأزمة أثناء اللقاء الذي عقده السفير الأمريكي في القاهرة جوناثان كوهين مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وكذلك من خلال الموقف الأمريكي تجاه الملف الليبي في الجهود التي تتم من قِبل الأمم المتحدة، والاهتمام الأكبر بتطورات المشهد الذي أكده سفير الولايات المتحدة لدى ليبيا ريتشارد نورلاند خلال اتصال هاتفي مع محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا قائلًا: “تفاعلًا أكثر قادمًا من واشنطن”[10]، بالإضافة إلى قانون دعم استقرار ليبيا الذي أقره الكونجرس الأمريكي في 28سبتمبر 2021، والذي يدفع نحو إجراء الانتخابات[11].

3- حالة التوافق الإقليمية التي سادت مؤخرًا؛ فمثلًا بعد المقاطعة القطرية تمت مصالحة مع قطر من جانب كل من مصر والإمارات والبحرين والسعودية، وبدلًا من المقاطعة والمواجهة-المصرية التركية حدثت مصالحة أو تفاهم بين الطرفين. ومع انزياح المواجهة لصالح التفاهم السياسي والاقتصادي، يصبح الملف الليبي واحدًا من الملفات المرشحة بقوة في ضوء معطيات الواقع الآن للتفاهم حولها بالشكل الذي يحقق للفاعلين جزءًا مُرضيًا من مصالحهم الاقتصادية والسياسية.

4- تمتع ليبيا بعدد كبير من المزايا الاقتصادية وتعاظم أهميتها السياسية؛ فعلى مستوى المزايا الاقتصادية ثمة حقول النفط واكتشافات الغاز الكبيرة في شرق المتوسط وعقود إعادة الإعمار التي تثير شهية مختلَف القوى، والعقود الاستثمارية المعطَّلة بين ليبيا وعدد من الدول والعمالة الأجنبية… إلى غير ذلك. وعلى مستوى الأهمية السياسية فإن التدخل الروسي في الملف الليبي يقلق الجانب الأمريكي ومن خلفه دول حلف شمال الأطلسي من أن تجد روسيا لنفسها موطئ قدم جنوب المتوسط يهدد أمن مناطق نفوذ الحلف، أو أن يتسبب في مشاكل لعملية إمدادات النفط والغاز أو يعبث باستقرار منطقة الساحل والصحراء الأفريقية. وإذا كان الحصول على المزايا الاقتصادية والتمتع بالأمن السياسي لن يحدث مع الحرب، ولم يستطِع أيٌ من الفاعلين الدوليين إكسابَ الطرف الموالي له القوة والشرعية اللازميْن للسيطرة على كامل البلاد بما يحقق مصلحته سياسيًا واقتصاديًا، فإن الدفع نحو الانتخابات والعمل على الخروج منها بنتائج تحقق المصلحة هو الأقرب للواقع أو الأقرب للتحقق.

  • إقرار قوانين الانتخاب الرئاسية والبرلمانية وتجاوز الإشكالات والاختلافات عليها وحولها، وبذلك تكون هنالك بيئة دولية دافعة نحو الانتخابات[12]، وترقب محلي لها، ومساعي سياسية متعددة للاستفادة منها، ويبقى أن يتم إجراء الاقتراع في موعده.

* معوقات هذا السيناريو:

أ- غياب القاعد الدستورية الناظمة للعملية الانتخابية حتى كتابة هذا التقرير (النصف الأول من ديسمبر 2021)؛ فحتى الآن لم يتم الاتفاق حول طبيعة النظام السياسي هل هو رئاسي أم برلماني، في حين أن قوانين الانتخابات أُعِدَّت بافتراض أنه نظام رئاسي. هذا الغياب يفتح الباب أمام نسف العملية الانتخابية في حال تمت ولم تأتِ بالنتائج التي تُرضي الأطراف التي امتلكت من الأساس تأخير إصدار هذه القاعدة في شكل قانون منظم، وقد يكون هذا النسف سياسيًا أوعسكريًا أو قضائيًا مثلما تم إبطال الانتخابات البرلمانية عبر المحكمة العليا في 2014. بعبارة أخرى، يمكن القول أن إجراء الانتخابات في ظل غياب القاعدة يُبقي أدوات التحكم والتملك في يد بعض المتنفذين داخليًا وخارجيًا بحيث يمكن العودة لأي مرحلة من مراحل الأزمة في أي لحظة، كما يُبقي الباب مفتوحًا أمام التدخل الخارجي للتأثير على العملية والدفع بتطورات الأزمة إلى ما يحقق مصلحة هذا الطرف وينسف مصالح منافسيه. ومن ثم فإن غياب القاعدة الدستورية الناظمة للعملية الانتخابية واحد من أهم الأسباب التي قد تؤدي إلى فشل سيناريو الانتخابات لصالح سيناريو الحرب أو الانقسام أو كليهما معًا.

ب- عوار القوانين المنظِّمة للعملية الانتخابية الرئاسية والبرلمانية وعدم الاتفاق حولها بين الكيانات السياسية والتشريعية الموجودة؛ فالمجلس الأعلى للدولة لا يزال يعتبرها معيبة وهو صاحب رأي استشاري فيها كما ينص على ذلك الاتفاق السياسي. بالإضافة إلى تجاوز النصاب القانوني اللازم لإصدارها، وكثرة الجدل السياسي حولها من حيث كونها معيبة أو منحازة أو حتى غير شرعية أو تم التلاعب بها من أجل حفظ المكان السياسي لبعض من شاركوا في إصدارها؛ مثلما جرى تعديل الإجراءات بحيث تصبح الانتخابات البرلمانية بعد الرئاسية بشهر كامل بدلا من إجرائهما معًا وهو ما يعني أنه في حال حدوث أي مشاكل سيبقى البرلمان في موقعه سواء تسلم السلطةَ رئيسٌ جديدٌ أم بقيت في يد الحكومة الانتقالية (حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة)، وبالمثل في حال توحدت البلاد فعليًا أم انقسمت فإن المواقع السياسية محفوظه لهؤلاء لأنهم آخر من يتركون مواقعهم –إذا تركوها.

ج- ضعف المنظومة الأمنية والإدارية الليبية اللازمة لإجراء انتخابات في كامل الإقليم الليبي، خاصة مع عدم خضوع البلاد بشكل كامل وتام حتى الآن لحكومة الوحدة الوطنية، وعدم التوصل لحل حتى الآن في توحيد المؤسسة العسكرية بالإضافة لوجود ميليشيات محلية ودولية مسلحة. كلٌ من هذه الأطراف له مصالحه التي ستقوده إما لتعطيل العملية برمتها أو الدفع بها نحو نتيجة معينة تحفظ مصالحه، وهذا يثير مخاوف كبيرة وحقيقية حول إمكانية إتمام الانتخابات في كثير من أجزاء الإقليم، وتزداد المخاوف أكثر حول نزاهة العملية في حال تمت في هذه المناطق، بالإضافة للتخوفات الكبيرة من ضعف قدرة/ عدم نزاهة المفوضية العليا للانتخابات، وكذلك المخاوف الكبيرة من التزوير والتلاعب[13]. فعلى سبيل المثال لا توجد ضمانات حقيقية حتى الآن لنزاهة العملية الانتخابية في المناطق التي يسيطر عليها خليفة حفتر في ظل انقسام الجيش وعدم سيطرة حكومة الوحدة الوطنية عليه في تلك المناطق، وضعف المنظومة الإدارية المتمثلة في المفوضية العليا للانتخابات، وعدم قدرة الأمم المتحدة على توفير المنظومة الإدارية والكوادر البشرية التي تراقب هذه العملية في كامل التراب الليبي.

بعبارة أخرى، يمكن إجمال هذه الحالة بأننا أمام انتخابات تجرى في بلد منقسم فعليًا متحارب واقعيًا يهادن كلا طرفيه الآخر، مُنتظرًا ما إذا كان صندوق الانتخابات سيأتيه بما يريد بشكل شرعي داخليًا وخارجيًا، أم أنه سيعود ويجعل صندوق الذخيرة هو الفاعل والحكم من جديد.

  • سيناريو استمرار الانقسام وتجدد الحرب:

مع اقتراب موعد الانتخابات تزداد الصعوبات أمام عملية إجرائها ويظهر فارق كبير بين ما يُتخَّذ من إجراءات على الأرض وما هو مخطط له في خارطة الطريق، هذه الفوارق وتلك الصعوبات تدفع نحو استمرار الانقسام الموجود وتقود إلى بعث الحرب من جديد. ومن أهم العوامل التي تدعم حدوث هذا السيناريو:

1- عدم القدرة على توحيد المؤسسة العسكرية رغم كثرة الجهود الدولية المبذولة في هذا الإطار منذ وقت طويل، فلم تفلح جهود الخارج في تمكين المؤسسات السياسية الجديدة من قيادة المؤسسة العسكرية من جانب رئيس الحكومة (عبد الحميد الدبيبة) المحتفظ لنفسه بمنصب وزير الدفاع المختلَف على تسميته منذ وقت طويل، أو في تمكين رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي كقائد أعلى للقوات المسلحة، أو في إخراج الميليشيات العسكرية والقوى الأجنبية من البلاد. وطالما أن الوضع هكذا فمن الصعب أن يتخلى أي من أطراف النزاع عن القوة العسكرية التي يعتمد عليها سواء كانت في شكل قوى أجنبية أو ميليشيات أو مرتزقة، وسيصبح الأمر أكثر صعوبة في حال كانت نتائج الانتخابات في غير صالح من يملك القوة اللازمة لتعطيل هذه العملية برمتها وهو أمر ممكن طبقًا لمقتضيات الواقع الآن.

2- يحدث هذا خاصة في ظل هشاشة الوضع الأمني وعدم قدرة حكومة الوحدة الوطنية على تهيئة البيئة أمنيًا بما يسمح بتأمين إجراء الانتخابات، فالاعتداء على محكمة سبها يوم 30 نوفمبر قبل الجلسة المحددة لنظر طعون المرشح سيف الإسلام القذافي، وتصريح وزير الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية خالد مازن بعدها قائلًا: “استمرار عرقلة الخطة الأمنية سيؤدي إلى الإضرار بالعملية الانتخابية وإقامتها في موعدها وخروجها عن السيطرة”[14]. كل هذا يؤكد أن تعطيل الانتخابات لصالح الحرب لا ينتظر سوى أمر أحد القادة لأحد المقاتلين بإطلاق الرصاصة الأولى وبعدها يتحارب الجميع من جديد سواء كان ذلك اعتراضًا على استبعاد أحد المرشحين أو رفضًا لنتائج الانتخابات، والأهم من ذلك أن من يرفض الجوانب الإجرائية (الاستبعاد من الترشح/ نتائج الانتخابات) يصعب أن يُسلِّم بالقضايا العملية مثل الخروج من السلطة أو التخلي عن القوة (الجيش والميليشا وغيرها). يبقى أن الانتخابات في هذه الظروف إجراء شديد الصعوبة، والتسليم بنتائجها أصعب، بما يجعل الاستقرار بعدها احتمال بعيد نسبيًا ومرحليًا.

3- رعونة بعض القوى الإقليمية وإصرارها على استبعاد أو إفناء بعض التيارات السياسية في ليبيا وغيرها، مثل تعقب الإمارات لجماعات ما يُسمى بالإسلام السياسي في ليبيا وفي كل دول الربيع العربي، وكذلك الدول الحليفة لهم، وهو ما يجعل الإمارات على سبيل المثال تقف ضد أي تسوية تشمل هؤلاء داخلها وتدفع بما يُقصيهم من المشهد وينهي وجودهم السياسي. والانتخابات بلا شك ستؤدي لحظ ليس بالقليل لهؤلاء وحلفائهم.

4- اختلاف الخطاب السياسي عن الفعل السياسي لبعض الفاعلين الدوليين مثل (مصر- الإمارات- فرنسا- روسيا)؛ فهؤلاء يؤيدون الشرعية قولًا ويدعمون حفتر واقعًا، يدعمون الانتخابات قولًا ويعيقون مسارها واقعًا.

5- سياسة البرلمان في إصدار التشريعات وفي بعض ما يتخذه من إجراءات مثل إجراء سحب الثقة من الحكومة، وتأخير الانتخابات التشريعية عن الرئاسية وإصدار قوانين يلحق العوارُ بعضَ أجزائها، فضلًا عن تخطي النصاب القانوني اللازم لإصدارها، وتجاوز الاتفاق السياسي في عملية إصدارها والذي يقضي بالتشاور مع المجلس الأعلى للدولة وهو ما لم يحدث، هذا في ظل غياب مرجعية دستورية يمكن الاحتكام إليها، وتعدد المحاكم التي يمكن اللجوء إليها في هذا الإطار، وقبل كل هذا تعطيل مشروع الدستور الجاهز منذ 2017، وكذلك التغاضي عن التوافق على قاعدة دستورية تجري على أساسها الانتخابات. وهو ما يجعلنا أمام نوع من الفوضى القانونية/التنفيذية التي تجعل عرقلة الانتخابات والانقضاض على نتائجها ممكنًا في أي وقت من قِبل أي طرف خاصة لو كان له نفوذ أو تحت يده قوة.

6- هذه السياسة المُتعمدة في تغييب القاعدة القانونية وتعطيل الدستور وإصدار القانون المعيب، وتجاوز النصاب القانوني اللازم لإصداره، تفيد بعض أصحاب النفوذ على مستوى البقاء في مواقعهم حال لم تتم الانتخابات أو فشلت أو جرى الاعتراض القانوني عليها أو تأجلت، ولذلك فإن خوف هؤلاء النافذين على سلطانهم في ظل نفوذهم هذا، واحدًا من أهم أسباب التي تدفع نحو تجدد الحرب واستمرار الانقسام، حتى لو ظهر خطاب سياسي مُغاير لذلك.

* معوقات هذا السيناريو:

يدفع ضد تجدد الحرب عدد من العوامل مثل:

1- قناعة الأطراف بعدم القدرة على الحل عسكريًا، خصوصًا بعد التدخل التركي وزيادة الاهتمام الأمريكي والدفع الأممي نحو الانتخابات.

2- زيادة النفوذ الروسي-التركي الذي يعني الجنوح إلى التوافق المُحقِّق للمصالح وليس الصراع المُستنفِذ للقوة.

3- الدفع الأمريكي المتزايد نحو إنجاز الانتخابات وإحداث استقرار في ليبيا لتأمين ملفات الطاقة والإرهاب والهجرة.

  • المصالح الاقتصادية للأطراف الدولية، والتي تتطلب شيئًا من الاستقرار ولا تتحقق مع الحرب، وبالتالي تتطلب إنجاز الانتخابات.
  • السيناريو الأقرب (رحلة البحث عن الاستقرار المفقود):

يبقى احتمال أن يشتعل صندوق الاقتراع برصاص البندقية باقيًا ما بقيت أدوات الحرب جاهزة في يد المتقاتلين، قد تتجدد الحرب في حال تم تزوير الانتخابات نتيجة الانفلات الأمني وخاصة جنوب وغرب البلاد، أو بعد إجراء الانتخابات نتيجة الاختلاف على نتائج بعض الدوائر، أو لاستباق النتائج النهائية.

وقد تتجدد الحرب بعد إجراء الانتخابات وإعلان نتائجها، وتتوسع دوائر الانقسام في حال تم انتخاب رئيس ولم تعترف به بعض القوى أو بعض المؤسسات أو جرى الانقلاب عليه عسكريًا أو سحب شرعيته قضائيًا أو محاولة تقويضه سياسيًا، ولذلك فإن إجراء الانتخابات ونجاحها في تسمية رئيس لا يعني بالضرورة أن تذهب البلاد للاستقرار السياسي والأمني المؤدي لتمكين السلطة التنفيذية من العمل على المشاكل اليومية للمواطن، لأن الموقف لم يُحسم بعد في كثير من القضايا محل الخلاف مثل توحيد المؤسسة العسكرية وإنجاز الدستور وتوزيع السلطة بين الأقاليم والفاعلين، وكذلك لم تصل بعدُ القوى الدولية لتوافق حول ما ستأخذ وتترك كل واحدة منها.

تطورات المشهد في ليبيا التي تتجدد كل يوم تقريبًا، خاصة مع اقتراب موعد الاقتراع في 24 ديسمبر، تجعل الجزم بحدوث سيناريو على حساب آخر أمر غاية في الصعوبة، فالمشهد الليبي سائل بدرجة كبيرة إلا من بعض الجوانب الصلبة مثل:

أ-تمتع ليبيا بمميزات اقتصادية وسياسية تجعلها محط اهتمام دولي وإقليمي كبير وتجعل استقرارها ضرورة لحماية هذه المصالح.

ب-الدفع الأممي المستمر نحو إجراء الانتخابات لتجاوز الحرب في ليبيا.

ج- الخارج هو الفاعل الأكثر أهمية والأقوى في ليبيا والقادر على ترتيب جوانب الصورة بشكل كبير، بل هو مصدر الشرعية منذ اتفاق الصخيرات في 2015 حتى الآن.

وبناء على ما سبق فإن الباحث يُرجح أن تسير الأمور في اتجاه يؤدي لنوع من الاستقرار الصوري أو السطحي يحقق مصالح الفاعلين ولا يُلبي رغبات المواطنين (هذا في حال تمت الانتخابات أو تأجلت، تجددت الحرب جزئيًا أو لم تتجدد)؛ فالخارج مانحُ الشرعية وصاحب اليد الطولى في ترتيب المشهد يحتاج إلى الاستقرار ليحقق مصالحه الاقتصادية والسياسية والأمنية في ليبيا[15].

ثالثًا- مقاربة للحل:

تقوم هذه المقاربة على أضلاع ثلاثة تمثل في مجملها عملية متكاملة يمكن أن تؤدي لحل حقيقي للأزمة الليبية سياسيًا واقتصاديا، وهذه الأضلاع الثلاثة هي:

  • الدينار قبل الشعار:

وضع الدينار قبل الشعار يعني عدم الانجرار خلف قضايا الهوية أو البرنامج السياسي أو الشكل الحزبي أو الخيار التنظيمي أو غيرها من القضايا التي تمثل فخًا كبيرًا للانشغال عن قضايا التنمية وما يمس المعاش اليومي للناس، فالانجرار خلف نقاشات وقضايا تولد خلافات من قبيل: ليبيا إسلامية عربية أو دولة مدنية/ برلمانية أو رئاسية/ نظام حزبي…إلخ، يمثل بالضرورة حالة من الانشغال عن حل مشاكل المواطن اليومية في الوقود والسيولة النقدية والمرور وتراكم القمامة وتأخر الرواتب والفقر والانفلات الأمني قبل كل ذلك، ولذلك فإن العمل الضروري -وفق تقدير الباحث- يتجه نحو كل ما يتعلق بالتنمية ومعاش الناس خصوصًا ما كان منه عاجلًا آنيًا أو يمثل مصلحة لشرائح كبيرة من المواطنين، أو يتعلق بالاحتياجات الأكثر إلحاحًا للمرضى أو كبار السن أو أولئك الواقعين تحت خط الفقر ولم تزدهم الحرب إلا فقرًا.

هذا يمكن تحقيقه من خلال العمل على حلحلة ملف النفط وتأمين عملية إنتاجه وتصديره بشكل سريع، لأنه أسرع الموارد التي يمكن الاعتماد عليها للعمل على مشاكل الناس أو للتعاطي مع متطلبات التنمية، ولكن هذا لا يعني أن يتم الاعتماد على النفط وحده ولكن تكون البداية به لأنه الأسرع جدوى ثم تلحق به الزراعة وغيرها.

ويمكن إجمال هذا البند في؛ ترك الشعارات السياسية الهوياتية الحزبية المذهبية لصالح المشاكل اليومية التنموية الاقتصادية.

  • تسويات داخلية أمنية سياسية:

تأمين إنتاج وتصدير النفط اللازم لتفعيل البند الأول (الدينار قبل الشعار) يحتاج إلى توافقات داخلية واسعة أمنية سياسية تسمح بهذا وتحافظ عليه بعد ذلك، عن طريق العمل على كسب ولاء ما يمكن من القبائل والمجموعات المقاتلة، فعلى سبيل المثال يمكن العمل على كسب ولاء القبائل في الجنوب ومناطق الهلال النفطي[16]، وكذلك العمل على تغيير ولاء ما يمكن تغيير ولاءه من المجموعات المقاتلة عبر المال أو حتى السلطه، وإطلاق رؤية مناسبة لتوزيع الثروة والسلطة في الإقليم الشرقي الذي يحوز معظم آبار النفط ويسيطر عليه حفتر. ولكن حتى لو تم النجاح في كل ذلك فهو غير كافٍ لإنتاج النفط وتصديره وفرض الأمن وإيجاد التوافق السياسي، لأن أيًا من الفاعلين الدوليين قد يدفع ببعض الموالين له لنسف هذه العملية برمتها، وهو ما يظهر الحاجة للضلع الثالث المتجه نحو الخارج.

  • توافقات إقليمية ودولية “من منطق الكل يكسب”:

الخارج –كما سبق الذِكر- هو الفاعل الأهم وهو مانح الشرعية منذ اتفاق الصخيرات في 2015 وحتى الآن، وهو صاحب اليد الطولى في ترتيب المشهد، ولكن هذا الخارج ليس قوة أو جبهة واحدة بل إن الكتلة الواحدة منه تمثل رؤى واتجاهات مختلفة (الاتحاد الأوروبي مثالا)، وهذا الخارج المتدخل الآن عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، يحتاج حكمة كبيرة من قِبل صانع القرار في الداخل للتعامل مع هذا العدد الكبير من القوى المتدخلة في ليبيا كل حسب مصالحه وأهدافه.

وحسب تقدير الباحث فإنه يمكن استخدام بعض القوى لضرب مصالح البعض الآخر بشكل يحمي نفوذ الأول ولا يهدر مصالح الثاني، أو استخدام قدر من القوة من جانب بعض الأطراف لإرغام الجميع على أخذ بعض المصالح وترك البعض. فمثلًا يمكن استنفار الموقف الأمريكي لكسر حدة التدخل الروسي عن طريق الاتكاء على الجانب الأمريكي المعتمد على الفعل التركي، لإرغام الجانب الروسي الفرنسي المصري على القبول بالتحول نحو استقرار حقيقي يحفظ لهذا الأخير الحقوق الاقتصادية المتعلقة بالعقود المعطلة وبعض الاستثمارات وبعض من الاتفاقيات حول النفط والغاز بما لا يعيق عملية الانتقال السياسي نحو الاستقرار الذي تنشده الولايات المتحدة لتأمين جنوب المتوسط وأمن منطقة الساحل والصحراء ومنع حدوث مشاكل جديدة في قضية الهجرة التي تمثل أرقًا كبيرًا للاتحاد الأوروبي كله، وعليه يتم الضغط الأمريكي الذي يسمح لجبهة روسيا/مصر/الإمارات/فرنسا بتحقيق بعض المكاسب مقابل التنازل عن عرقلة عملية الانتقال السياسي أو حتى محاولة تشكيل جبهة سياسية يمكن لها فعل ذلك مستقبلًا، بمعنى أن يتخلى هؤلاء عن دعم وكلائهم المحليين في الحرب والانتخابات مقابل تأمين مصالحهم الاقتصادية.

يبقى أن هذه المقاربة تحتاج لتنفيذها إلى حكمة كبيرة من قِبل شخصية وطنية تفوز في الانتخابات القادمة أو تأتي بها توافقات دولية جديدة، لكنها لن تؤدي لحل حقيقي للأزمة في حال تحولت من مقاربة للحل إلى عملية تقسيم ثروة ونفوذ على القوى الدولية المتدخلة، فهي محاولة لحماية المصالح وإيجاد الاستقرار بما يقي شر الطامعين ويحقق رغبات وآمال المواطنين، فلا توجد مشكلة في أن تحوذ شركات أجنبية مصرية أو تركية أو روسية أو أمريكية أو.. عقود كبيرة أو صغيرة للتنقيب عن النفط والغاز أو لمد الطرق وبناء الكباري أو لاستثمارات طويلة طالما هناك احتياج وطني لها وبنود التعاقد عليها عادلة، وفي حال تم هذا يستفيد المواطن خدميًا وتقنع القوى المتدخلة بما ستحصده من هذه العقود. خلاصة القول في امتلاك الدعم الدولي المناسب لإنجاح محاولة بلورة المصالح الاقتصادية للقوى المختلفة بالشكل الذي يجعلها ترضى ب/تدفع نحو استقرار ليبيا وليس الاحتراب فيها.

خاتمة:

سبق الذكر خلال الدراسة أن الخارج هو مانح الشرعية منذ اتفاق الصخيرات 2015 وحتى الآن وهو الوحيد القادر على تشكيل جوانب الصورة، وعليه تبقى الكثير من القضايا الداخلية معلقة على توافق القوى الخارجية حولها، على سبيل المثال فإن مسألة إخراج المرتزقة والقوى الأجنبية مُلحقًا بها عملية توحيد المؤسسة العسكرية، معلقة على توافق القوى الدولية على إخراج مرتزقيها من ليبيا والتوقف عن دعم بعض الأطراف الداخلية حتى يصبح ممكنًا توحيد المؤسسة العسكرية؛ لأن هذه الأطراف لا تملك وحدها القدرة على عرقلة العملية الوطنية في حال فقدت السند الخارجي.

كما أن إجراء الانتخابات في موعدها من عدمه مرهون كذلك بنفس التوافق الخارجي حوله، ولكن الأهم من إجراء الانتخابات هو أن تؤدي للاستقرار، وهو مطلب يصعب تحقيقه حتى في حال تم إجراء الانتخابات، لأن أدوات الحرب ما تزال باقية، والمتحاربون ما يزالون في الميدان، ولكن بالتعويل على المصالح الاقتصادية والسياسية للقوى الخارجية والتي لن تتحقق مع الحرب، فإن الأمور حسب تقدير الباحث ستتجه نحو نوع من الاستقرار الصوري/السطحي الذي يحقق مصالح الفاعلين الدوليين ولا يُلبي رغبات المواطنين.

يبقى أن المسألة الليبية ما تزال جوانبها الرئيسية قيد التشكل، فجُل جوانبها محل نظر ونقاش وفعل متعدد الجوانب من قِبل الكثير من الفاعلين، ومستقبلها متعلق بكل هذا، ولكن إذا تمت الانتخابات أو حدث توافق دولي جديد وأتى بشخصية وطنية، استطاعت أن تفرض الأمن داخليًا عبر توافقات قبلية ورؤية واضحة مُرضية في توزيع الثروة والسلطة، بالشكل الذي يسمح بانتظام إنتاج وتصدير النفط، بما يسمح بالعمل على المشاكل اليومية للمواطن، واستطاعت قبل هذا أن تعمل على بلورة المصالح الدولية الاقتصادية والسياسية بالشكل الذي يجعل هذه القوى ترضى ب/تدفع نحو الاستقرار وليس الحرب، بقدر النجاح في هذا يتحقق نوع من الاستقرار يحمي البلاد من شر الطامعين ويحقق رغبات وآمال المواطنين.

=========================

الهوامش

[1] للمزيد حول طبيعة الدولة ومؤسساتها في ليبيا، انظر: يوسف لطفي، تفكيك المشهد الليبي: تشريح للواقع والفواعل، منتدى العاصمة، 12 يونيو 2020، تاريخ الاطلاع 15 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/ddwMz

[2] خالد خميس السحاتي، المسار الليبي للتسوية: بين اللقاءات والتسويات والاتفاقات والترتيبات والواقع على الأرض، قضايا ونظرات، عدد 22، يوليو 2021، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، ص 102، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/D2j7m

[3] يوسف لطفي، الانسداد السياسي في ليبيا: المسببات والجذور، منتدى العاصمة، 6 أكتوبر 2021، تاريخ الاطلاع 15نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/JOF1w

[4] للمزيد حول نقاط الضعف في مقاربة الأمم المتحدة للحل وأهم تجاربها السابقة والمعوقات أمام نجاحها في ليبيا، انظر: نذار كريكش، سيناريوهات: الانتخابات الليبية.. خطوة نحو الاستقرار أم شعلة لتفجير الوضع في البلاد، الجزيرة، 12 نوفمبر 2021، تم الاطلاع في 10 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/nXYQw

[5] عادت ستيفاني وليامز للشأن الليبي كمستشارة للأمين العام للأمم المتحدة للشأن الليبي (أنطونيو غوتيريش)، في 6 سبتمبر 2021 قبل حوالي أسبوعين من إجراء الانتخابات. انظر: الأمين العام يعين الأمريكية ستيفاني وليامز مستشارة خاصة معنية بالشأن الليبي، الأمم المتحدة، 6 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Y8Ahw

[6] يوسف لطفي، الانسداد السياسي في ليبيا المسببات والجذور، مرجع سابق.

[7] يوسف لطفي، تفكيك المشهد الليبي: تشريح للواقع والفواعل، مرجع سابق.

[8] للمزيد حول القبيلة في ليبيا وعمليات توظيفها والنظام السياسي في عهد القذافي وتوظيفه لها ودورها في فترة ما بعد الثورة، انظر: يوسف لطفي، تفكيك المشهد الليبي: تشريح للواقع والفواعل، مرجع سابق.

[9] للمزيد حول طريقة تشكيل الحكومة وعملية المحاصصة المناطقية، انظر: خالد خميس السحاتي، المسار الليبي للتسوية: بين اللقاءات والتسويات والاتفاقات والترتيبات والواقع على الأرض، مرجع سابق، ص 104 و105.

[10] للمزيد حول الموقف الأمريكي وطبيعة التطور فيه انظر: خالد خميس السحاتي، المسار الليبي للتسوية: بين اللقاءات والتسويات والاتفاقات والترتيبات والواقع على الأرض، مرجع سابق، ص 107.

[11] يتضمن القانون تقريرا عن أنشطة بعض الحكومات والجهات الفاعلة الأجنبية في ليبيا، وكذلك عن الأنشطة والأهداف الروسية في ليبيا. كما يتضمن إجراءات للتصدي للتدخل الأجنبي، ويتضمن العقوبات بحق الأشخاص الأجانب الذين يقودون أو يوجهون أو يدعمون تدخلات حكومية أجنبية معينة في ليبيا. وفيه كذلك معاقبة الأشخاص الأجانب الذين يهددون السلام أو الاستقرار في ليبيا، وعقوبات بحق الأجانب المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المعترف بها دوليًا المرتكبة في ليبيا أو المتواطئين فيها. للاطلاع على القانون انظر: https://cutt.us/XFHaI

[12] للمزيد حول عملية الضغط الدولي الدافع نحو الانتخابات انظر: حذر من إجراء أي تغييرات.. بيان أوروبي أميركي يشدد على إجراء الانتخابات الليبية في موعدها، الجزيرة، 7يونيو 2021، تم الاطلاع في 20 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/QS1qy

[13] انظر على سبيل المثال: محمود الورفلي، قناة ليبيا الأحرار، برنامج (مع خالد سعيد)، 3 ديسمبر 2021، تم الاطلاع في 10 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/1SLJn

[14] مؤتمر صحفي لوزيري الداخلية خالد مازن والعدل حليمة إبراهيم حول تأمين العملية الانتخابية، 30 نوفمبر 2021، تم الاطلاع في 10 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/3HsJg

[15] استدعاء الأمريكية ستيفاني وليامز كمستشارة خاصة بالشأن الليبي للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يدعم مثل هذا التصور، فعودتها من ناحية تأتي كمحاولة لإدراك التوافق حول ما لم يتم التوصل لتوافق عليه حتى الآن، وكذلك محاولة لاحتواء ما قد يقع من تداعيات في حال لم تتم الانتخابات في موعدها وأصبح الاختيار بين الحرب أو الاستقرار الصوري أو المرحلي؛ لأنها صاحبة الجهد الكبير في التفاهم السابق المؤدي للاتفاق السياسي الذي نتج عنه حكومة الوحدة الوطنية. للمزيد حول هذا انظر: السنوسي البسيكري، المساعي الدولية لإجراء الانتخابات، قناة ليبيا الأحرار، 9 ديسمبر 2021، تم الاطلاع في 10 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ChGPt

[16] ليس من الصعب العمل على كسب ولاء القبائل ولكن ذلك يحتاج عملية معقدة من توزيع المناصب السياسية والعسكرية بالشكل الذي يرضي كل هؤلاء في الوقت ذاته، ولكن يبقى كسب ولاء القبائل واحدًا من أهم الأدوات اللازمة لتوفير الأمن وبالتالي انتظام إنتاج النفط ومن بعد ذلك العمل على المشاكل اليومية للمواطن، التي ترتبط في كثير من جوانبها بهذين الملفين (الأمن- النفط). للمزيد حول ولاءات القبائل وتحولاتها انظر على سبيل المثال: خريطة تحالفات حفتر الداخلية: مواقع الولاءات والانشقاقات، العربي الجديد، 6 مايو 2020، تم الاطلاع في 10 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://2u.pw/JhNf7

فصلية قضايا ونظرات – العدد الرابع والعشرون – يناير 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى