النفط الأفريقي وصراعات القوى الكبرى

 

نستطيع أن نرى كثيرًا من العالم عبر قطرة نفط، إلا أنه لا يوجد شيء يفسر كل شيء، فالأحداث العالمية تملك أبعادًا أكثر مما تستطيع حالة واحدة رصده“.

ليف وينار (مؤلف كتاب “نفط الدم: الطغاة والعنف والقواعد التي تحكم العالم”)

إذا كانوا لا يعيدون استثمار ثروة الموارد لديهم باستثمارات فوق الأرض، فإنهم يصبحون أكثر فقرًا“.

جوزيف ستيجليتز (أستاذ في جامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت)

مقدمة:

يتصاعد الاهتمام الدولي بالنفط الأفريقي، في الآونة الأخيرة، خاصةً عقب الحرب الروسية الأوكرانية وتزايُد الطلب العالمي على النفط، وبلغ الطلب على النفط في أفريقيا ما معدله 4.36 مليون برميل يوميًا في عام 2022، بزيادة طفيفة مقارنةً بالعام السابق[1]، وترجح وكالة الطاقة الدولية (IEA) إمكانية أن تحل أفريقيا ككل محل ما يصل إلى خمس صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا بحلول عام 2030، مؤكدةً “أن 30 مليار متر مكعب إضافية من الغاز الأفريقي سنويًا قد تتدفق إلى أوروبا بحلول ذلك الوقت“.

وتتنافس الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وبعض الدول الأوروبية وتركيا والهند للسيطرة على الموارد الطبيعية الغنية في أفريقيا، ويشير المحللون إلى الوضع على أنه “التدافع الجديد من أجل أفريقيا[2]، مذكرين بذلك بأول “حرب” كبرى وقعت بين عامي 1881 و1914 وأسفرت عن تقسيم القارة من قبل القوى العظمى. ذلك في الوقت الذي تزداد فيه الاكتشافات النفطية في القارة، مع ما يشهده العالم من تصاعد حدة أزمة الوقود، الأمر الذي يدفعنا إلى طرح التساؤلات الآتية: ما أبرز الدول النفطية في القارة؟ ومن هم الفاعلون الرئيسيون في مجالات النفط في أفريقيا؟ وما دور الصراعات بين القوى الكبرى في تشكُل سياسات استغلال النفط الأفريقي؟ وما دور سياسات استغلال النفط في تأجيج الصراعات الداخلية؟

أولًا – الجغرافيا السياسية للنفط الأفريقي

يمثل حجم إنتاج النفط في القارة الأفريقية 8.1٪ من حجم الإنتاج العالمي بحسب تقديرات عام 2022، وذاك بعد أن كانت قد وصلت ذروتها في عام 2006 وبلغت 11٪ من حجم الإنتاج العالمي للنفط، ويبلغ احتياطي القارة من النفط 8٪ من الاحتياطي العالمي[3]. وتقسم أفريقيا إلى أربعة مناطق أساسية في إنتاج النفط تتفاوت فيما بينها سواء في حجم الإنتاج اليومي أو حجم الاحتياطي النفطي فيها، وهي: شمال، شرق ووسط، غرب وجنوب أفريقيا.

 

نسبة الإنتاج العالمي حسب المنطقة لعام 2021[4]

تضم منطقة شمال أفريقيا ثلاث دول من أكبر عشر دول منتجة للنفط في القارة هي (الجزائر، وليبيا، ومصر)، من بينهم عضوان في منظمة “الأوبك”، ليبيا والجزائر. تنتج الجزائر (970 ألف برميل يوميًا)، وتمثل ثالث أكبر منتج للنفط في القارة وفقًا لتقديرات 2022، بزيادة تلامس المائة ألف برميل عن مستويات عام 2021 البالغة 874 ألف برميل يوميًا، إلا أن تلك الأرقام تمثل تراجعًا كبيرًا في إنتاجها قبل جائحة كورونا والذي كان يبلغ حينها (1,3 مليون برميل).

وتمتلك الجزائر ثان أكبر احتياطي نفطي في القارة (ما يزيد عن 12 مليار برميل من احتياطيات النفط).

أما ليبيا، فتمتلك أكبر احتياطي نفطي في القارة الأفريقية يبلغ (46.4 مليار برميل)، وبلغ إنتاجها من النفط في عام 2021، ما يقرب من (1.17 مليون برميل يوميًا)، ومع ذلك، انخفض إنتاجها بسبب تدهور الوضع السياسي والأمني والهجمات المتتالية على منشآت النفط فيها ليصل إنتاجها اليومي إلى (946,000 برميل يوميًا) في عام 2022. أما مصر التي تحتل المرتبة الخامسة بين أكبر منتجي النفط في القارة، فيبلغ إنتاجها نحو (556,440 برميل يوميًا) في عام 2022، ويقدر احتياطيها النفطي بــــ (2,7 مليار برميل).

أما أبرز دول في غرب القارة إنتاجًا للنفط، فتأتي أولاً نيجيريا ثاني أكبر منتجي النفط في القارة في عام 2022 بإنتاج وصل إلى (1.02 مليون برميل يوميًا)، بعد انخفاض إنتاجها من (1.3 مليون برميل يوميًا)، ويبلغ احتياطيها نحو (36.91 مليار برميل)[5]. في حين تنتج غانا (172,000 برميل يوميًا) مع أكثر من (660 مليون برميل من احتياطيات النفط)، وتعد غانا ثامن أكبر منتج للنفط في أفريقيا، مع توقعات أن يزداد الإنتاج بما يصل إلى 420،000 برميل يوميًا في عام 2023. أما غينيا الاستوائية فتنتج (88 ألف برميل يوميًا) لعام 2022، وهو تراجع كبير عن مستويات عام 2021 البالغة 153 ألف برميل يوميًا.

في حين نجد أن إنتاج دول شرق ووسط القارة ضعيف من النفط، حيث نجد دولة واحدة من ذيل قائمة أكبر عشر دول منتجة للنفط في أفريقيا، وهي دولة تشاد التي تنتج (68,000) برميل يوميًا، وهو انخفاض كبير عن مستويات عام 2021 البالغة 109 آلاف برميل يوميًا. ويبلغ احتياطي النفط في تشاد نحو (مليار برميل) من النفط.

أما منطقة الجنوب الأفريقي، فأبرز منتجيها هي أنجولا أكبر مصدر للنفط الأفريقي في عام 2022، بمقدار (1.16 مليون برميل يوميًا)، متفوقةً بذلك على نيجيريا، وتتمتع أنجولا بأكثر من (9 مليارات برميل) من احتياطيات النفط.

المصدر: من إعداد الباحث، استنادًا إلى بيانات خريطة الدول المنتجة للنفط في أفريقيا بحسب تقديرات صحيفة “إنرجي كابيتال آند باور” الأفريقية[6]

ثانيًا– الفاعلون الأساسيون في مجال النفط في أفريقيا:

في هذه المساحة سوف نعمل على رسم خريطة مبدأية للشركات النفطية الفاعلة في عدد من الدول الأكثر إنتاجًا للنفط في أفريقيا، وهي: أنجولا، نيجيريا، الجزائر، تشاد. لا تشتمل تلك الخريطة على حصة كل شركة من النفط، حيث لم نتوصل إلى تلك المعلومات.

في أنجولا هناك العديد من الشركات الفاعلة في حقل النفط، ومن أبرز تلك الشركات وفقًا لقاعدة بيانات “Mordor Intelligence”، شركة إكسون موبيل الأمريكية، وتوتال إنرجيز إس إي الفرنسية، وإيني سبا الإيطالية، وبريتش بتروليوم، وشركة شيفرون الأمريكية[7].

كذلك هنالك 5 شركات أساسية فاعلة في سوق النفط النيجيري، وهي شركات: مؤسسة البترول الوطنية النيجيرية (NNPC)، وشركة شيفرون الأمريكية، وإكسون موبيل الأمريكية، وتوتال إنرجيز الفرنسية، شركة رويال داتش شل بي إل سي متعددة الجنسيات (بريطانية/ هولندية)[8]. أما دولة الجزائر فيعمل في حقل النفط بها خمس شركات أساسية، هي: إيني إس بي إيه الإيطالية، سوناطراك الجزائرية، شركة البترول الوطنية الصينية، ستات أويل النرويجية، وبريتش بتروليوم[9]. أما دولة تشاد فتعمل بها خمس شركات أساسية، هي: شركة البترول الوطنية الصينية، شركة إكسون موبيل الأمريكية، وتوتال إنرجيز الفرنسية، وشركة شيفرون الأمريكية، وجمعية الهيدروكربونات في تشاد[10].

ووفقًا لقاعدة بيانات (Oil Change International)، فإن 33٪ فقط من إنتاج النفط والغاز المتوقع في أفريقيا تسيطر عليه الشركات الأفريقية الوطنية، وتسيطر على نسبة أكثرية من السوق شركات أوروبية بنحو 36٪، في حين تمتلك الشركات الآسيوية 15٪ و10٪ للشركات الأمريكية[11]. من تلك الخريطة واستنادًا إلى هذه البيانات، نستطيع أن نصل إلى مؤشرات أولية عن الفاعلين الرئيسيين في مجال النفط في أفريقيا، وهم: الشركات الأوروبية (بريطانية، وفرنسية، هولندية ونرويجية)، والشركات الأمريكية والصينية.

تلك النسبة المرتفعة للشركات الأوروبية في قطاع النفط الأفريقي تُفسر بعاملين: التاريخ الاستعماري القديم لأوروبا، والعامل الثاني نظرًا لقوة تلك الشركات الأوروبية التي سبق وذكرناها، وكذلك الشركات الأمريكية فهي تُعد الوريث الاستعماري للشركات الأوروبية.

لكن هناك مُتغير قادم بقوة، ألا وهو الشركات النفطية الصينية والتي لم تناقش بحثيًا بشكلٍ موسع كمثيلاتها الغربية؛ لذا سوف نُسلط عليها مزيدًا من الضوء. تسعى الصين لوضع نفسها بين القوى الرئيسية في مجال الهيدروكربونات، وخاصةً في مجال النفط، لذلك تستثمر شركات النفط الوطنية الصينية بكثافة في استكشاف وإنتاج إمدادات النفط والغاز في أفريقيا، حيث إن أفريقيا هي ثاني أكبر منطقة في توريد النفط والغاز إلى الصين، بعد الشرق الأوسط.

يبلغ حجم الإنفاق الصيني في قطاع النفط الأفريقي في الفترة من 2019 وحتى 2023 نحو (15 مليار دولار)، وهناك ثلاث شركات تقوم بذلك الإنفاق: شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC)، وشركة الصين للبترول والكيماويات(SINOPEC)، وشركة الصين الوطنية للنفط البحري (CNOOC). تلك الاستثمارات الصينية الضخمة، تأتي في الترتيب الرابع بعد بريتش بتروليوم، ورويال داتش شل بي إل سي متعددة الجنسيات (بريطانية / هولندية)، وإيني سبا الإيطالية[12].

تستثمر الصين في البلدان الأكثر إنتاجًا للنفط في أفريقيا، حيث إن نيجيريا ثان أكبر منتج للنفط في عام 2022، وأكبر دولة منتجة للنفط في العقود الماضية هي من أكبر الشركاء التجاريين للصين، ويرجع تواجد الشركات البترولية الصينية للعام 2005، عندما دخلت شركة الصين الوطنية للنفط البحري (CNOOC) إلى السوق الصيني. في عام 2006، أنفقت شركة الصين الوطنية للنفط البحري 2.3 مليار دولار للحصول على حصة 45٪ في ترخيص المياه العميقة للشركة النيجيرية[13].

باعتبارها أكبر منتج للنفط والغاز في الصين من حيث الكفاءة والطاقة المتقدمة، وقعت شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC) عقدًا مع حكومة بنين (غرب أفريقيا) لبناء وتشغيل خط أنابيب للنفط الخام في المنطقة، الذي سيمتد لمسافة 1980 كيلومترا من حقل أغاديم النفطي في النيجر إلى ميناء سيمي تيرمينال في بنين. وهو أكبر استثمار في خط أنابيب عابر للحدود قامت به “شركة البترول الوطنية الصينية” على الإطلاق في أفريقيا، ويهدف إلى زيادة السماح بنقل النفط الخام من النيجر إلى الأسواق الدولية[14].

ملمح رئيسي للصعود الصيني في القارة الأفريقية، يتمثل في حجم التبادل التجاري، حيث كان أكبر ثلاثة شركاء تجاريين لأفريقيا، في عام 2006، هم الولايات المتحدة الأمريكية والصين وفرنسا. بحلول عام 2018 كانت الصين في المرتبة الأولى والهند في المرتبة الثانية والولايات المتحدة في المرتبة الثالثة، وجاءت فرنسا في المركز السابع. خلال نفس الفترة، تضاعفت تجارة أفريقيا مع تركيا وإندونيسيا أكثر من ثلاثة أضعاف، وتضاعفت أكثر من أربعة أضعاف مع روسيا. نمت التجارة مع الاتحاد الأوروبي بنسبة أكثر تواضعًا بنسبة 41٪. لا تزال أكبر مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر هي شركات من أمريكا وبريطانيا وفرنسا، لكن الشركات الصينية، بما في ذلك المؤسسات المدعومة من الدولة، تلحق بالركب، والمستثمرون من الهند وسنغافورة حريصون على الانضمام إلى المعركة[15].

ثالثًا- صراعات القوى الكبرى وسياسات استغلال النفط:

للإجابة عن سؤال: ما دور الصراعات بين القوى الكبرى في تشكُل سياسات استغلال النفط الأفريقي؟، فإننا نطرح سيناريوهين لا ثالث لهما بخصوص مسألة تأثير صراع القوى المتنافسة على سياسات استغلال النفط في القارة الأفريقية، يفترض السيناريو الأول أن الصراع بين القوى الكبرى على موارد الطاقة في القارة سوف يؤدي إلى انحياز الحكومات المحلية في تلك الدول إلى طرفٍ على حساب الآخر. أما السيناريو الآخر، فيفترض قيام الحكومات المحلية بإدارة علاقاتها مع تلك القوى ببراجماتية تضمن لها القدر الأكبر من الاستفادة من تلك القوى.

ولاختبار أيٍّ من السيناريوهين فنحن بحاجه إلى دراسة عدد من الحالات، مع الوضع في الاعتبار مسألة طبيعة النظام السياسي في البلدان الأفريقية المختلفة، لنتلمس إلى أي مدى سوف تنحاز الدول الأفريقية لأي من الأطراف الدولية أو سوف تعمل على تعظيم الاستفادة منها جميعًا. على جانب آخر، فإن البلدان صاحبة الاستثمارات خاصةً الولايات المتحدة، سوف تؤدي إداراتها الأكثر تشددًا إلى تعجيل عملية الصدام وحث النظم الأفريقية على الاختيار بينها أو بين الفاعلين الآخرين.

وفي حالة نيجيريا على سبيل المثال، نجد أنها حتى الآن، قد أدارت علاقاتها مع جميع الأطراف الدولية خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية والصين بطريقة شديدة البراجماتية، وكما قال وزير الخارجية “جيفري أونياما” خلال رحلة وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” إلى أفريقيا في عام 2021: “إنها ليست مسألة بلد أو آخر في حد ذاته، إنها حقًا مسألة أفضل صفقة يمكننا إبرامها”[16].

تمادى وزير الخارجية النيجيري في التأكيد على براجماتية حكومته، مقارنًا نيجيريا بامرأة يتم استمالتها من قبل مختلف الخاطبين، قائلاً إنه: “فيما يتعلق بالمنافسة الأمريكية الصينية في أفريقيا، أعني، لا أريد أن أبدو ساخرًا، تقريبًا، حول هذا الموضوع، ولكن في بعض الأحيان يكون من الجيد بالنسبة لك إذا كنت العروس الجذابة والجميع يقدم لك أشياءً رائعة. أنت تأخذ ما تستطيع من كل واحدٍ منهم”[17].

وعلى الرغم من ذلك، فإن احتمالات السيناريو الآخر غير بعيدة، خاصةً إذا استمر التنافس وتعمق بين واشنطن وبيكين. في مقالة شديدة الأهمية طرح “عبد الغفار توبي أوشودي” المحاضر في قسم العلوم السياسية جامعة ولاية لاغوس، افتراض الصدام وتأثيره على سياسات النظام السياسي النيجيري المتعلقة بانحيازه لأحد أطراف الصراع. وبالرغم من أن المثال الذي طرحه “أوشودي” كان في قطاع الاتصالات، إلا أننا نستطيع تطبيقه على باقي القطاعات. يقول أوشودي: “على سبيل المثال، تهيمن شركات التكنولوجيا الصينية بقيادة شركة هواوي على صناعة الاتصالات السلكية واللاسلكية في نيجيريا بشكلٍ متزايد، وهي شركة متعددة الجنسيات تقدم المعدات والخدمات مع خطوط ائتمان من البنوك الصينية المملوكة للدولة. وبالتالي، إذا ظهر ما يسمى (splinternet)[18] مع التقنيات الصينية والأمريكية التي تدعم النظم الإيكولوجية الرقمية والإنترنت المختلفة فقد يكون لها تأثير مدمر ويمكن أن تجبر نيجيريا على الانحياز إلى أي طرف[19].

خاتمة – لعنة الموارد: مدخل آخر لتفسير التخلف والصراعات الأهلية

هنا يُطرح التساؤل التالي: ما دور سياسات استغلال النفط في تأجيج الصراعات الداخلية؟

لا يجب أن ينصب تحليلنا على جانبٍ واحد من المشهد أو زاوية نظر دون غيرها، فكما نتناول تأثير العوامل الخارجية على السياسات الداخلية، فإننا يجب أن نتناول بنية تلك السياسات وتأثيراتها على غيرها من العوامل. فالمتفحص للدول الريعية يجد أنها تحمل بداخلها عوامل تخلفها واستبدادها، بل وصراعاتها الأهلية وعداءاتها الخارجية.

يقدم “ليف وينار” في كتابه شديد الأهمية “نفط الدم: الطغاة والعنف والقواعد التي تحكم العالم“، نموذجين متضادين لدول ومجتمعات غنية بالنفط، النموذج الأول –النادر– يكون فيه المجتمع قوي وقادر على مراقبة ومحاسبة الحكومة وضرب مثالًا على ذلك بالنرويج، وخلص إلى “أن الشعب كان قويًا قبل أن يأتي النفط[20]. أما النموذج الثاني لدول ومجتمعات ضعيفة ليس لها تقليد من الممارسات الديمقراطية والحكم الذاتي الدستوري، بل أنها تواجه انقسامات عرقية أو دينية أو قبلية.

إن النموذج الثاني هو الطاغي على غالبية البلدان النفطية في العالم بوجهٍ عام، وفي القارة الأفريقية على وجه الخصوص، حيث بدأت بعض دول القارة في استخراج مواردها أثناء القهر الاستعماري، في حين بدأت بعض دول القارة الأخرى في استخراج مواردها تحت نير حكم الأنظمة الاستبدادية ما بعد الكولونيالية. لذلك كانت تلك الموارد لعنةً على شعوبها حيث اُستُخدمت في قمع تلك الشعوب على يد حكامها السلطويين، أو تم استنزافها من قبل الحكام شديدي الفساد ونخبهم المعاونة، أو اُستُخدمت في تمويل صراعات أهلية. في عام 2011، أكتشف صندوق النقد الدولي أن ثلاثة أرباع أرباح شركة نفط أنجولا التابعة للدولة، والبالغة 23 مليار دولار، تم إنفاقها خارج الميزانية العامة للدولة[21]، أما في نيجيريا، فإن الرئيس النيجيري السابق العميد “ساني آباتشا” متهم بالاستحواذ على أكثر من 2,2 مليار دولار خلال فترة حكمه[22].

وجدت إحدى الدراسات أن 40٪ على الأقل من الصراعات الأهلية في العالم في العقود التالية لعام 1947 كانت تتغذى على ريع الموارد، فبدايةً من عملية الاستخراج فإن المظالم أو الأطماع تزداد، فمواقع الاستخراج تلك أشبه ببؤر للمليشيات التي تتحرك مدفوعةً بالمظالم أو بالطمع. إن الصراع في أنجولا في تسعينيات القرن الماضي، بين الحكومة المركزية والاتحاد الوطني للاستقلال الكلي (يونيتا) الذي سيطر على معظم حقول الماس واستخدم ريعها في بناء قدراته العسكرية التي مثلت تهديدًا جديًا للدولة الأنجولية، انتهت تلك الحرب بانتصار الحكومة، أو بانتصار (ربع النفط) على (ريع الماس)، لكن الخاسر الأكبر كان الشعب الأنجولي الذي نزح منه حوالي ثلاثة ملايين شخص، وقُدر دخل ثلاثة أرباع سكانه بدولار واحد للفرد[23].

إلى جانب ذلك، فإن وفرة الموارد الريعية، تؤدي إلى تغير هيكل الاقتصاد في الدول التي اُكتُشف فيها الريع، حيث يُصبح اقتصاد تلك الدول معتمدًا بشكلٍ كامل على الموارد وهو ما أطلق عليه الاقتصاديون “المرض الهولندي” (Dutch Disease)، وذلك بسبب التراجع الحاد عن الصناعة والزراعة الهولندية بعد الاكتشافات الكبيرة للغاز. بمعنى أن يُصبح الاعتماد على الريع ضارًا لنمو الناتج المحلي الإجمالي. في ستينيات القرن الماضي، كانت نيجيريا تملك قطاعًا زراعيًا نشطًا، وصادرات عالمية للزيوت، ولكنه حالما أتى النفط، تراجعت هذه الصادرات أو اختفت، لتصبح نيجيريا، ذات التربة الخصبة الاستثنائية دولة مستوردة للغذاء بالكامل.

ما بين أعوام ١٩٦٥ و٢٠٠٠، تلقت الحكومة النيجيرية عائدات تبلغ (٣٥٠ مليار دولار تقريبًا) من مبيعات النفط، إلا أن الفترة نفسها، شهدت ارتفاع نسبة المواطنين الذين يعيشون في فقرٍ مدقع (الذي يُقاس بحصة السكان الذين يعيشون على أقل من دولار)، من قرابة 36 في المائة إلى أقل بقليل من 70 في المائة من الشعب. كل عائدات النفط لم تسهم بشيء في متوسط مستوى معيشة الأفراد، بل على العكس من ذلك شهدت تراجعًا حادًا. لقد ارتفعت الفجوة بين الطبقات بشكلٍ حاد جدًا؛ ففي عام ١٩٧٠ كان مجموع دخل الــ ٢ بالمئة الأعلى دخلاً في التوزيع مساويًا لدخل الـ١٧ بالمئة الواقعين في أسفل سلم الدخل، وبحلول عام ٢٠٠٠، أصبح دخل الـ ٢ بالمئة مساوياً للـــ55 بالمئة الأكثر احتياجًا.

___________

الهوامش

[1] Oil demand in Africa from 2017 to 2022, Statista, August 2022, Accessed: 01 October 2022, 03:00, available at: https://cutt.us/Ezbnl

[2] The new scramble for Africa, The Economist, Vol. 430, No. 9133, MARCH 9TH–15TH 2019, p. 9.

[3] لبنى بهولي، جيوبوليتيك النفط في إفريقيا والتنافس الأمريكي – الصيني، مجلة العلوم القانونية والسياسية، المجلد السابع، العدد الثالث عشر، يونيو 2016، ص 190.

[4] Distribution of oil production worldwide in 2021, by region, Statista, 07 July 2022, Accessed: 01 October 2022, 07:00, available at:  https://cutt.us/pIEyq

[5] نيجيريا تستهدف زيادة احتياطي النفط إلى 50 مليار برميل، موقع الطاقة، 15 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 03 أكتوبر 2022، الساعة 10:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/XwSQy

[6] Charné Hollands, Biggest Oil Producers in Africa in 2022, Energy Capital and Power, 08 June 2022, Accessed: 03 October 2022, 11:00,  available at:  https://cutt.us/TqDZM

[7] Angola Oil and Gas Upstrem Market – Growth, Trends, Covied-19 Impact, and Forecasts (2022 – 2027), Mordor intelligence, Accessed: 03 October 2022, 12:00, available at:  https://2u.pw/HJ68A

[8]  Nigeria Oil and  Gas  Market- Growth, Trends, Covid-19 Impact, and Forecasts (2022 – 2027), Mordor intelligence, Accessed: 04 October 2022, 01:00, available at:  https://2u.pw/9hlUJ

[9] Algeria Oil and  Gas Market – Growth, Trends, Covid-19 Impact, and Forecasts (2022 – 2027), Mordor intelligence, Accessed: 04 October 2022, 01:30, available at: https://2u.pw/LmLvG

[10]  Chad Oil and  Gas Market – Growth, Trends, Covid-19 Impact, and Forecasts (2022 – 2027), Mordor intelligence, Accessed: 04 October 2022, 02:00, available at: https://2u.pw/zLvnf

[11] Angus Chapman, Who wins from exploiting Africa’s oil and gas?, African Business, 03 August 2022, Accessed: 04 October 2022, 02:30, available at:  https://2u.pw/pQyEW

[12] Giancarlo Elia Valori, The African oil markets of China and the continuous daily needs for crude oil, Modern Diplomacy, 11 November 2020, Accessed: 04 October 2022, 04:00, available at: https://2u.pw/lkLdq

[13]  Ibid.

[14] China’s CNPC to build Niger-Benin crude oil pipeline, Reuters, 06 AUGUST 2019, Accessed: 04 October 2022, 06:00, available at: https://2u.pw/1bPGG

[15] The new scramble for Africa, The Economist, Vol. 430, No. 9133, March 9TH–15TH 2019, p. 9.

[16] Matthew Lee, In Africa, Blinken sees limits of US influence abroad, AP news, 22 November 2021, Accessed: 05 October 2022, 12:00, available at:  https://2u.pw/gluOT

[17]  Ibid.

[18] مصطلح يُقصد به تجزئة وتقسيم الفضاء الإلكتروني العالمي بين فاعلين مختلفين، ويكون لكلٍ نطاقه وقواعده (المحرر).

[19] Abdul-Gafar Tobi Oshodi, Nigeria sees China as a steady partner and its largest lender, Mercator institute for China Studies, 22 November 2021, Accessed: 05 October 2022, 03:00, available at: https://2u.pw/5Cj44

[20] ليف وينار، نفط الدم، الطغاة والعنف والقواعد التي تحكم العالم، ت: عبيدة عامر غضبان، بيروت: جسور للترجمة والنشر، 2017، ص 84.

[21] المرجع السابق، ص 121.

[22]المرجع السابق، ص 124.

[23]المرجع السابق، ص ص 139–145.

 

فصلية قضايا ونظرات- العدد السابع والعشرون ـ أكتوبر 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى