(الطوفان والبحث عن الإيمان)

قضايا الطوفان الجارية في معركة المعنى والأخلاق العالمية...بين حق المقاومة وباطل العدوان

حرك طوفان الأقصى الأرض لكي ترتسم فيها خريطة قديمة متجددة، من القضايا الإنسانية الكبرى، والتي تترتب عن يمين وشمال. منظورنا إلى الطوفان وتداعياته حاكم على تفاعلنا معه ومعها. منظورات تهون من الحادث وآثاره وأخرى تهول. لكن المنظور الحضاري العلمي يحرص على إثبات الواقع وعدم إنكاره أو إغفاله، بما فيه الواقع المعنوي والمتعلق بالقيم والأفكار المتخللة للأحداث.

انطلق طوفان الأقصى من الأرض المباركة، التي هي عبر النصف قرن الأخير هي أرض الملاحم المركزية في العالم. انطلق من قطاع صامد مقاوم طامح لحريته وكرامته تجاه كيان استعماري استيطاني ممارس للعدوان اليومي المستمر. هكذا هي الصورة في الواقع، والقانون، ومن كل جهة، اللهم إلا في منطق الكيان العدواني والمتحالفين معه بمنطق القوة؛ لا بمنطق القانون أو العقل أو القيم.

مع انطلاق موجة مد الطوفان الأولى أطاحت بإطار المعركة بين القوتين، وأطاحت إطاحة شديدة معها بحدود الخوف/الأمان لدى الكيان العدواني وشركائه الذين يمثلون القوى السياسية والعسكرية الكبرى في العالم، ودفعهم إلى ردّ فعل مبالغ في عدوانه إلى درجات الوحشية والجنون وإطلاق الرغبة العارمة. ومن ثم عادت كفة الميزان إلى الطرف المقاوم ليرد على العدوان الجنوني بصمود يفوق قدرات العقل. وعلى ضفاف هاتين الموجتين المتدافعتين، تحركت خريطة العالم بين مؤيد ومساند للعدوان ظلما وعدوانا، ومؤيد ومناصر للمقاومة عدلا وبحثا عن الحق.

ومن ثم اشتعلت أربع معارك مجالية من قلب الطوفان وحوله؛ معركة حربية، ومعركة سياسية، ومعركة إعلامية، وأخطرها على الإطلاق المعركة الإنسانية. المعركة الإنسانية تحولت من مأساة من القتل والتدمير إلى ملحمة من الصبر والثبات والصمود والتحدي غير معقولة بالحسابات المحدودة، وحركت بقوة معنى “الإيمان” وهو أعظم وأقوى المعاني الإنسانية والأخلاقية على الإطلاق!

هذه المعارك الأربع اشتملت معارك فرعية كثيرة، في فلسطين، وفي بلاد العرب، والعالم الإسلامي، بجالياته عبر العالم، وفي دول ومجتمعات الغرب الأوروبي والأمريكي الذي يدعم سياسيًا بصفة أساسية العدوان، وفي الشرق والجنوب العالميين. من أهم معالم هذه المعارك الرئيسية والفرعية فكرة “الشقاق” على خلفية الطوفان؛ بين مقاومة صامدة وصاعدة ومتسعة الأنصار، وبين عدوان معه عناصر القوة المادية لكنه يفقد كل يوم سمعته ورصيده من القوة الأخلاقية والمعيارية والقوة الناعمة والقوة الذكية. وهي أشكال من القوة التي يطورها الغربيون للحفاظ على سمو مكانتهم وهيمنتهم العالمية.

يتحاشى كثيرون من أهل الأرض التعاطي مع موجات الطوفان وامتداداته وتداعياته، لكن الحالة العالمية الناجمة عنه تتسع وقد تنال انعكاساتها الجميع بشكل من الأشكال.

في غزة تتداخل المعركة العسكرية والمعركة الإنسانية، فقوة العدوان تواجه مقاومة عسكرية من الحركات المسلحة، وتواجه صمودًا إنسانيًا سامق يقوم على قوة الأخلاق يقودها الشعب الغزاوي؛ ومن ورائه شعب الضفة المقيد بقيود جبارة. إن شعب غزة فاعل عسكري بطريقة إنسانية عزلاء تثبت أن للمعنى قوة ربما تفوق قوة المادة. وهذا من أعظم دروس غزة وطوفانها الأقصى. إن صمود شعب غزة أمام ووراء مقاومتها الباسلة، هو الطوفان الأقصى نفسه.

وكما حركت المأساة الإنسانية ومظاهر القتل والتدمير الدموع والأحزان حراكًا إنسانيًا متعاطفًا عبر العالم، فإن الملحمة الإنسانية الصابرة المصابرة المؤمنة حركت حراكًا صامدًا قويًا ومعارضًا للعدوان والعدوانية. ومن هنا بدت أمارات الشقاق في المواقف من الحق الفلسطيني ومن ورائه معنى “الحق”: حق الدفاع عن النفس، حق الحياة، حق الحرية، حق الكرامة، الحق الفلسطيني، الحق القانوني…. كل ذلك أمام مفهوم واحد نزع منه الحق ومعانيه فتحول إلى وحش مسعور؛ إنه مفهوم “القوة”: “من أشد منا قوة؟ أي لا أحد أقوى منا؛ لذا فلنفعل ما نشاء، ولنحكم ما نريد، لا معقب لحكمنا، ولا راد لقضائنا!!!

الرافضون لهذا التجبر العدواني مالوا أولا إلى معنى الرحمة حزنا وأسى من مناظر القتل الشنيعة للأطفال والنساء وهدم البيوت والمستشفيات، لكنهم مع صمود شعب غزة تحولوا إلى نصرة معنى “الحق”؛ إنهم يستحقون الحياة الكريمة الحرة.

المعركة السياسية قديمة متجددة، والمواقف فيها غير جديدة مطلقًا، لكنها تلمّعت ببعض الإنسانية لدى العرب ومؤيدي الحل السياسي الفلسطيني تأثرًا بالكارثة الإنسانية في غزة، لكن السياسي هو الأقل تأثرًا بمعنى الصمود وقوة أخلاق الصبر والصمود والتحدي. مساندو العدوان سياسيًا حرصوا على التحصن من التأثر بالإنساني، لكنهم مع الوقت أظهروا درجات من التأثر المشدود إلى الموقف العدواني المبدئي، فيظهر بصعوبة شديدة، وبفاعلية منعدمة. ويتشاقق السياسي اليوم مع المدني في حراكيهما في الغرب والشرق؛ فالحكومات تقبع في كفة ويتراجعون رويدًا، وقطاعات مهمة من الشعوب تتحرك وتتقافز في الكفة الأخرى ويتزايدون.

المعركة الإعلامية هي مرآة المشهد العالمي الأكبر، وما جرى فيها من تدافع جدير بالمراقبة وسبر أغواره. لقد شارك فيها فنانون ورياضيون ومشاهير لم يكونوا سياسيين ولا مهتمين. بعضهم فقد وظائفه وبعضهم تهدد أمانه، لكنهم خاضوا المعركة. حركتهم كغيرهم في البداية معاني الرحمة والتعاطف الإنساني، ثم قوت قلوبهم قوة الصمود الفائق للعقول.

هذا العالم وهذه الامتدادات للطوفان تتعطش لمعنى جامع يجمع معسكر مقاومة الظلم والعدوان، هذا المعنى في أفقه الأعلى هو الإيمان؛ هو الذي منه خرجت كلمات: الحمد لله، الحمد لله، حسبنا الله ونعم الوكيل، معليش، لنا الله، يا الله، الله أكبر!!

وهكذا.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى