المدارس القرآنية في غرب أفريقيا: الدور والإشكاليات
مقدمة:
تترامى أطراف العالم الإسلامي، وتتباين الجهود التي يحاول المسلمون من خلالها ترسيخ قدم الإسلام وتعظيم أثره في سياقاتهم المختلفة، ويتخذ بعض المسلمين التعليم بابا لنشر الإسلام أو توطيده في نفوس معتنقيه، وتعد تجربة المدارس القرآنية في غرب إفريقيا من التجارب الرائدة في نشر اللغة العربية والدراسات الإسلامية وحفظ وجود الدين الإسلامي رغم التحديات التي شهدتها المنطقة كالاستعمار والحكومات التي اقتفت سياسة الاستعمار والتشرذم المجتمعي وغيرها من الآفات، وفيما يلي نستعرض تجربة المدارس القرآنية ابتداءا من نشأتها، مرورا بتطورها وتشعبها إلى أنماط مختلفة وما واجهته من التحديات، ونختتم بثلة من مقترحات التطوير التي يمكنها أن تسهم في الارتقاء بحال هذه المدارس.
أولا- السياق التاريخي لظهور المدارس القرآنية
دخل الإسلام شمال إفريقيا خلال القرن السابع الميلادي، ومع حلول القرن العاشر توسعت رحلات التجارة التي يقودها المسلمون في غرب إفريقيا والساحل، ثم بحلول القرنين الحادي عشر والثاني عشر بدأ ملوك الدول في غرب إفريقيا دخول الإسلام أيضا، وبذلك كانت التجارة هي البوابة الرئيسية لولوج الإسلام إلى إفريقيا[1]، وتزامن مع دخول الإسلام حركات علمية.
شهد الغرب الإفريقي حركات علمية وثقافية كبيرة، ومنها الحركات الثقافية في عهد دولة مالي الإسلامية الكبيرة ودولة سنغي الإسلامية والحركة العلمية في عهد دولة عثمان بن فودي الإسلامية، ولم يحظَ الإنتاج العلمي لهذه الحركات بالعناية اللازمة له من التحقيق والطباعة والإخراج، بل تعرض بعض الإنتاج العلمي للتلف والاندثار، ولذا فقد مثل ذلك دافعا لدى علماء العلوم الإسلامية في هذه المنطقة لإيقاف جهودهم على حفظ هذا التراث العلمي ونشره[2].
كما نبعت الحاجة لهذه المدارس من تدني وضع التعليم في غرب إفريقيا خاصة مع تراجع عدد الملتحقين بالتعليم الأساسي تزامنا مع عجز الحكومات في المنطقة عن استثمار الدعم المقدم لها للنهوض بالتعليم[3].
نشأت المدارس القرآنية أول ما نشأت مع دخول الإسلام إلى بلاد غرب إفريقيا، ولم تخضع لأي نظام منهجي، ولم تخضع لأي رقابة حكومية إذ يكفي أن ينشئها معلم يعرف القراءة والكتابة ويحفظ بعضا من سور القرآن الكريم؛ حيث يبدأ بتدريس أولاده وأولاد أقاربه وأصحابه. وانقسمت هذه المدارس إلى نوعين:
- مدارس يتعلم فيها الأولاد قراءة القرآن فقط (تناظر المدارس الابتدائية، ويبلغ سن الطلبة الملتحقين بها حوالي خمس سنوات، وتعرف أيضا باسم “مدارس اللوح”).
- مدارس يتعلمون فيها القراءة والحفظ معا[4].
لم تكن المدارس القرآنية هي المؤسسات التعليمية الوحيدة في غرب إفريقيا، بل كان هناك أيضا مدارس عامة أخرى أنشأها الاستعمار، واستهدف في أول نشأتها إعداد جيل من المسئولين المحليين الذي يقتفون سياسة الاستعمار في إدارة شئون المستعمرات حتى بعد التحرر، وذلك عن طريق إنشاء مدارس لأبناء النخبة المحلية تدرس فيها لغات المستعمِر وتاريخه وأدبه وتحاكي أنظمة التعليم في فرنسا وبريطانيا، وكانت هذه نواة المدارس العامة الحديثة في غرب إفريقيا، وقد نظر السكان المسلمون في المناطق الشمالية من غانا ونيجيريا ومالي بعين الريبة لهذه المدارس؛ إذ اعتبروها أدوات للتغريب ولم يسارعوا بدفع أبنائهم إليها خوفا عليهم من فقدان هويتهم[5].
بعد الاستقلال أدمجت العديد من المدارس التي أنشأها المستعمر في النظام العام للدولة، واستمر عمل هذه المدارس جنبا إلى جنب مع المدارس القرآنية التقليدية، لكن اكتفاء الأخيرة بالمقررات الدينية وحدها قد جعل خريجيها يواجهون تحديات تتعلق بانخراطهم في سوق العمل والقدرة على تحقيق الرخاء الاقتصادي وتَرَاجَع نفوذهم السياسي والاجتماعي، وفي ذات الوقت تراجعت جودة التعليم في المدارس العامة مع تزايد كثافة الطلاب في الفصول، وظهرت الحاجة لمعالجة هذه التحديات، فظهر ما يعرف بالمدارس الهجينة[6]، وسنفصل أنواع المدارس فيما يلي.
ثانيا- أنواع المدارس القرآنية
تتنوع المدارس الإسلامية في جميع أنحاء غرب إفريقيا من حيث المواد التي تُدَرس ومناهج التدريس ومؤهلات المعلمين ودرجة الرقابة الحكومية، ويجمع بين المدارس المختلفة قيامها على تحفيظ الأطفال بعضا من القرآن الكريم، وتنقسم المدارس الإسلامية هناك إلى أربعة أنواع رئيسية:
1- مدارس قرآنية تقليدية:
تنتشر في القرى والأحياء، ودورها الرئيسي يكمن في تحفيظ الأطفال القرآن الكريم، ولم يلغِ التوسعُ في التعليم العام وجودَها لكنها تكيفت مع رغبات المجتمع واحتياجاته مع الوقت؛ فصار هناك منها مدارس مسائية ومدارس نهاية الأسبوع ومدارس صيفية.
2- مدارس دينية خاصة تستخدم أساليب حديثة:
ظهرت هذه المدارس نتيجة جهود لتحديث المدارس الإسلامية، وقد رأى العلماء المسلمون ضرورة إدخال بعض المحتوى العلمي الغربي جنبا إلى جنب مع محتوى المدارس الدينية التقليدية، وتمتعت هذه المدارس بقدر من الاستقلالية عن الدولة وتنظيمها وتدخلاتها، ويقوم بالتدريس في هذه المدارس معلمون تقليديون أو معلمون عائدون من مصر أو دول الخليج لكنهم حظوا بمقدار من التعليم الحديث أو بعض التدريب الرسمي للمعلمين.
3- مدارس إسلامية خاصة تمزج بين المناهج الإسلامية والمناهج العلمانية:
ازداد حضور هذه المدارس وانتشارها، وتدرس هذه المدارس اللغات الرسمية كالفرنسية والإنجليزية كما تدرس الرياضيات والعلوم إلى جانب تحفيظ القرآن الكريم وتعليم بعض موضوعات العلوم الإسلامية، وتلبي هذه المدارس طموح أولياء الأمور في أن يجمع أبناؤهم بين دراسة العلوم الإسلامية والعلوم الحديثة، وتطمح بعض هذه المدارس للتسجيل رسميا لكنها لا زالت غير قادرة على إجراء التحسينات والتغييرات المطلوبة لذلك، وتتباين هذه المدارس بينها وبين بعضها من حيث المناهج وجودة التعليم والعملية التعليمية.
4- مدارس إسلامية متكاملة ومسجلة في النظام الحكومي:
تُدَرّس مقررات دراسية مقررة من قبل الحكومة لكنها تدرس أيضا مواد دينية. وتخضع هذه المدارس لبعض اللوائح الحكومية؛ لأنها مدرجة رسميا ضمن فئة المدارس العامة التابعة للحكومة، لكنها تتمتع بقدر من الاستقلالية مقارنة بالمدارس العامة.
وقد تتلقى هذه المدارس دعما حكوميا لكنه دعم غير منتظم، لذا فإنها تعتمد في أغلب الأوقات على الرسوم التي يدفعها أولياء الأمور لأبنائهم، ويساعد على انتظام الآباء في الدفع إمكانية التحويل من هذه المدارس للمدارس الحكومية العامة إضافة إلى الاعتراف بالشهادات التي تصدرها هذه المدارس في المراحل المختلفة.
وتتحلى هذه المدارس بأهمية خاصة لأنها تبرهن على الجمع بين دراسة المواد الدينية والمواد الحديثة، وبالتالي تجمع بين التمسك بالأصول والقدرة على مواكبة متطلبات العصر الحديث، وتساعد خريجيها في ميادين التوظيف وما يؤدي إليه من ترقٍ اقتصادي، كما أنها تثبت نفسها كأحد الحلول التي يعوَّل عليها في دعم الحكومة في قطاع التعليم[7].
ثالثا- دور المدارس القرآنية في مجتمعات غرب إفريقيا
لعبت هذه المدارس دورا هاما، واستطاعت تحقيق العديد من الإنجازات، ومنها:
- نشر اللغة العربية: حيث أصبحت هي اللغة الرسمية في الدواوين الحكومية، كما أصبحت لغة الدراسة للعديد من العلوم والمعارف وفي مقدمتها العلوم الإسلامية والعربية، وبذلك استطاع المسلم الإفريقي التواصل مع هذه العلوم وبرز علماء أفارقة أجلاء فيها[8].
- نشر العلوم الشرعية: استطاعت هذه المدارس نشر العلوم الشرعية في أنحاء القارة الإفريقية، وتدريس العديد منها مثل التفسير وعلوم القرآن الكريم؛ حيث يدرس هذه العلوم أساتذة مختصون يعتمدون على كتب تراثية مثل مؤلفات الإمام السيوطي أو مؤلفات علماء الحركات العلمية في غرب إفريقيا مثل عثمان بن فودي[9].
- إعداد طائفة من المختصين والعلماء في مجالات العلوم العربية والإسلامية. فقد أصبح لخريجي هذه المدارس شأن في الحياة الوظيفية؛ إذ أصبح المعلمون الذي تخرجوا منها يحملون شهادة التدريس من الدرجة الثانية ويتقاضون رواتب مثل مدرسي المواد الأخرى، وبالتالي أصبح تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية ذا شأن في الغرب الإفريقي[10].
- حفظ دين الأمة المسلمة في غرب إفريقيا: على الرغم من التحديات التي يواجهها الدارسون والمعلمون في غرب إفريقيا ومنها ضآلة فرص العمل أو محدودية الدخل، فإن هذه المدارس نجحت في حفظ الدين في هذه الأراضي وحالوا دون نجاح سياسات الاستعمار التي تستهدف التنصير والتبشير والحط من قدر التعليم الإسلامي لصالح التعليم العلماني الاستعماري. ففي غياب هذه المدارس غير العديد من أبناء المسلمين دينهم من أجل التعليم الحديث ومنهم يايي بوني الذي تولى الرئاسة في بنين، وميشيل دجوتوديا الذي تولى الرئاسة في جمهورية إفريقيا الوسطى، وريمون رمضاني بايا الذي كان رئيسًا لجمهورية إفريقيا الوسطى وغيرهم، ولذا فدور المدارس في حفظ دين الأمة هنا دور فارق جدا[11].
- دعم التعليم الأساسي في منطقة غرب إفريقيا: إذ ساعدت في تعلم العديد من الأطفال القراءة والكتابة على الأقل.
كما ساهمت هذه المدارس في نشر الوعي الديني في المجتمع وتفعيل الدور الاجتماعي لخريجيها، إذ عُنِيَ خريجو هذه المدارس بإنشاء مدارس أهلية في مجتمعاتهم لإيواء الطلبة الذين يبتغون دراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية، ودعم هذه المبادرات بما استطاعوا من دعم مادي ومعنوي، بل وطلب الدعم لهذه المدارس[12].
رابعا- التحديات التي تواجه المدارس القرآنية
تتنوع التحديات التي تقابلها المدارس القرآنية بين تحديات عامة لكل التعليم الإسلامي، وتحديات خاصة بالسياق في غرب إفريقيا. وفيما يلي تفصيل ذلك:
1- التحديات المؤسسية: ويقصد بذلك تسكين التعليم الإسلامي في النظام التعليمي ككل؛ حيث تتباين السياقات العامة التي تحيط بالتعليم الإسلامي من بلد لآخر ومن بيئة لأخرى.
من ناحية أخرى، قد تفتقر طرق التدريس والعملية التعليمية في هذه المدارس إلى الإبداع والتجديد في عرض المادة العلمية وتنمية مهارات الطلاب، فيغلب على الطلاب الحفظ والتقليد دون تنمية مهاراتهم الحياتية الأخرى[13]. ينتج عن ذلك عجز بعض الطلاب عن الحفظ فيغادرون المدارس أو يتسربون من التعليم أو يوقفوه عند مرحلة تكوينية ولا يتجاوزوها لما بعد ذلك[14].
2- التحديات العلمية: تتنوع هذه التحديات بين ما يتعلق بالعملية التعليمية وما يتعلق بالتواصل وغيرها من التحديات، ومنها:
أ) تحديات تطبيق المنهج العلمي:
تنبع بعض التحديات العلمية من التحديات المادية التي تؤثر على تطبيق المنهج العلمي؛ من ذلك ما يتعلق بالكتب الدراسية المطبوعة والمُعدَّة لتدريس المادة العلمية فالكتب إما غائبة أو قديمة تحتاج للتجديد أو لإضافة أوراق أخرى معها، لذا يُترَك الأمر لاجتهاد المعلمين وتشتت الدارسين. ويُستثنى من ذلك بعض الجهود لتوفير الكتب الدراسية، ومنها جهود معهد التربية بجامعة أحمد بلّو في زاريا بنيجيريا لإنتاج بعض الكتب الملائمة للبيئة النيجيرية وإن لم تكتمل التجربة لضعف التمويل، كما أصدر قسم اللغة العربية بجامعة بايرو – كنو بنيجيريا سلسلة كتاب (العربية الميسّرة) في ثلاثة أجزاء، وهو كتاب قيّم في تعليم اللغة العربية، شارك في إعداده نخبة من أساتذة قسم اللغة العربية بالجامعة، وجرى توفيره في الأسواق والمكتبات.
كما قد تشمل هذه التحديات عسر فهم المادة العلمية على الطلاب، نظرا لأنها كتبت بأقلام غير مستوعبة للسياقات المحلية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فضلا عن غياب الكادر الإشرافي التربوي الذي يراقب وضع المناهج وتطبيقها، وأيضا عجز المستوى القائم من الإشراف التربوي عن الارتقاء بقدرات المعلمين وأدائهم[15].
ب) افتقار المعلمين للتدريب:
كان الشرط الوحيد للعمل في بعض المدارس القرآنية هو التمكن من قراءة القرآن قراءة صحيحة وحفظ حزب واحد على الأقل (نصف جزء) يمتد من سورة الأعلى حتى سورة الناس[16]، وكان مستوى بعض المعلمين التعليمي متواضعا، يقف عند بعض المعلمين عند المرحلة الإعدادية أو الثانوية، بينما حصل بعض المعلمين في بعض الدول (غانا تحديدا) على شهادات عليا من دول عربية لكن الدولة لم تعترف بها، بل اشترطت حدا أدنى من الشهادات التي يجب على المعلم الحصول عليها لتدريس المواد الحديثة ولم تكلف معلمي المواد الدينية بذات الشهادات[17].
كما يفتقر الأساتذة في هذه المدارس إلى التدريب المهني، إذ يحتاج المعلمون إلى تدريب خاص في استخدام الأساليب الحديثة، والطرق العلمية الحديثة في تدريس اللغات، والتزوّد من بعض العلوم ومنها علم النفس التربوي، وعلم اللغة التطبيقي، والتقنيات التربوية، وغيرها من العلوم والأدوات التي تساهم في الارتقاء بالعملية التعليمية[18].
ج) تحديات التواصل العلمي (التواصل مع المراكز العلمية العربية)
يعود ذلك إلى عدم الاهتمام بالإنتاج العلمي في مجالات الدراسات الإسلامية في غرب إفريقيا، والتهميش لجهود الباحثين القاطنين في غرب إفريقيا لاعتقاد خاطئ في عجز الباحثين عن مواكبة التطور العلمي في العلوم العربية والإسلامية فضلا عن الإسهام فيها[19].
كما يعود ذلك أيضا لغياب جهود التنسيق والتبادل العلمي بين مؤسسات الدراسات الإسلامية في غرب إفريقيا والمؤسسات العلمية الإسلامية خارج الغرب الإفريقي، بالإضافة إلى التكلفة المادية لنشر لإنتاج العلمي محليا وخارجيا التي تحول دون نشر هذا الإنتاج خاصة في ظل عجز الباحثين عن نشر رسائلهم وعدم توصية الجامعات بطباعتها[20].
ويترتب على تحدى التواصل تحديات أخرى، منها العجز عن الوصول إلى المصادر الهامة في تخصصات الدراسات الإسلامية وتحديدا بعض الدراسات الدقيقة مثل حقل الدراسات القرآنية لا سيما مع قلة المكتبات ودور المخطوطات التي توفر الإنتاج العلمي الجديد والجاد في مجال العلوم الإسلامية والعربية. كما تؤدي مشكلات التواصل إلى عجز الباحثين عن حضور المؤتمرات العلمية الهامة في تخصصاتهم، ويعود ذلك إما إلى العجز عن تحمل التكلفة الاقتصادية لحضور مثل هذه المؤتمرات، أو لجهل الباحثين بمواعيد هذه المؤتمرات بسبب عدم تمكنهم من الوصول إلى إعلانات هذه المؤتمرات[21].
د) عدم استقلالية بعض أقسام الدراسات العربية والإسلامية
لا زالت بعض أقسام اللغة العربية ملحقة بأقسام اللغات في بعض الجامعات، بل يمكن دمجها مع لغات أخرى مما يقلل من أهمية دراستها ويحد من قدرتها على تنظيم أنشطة علمية وأكاديمية مستقلة، فضلا عن تأثير ذلك على الموارد المالية المخصصة لها من قبل الجامعة أو وزارات التعليم العالي[22].
ه) الحاجة إلى إنشاء مراكز متخصصة في بعض التخصُّصات العلمية في الجامعات الحكومية تهتم ببناء القدرات البحثية في مجال العلوم الإسلامية، وتحقيق فقه للواقع بحيث يمكن تفعيل كتب التراث في حل معضلات الواقع[23].
3- التحديات الاقتصادية:
تعد من أهم التحديات التي تواجه مستقبل المدارس القرآنية وتعطل كثيرا من مشاريعها، ومن أبرز تجلياتها ما يلي:
– الموارد والبنية التحتية:
رغم ارتفاع عدد المدارس الإسلامية في غرب إفريقيا لا تزال الموارد والبنية التحتية تحديا أمام تطور هذه المدارس، فعلى سبيل المثال تفتقر المدارس الإسلامية في نيجيريا التي انخرطت في مشروع يستهدف محو الأمية إلى الموارد التي تتضمن الجدران الفاصلة بين الفصول وبعضها وكذلك المراحيض، وفي مالي افتقرت المدارس إلى أساسيات البنية التحتية مثل الجدران والكهرباء والمياه الجارية والأثاث ومعدات السلامة، بينما كان الوضع أقل سوءا في غانا لأن الحكومة اشترطت على المدارس الدينية المسجلة حدا أدنى من معايير البناء.[24]
-الافتقار إلى التمويل:
في المدارس القرآنية التقليدية، يستغرق الطالب فترة طويلة في تعلم أشياء بسيطة وقليلة، كما لا يحصل المعلم على أي مقابل في الغالب نظير تعليمه الأولاد، مما دفع بعض المعلمين لمطالبة الآباء بالتصدق لأبنائهم بطعام أو شاة وخروف عند وصولهم إلى سور معينة في الحفظ، وتذهب هذه الصدقات غالبا إلى المعلم، كما يحظى المعلم بهدايا أيضا في حال إتمام الولد حفظ القرآن الكريم، ولعل هذا الأمر فتح بابا لمشكلة أكبر تتعلق بالتسول وعمالة الأطفال سنناقشها بالتفصيل لاحقا[25].
يعد التمويل تحديا كبيرا يواجه المدارس الدينية في غرب إفريقيا، على الرغم من أن ترتيبات التمويل تختلف حسب نوع المدرسة. ففي غانا مثلا تحصل المدارس المسجلة على منح فردية، كما تتكفل هيئة التعليم العام برواتب المعلمين، أما في مالي فدعم الحكومة محدود جدا والاعتماد الأكبر يكون على الرسوم التي تفرضها المدرسة على الطلاب، وذات الأمر ينطبق في نيجيريا، وتعتمد المدارس نسبيا على مساهمات الأثرياء أو خريجي المدارس المقتدرين لتمويل أنشطتها[26].
4- تحديات تتعلق بانحراف المدارس عن مقاصدها (عمالة الأطفال):
كانت من أسوأ الظواهر الجانبية للمدارس القرآنية هي إقدام بعض المعلمين على استغلال الأطفال وإجبارهم على التسول، وانتشرت ظاهرة التسول انتشارا كبيرا حتى أن منظمة اليونيسيف قدرت عدد الأطفال المتسولين في السنغال عام 2010م بما يفوق 100 ألف طفل سنغالي، لكن بعض الباحثين أكد أن هذه الأرقام مبالغ فيها وأن العدد أقل من ذلك بكثير فهو لا يتجاوز 8 آلاف طفل، تبلغ نسبة أطفال المدارس القرآنية منهم حوالي 90٪[27].
وقد بذلت الحكومة السنغالية جهودا شتى للقضاء على هذه الظاهرة، ومنها شروع السنغال في مشروع تحديث المدارس القرآنية الذي اقتضى إنشاء 64 مدرسة قرآنية منتشرة في كافة أنحاء السنغال، وذلك بتمويل من البنك الإسلامي للتنمية؛ حيث بلغت تكلفة المشروع الإجمالية 20 مليون دولار[28]. بعد أن استعرضنا التحديات التي تواجه مستقبل المدارس القرآنية سنتعرض لمقترحات تطوير هذه المدارس وفيما يلي تفصيل ذلك.
خامسا- مقترحات التطوير
تتنوع مقترحات التطوير للارتقاء بمستوى المدارس القرآنية ودعمها فيما تقوم به من أدوار جليلة وسد الثغرات التي قد تتعرض لها بين عدة مستويات:
أ- مستوى العملية التعليمية:
يقصد بذلك الارتقاء بالعملية التعليمية فنيا وإداريا كي تعطي أفضل متكسبات ممكنة، وذلك عن طريق:
1- محور المعلم: عن طريق الاهتمام بالتدريب المهني للأساتذة، سواء قبل الخدمة أو في أثنائها، لرفع قدراتهم.
2- محور المناهج الدراسية: وذلك عن طريق تطوير مناهج اللغة العربية والدراسات الإسلامية في المستويات كافة، وتوفير المعامل اللغوية والوسائل التعليمية المناسبة، وإيجاد كتب مناسبة لمقررات اللغة العربية والدراسات الإسلامية.
3- محور الدعم المادي للمدارس: ويقصد بذلك توفير الإمكانيات المادية اللازمة للقيام بالعملية التعليمية وما تتطلبه من أنشطة مختلفة، إضافة إلى المكتبات العلمية في المدارس والأقسام.
4- محور الإشراف الحكومي على المدارس: إذ لا بد من السعي الحثيث لتلبية الحاجات التعليمية والمهنية لمعلّمي اللغة العربية والدراسات الإسلامية[29].
5- محور التواصل العلمي: الارتقاء بمحاولات التواصل العلمي من خلال بناء موقع على الشبكة العنكبوتية يختص بنشر دراسات العلماء في غرب إفريقيا، وإقامة المؤتمرات العلمية سنويا حول مختلف التخصصات[30].
ب- مستوى السياسات الحكومية، ويشمل:
- التنسيق مع حكومات المنطقة فيما يتعلق بالسياسات العامة للتعليم بحيث يتم التنسيق بين المدارس العامة والمدارس القرآنية؛ لتجنب الصراعات بين الهيئات الحكومية المختلفة التي قد تخضع لها المدارس.
- التعاون مع حكومات الغرب الإفريقي لجعل القرآن مادة شبه إجبارية في المعاهد والجامعات والمدارس الثانوية خاصة في المناطق التي يكثر فيها وجود المسلمين، وتفعيل دراسة القرآن لمواجهة الأزمات الأخلاقية في هذه المناطق[31].
- معالجة قضية ثنائية اللغة في التعليم، من خلال حلقات تشاورية موسعة ينخرط فيها كل أصحاب المصلحة سواء كانوا مديرين للمدارس القرآنية أو عاملين في وزارات التعليم أو هيئات الشئون الدينية أو أولياء الأمور؛ لتجاوز معضلة ثنائية اللغة، ولضمان انخراط خريجي المدارس في المجتمع مهنيا واجتماعيا جنبا إلى جنب مع دراستهم الدينية.
- التأكيد على حماية حقوق الطفل في هذه المدارس، وتحديدا الحقوق الأساسية وفي مقدمتها الحق في التعليم والحق في المعاملة الكريمة دون التعرض للإساءات أو الإهانات.
- الاعتراف بخريجي هذه المدارس وإدماجهم في عمليات التوظيف والحرص على تأمين مستوى معيشي كريم لهم[32].
ج- مستوى تفعيل دوائر الانتماء إلى الأمة الإسلامية، وذلك في عدة مجالات منها:
- التنسيق مع المؤسسات الدينية الإسلامية على مستويات مختلفة لوضع مناهج هذه المدارس والرقابة عليها، تجنبا لإنشاء مدارس تعتمد مناهج متشددة وقد توظفها الحركات التي تنتهج العمل المسلح في المنطقة.
- توطيد العلاقات والاتصالات بالجامعات والمنظّمات والمؤسّسات العربية والإسلامية للاستفادة من تجاربها وخبراتها الواسعة، مثل المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإيسسكو)، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألسكو)، وغيرها.
- الحرص على استكشاف التجارب الرائدة للتعليم الإسلامي عالميا، ومحاولة استلهام الأسوة والدروس منها؛ فمثلا تعد مدارس “فتح الله كولن” في تركيا من التجارب الرائدة التي يمكن الاستفادة منها خاصة في “الجانب التعليمي الفني والجمع بين الدراسة الإسلامية وتلبية متطلبات الحياة المعاصرة”.
- تفعيل دوائر الانتماء الإسلامي فيما يتعلق بتوفير التمويل لهذه المدارس ولأنشطتها المختلفة، وقد يلزم ذلك أن تنسق المدارس القرآنية بينها وبين بعضها في المنطقة ويكون لها لجنة تتلخص وظيفتها في استقطاب الدعم المالي لهذه المدارس من مسلمي العالم بأكمله وليس فقط مسلمي غرب إفريقيا، وإن كان هذا الأمر تحديدا قد يخلق توترا مع حكومات المنطقة.
خاتمة:
على الرغم من أن الإنتاج الغربي يشيد في أغلبه بالمدارس القرآنية، إلا أننا نلحظ أن الرؤية المعرفية الحاكمة لمنطلقات هذا الإنتاج أثرت على معالجته للأفكار المختلفة، فقد لاحظتُ -في حدود قراءتي- رؤية استشراقية كامنة للظاهرة الاجتماعية المسلمة في غرب إفريقيا، وتجلت تحديدا في تفسير انتشار الإسلام في غرب إفريقيا، وكذلك عند الحديث عن الدور المنوط بالعلم والعملية التعليمية وقصرها على جانب التربح المادي والارتقاء الاقتصادي فقط. ولعل هذا يضع مسئولية على عاتق الباحثين المسلمين لتقديم رؤاهم لحل مشاكلهم من وحي الرؤية المعرفية التي يفترض أن يستبطنوها في كتباتهم.
كما كان الحديث عن رؤى تطوير التعليم أسيرا لخيالات الدولة كمؤسسة وتقديم مصالح الدولة على مصالح الفرد، حتى دون تقييم دور هذه الدولة وحقيقة قيامها على مصالح مواطنيها من عدمه. لذا حضر الحديث مثلا عن الرقابة على مناهج المدارس القرآنية وإخضاعها لمؤسسات الدولة، بينما غاب الحديث -إلا نادرا- عن تفعيل دور المدارس القرآنية في حل المعضلات المجتمعية في غرب إفريقيا أو تفعيلها في ملف القوى الناعمة وإعادة صياغة رؤية السياسة الخارجية لتلك الدول تجاه العالم الإسلامي.
الهوامش
[1] Peter Easton, Mark peach, The practical applications of Koraanic learning in West Africa, Center for policy studies in education, Florida state university, 1997, Accessed: 15th September 2023, available at: https://cutt.us/O8yqG
[2] فريق موقع تفسير، الدراسات القرآنية في غرب إفريقيا: الواقع والإشكالات وآفاق التطوير (1-2)، مركز تفسير للدراسات القرآنية، 16 فبراير 2020، تاريخ الاطلاع: 11 سبتمبر 2023م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/4xKOu
[3] Helen B. Boyle, Islamic Education in west and central Africa, in: Holger Daun, Reza Arjmand (ed.), Handbook of Islamic Education, Volume7, (Switzerland, Springer, 2017), pp. 637-650, available at: https://cutt.us/aqedd
[4] خالد حسن عبدالله، التعليم العربي الإسلامي في نيجيريا، صحيفة اللغة العربية، تاريخ النشر غير معروف، تاريخ الاطلاع: 17 سبتمبر 2023م، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/AcdeO
[5] Helen B. Boyle, Op. Cit., p. 4.
[6] ibid, p. 5.
[7] ibid.
[8] أحريزي عبدالقادر، التعليم العربي الإسلامي في غرب إفريقيا من القرن 8 هـ حتى إلى غاية القرن 10 هـ / 14م إلى 16م، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية: جامعة أحمد دراية أدرار، 2022م (ماجستير)، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Ol2fs
[9] فريق موقع تفسير، الدراسات القرآنية في غرب إفريقيا: الواقع، والإشكالات وآفاق التطوير (1-2)، مرجع سابق.
[10] خالد حسن عبدالله، التعليم العربي الإسلامي في نيجيريا، مرجع سابق.
[11] AHMET KAVAS, Irreplaceable Education Center for African Muslims: Qur’anic School, Association for researchers on Africa, 20 August 2019, Accessed: 15 September 2023, available at: https://cutt.us/qQkuk
[12] Ibid.
[13] Ibid.
[14] Noor Sulaiman Syah, Challenges of Islamic Education in Muslim World: Historical, Political, and Socio-Cultural perspective, Qudus International Journal of Islamic Studies, Vol. 4, No. 1, February 2016, Accessed: 15 September 2023, available at: https://cutt.us/bG92S
[15] خالد حسن عبدالله، مرجع سابق.
[16] المرجع السابق
[17] Helen B. Boyle, Op. cit.
[18] خالد حسن، مرجع سابق.
[19] فريق موقع تفسير، الدراسات القرآنية في غرب إفريقيا: الواقع، والإشكالات وآفاق التطوير(2-2)، مركز تفسير للدراسات القرآنية، ١٦ فبراير ٢٠٢٠، تاريخ الاطلاع: 11 سبتمبر 2023م، متاح على الرابط: https://cutt.us/XQ9Hd
[20] المرجع السابق.
[21] المرجع السابق.
[22] خالد حسن، مرجع سابق.
[23] فريق موقع تفسير، الدراسات القرآنية في غرب إفريقيا: الواقع، والإشكالات وآفاق التطوير(1-2)، مرجع سابق
[24] Helen B. Boyle, Op.ct.
[25] خالد حسن عبدالله، مرجع سابق
[26] Helen B. Boyle, Op.ct.
[27] سيدي ولد عبدالمالك، استفحال ظاهرة تسول الأطفال بالسنغال، الجزيرة نت، 26 أكتوبر 2010م، تاريخ الاطلاع: 18 سبتمبر 2023م، متاح على الرابط: https://cutt.us/nmusN
[28] وكالة الأناضول، السنغال: تشييد مدارس قرآنية “عصرية” للقضاء على ظاهرة التسول، منتدى العلماء، 16 سبتمبر 2015م، تاريخ الاطلاع: 18 سبتمبر 2023م، متاح على الرابط: https://cutt.us/YtvKN
[29] خالد حسن عبد الله، مرجع سابق.
[30] فريق موقع تفسير، الدراسات القرآنية في غرب أفريقيا: الواقع، والإشكالات وآفاق التطوير (2-2)، مرجع سابق.
[31] المرجع السابق.
[32] Strategic Moment of Reflection on Quranic Schools, Unicef, April 2019, p. 16, available at: https://cutt.us/0kjkt