السودان: اتفاق تقاسم السلطة: الأبعاد، وسيناريوهات المستقبل

مقدمة:

يعكس تاريخ السودان الحديث صفحات متعدِّدة من النضال المستمر، فبعد أن تخلَّص من الاحتلال الانجليزي عام ١٩٥٦م لم يطل به العهد بالحكم النيابي أكثر من سنتين حتى بدأ نضالًا جديدًا في مواجهة الانقلابات العسكرية التي حكمت السودان لأكثر من خمسة عقود مقابل عقد واحد حكمه المدنيون، وهو مقسَّم علي ثلاث فترات تسمَّى بفترات الديمقراطية الثلاث والتي أتتْ بمثابة فترات انتقالية بين مرحلة عسكرية وأخرى.

فخلال أقل من 70 عامًا شهد السودان نحو 19 محاولة انقلابية، منها 6 انقلابات نجحت بالفعل في التمكُّن من السلطة، كان منها 3 انقلابات فقط هي التي ساندت انتفاضات شعبية واسعة، أما الانقلابات الناجحة الأخرى فقد كانت تقف وراءها مطامع شخصيات عسكرية استندت لقوة اجتماعية مكَّنت العسكريين من الوصول للسلطة، ثم تلاعب العسكريون بها، سواء في ذلك انقلاب النميري على الشيوعيِّين، أو انقلاب البشير على الإسلاميِّين[1]، بالإضافة لحالات متكرِّرة تمَّ فيها الإعلان عن إحباط محاولات انقلابية قبل وقوعها لا سبيل للتأكُّد من وجودها من عدمه.

ما يعني أن السودان منذ استقلاله يعاني من انقلاب أو محاولة انقلابية كل أربع سنوات، كان انقلاب البشير ٣٠ يونيو ١٩٨٩ آخر هذه الانقلابات وأطولها عمرًا وأعمقها أثرًا، كونه يستند لأيديولوجية وتنظيم.

ولم يكن الجيش الذي اعتمد عليه البشير في تنفيذ انقلابه بعيدًا عن عملية إسقاطه، فقد شارك بعمل انقلابي ضدَّه في 11أبريل 2019، ولعلَّ ذلك ما يجعل الأنظار معلَّقة طوال الوقت تترقَّب حدوث ردَّة على الثورة كحال بلدان الربيع العربي، أو دخول البلاد في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار كحال الفترات الانتقالية التي سبقت الانقلابات.

فليس غريبًا أن يمكر الجيش بالثوار بعد أن انقلب بزعم تأييدهم، فبعد أن فشل المجلس العسكري في فرض شروطه بشأن إدارة المرحلة الانتقالية على قوى إعلان الحرية والتغيير، لجأ لفضِّ الاعتصام أمام مقرِّ القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، في 3 يونيو 2019، ممَّا أسفر عن مقتل أكثر من مئة من المتظاهرين وجرح أكثر من خمسمئة آخرين، معتقدًا أن الفضَّ سوف يؤدِّي إلى تجريد هذه القوى من أداة الضغط الرئيسة التي تملكها، ويسهل من ثمَّ الإملاء عليها، أو تجاوزها كليًّا. لكن الاتحاد الأفريقي، الذي كان أمهل المجلس العسكري ستين يومًا لتسليم الحكم للمدنيِّين، وهدَّد بتعليق عضوية السودان، قام ردًّا على عملية فض الاعتصام بإعلان التعليق؛ ما مثَّل ضربة قوية للمجلس العسكري.

وعلى الجانب الآخر، أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير عن إضراب سياسي وعصيان مدني، بدأ في 14 يونيو 2019، واستمرَّ ثلاثة أيام وتحقَّقت فيه استجابة واسعة، وردَّ المجلس العسكري بإلغاء كل الاتفاقات التي سبق التوصُّل إليها مع المعارضة، والتي كان من ضمنها تشكيل مجلس وزراء مدني، مكوَّن كله من كفاءات غير حزبية، وأن يجري تمثيل قوى إعلان الحرية والتغيير بما نسبته 67 في المئة في المجلس التشريعي[2]. وبذلك فقد كلا الطرفين القدرة على الحسم في مواجهة الآخر، بالإضافة لتبدُّد ما تبقَّى من ثقة بينهما بعد عملية فضِّ الاعتصام.

هذه الحالة من عدم القدرة على الحسم -في ظل بعض الوساطات والضغوط- أدَّت بالطرفين إلى قناعة بضرورة الاتفاق علي خطوات محدَّدة للفترة الانتقالية والتعامل مع الآخر عن طريق جولات التفاوض، وهو ما أدَّى في الشهر التالي لفض الاعتصام إلى التوصُّل لاتفاق سياسي، أعلن مبعوث الاتحاد الإفريقي محمد حسن البياد التوصُّل له في الخامس من يوليو 2019، وجرى التوقيع عليه بعد ذلك وهو بعنوان “الاتفاق السياسي لإنشاء هياكل ومؤسسات الحكم في الفترة الانتقالية بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير”. وبعد هذا الاتفاق بشهر آخر (في ٤ أغسطس) توصَّل الطرفان لصيغة نهائية متَّفق عليها للوثيقة الدستورية تحت مسمَّى “الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة ٢٠١٩”، وجرى التوقيع النهائي عليهما في ١٧ أغسطس ٢٠١٩ بمشاركة إقليمية حكومية ومنظماتية في أجواء احتفالية رسمية وشعبية كبيرة.

يتناول هذا التقرير الاتفاق السياسي بالأساس ويتعرَّض للوثيقة الدستورية بقدر إحالات الاتفاق لنصوصها أو المواد التي أرجأها الاتفاق وحسمت في الوثيقة أو ما تستدعيه الحاجة من بنود الوثيقة لإثبات أو نفي شيئ من بنود الاتفاق، أو بقول آخر يلتزم التقرير بنصوص الاتفاق وتقسيم وترتيب مواده ويستدعي من الوثيقة حسب ذلك وليس العكس، لكون الوثيقة -حسب تقدير الباحث- تأتي كمكمِّل قانوني دستوري تفصيلي لما تمَّ التوصُّل له في الاتفاق السياسي، كما أن الوثيقة الدستورية نفسها نصَّت في الفقرة الأولى من المادة ٦٤ على أنه “استُمدت أحكام هذه الوثيقة الدستورية من الاتفاق السياسي لهياكل الحكم في الفترة الانتقالية الموقَّع بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، وفي حال تعارض أيٍّ من أحكامهما تسود أحكام هذه الوثيقة” وجرى إلحاق الوثيقة الدستورية بالاتفاق السياسي حسب نص الفقرة الأخيرة من ديباجة الاتفاق السياسي. وعليه يتناول التقريرُ الاتفاقَ السياسي، من حيث طبيعته ومناسبته وأطرافه وردود الفعل حوله، وقبل هذا يتناول البيئة الحاضنة له من حيث تأثيرها فيه وتأثُّرها به، ثم يتطرَّق للسيناريوهات المحتملة بشأن الاتفاق ومستقبل الثورة.

أولًا- البيئة الحاضنة للاتفاق: التأثير والتأثر

لا يمكن عزل الاتفاق عن البيئة التي يمثل تطورًا في أحداثها السياسية، لأنه سيتأثر بها من حيث نفاذه ومستقبله وقد يحدث فيها شيئًا من التغيير، ولذلك سيتعرَّض التقرير لثلاثة عوامل تشكِّل -حسب تقدير الباحث- البيئة التي تحتضن الاتفاق وهي: طبيعة التكوين الإنساني للمجتمع السوداني المتعدِّد قبليًّا وعرقيًّا (التنوُّع)، ودور الجيش في العمل السياسي منذ الاستقلال (الخبرة الانقلابية للجيش)، والمواقف الإقليمية والدولية من الثورة (الجوار الإقليمي والمواقف الدولية).

فيما يتعلَّق بالعامل الأول (التنوُّع) فالسودان يشهد تنوُّعًا كبيرًا في تركيبته السكانية سواء من حيث اللغة أو الدين أو القبيلة، وهذه الحالة من التنوع الإنساني تنتج بالضرورة حالة شديدة الثراء من التنوع السياسي والحزبي، ولكنه ثراء منهك لطول العهد بالاستبداد والحكم العسكري، فالقوى الحزبية الكبرى جميعها تعرَّضت لانشقاقات متعدِّدة أفقدتْها قوَّتها وخلقت حالة من التعقيد يصعب في ظلِّها التعاطي مع الخريطة السياسية السودانية، ولا شكَّ أن الاتفاق سيخضع لشدٍّ وجذبٍ بين هذه الأحزاب وتلك الحركات والتكوينات التي تعدُّ بالعشرات، بالإضافة لأعداد يصعب حصرها وعدُّها من الكيانات والتجمُّعات الصغيرة التي قامت على أساس مهني أو ثقافي أو جغرافي.

هذه الحالة من التعقيد في ظلِّ التنوع كانت البيئة الراعية لعملية الارتداد على الثورات في الجولات السابقة بين الثورة والعسكر المنقلبين في تاريخ السودان، فالمنافسة السياسية غير العقلانية تسبَّبت في شيوع ثقافة الانقلاب العسكري، وتمكين العسكر من اختراق جدار النخبة المدنية، تارة عبر التيار اليساري وأخرى عبر الإسلاميِّين، فكلا التيارين مسؤول عن دعم انقلابات نجحت وأخرى فشلت، ما جعل الأمر يبدو كنمط سياسي استقرَّ اليوم عند التيار المدني؛ بل إن من غرائب السياسة في السودان أن مجيء العسكر للسلطة، وفي الفترات الثلاث في تاريخ دولة ما بعد الاستقلال، قد تمَّ إما بإيعاز ومباركة، أو بتخطيط ومشاركة، أو بتخطيط وتبنٍّ من لدن إحدى القوى السياسية الكبرى، وهي القوى نفسها التي قد تصطف، في ظل عهد عسكري آخر، كداعية إلى التغيير والتحول الديمقراطي[3]، فانقلاب عبود عام ١٩٥٨ كان بدعوة من رئيس الوزراء الصوفي عبد الله خليل التعايشي عندما استدعى الجيش ليتولَّى الحكم بعدما عجزت القوى السياسية عن التوافق حول نصيبها في السلطة.

وعلى إثر نزاعه مع الحركة الإسلامية ساند التيار الشيوعي انقلاب جعفر نميري ١٩٦٩ انتقامًا لعملية طرد الحزب الشيوعي من البرلمان عام ١٩٦٥ وقبل انتهاء فترة حكمه غيَّر نميرى وجهة تحالفاته تجاه الإسلاميين، وبعد سقوطه وغياب التوافق بين قوى الفترة الانتقالية عمدت الحركة الإسلامية إلى تخطيط وتنفيذ انقلاب عسكري يحمي وجودها في الحياة السياسية من تهديدات الجيش والقوى المناوئة، فكان انقلاب البشير في 30 يونيو 1989.

تفيدنا هذه الطبيعة المتنوِّعة للمجتمع السوداني وهذه الخبرة الطويلة أن بيئة الاختلاف متوفِّرة والعداء التاريخي قائم بين القوى السياسية، والعسكر لا يتراجعون عن الاستيلاء على السلطة، ولكن هل تسير سفينة الثورة هذه المرة على نفس خُطى أخواتها في المرات السابقة أم أن شركاء الثورة سينجحون في خلق شيء من التوافق يُرغم العسكريين على تسليم السلطة والخضوع للحكم المدني؟ والإجابة تتوقَّف على تعاطي القوى السياسية مع بعضها من ناحية، و تعاطيها مع الآخر العسكري خلال الفترة المقبلة من ناحية أخرى.

وفيما يتعلق بالعامل الثاني (الخبرة الانقلابية للجيش)، فقد حكم الجيش السودان لأكثر من خمسة عقود مقابل عقد واحد مقسَّم على ثلاث فترات ديمقراطية انتقالية، وبذلك فإن المعتاد في السودان منذ الاستقلال أن يستولي الجيش على الحكم عن طريق انقلاب عسكري بعد تجربة ديمقراطية انتقالية قصيرة الأجل؛ لم تتجاوز سنتين في التجربة الأولى (1956-1958) وأعقبها انقلاب عبود 1958، ولم تتجاوز خمس سنوات في الفترة الثانية (1964-1969) وهي أطول الفترات الانتقالية وأعقبها انقلاب نميري 1969، ولم تتجاوز ثلاث سنوات في الفترة الثالثة (1986-1989) وأعقبها انقلاب البشير 1989، ولكن كل هذه الانقلابات التي استقرَّت في الحكم سقطت بثورات شعبية لعب الجانب الاقتصادي دورًا كبيرًا في إشعالها.

يبقى أنه في حالة حدوث انقلاب عسكري جديد فلن يكون بأيديولوجية جديدة لأن رموز نظام البشير لا يزالون يسيطرون علي مفاصل الجيش من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنه يصعُب مع طول فترة البشير في الحكم أن ينمو تيار أيديولوجي قوي قادر على تنفيذ انقلاب عسكري، وفي حال حدث انقلاب ربما يكون عسكريًّا بحتًا أو يقوم به أحد رموز نظام البشير الذين لا يُشترط بالضرورة أن يكونوا إسلاميين، وعندها قد تدعمه أو تسانده بعض القوى السياسية.

وأما عن العامل الثالث (الجوار الإقليمي والمواقف الدولية) ففيه تنوعات وتوازنات كبيرة، فالجوار الجنوبي يسعى للحفاظ على استقرار السودان ويهمه انتقال السلطة بدون اضطرابات لقربه من السودان وارتباطه بمصالحه وأمنه، ولثراء تجربته في مكابدة الانقلابات العسكرية وهذا يتَّضح بقوة في موقف الاتحاد الإفريقي الذي جمَّد عضوية السودان بعد فضِّ الاعتصام[4]، أما بالنسبة للجوار المصري فإنه يفضِّل أن يُحكم السودان عسكريًّا ويكره الديمقراطية بغضِّ النظر عن نتائج أيٍّ منهما، فرغم خلاف النظام المصري المعروف مع البشير، إلا أنه لم يكن يفضل سقوطه لأن احتمالات التغيير تصبح واسعة.

وبالنسبة للموقفين السعودي والإماراتي، فقد دعما حراك الشارع بقوة (إعلاميًّا على الأقل) منذ اليوم الأول وحتى سقوط البشير[5]، وبعد ذلك اتَّجه دعمهما نحو المجلس العسكري وقيادته التي تعتمد ماليًّا وسياسيًّا على هذا المحور، فيما أصابت الحيرة الموقف القطَري في البداية بين دعم البشير أو الوقوف بكامل الدعم مع الثوار، فلما سقط البشير توجَّه الدعم القطري نحو الثوار في مقابل المجلس العسكري، وبذلك يعود المعسكر العربي المناهض للثورات (السعودية-الإمارات-مصر) لمساره الطبيعي في مساندة الجيوش وتعود قطر لدورها في مساندة التحركات التي تقوم بها بعض القوى السياسية.

إلا أن المعسكر العربي المناهض ليس على تجانس تام في قضية السودان، فتصوُّر مصر لمستقبل حميدتي في السودان وعلاقته بالجيش مختلف عن تصور الإمارات والسعودية، كما أن تصوُّرات هذه الدول الثلاث لمصالحها في السودان والقرن الإفريقي مختلفة بصورة كبيرة. أضف إلى ذلك، أن الصراع الذي يمكن أن ينشأ بين الوكلاء المحليين لهذه القوى الخارجية يؤثِّر كثيرًا على فاعلية خططهم على الأرض (مثل الصراع بين قوش وحميدتي)[6].

وبذلك تصبح الثورة السودانية بين شريكين إقليميَّين أحدهما داعم والآخر مُعاد في ظلِّ موقف أمريكي غلب عليه التردُّد وعدم الفاعلية أو عدم الرغبة في التدخُّل سواء كان توفيقيًّا أم لا[7]، وفي ظلِّ علاقات أوروبية قديمة مع قادة المجلس العسكري الحاليين في ملف الهجرة غير الشرعية لأوروبا، وفي ظلِّ مثل هذه الخريطة التي توفِّر الدعم والتآمر في نفس الوقت يصبح مسار الثورة مفتوحًا أمام كل الاحتمالات في المستقبل.

 

 

ثانيًا- الأطراف وإشكاليتي الإقصاء والاستقطاب

عُقد الاتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي الذي تشكَّل بالانقلاب على البشير في 11 أبريل 2019، ولم يعدْ له وجود دستوري الآن بعد تشكيل مجلس السيادة، ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن المجلس العسكري تمَّ حلُّه فعليًّا.

وعلى الجانب الآخر تأتي قوى إعلان الحرية والتغيير الذي صدر في الأول من يناير 2019 برعاية أربع قوى رئيسية: “تجمع المهنيين السودانيين”، “الإجماع الوطني”، “نداء السودان”، و”التجمع الاتحادي المعارض”. والذي جاء مُطالبًا في بنودٍ واضحة بإسقاط البشير وتحقيق سلام شامل وعادل وتشكيل حكومة انتقالية لمدة 4 سنوات[8]، وبالإضافة لهذه القوي وقَّع على البيان عدد كبير من الأحزاب والحركات والكيانات غير المنضوية تحت لواء أيٍّ من هذه الائتلافات حتى أصبح عددها يزيد على ٧٠ حزبًا وحركة وتجمع وجماعة مسلحة.

ورغم أنها ترتكز على كونها تمثل الشارع وتتحدث باسم الثورة إلا أنها تمثل خليطًا غير متجانس وغير متناسق في العمل، ومختلفاً في التوجُّهات الفكرية والسياسية، فضلًا عن أنها تعاني من ضعف هيكلي سببه اختلاف الوزن السياسي للمكونات الأساسية لهذا التحالف، بالإضافة إلى غياب القيادة الموحَّدة لها وعدم القدرة على خلق اتفاق على آلية اتخاذ القرار، وضعف الخبرة السياسية لقيادات هذه القوى وهو ما أدَّى إلى الاضطراب في اختيار الأسماء المرشَّحة للمجلس السيادي وهو ما جعلها تتأخَّر يومين عن الموعد المتَّفق عليه مع المجلس العسكري، ويُتوقَّع أن تزداد أسباب الخلاف بين مكونات الحرية والتغيير في الفترة الانتقالية التي تتضمَّن بطبيعتها سنَّ تشريعات وسياسات قد تضر، على سبيل المثال، بالرأسمالية الزراعية (التي تعتبر الداعم الرئيسي لحزب الأمة القومي) أو الرأسمالية التجارية (التي تعتبر الداعم الرئيسي للأحزاب الاتحادية) وهو ما قد يكون سببًا إضافيًّا للخلاف بين هذه الأحزاب[9]. ولعل نتائج ذلك قد اتَّضحت في عدم قدرة مكونات الحرية والتغيير -حتى بعد مرور فترة التسعين يومًا- على التوافق حول تكوين المجلس التشريعي.

وهنا يُثار إشكال حقيقي حول أحقية القوى المنضوية تحت لواء الحرية والتغيير في التعبير عن الثورة والتحدُّث باسم الشعب، ويتجدَّد التساؤل عن وجود الإسلاميِّين الذين يمثِّلون واحدة من أكبر القوى السياسية في البلاد والتي أيَّدت الثورة وشاركت فيها، مثل الأحزاب الإسلامية التي خرجت من النظام الحاكم مبكرًا (الجبهة الوطنية للتغيير والمؤتمر الشعبي مثلًا)، والسلفية الحركية (مثل تيار الشريعة والقانون)، وبعض الكوادر الذين تخلوا عن أفكار النظام السابق وقاموا بالكثير من المراجعات الفكرية ثم أسَّسُوا كيانات سياسية معارضة (على سبيل المثال: مذكرة الألف أخ في 2011، ثم مبادرة “سائحون” في 2012، ثم الحركة الوطنية للتغيير في 2013، ثم انقسام غازي صلاح الدين في 2014، ثم تكوين حركة 52 في 2014، وآخرها تكوين تنسيقية الإسلاميِّين التي دعمت الثورة)، أو الإسلاميين الذين اعتزلوا العمل السياسي ككل (مثل إسلاميي الرصيف). وكذلك الإسلاميون الذين قاموا بدعم الثورة من داخل دولاب الدولة. فعلى سبيل المثال، قام عدد من النقابات السابقة، والتي كان يسيطر عليها كوادر النظام السابق، بحلِّ نفسها لصالح نقابات شرعية منتخبة وأكَّدوا أنهم جزء أصيل من الثورة السودانية، وهذا ما حدث بالضبط لنقابة العاملين في بنك السودان المركزي وفي عددٍ من المؤسسات[10].

وعليه فإن ممارسات إقصائية من قبيل اعتقال أمين عام المؤتمر الشعبي رغم كون الحزب معارضًا وفي صف الثورة، أو تنحية مطلب الشريعة الإسلامية أو تمويه قضية هُوية السودان، أو محاولات تهميش بعض القوى أو تغافل رأيها كبعض الحركات المسلحة، أو وضع كل القوى السياسية التي شاركت يومًا ما في السلطة في زاوية الاستبعاد والإقصاء حتى وإن كانت في المعارضة، ستجعل توافق قوى الحرية والتغيير في خطر وقابل للتفكُّك بسرعة، ومن ناحية ثانية تخلق بيئة مناسبة لاستقطاب القوى السياسية من جانب المجلس العسكري، وربما لجوء المجلس سابقًا لرفع مطلب الشريعة في مواجهة مطالب قوى الحرية والتغيير، يفسِّر أهمية قطع الطريق على أيِّ ممارسات إقصائية قد تخلق قدرة استقطابية لدى المجلس العسكري تمثِّل عاملًا مساعدًا في الارتداد على الثورة[11].

ثالثًا- مواد الاتفاق (ما فيها وما عليها وما حولها)

استُهلَّ الاتفاق بديباجة ثورية تتناغم مع ظرفه السياسي، ومما جاء فيها “استلهامًا لنضالات الشعب السوداني الممتدة … وإيمانًا بثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة…، ووفاءً لأرواح الشهداء الأبرار….، واستنادًا لشرعية هذه الثورة المباركة، واستجابةً لتطلُّعات الشعب السوداني في الحرية والسلام و…، وتأسيسًا لدولة القانون… واستجابةً لنداء ثورة ديسمبر المجيدة، وتحقيقًا لأهداف قوى الحرية والتغيير… ووعيًا منا بضرورة التعاون المشترك للعبور بالوطن لمرحلة التغيير والبناء، وتأكيدًا لعزمنا للتحول السلمي للسلطة المدنية ووضع أولى لبنات النظام المدني لحكم السودان في الفترة الانتقالية، فقد توافقنا نحن المجلس العسكري الانتقالي والقوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير الصادر في الأول من يناير ٢٠١٩ على توقيع هذا الاتفاق السياسي لتحديد هياكل الحكم وصلاحياتها في الفترة الانتقالية، والتي تؤسِّس لنظام برلماني للحكم، ونتعهَّد معًا باحترامه والالتزام بما جاء فيه“.

ولم يأتِ بها شيء يعدُّ موضعًا لنقاش سوى تأكيدها على النظام البرلماني للحكم، وهو ما يرى البعض أنه نظام مختلط فعليًّا وبرلماني دستوريًّا[12]، غير أنه بمراجعة سلطات وصلاحيات مجلس السيادة في الوثيقة الدستورية (المادة ١١) يتَّضح أنها لا تمثِّل عائقًا دستوريًّا للنظام السياسي البرلماني في الفترة الانتقالية، ولكن قد تتحوَّل بها الممارسات السياسية لهذه الدرجة أو لأبعد منها.

وجاء الفصل الأول المعنْون بـ “المبادئ المرشدة” ليؤكِّد قدسية مبدأ السيادة الوطنية، ووحدة التراب السوداني، وحسن النية في التعامل بين الأطراف، والالتزام بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم السودانية السمحاء، وتسوية الخلافات بالحوار والاحترام المتبادل.

في حين تعرَّض الفصل الثاني والمعنون بـ “الترتيبات الانتقالية” لمجلس السيادة ومجلس الوزراء، ونصَّ على أن يتكوَّن مجلس السيادة من أحد عشر عضوًا، خمسة عسكريِّين يختارهم المجلس العسكري الانتقالي وخمسة مدنيِّين تختارهم قوى إعلان الحرية والتغيير، ويُضاف إلى الأعضاء العشرة شخصية مدنية يتمُّ اختيارها بالتوافق بين الطرفين (المادة ٥)، ويترأَّس المجلس خلال الواحد والعشرين شهرًا الأولى أحد الأعضاء العسكريِّين في المجلس، يعقبه أحد الأعضاء المدنيِّين للثمانية عشر شهرًا المتبقية (المواد ٦، ٧).

وهنا يبدو أن ثمة خبرة سودانية جديدة في إدارة المرحلة الانتقالية فالخبرتان العربية والإفريقية شهدتا عملية تقاسم للسلطة أو تناوبًا عليها على أساس طائفي أو إثني أو ديني (حالتا نيجيريا ولبنان على سبيل المثال)، ومن المتعارف عليه أن يدير المجلس العسكري فترة انتقالية قصيرة يُصدر خلالها بعض الإعلانات الدستورية لتنظيمها ثم تُجرى انتخابات يسلم فيها الحكم للمدنيين، وقد يحدث انقلاب عسكري أو ردَّة على الثورة قبل أو بعد عملية تسليم السلطة كما هو معروف في تاريخ السودان وخبرة الربيع العربي، لكن تبدو عملية تقاسم السلطة بين كيانين أو طرفين على أساس مدني-عسكري غريبة على الخبرتين العربية والإفريقية، وتمثِّل تطوُّرًا  في إدارة الفترات الانتقالية جديرًا بالرصد والمتابعة للمقارنة بفترات انتقالية سابقة في تاريخ السودان وآنية في عدد من الدول العربية.

ويبدو مهمًّا رصد سعي العسكر هذه المرة لترسيخ وضعهم السياسي ككيان مستقل مغاير ومناظر للمدنيِّين ومن حقِّه أن يتقاسم معهم إدارة البلاد وسلطة الحكم فيها بل والضغط للحصول على الأغلبية في المجالس والهيئات الانتقالية بدعوى التحديات الأمنية، وصوغ ذلك في اتفاق سياسي ووثيقة دستورية انتقالية كما لو كان أمرًا مُتعارفًا عليه، كما أن الترحيب بالاتفاق على المستوى الشعبي والسياسي في الداخل والخارج يدلُّ على الإعجاب بهذا التطور في إدارة الفترات الانتقالية، غير أنه تطور لا تزال نتائجه قيد التشكُّل.

وبتشريح بسيط لهياكل السلطة ونصيب الطرفين منها كمتقاسميْن يتَّضح أن المجلس العسكري أخذ نصف المجلس السيادي والذي اعتبرته الوثيقة الدستورية رأس الدولة ورمز وحدتها وسيادتها، في حين اعتبرت مجلس الوزراء هو السلطة التنفيذية العليا في البلاد وهو مدني بالكامل وكذلك المجلس التشريعي مدني أيضًا، وهو طرح يلجأ رموز قوى الحرية والتغيير لاستخدامه في حواراتهم المتلفزة للتأكيد على أن الحكم في يد المدنيِّين أو أن الاتفاق خطوة جيدة وليست ملغومة، ورغم وجود النصوص الدستورية والسياسية التي تؤكِّد ذلك، إلا أن الاقتسام هنا حقيقي، لكون العسكر يمتلكون من القوة والنُّفوذ على الأرض ما يجعل من الصعب حضورهم كضيوف شرف وليسوا فاعلين حقيقيِّين، بالإضافة إلى أن إصلاح الجيش أُسند لهم (طبقًا للوثيقة الدستورية) وكذلك اختيار وزيري الدفاع والداخلية، وهي سلطات وإن تبدو فنية إلا أنها قادرة على تعزيز دور العسكر في ظلِّ معطيات البيئة السودانية التي سبق التعرُّض لها.

وتعرَّض الجزء الثاني من هذا الفصل في المواد (9، 10، 11) لمجلس الوزراء، وأعطى الحق لقوى إعلان الحرية والتغيير في اختيار رئيس مجلس الوزراء ثم يقوم رئيس الوزراء باختيار وزرائه من قائمة مرشَّحي قوى إعلان الحرية والتغيير عدا وزيري الدفاع والداخلية اللذين يتم تعيينهما بعد اختيارهما من قبل الأعضاء العسكريِّين في مجلس السيادة.

وجاءت المادة (١١) لتؤكِّد على أنه “لا يجوز لمن شغل منصبًا في مجلس السيادة أو مجلس الوزراء أو ولاة الولايات أو حكام الأقاليم، حسبما يكون الحال، أثناء الفترة الانتقالية الترشُّح في الانتخابات التي تلي الفترة الانتقالية مباشرةً”، وهو مبدأ معروف في الخبرة الأفريقية جرَّاء المعاناة الطويلة من الانقلابات العسكرية، وهو جيد جدًّا في حال جرى الالتزام بالوثيقة واحترامها، أما إن توفَّر سبيل للالتفاف عليها فلن يغيِّر من الأمر شيئًا.

وفيما يخص الجانب التشريعي فقد تعرَّض له الفصل الثالث من الاتفاق السياسي، ولكن لم يكن الطرفان وقتها قد توصَّلا لاتفاق نهائي حول تقسيم المقاعد بالمجلس التشريعي، وهو ما تمَّ الاتفاق حوله في الفصل السادس من الوثيقة الدستورية، على أن يكون عدد أعضائه ٣٠٠ عضو لا تقل نسبة تمثيل النساء فيها عن 40٪، تقوم قوى إعلان الحرية والتغيير باختيار 67٪من أعضاء المجلس بينما تذهب نسبة 33٪ المتبقية للقوى الأخرى غير الموقِّعة على إعلان قوى الحرية والتغيير ويتم تسميتها وتحديد نسب مشاركتها بالتشاور بين قوى الحرية والتغيير ومجلس السيادة. وحدَّدت الوثيقة مدَّة تسعين يومًا يشكَّل خلالها المجلس التشريعي، وتسند مهمة التشريع لمجلسي السيادة والوزراء حتى تشكيل المجلس.

إلا أنه لم يتمَّ التوصُّل لتشكيل نهائي حتى بعد تجاوز مهلة التسعين يوما بحلول 17 نوفمبر، حتى أعلنت قوي الحرية والتغيير في بيان لها أنه تقرَّر تأجيل تشكيل المجلس التشريعي إلى 31 ديسمبر كحدٍّ أقصى حتى يتم التوافق مع الجبهة الثورية -التي تضم حركات مسلَّحة في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان- على صيغة مُثلى في تكوينه، وأشارت قوى الحرية والتغيير إلى أن ذلك يتضمَّن إدارة حوار واسع مع القوى غير الموقِّعة على إعلان الحرية والتغيير بشأن إسهامها في البرلمان وفق أحكام الوثيقة الدستورية. ولا ترى  قوى التغيير أن إعلانها تأجيل تشكيل المجلس يتطلَّب تعديل الوثيقة الدستورية طالما أن القرار اتُّخذ بالتوافق بين المكون العسكري والمدني بالمجلس السيادي الانتقالي لمصلحة عليا هي تحقيق السلام الذي يعد إحدى أولويات الحكومة الانتقالية[13].

والأهم هنا ليس ما وقع من خرق قانوني للوثيقة الدستورية وإنما عجز الأطراف عن تنفيذ البنود المتَّفق عليها في الوقت المحدَّد. وهذا من جانب، مفهوم في ظل البيئة السياسية السودانية شديدة التنوع، ومن جانب آخر، يُنبئ بحجم الخلاف بين القوى السياسية ويُنذر بمخاطر كبيرة على مستقبل الثورة في حال ظلَّت الأطراف عاجزة عن التوافق حول تنفيذ ما تمَّ الاتفاق عليه، وهو وضع شبيه بخبرات الفترات الديمقراطية السابقة في تاريخ السودان ولكن التعاطي مع الموقف خلال الفترة المقبلة سيحدِّد فرص العسكر في الاستحواذ على السلطة من عدمه.

واكتفى الفصل الخامس بمادة واحدة نصَّت على تكوين لجنة تحقيق وطنية مستقلة لإجراء تحقيق شفَّاف ودقيق في الأحداث الدامية والمؤسفة والجرائم التي ارتُكبت في الثالث من يونيو 2019 وغيرها من الأحداث والوقائع التي تمت بها انتهاكات لحقوق وكرامة المواطنين مدنيين كانوا أو عسكريين، ويجوز للجنة أن تطلب أي دعم أفريقي إذا اقتضت الحاجة ذلك.

وفي الشهر التالي لتوقيع الاتفاق أصدر رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك قرارًا بتشكيل لجنة التحقيق المستقلَّة، وتضم: قاضي محكمة عليا (رئيسًا)، ممثل لوزارة العدل (مقرِّرًا)، ممثل لوزارة الدفاع (عضوًا)، ممثل لوزارة الداخلية (عضوًا)، شخصية قومية مستقلة (عضوًا)، ومحامين مستقلين (أعضاء). ويحقُّ للجنة (طبقًا للقرار) الاستعانة بمن تراه مناسبًا بما في ذلك الاستعانة بدعم إفريقي، واستلام الشكاوى من الضحايا وأولياء الدم والممثِّلين القانونيِّين، وتعمل باستقلال تامٍّ عن أيِّ جهة حكومية أو عدْلية أو قانونية، وحدَّد القرار فترة ٣ أشهر لتنهي اللجنة عملها و يحق لها التمديد لمدة مماثلة إذا اقتضت الضرورة ذلك[14].

والملاحظة الأولى هنا تتعلَّق بتشكيل اللجنة، إذ يثير هذا التشكيل بعض المخاوف من التأثير على عمل اللجنة بسبب عضويَّة ممثِّلي وزارة الدفاع ووزارة الداخلية في ظلِّ احتفاظ الجانب العسكري في مجلس السيادة بتعيين الوزيرين المسؤولين عنهما، لأن الأحداث محل التحقيق كان منتسبو الوزارتين المتهمين الرئيسيِّين بارتكابها والتسبب في وقوعها، وكيف ستعمل اللجنة ولا تزال السلطات التي جرت الانتهاكات في ظلِّها باقية؟ وخاصة أن المجلس العسكري لا يزال يحتفظ بنصف مقاعد المجلس السيادي، ومن زاوية أخرى يتَّضح من تشكيل اللجنة أنها سياسية أكثر منها قانونية مهنية، فرغم أن الشخصيات القانونية هي الأغلب في التشكيل (أربعة من سبعة) إلا أن عضويَّتها وُزِّعَتْ بين الوزارات والمستقلين مناصفةً تقريبًا (ثلاثة ممثلين لوزارات، وثلاثة مستقلِّين، ويرأسهم قاض)، وهو ما يفتح الاحتمالات أمام مراعاة المواءمات السياسية قبل الخروج بالنتائج.

وأما عن الملاحظة الثانية فتتعلَّق بفترة عمل اللجنة إذ كيف تنتهي اللجنة -بهذا العدد القليل من الأعضاء- من كل هذه  القضايا -التي ربما يصعب حصرها- في ثلاثة أو ستة أشهر، في ظلِّ احتمالات بتعمُّد طمس الأدلة من جانب من يملك السلطة ويقع في موضع الاتهام؟

والملاحظة الثالثة تتعلَّق بما بعد النتائج، فما هي الجهة التي تستطيع أن تجبر العسكر على الرضوخ لحكمها في حال إدانتهم؟ وما الضمانة التي تمنع انقلابهم على الثورة في حال حدث ذلك؟ وما الذي  يمنع العسكر من التدخُّل في عمل اللجنة أو حجب الحقائق عنها؟ أو بقولٍ آخر إلى من ستُوجِّه اللجنة نتائج عملها؟ فإذا كانت ستوجِّه نتائج عملها لرئيس الوزراء كونه من أصدر قرار تشكيلها، فهل يستطيع رئيس الوزراء أن يُخضع من ستتمُّ إدانتهم؟ وهل تعتبر مخرجات عمل اللجنة مدخلات لعملية تحقيق قضائية لاحقة أم أنها مجرَّد توضيح للحقائق؟ كل هذه إشكالات لم تحسمها النصوص المتعلِّقة باللجنة سواء في الاتفاق السياسي أو في الوثيقة الدستورية (الفصل الثاني، المادة 7، الفقرة 15) أو حتى في قرار رئيس الوزراء بتشكيلها، وهو ما يجعل اللجنة موضع إشكال حقيقي، ونتائج عملها موضع غموض وتساؤل.

وبنقاط محددة جاء الفصل الخامس المعنون بـ “مهام المرحلة الانتقالية” ليؤكِّد اتفاق الطرفين على أن تكون مهام المرحلة الانتقالية؛ تحقيق “السلام الشامل” في مناطق دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وإنجاز ذلك في فترة لا تتجاوز ستة أشهر بعد توقيع الاتفاق، وهي فترة قصيرة جدًّا يتعذَّر فيها تحقيق سلام شامل لحروب ونزاعات هي وليدة عقود من التهميش والفقر وبطش الدولة، ويصعب تصوُّر قبول وضع مثل هذه الفترة في نصِّ الاتفاق، فما هو معيار القياس لتحقُّق السلام من عدمه وماذا لو لم يتحقَّق، وخاصةً أنه قد مرَّ أكثر من ثلاثة أشهر ولم يتمَّ الاتفاق حول مقاعد المجلس التشريعي وهي مهمة أقل بكثير من مهمة تحقيق السلام الشامل.

واتفق الطرفان على أن يكون من مهام المرحلة الانتقالية أيضًا معالجة الأزمة الاقتصادية، والعمل على تحقيق التنمية المستدامة، وإجراء إصلاح قانوني وإعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية، وتعزيز دور المرأة والشباب، وإنشاء آليات لوضع دستور دائم لجمهورية السودان، ووضع برامج لإصلاح أجهزة لدولة خلال الفترة الانتقالية، ووضع سياسة خارجية متوازنة تحقِّق المصالح الوطنية العليا، ووضع تدابير وإجراءات العدالة الانتقالية وتنفيذها، وتفكيك بنية التمكين لنظام الثلاثين من يونيو 1989 البائد وبناء دولة القانون والمؤسَّسات.

وهي نفس النقاط التى عالجتها الفقرة الثانية من الفصل الثاني من الوثيقة الدستورية تحت نفس العنوان “مهام الفترة الانتقالية” بزيادة طفيفة أكَّدت على محاسبة منسوبي نظام الثلاثين من يونيو على الجرائم التي ارتُكبت بحقِّ الشعب السوداني منذ 30يونيو 1989 وإلغاء القوانين والنصوص المقيِّدة للحريات وتسوية أوضاع المفصولين تعسفيًّا من الخدمة المدنية أو العسكرية.

واختُتم الاتفاق بالفصل السادس المعنون بـ “المساندة الإقليمية والدولية” ويدعو فيه طرفا الاتفاق المنظمات الدولية والدول لدعم السودان اقتصاديًّا وماليًّا وإنسانيًّا ودعم السلطات الانتقالية والعمل على رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات وإعفاء الديون.

وجاءت ردود الفعل من جانب القوى السياسية المؤيِّدة في إطار أن الاتفاق يمثِّل خطوةً للأمام، وأنه أفضل من ذي قبل وإن لم يكن الوضع الأفضل الذي يلبِّي طموحات الناس، أو اتفاق الحدِّ الأدنى، أو اتفاق اللاغالب واللامغلوب، وهو موقف أغلب القوى المنضوية تحت لواء الحرية والتغيير، ويتَّضح أنها لا ترى الاتفاق مثاليًّا أو نموذجيًّا، في حين كانت ردود الفعل الرافضة وبعضها من قوى منضوية تحت لواء الحرية والتغيير في إطار أن الاتفاق حادَ عن الطريق المرسوم منذ 19 ديسمبر (انطلاق الثورة ضدَّ نظام البشير)، ولم يُعالج المسار الثوري، وبعض القوى اتهمت الوثيقة بأنها تريد قطع الطريق أمام الثورة[15]، فضلًا عن قوى رفضت إجراءات الفترة الانتقالية ورفضت أيَّ محاولات للإقصاء. أما الشارع فقد شهد أجواءً احتفالية كبيرة في عدد من المدن، وهي احتفالات جاءت عفوية بدون دعوة من أيٍّ من القوى السياسية لنزول الشارع للاحتفال، ويبدو من آراء الناس أنهم لا يرون الاتفاق مثاليًّا وإنما خطوة للأمام، وثمة شرائح منهم لا تزال تطالب بالحذر.

رابعًا- سياسات الحكومة الانتقالية وتأثيراتها المستقبلية

لا يمكن قصر الحكومة خلال هذه الفترة علي الوزراء ورئيسهم لأنها وإن كانت تملك السلطة  التنفيذية إلا أنها ليست وحدها في الساحة السياسية كما أنها انتقالية ومعيَّنة وليست منتخبة، فإلى جانب الوزراء يوجد المجلس السيادي خاصة في شقِّه العسكري الذي يرأسه الآن، وهناك أيضًا قوى إعلان الحرية والتغيير التي تمثِّل الخلفية السياسية للحكومة وتستحوذ على نصف عضوية المجلس السيادي، ولذلك فحينما نتناول سياسات الحكومة لا نتحدَّث عن كيان أو جسم واحد وإنما نتحدَّث عن ثلاثة مكونات غير متجانسة فالمجلس العسكري مكوَّن بالتوافق بين شقَّين مدني وعسكري، والحكومة معيَّنة وتدخل في صراع مبطَّن مع المكوِّن العسكري في المجلس السيادي، وقوى إعلان الحرية والتغيير التي تتبنَّي الحكومة وتصارع المجلس العسكري تعاني صعوبات داخلية تتعلَّق بالتوافق بين أطرافها وبينها وبين غيرها.

ويمكن أن نرصد سياسات الحكومة (مجلس الوزراء – المجلس السيادي – قوى إعلان الحرية والتغيير) الداخلية من خلال موقفها من بعض شركاء الثورة المخالفين لأصحاب الصوت الأعلى فيها، فالحكومة بكامل قواها لا تزال ضدَّ حزب المؤتمر الشعبي رغم مشاركته في الثورة، وحينما تمَّ الاعتداء على قيادته قامت الأجهزة الأمنية باعتقال القادة المُعتدَى عليهم، ولا تزال قوى الحرية والتغيير ومعها الحكومة مُصِرَّةً على معاقبة المؤتمر الشعبي لكون قادته شاركوا في الانقلاب الذي تمَّ قبل 30 عامًا وتمَّ على هذا الأساس اعتقال علي الحاج أمين عام الحزب وكذلك ابراهيم السنوسي رئيس شورى الحزب.

ومن جهة ثانية تمَّ حظر نشاط طلاب المؤتمر الشعبي بجانب الوطني في جامعتي بحري وزالنجي، وهذه خطوات لا تزيد من تمكُّن الحكومة ولا تدعم عملية تفكيك بنية التمكين التي كان يرتكز عليها نظام البشير، فآلة البشير القمعية لم تستطع حظر نشاط طلاب الحركات المسلَّحة على مدار سنوات من التحكُّم والانفراد بالسلطة، فكيف بالوضع الآن الذي يتولَّى الحكم فيه شركاء متشاكسون في مرحلة انتقالية، ولأن الحكومة لن تُنهي وجود المؤتمر الشعبي ولن تستطيع منع وجود طلابه في الجامعات، فإن مثل هذه السياسات تأتي فقط كإقصاء لبعض قوى الثورة وتنتج مناكفات سياسية  على الأرض تأتي على حساب التوافق الثوري الذي هو الضمانة الوحيدة للعبور بالمرحلة الانتقالية وإتمام عملية تسليم السطة، وهذا الإقصاء سيزيد من قدرة المجلس العسكري على خلق حالة من الاستقطاب الحادِّ في المستقبل إذا ما أراد جذب بعض القوى لصفِّه والانقلاب على الثورة، كما أنه سينهي ورقة الضغط المتمثِّلة في الشارع، فلم يَعُدْ لدي قوى الثورة ما تضغط به عليه.

أما فيما يتعلَّق بقوى إعلان الحرية والتغيير فإن سياساتها في الاستحواذ والسيطرة والاستعجال في التمكين لنفسها على حساب بعض الفصائل المكوِّنة لها من ناحية، وعلى حساب غيرها من ناحية ثانية، قد أخَّر التوافق على تكوين المجلس التشريعي وولَّد حالة من الانتقادات في الشارع تنتقص من شعبيَّتها بمرور الوقت، كما أنه (استعجال التمكين والاستحواذ) يجعل القوى السياسية المختلفة سواء المنضوية تحت لوائها أو التي تعمل من خارجها تحاول أن تحمي وجودها حتى لو على حساب التوافق، وهو ما يأتي أيضًا في غير صالح عملية تسليم السلطة.

وعلى المستوى الاقتصادي فإن الحكومة وإن نجحت نسبيًّا في حلِّ مشكلة السيولة فأصبحت موجودة في المصارف والصرافات الآلية، وكذلك مشكلتي الخبز والوقود، فلم تنته الصفوف تمامًا التي عانى منها الشعب السوداني، وإن لم تَعُدْ كما كانت عند سقوط البشير، ولذلك لم يشعر المواطن بتغيير في مستوى معيشته منذ بداية الثورة حتى الآن، وهو ما يحمِّل الحكومة وخاصة مجلس الوزراء أعباء إضافية في ظلِّ بيئة عمل صعبة إلى جانب ضعف الأداء وقلَّة الخبرة لعدد من الوزراء.

وعلى المستوى الخارجي ثمة تضارب في السياسات بين أضلاع الحكومة في الأهداف وطبيعة العلاقة مع القوى الإقليمية، فتأكيد مجلس الوزراء على سحب القوات السودانية من اليمن يحرم السودان من التأييد المالي والسياسي من جانب السعودية والإمارات ويخلق مشاكل بين مجلس الوزراء والمكون العسكري في المجلس السيادي الذي يعتمد ماليًّا وسياسيًّا على هذا المحور. إلا أن جهود رئيس الوزراء نحو رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب تبدو إيجابية وإن لم تَلْقَ الردَّ المطلوب من قبل الآخر الأمريكي حتى اللحظة، بالإضافة لجولات خارجية يديرها حمدوك بكفاءة كبيرة جرَّاء خبرته الطويلة في المنظمات الدولية، فتثير حفيظة العسكر في المجلس السيادي فيعيدون التأكيد على دور الجيش في الثورة والعمل الوطني.

ويبقى أن التعارض قائم بين ضلعي الحكومة العسكري والمدني، ففي حين لا يزال المجلس العسكري يعتمد سياسة المحاور -التي كان يرتكز عليها نظام البشير- معتمدًا ماليًّا وسياسيًّا على المحور السعودي الإماراتي، فإن مجلس الوزراء برئاسة حمدوك يتَّجه نحو الحياد والانفتاح على الجميع وطلب الدعم غير المشروط[16]، وهو وإن كان جيدًا، إلا أنه خلال المرحلة الانتقالية وفي ظلِّ طبيعة تلك الكتل المكونة للحكومة والبيئة التي تعمل فيها، يعدُّ أمرًا محفوفًا بالمخاطر سياسيًّا واقتصاديًّا، كون الحياد يحرم الحكومة من الدعم -خاصة المالي- في الوقت الذي يمثِّل فيه توافر النقود والسلع أساس المشكلة.

لم يمرَّ من الوقت ما يكفي لتقييم سياسات الحكومة وخاصة مجلس الوزراء، إلا أنه وخلال الأشهر الثلاثة الأولى لحكومة حمدوك يتَّضح أن أداءها على المستوى السياسي أفضل منه على المستوى الاقتصادي، ربما لتراكم المشكلة الاقتصادية وعمقها ولأنها تحتاج وقتًا لتظهر فيها نتائج مرضية، غير أن سياسات الحكومة بكامل أضلاعها ومكوِّناتها حتى الآن تُرجِّح حدوث السيناريو الأول (إجهاض التحوُّل الديمقراطي) إلا أن حدوث ذلك من عدمه سيتوقَّف على ما ستفعله الحكومة في خلال الفترة المقبلة فلم يمرَّ حتى الآن سوى 3 أشهر من فترة تزيد على ثلاث سنوات، ولذلك فإن سياسات الحكومة خلال الفترة المقبلة سترجِّح حدوث أيٍّ من السيناريوهات المستقبلية التالي عرضها.

خامسًا- سيناريوهات المستقبل: الحلم في بيئة المجهول

1) السيناريو الأول- إجهاض التحول الديمقراطي

وهذا سيحدث إذا استمرَّ محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي قائد قوات الدعم السريع ونائب رئيس المجلس السيادي في التمدُّد السياسي وبناء رصيد شعبي عبر تقديمه للخدمات العامة من أمن وتعليم وصحة طوال الشهور القادمة، مستفيدًا في ذلك من مصادر التمويل الكبيرة التي يسيطر عليها، لكن هذا السيناريو يتوقَّف على عاملين: أولهما- هو قدرة حميدتي على إعادة إنتاج نفسه كفاعل سياسي وطني يجسِّد مصالح كل السودانيِّين، وهذا العامل يتضمَّن كذلك قدرته على تحييد أو احتواء كتلة الإسلاميِّين لصفِّه، كما يتضمَّن كذلك قدرة حميدتي على خلق توزان بين سيطرته على عائدات الذهب وإعادة ضبط واستقرار الاقتصاد السوداني، بمنطق أن هذا التوازن ضروري لتحقيق طموحه السياسي. ثانيهما- وهو الأهم، فشل حمدوك في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وعدم قدرته على الوصول لتسوية سياسية مع المجلس العسكري فيما يتعلَّق بملف الذهب والشركات التابعة للجيش والشرطة ومصادر التمويل المختلفة لقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى حدوث انقسامات وخلافات داخل الحرية والتغيير ستتسبَّب في خسارتها لتأييد الشارع السوداني. إن وجود هذا العامل الثاني سيؤدِّي إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والأمنية في الشارع السوداني، وسيجعل حميدتي أو قيادة الجيش هي “أخف الضررين” أمام شريحة معتبرة من ذلك الشارع، أمَّا من سيرفض صعود حميدتي أو وكلاءه لسُدَّة الحكم من قوى الحرية والتغيير أو الشارع فسيُعامَل بالقمع المفرط غالبًا[17].

ويمنع حدوث مثل هذا السيناريو درجة الوعي الكبيرة بين الثوار بالعسكر ومخطَّطاتهم وحالة التوافق بين القوى السياسية على الهدف الأكبر المتمثِّل في إزاحة العسكر[18]، وهو ما يجعلها قادرة على تنفيذ عصيان مدني بنجاح، إضافة إلى السمعة الشخصية السيئة لحميدتي وقوات الدعم السريع والتي تتعلَّق بالبطش والقمع، وكذلك افتقار حميدتي للكاريزما الشخصية اللازمة لتسويق نفسه كفاعل سياسي أو كمخلِّص شعبي في ظلِّ مثل هذا الوضع المعقَّد، وكذلك سيكون على حميدتي حينها أن يتجاوز صراعًا محتملًا ربما يقع بينه وبين من سيتم تجاوزهم من قيادات الجيش (البرهان مثلًا) وبقية مراكز القوى في القوات المسلَّحة التي لا يُشترط أن تدين كلها بالولاء له، خصوصًا أنه وقواته دخلاء على الجيش ويتمتَّعون بالنُّفوذ على حسابه، بالإضافة إلى أنه من الصعب أن ينجح حميدتي -بتلك الإمكانيات الشخصية الضعيفة- في حلِّ الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي فشل فيها حمدوك (طبقًا لهذا السيناريو) صاحب الخبرة الاقتصادية الكبيرة، هذا بالإضافة لاحتمالات كبيرة بتفجُّر حروب أهلية عنيفة ومتعدِّدة في حال صعَدت قوات الدعم السريع -بتاريخها القمعي- لسُدَّة الحكم، وسيكون على حميدتي وقتها أن يحارب ليضبط الأمن ويصنع ويتاجر ليوفِّر المال ليمنع حدوث ثورة جديدة، وهذا صعب في ظلِّ التوافق فكيف هو في حال الحرب.

2) السيناريو الثاني- نجاح الفترة الانتقالية وتسليم السلطة في انتخابات 2022

يعتمد هذا السيناريو على عدَّة عوامل: أولً- قدرة حمدوك على الوصول لتسوية سياسية مع المجلس العسكري فيما يتعلَّق بملف “الذهب” والشركات التابعة للجيش والشرطة ومصادر التمويل المختلفة لقوات الدعم السريع بما يضمن تحقيق قدرٍ معتبرٍ من الاستقرار الاقتصادي في البلاد. ثانيًا- قدرة حمدوك على بناء تأييد شعبي منفصل عن قوى الحرية والتغيير يسمح له بجعل الشارع يعمل كورقة ضغط يمكن استخدامها في وجه المجلس العسكري وفي وجه قوى الحرية والتغيير نفسها. ثالثًا- قدرة حمدوك على أن يسبق حميدتي في تحييد كتلة “الإسلاميِّين” لصالحه؛ الأمر الذي سيمكِّنه من الوصول إلى الريف السوداني، وتفعيل العاملين بمؤسَّسات الدولة لصالحه، وسيحقِّق له استقرارًا سياسيًّا معتبرًا. أضفْ إلى ذلك، أن وجود الإسلاميِّين في الفضاء السياسي هو عامل مساعد لبناء علاقة خارجية متَّزنة مع تركيا وقطر، وذلك لأن حميدتي، بحكم ارتباطه المالي والسياسي بالإمارات والسعودية، سيكون ضدَّ تكوين علاقة متَّزنة مع هاتين الدولتين. ووجود علاقة متَّزنة مع قطر أمر مهمٌّ جدًّا في إدارة ملف السلام الشامل ولا يمكن تجاهله، خصوصًا أن قطر طوال السنوات العشرة السابقة كانت هي الراعية الرئيسية لمفاوضات السلام في دارفور. رابعًا- نجاح الاتحاد الأفريقي في الاستمرار في لعب دور الضامن والداعم للانتقال الديمقراطي في السودان، مع مقدرة حمدوك على توظيف عدم تجانس القوى الخارجية واستثمار علاقاته مع مجتمع المؤسَّسات التمويلية لصالح تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد[19].

وتعترض هذا السناريو صعوبتين رئيسيَّتين: إحداهما اقتصادية تتعلَّق بتجاوز الأزمة الموجودة وإحداث تحسُّن ولو جزئي وبسيط، في ظلِّ سيطرة العسكر على الذهب الذي يمثِّل أهمَّ مصادر العملة الصعبة، والأخرى سياسية تتعلَّق بالضغط على شركاء الثورة لإنجاز الأهداف المرحلية وتقديم تنازلات تقود لتوافقات تسير بالثورة إلى الأمام وتؤمِّن الجبهة الداخلية من أيِّ محاولات للتآمر، وذلك في ظلِّ اتِّساع الخلاف حول الكثير من النقاط، منها على سبيل المثال: مقاعد المجلس التشريعي حاليًّا، ووجود قوى إقليمية تُعادِي الثورات ومخرجاتها، والعلاقة القوية بين حميدتي والاتحاد الأوروبي بسبب قضية الهجرة غير الشرعية.

3) السيناريو الثالث- تسليم السلطة للمدنيِّين ثم إفشالهم والانقلاب عليهم

وهنا سيعمل المجلس العسكري على خلق حالة من الاستقطاب الحادِّ بين القوى السياسية الفائزة في الانتخابات، وعرقلة تكوين حكومة قوية والعمل على زعزعة التحالف المكوِّن للحكومة بالشكل الذي يجعل الاستقرار السياسي مطلوبًا حتى لو أصبح العسكر هم البديل، ولكن ذلك مرهون بعدم فوز حزب أو مجموعة أحزاب متجانسة بالأغلبية واتِّساع هُوَّةِ الخلاف بين الأحزاب بالشكل الذي يجعل التوافق فيما بينها صعبًا وتبدو ملامح ذلك واضحة الآن، وعندها سيحصل المجلس العسكري على دعم سياسي واقتصادي كبير من محور القوى المعادية للثورات (مصر – السعودية – الإمارات)، يدعم ذلك تمتُّع العسكر بإمكانيات مالية كبيرة (مصادر الذهب) والقوة العسكرية اللازمة للقمع ودعم بعض القوى الإقليمية لهم.

ويمنع وقوع مثل هذا السيناريو استفحال الأزمة المالية والاقتصادية التى أشعلت الثورة والتي يصعُب على العسكر إنهاؤها وإلا كانوا أنقذوا أنفسهم والبشير، وكذلك كون الرجل الأقوى الآن (حميدتي) يأتي من خارج الجيش وبالتالي احتمالات التنازع واردة وحقيقية في حال صعود أحد العسكريِّين للسلطة.

4 ) السيناريو الرابع- انقلاب من داخل الجيش

العدد الكبير من الانقلابات والمحاولات الانقلابية في تاريخ السودان ما بعد الاستقلال يجعل سيناريو انقلاب عددٍ من ضباط الجيش على الجيش والسلطة السياسية معًا، محتمل طوال الوقت خاصَّة في فترات التحوُّل، فقد ينقلب الجيش نفسه خلال الفترة الانتقالية بدعوى الأمن والاستقرار وعندها سيبحث عن دعم بعض القوى المدنية، وقد ينقلب مجموعة من ضباطه بمشروع سلطوي جديد يبحث أيضًا عن دعم أيٍّ من القوى المدنية، ويدعم مثل هذا السيناريو خبرة الجيش الطويلة في الانقلابات العسكرية فضلًا عن المحاولات الانقلابية، وكذلك القوى السياسية المختلفة التى تلجأ للعسكر لفرض وجودها مرة بعد مرة، إلا أنه يبدو من المستبعد طبقًا لنفس الأسباب أن ينقلب بعض ضباط الجيش لحساب، البشير لأن العسكري لا ينقلب لحساب غيره سواء كان مدنيًّا أو عسكريًّا، كما أنها لم تُطرح من قبل في تاريخ السودان فضلًا عن أن تُنَفَّذَ، ولكن يمنع وقوع مثل هذا السيناريو تمكُّن قادة الجيش الآن من مفاصل السلطة بشكل جيد وتمكُّن الشارع من أدواته الضاغطة والتي يمثِّل العصيان المدني أقواها وأسرعها فاعلية.

وفي الختام نجد أنه وفي ظلِّ طبيعة المجتمع والجيش ووضع الثورة؛ يبدو من الصعب ترجيح أحد السيناريوهات بشكل أكبر، فالحالة السياسية السودانية بها الكثير من العوامل المتقابلة التي تدعم حدوث شيء ما وتمنعه في نفس الوقت (كما هو مبيَّن في السيناريوهات الأربعة)، فالأمر بالأساس يتوقَّف على أيٍّ من العوامل سيكون له النصيب الأكبر في اللحظة التي ستُمَثِّل تحوُّلًا في مسار الثورة نحو أيٍّ من سيناريوهاتها المستقبلية، فمثلًا في حال حدوث انقلاب عسكري فإن نجاحه سيتوقَّف على مدى وعي القوى السياسية بالطريقة الأمثل للتعامل معه، فإن كانت هذه الدرجة من الوعي أقلَّ من القوة اللازمة لكسره سينجح، والعكس بالعكس، وكذلك في حال العبور للانتخابات فإن مدى قدرة القوى السياسية على التوافق وتشكيل حكومة مستقرَّة سيحدِّد مدى قدرة العسكر على استقطاب أيٍّ من القوى التى قد يتَّخذها متكئًا للانقلاب، والعكس بالعكس، ولعل تقابُل كلَّ هذه العوامل في نفس الوقت يجعل الحالة السياسية السودانية سائلة بشدَّة إلا من قوة العسكر الباطشة ووعي الثوار، ومدى ودرجة كليهما طبقًا للظرف السياسي.

*****

الهوامش

[1] وسام فؤاد، الأكثر هشاشة: النخبة المدنية السودانية و٣ نماذج انقلابية، المعهد المصري للدراسات، إدارة الرصد والتوثيق، 6 سبتمبر  2019، تاريخ الاطلاع: ٢٠ نوفمبر2019 ، متاح عبر الرابط التالي: https://eipss-eg.org

[2] هل يُنهي اتفاق تقاسم السلطة الأزمة السياسية في السودان، العربي الجديد، 11 يوليو 2019، تاريخ الاطلاع: 20 نوفمبر 2019 ، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/SUw8i

[3] عوض أحمد سليمان، الثورات السودانية.. تغيير سياسي أم تحول ديمقراطي: قراءة في ثورة ١٩ ديسمبر ونتائجها، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 14 يوليو 2019، تاريخ الاطلاع 27 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/Z0UZK

[4] للمزيد حول موقف الاتحاد الافريقي، انظر: بدر شافعي، السودان وعقوبات الاتحاد الافريقي، العربي الجديد، 11 يونيو 2019، تاريخ الاطلاع: 28 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/CvGLM

[5] يرجع تأييد الإمارات والسعودية لمظاهرات الشارع السوداني في البداية لكون البشير لا يوالي هذا المحور بشكل كامل، فرغم وجود قوات الجيش السوداني في اليمن بأعداد كبيرة، لم ينضمَّ البشير لحصار قطر وله علاقة جيدة بأردوغان، كما أن البشير يغير خريطة تحالفاته بين عشيةٍ وضُحاها ولا تطمئنُّ هذه القوى لبقائه معها خاصَّة فيما يتعلَّق بحرب اليمن.

[6] خالد عثمان الفيل، اتفاق الأطراف السودانية وتحديات الفترة الانتقالية، مركز الجزيرة للدراسات، 5 سبتمبر 2019، تاريخ الاطلاع: ٢٠ نوفمبر ٢٠١٩ ، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/oBMgY

[7] بدر شافعي، أميركا والثورة السودانية.. تدخل بلا فاعلية، العربي الجديد، ١٧ يونيو ٢٠١٩، تاريخ الاطلاع: 25 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/9qhr6

[8] عصام الزيات، إعلان الحرية والتغيير.. ٤ قوى تقود الثورة السودانية، إضاءات، ١٢ أبريل ٢٠١٩ ، تاريخ الاطلاع ٢١ نوفمبر ٢٠١٩ ، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/YXgXV

[9] خالد عثمان الفيل، اتفاق الأطراف السودانية وتحديات الفترة الانتقالية، مرجع سابق.

[10] المرجع السابق.

[11] سقط نظام البشير صاحب المشروع الإسلامي زعمًا، ولكن هذا لا يعني أن المشروع السياسي الإسلامى قد انتهى في السودان، فلا يمكن استبعاد الإسلاميين بمختلف مكوناتهم من المجال العام بشكل كامل في أي عملية سياسية حقيقية، وحتى كوادر وأعضاء المؤتمر الوطني ربما يجدون طريقًا نحو العمل السياسي من جديد وإن براية جديدة من خلال عملية تنافسية استقطابية بين القوى السياسية وبعضها أو بين القوى السياسية والمجلس العسكري، ولذلك فإن الإسلاميين كتيار سياسي وحتى في أسوأ صوره (المؤتمر الوطني) باقون في العمل السياسي كأحد المكونات والفواعل السياسية الرئيسية ولكن بدون موقع الصدارة.

[12] المحبوب أبو علي، الوثيقة الدستورية السودانية: قراءة قانونية سياسية، المعهد المصري للدراسات، 15 أغسطس 2019، تاريخ الاطلاع 28 نوفمبر 2019 ، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/mo4Z8

[13] للمزيد انظر: تأجيل تكوين المجلس التشريعي بالسودان.. إليكم الأسباب، الجزيرة.نت، ١٩ نوفمبر 2019، تاريخ الاطلاع ٢٤ نوفمبر ٢٠١٩ ، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/aI7Tm

[14] حمدوك يصدر قرارا بتشكيل لجنة التحقيق المستقلة، وكالة الأخبار السودانية الرسمية سونا، 21 سبتمبر 2019، تاريخ الاطلاع 25 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/eWcsm

[15] عماد عنان، رغم التوقيع.. ألغام في طريق الاتفاق السوداني، نون بوست، ١٨ يوليو ٢٠١٩، تاريخ الاطلاع 27 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/fiehj

[16] حتى الآن يبدو أن السياسة الخارجية لحكومة الدكتور عبدالله حمدوك تهدف إلى: أ) تصفير المشكلات وتجنب سياسة المحاور، ب) فك العزلة  الدولية، ج) إعادة ترتيب مسار جديد للعلاقة مع واشنطن والاتحاد الأوروبي.

– للمزيد حول السياسة الخارجية لحكومة حمدوك، انظر: عبد المنعم علي، جولة “حمدوك” الخارجية: استعادة توازن السياسة الخارجية السودانية، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 6 أكتوبر 2019، تاريخ الاطلاع 10 ديسمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/R82lo

[17] خالد عثمان الفيل، اتفاق الأطراف السودانية وتحديات الفترة الانتقالية، مركز الجزيرة للدراسات، 5 أغسطس 2019، تاريخ الاطلاع 26 نوفمبر 2019 ، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/azTSv

[18] رغم تنوع واختلاف القوى السودانية إلا أن ثمة توافق تام على ضرورة إزاحة العسكر من الحكم ظهر في محطات تاريخية منها ثورة أكتوبر 1964 وظهر بعدها ضد نظام نميري وظهر مجددًا خلال عملية إسقاط البشير وبعدها، فمثلًا الترابي العدو اللدود للحزب الشيوعي عاد وتحالف معه في 2010 ضمن تحالف قوى الإجماع الوطني في إطار مناهضة الحكم العسكري، وكذلك لم يطالب عموم الإسلاميين في المعارضة من القوى متصدِّرة المشهد الآن سوى عدم الإقصاء، وكذلك مليونية الشربعة التي شهدها السودان في 19 مايو، والتي رفعت نفس شعار الثورة “حرية.. عدالة.. سلام” ولم تتجاوز العتاب للكراهية وأكَّدت على الشراكة وليس الاستقطاب رغم حجم الاختلاف الكبير مع القوى التي تتصدَّر المشهد، إلا أن هذه الحالة من التوافق مرهونة بعدم الإقصاء الذي يوفِّر قدرة على الاستقطاب من جانب المجلس العسكري ستفسد هذا التوافق بالضرورة وتفتح الإمكانية لوقوع انقلاب عسكري.

للمزيد حول جدلية الاستقطاب والتوافق بين القوى السياسية السودانية منذ الاستقلال وحتي أحداث الثورة الآن، انظر:

– وسام فؤاد، ثورة السودان بين مشروع الخوف وسياسات الاستقطاب، المعهد المصري للدراسات، 28 يونيو 2019، تاريخ الاطلاع 27 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/TINAn

[19] خالد عثمان الفيل، اتفاق الأطراف السودانية وتحديات الفترة الانتقالية، مرجع سابق.

 

فصلية قضايا ونظرات- العدد السادس عشر – يناير 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى