التوترات الأوروبية – التركية: مشاهد ودلالات ومآلات

مقدمة:

تُمثل العلاقات الأوروبية التركية منذ نشأة الدولة العثمانية مسرحًا للتقلبات والموجات المتتالية من التعاون والتلاقي في بعض الأحيان، ومن التوتر والصراع في غالب الأحيان؛ حيث مثّلت العلاقات التركية الأوروبية في أوقات كثيرة الانعكاس السياسي والعملي للصراع أو التدافع الحضاري بين الشرق والغرب.

ومنذ بناء الدولة التركية الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى شهدت العلاقات الأوروبية التركية تقدمًا كبيرًا؛ إذ فضلت النخب الحاكمة في تركيا الدخول في الحاضنة الأوروبية على المستويات الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية؛ والابتعاد بشكل كبير عن الدائرة المشرقية والجذور الحضارية المشتركة مع الدول والمجتمعات العربية والإسلامية.

ومع سطوع نجم القوى الإسلامية في تركيا متمثلة في تيار “الملي جورش” بزعامة نجم الدين أربكان بدأت تظهر بوضوح على الساحة السياسية التركية تلك الأصوات المعارضة للارتماء التركي في الحاضنة الأوروبية والدعوات الصريحة للتوجه شرقًا على حساب التوجه الغربي السائد منذ بناء تركيا الحديثة؛ إلا أنه ومع صعود حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى السلطة في بدايات الألفية الثالثة جمعت النخبة الحاكمة في تركيا بين الاتجاهين: التوجه غربًا والجدية الكاملة في السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتطبيق معاييره سياسيا واقتصاديًا، إلى جانب التوجه شرقًا واستعادة العلاقات مع العمق الاستراتيجي المتمثل في الدول العربية والإسلامية في المشرق.

ومع التطورات السياسية على المستوى العالمي والاضطرابات الكثيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ ثورات الربيع العربي في عام 2011، بدأت التوترات الأوروبية التركية تظهر وتتواتر بصورة كبيرة خاصة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا عام 2016، والتحول الراديكالي في العلاقات الأوروبية التركية على المستوى الخطابي والاتهامات المتبادلة بين الطرفين.

يسعى هذا التقرير لرصد أبرز ملامح التوترات الأوروبية التركية في السنوات الأخيرة، ودلالات هذه التوترات في التطور التاريخي للعلاقات الأوروبية التركية، والمآلات المستقبلية المتوقعة لهذه التطورات.

أولًا- ملامح التوترات الأوروبية التركية:

تتعدد مظاهر وأسباب الخلافات التركية الأوروبية، ويُمكن تصنيف هذه الخلافات ضمن ثلاثة محاور رئيسية، أولها الخلاف حول المساعي التركية للانضمام للاتحاد الأوروبي، وما يرتبط بها من خلافات تاريخية وثقافية بين الطرفين، بينما يتمثل المحور الثاني في المعارضة الأوروبية للسياسة الخارجية التركية تجاه بعض الدول الأوروبية والدور التركي في بعض الصراعات الدولية في الشرق الأوسط وفي جوارها الإقليمي الآسيوي، وأخيرًا الاعتراض الأوروبي على السياسة الداخلية التركية واتهامها للنظام التركي باختراق معايير حقوق الإنسان وانتهاك الديموقراطية، في مقابل الانتقادات التركية الحادة للدول الأوروبية خاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016.

  • الخلافات حول الانضمام للاتحاد الأوروبي:

تُعد تركيا أحد الحلفاء الرئيسيين للمعسكر الغربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فقد انضمت إلى حلف الناتو في عام 1952، وكانت أحد أعضاء مجلس أوروبا منذ عام 1950، ووقعت اتفاقًا للشراكة يتضمن إمكانية العضوية مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1963، التي كانت التكتل الأوروبي الأساسي قبل نشأة الاتحاد، وهو الاتفاق الذي تم تجميده عقب الانقلاب العسكري في تركيا عام 1980[1].

وفي عام 1987 قدمت تركيا طلبًا بالترشح لعضوية الاتحاد الأوروبي، إلا أنه تم رفض طلبها، لأسباب سياسية واقتصادية، وفي 1996 دخل اتفاق الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ ليصل الطرفان إلى درجات متقدمة من التعاون؛ حيث يمثل هذا الاتفاق العنصر الرئيسي في العلاقات بين الطرفين، وفي عام 1999 أصبحت تركيا مرشحًا للانضمام للاتحاد الأوروبي بعد تسجيل طلب ترشحها وبدء مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي المتعلقة بقيام تركيا بإصلاحات في مجال حقوق الإنسان والمجال الاقتصادي[2]، وتزامن ذلك مع أزمات اقتصادية حادة في تركيا تسببت في تجميع الشعب والنخب التركية حول هدف الانضمام للاتحاد الأوروبي من خلال تطبيق “معايير كوبنهاجن” التي تتضمن إصلاحات سياسية واقتصادية متعددة، وهو الهدف الذي عمل حزب العدالة والتنمية على تطبيقه منذ وصوله إلى السلطة في عام 2003[3].

وقد مرت عمليات التفاوض حول الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي بمراحل متعددة وواجهت عراقيل كثيرة نتجت عن اعتراض بعض دول الاتحاد وخاصة قبرص واليونان وفرنسا على فتح بعض أبواب التفاوض في مراحل مختلفة[4]؛ وتعطلت بعض الخطوات المتقدمة نحو التكامل بين تركيا وأوروبا نتيجة الخلافات السياسية بين الطرفين في عدد من الملفات كما سيوضح التقرير لاحقًا؛ ومع مرور السنوات دون حدوث تقدم كبير في هذا الملف بدا وكأن الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي أمرًا مستحيلًا وتبنت النخب التركية خطابًا معاديًا للاتحاد الأوروبي واتهامات له بكونه “ناديا مسيحيا” باعتبار أن السبب الأساسي لرفض انضمام تركيا للاتحاد هو كونها دولة مسلمة؛ فقد علق أردوغان على استقبال زعماء زعماء الاتحاد الأوروبي لـ “بابا الفاتيكان “فرانسيس الأول” في 24 مارس 2017، في ذكرى تأسيس معاهدة روما. حيث قال أردوغان “لقد التقى زعماء الاتحاد الأوروبي في الفاتيكان. منذ متى أصبح البابا عضوًا في الاتحاد الأوروبي؟. لقد أظهر هؤلاء أخيرًا تحالفهم الصليبي. أنتم لا تأخذون تركيا إلى صفوف الاتحاد لأنها مسلمة”[5].

وعلى الرغم من الحضور والتأثير الفعلي للجذور الحضارية والخلافات الثقافية التاريخية بين تركيا والاتحاد الأوروبي والتي تتجلى في مناسبات مخلتفة؛ مثل الأزمة التي  أثارها تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد في عام 2020[6]؛ إلا أنه لا يُمكن التسليم بالخطاب الشعبوي الذي يُحيل رفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا له إلى الأسباب الثقافية والدينية فحسب؛ وإنما ثمة خلافات سياسية حادة بين الطرفين تمنع إتمام التكامل التركي الأوروبي وهي التي تستند إليها دول الاتحاد في تبريرها لتعطيل الخطوات المتقدمة نحو التكامل بين الطرفين؛ وأبرز هذه الأسباب كما سيلى بيانه في التقرير هي المعارضة الأوروبية للسياسة الخارجية التركيا تجاه جوارها الإقليمي في اليونان وقبرص والصراع حول غاز شرق المتوسط؛ إلى جانب الخلافات بشأن قضية اللاجئين والسياسات التركية في أزمات الشرق الأوسط، فضلًا عن الأوضاع الداخلية في تركيا والاتهامات الأوروبية للحكومة التركية بالتحول نحو السلطوية.

  • المعارضة الأوروبية للسياسة الخارجية التركية في محاور متعددة:

تعارض القوى الأوروبية الكثير من الممارسات التركية تجاه جوارها الإقليمي في الاتجاهات الأوروبية والآسيوية والشرق أوسطية؛ فعلى المستوى الأوروبي تحتل القضية القبرصية والخلاقات التركية اليونانية المتعلقة بالتنقيب عن الغاز الطبيعي رأس قائمة الخلاقات الأوروبية التركية؛ وكذلك يُمثل التدخل التركي في الصراعات الليبية والسورية والعراقية محلًا للخلاف مع القوى الأوربية؛ فضلًا عن سياسات تركيا في جنوب القوقاز ودعمها لأذربيجان في مواجهة أرمينيا والصراع حول إقليم ناغورني كرباخ، وفيما يلي يستعرض التقرير بشيء من التفصيل أبرز ملامح الخلاف حول هذه القضايا.

  • الصراعات التركية مع قبرص واليونان وقضية غاز شرق المتوسط:

تُعد القضية القبرصية أحد أقدم القضايا الخلافية بين تركيا والقوى الأوروبية؛ إذ فرضت تركيا سيطرتها على الجزء الشمالي من قبرص عام 1974 بعد مواجهة عسكرية خاضتها ضد القوات اليونانية التي كانت تفرض سيطرتها على كامل الجزر القبرصية، ولاحقًا أعلنت تركيا اعترافها بما يسمى “جمهورية شمال قبرص التركية” في عام 1983 من جانب واحد؛ وتُمثل هذه القضية أحد أهم عوامل التواتر في العلاقات بين تركيا وكل من قبرص واليونان، وهما عضوان في الاتحاد الأوربي؛ وقد أسفر انزعاج اليونان من السيطرة التركية على شمال قبرص عن تعليق الاتفاق الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي الذي تم توقيعه عام 1995 في أعقاب التوقيع عليه[7].

وفي السنوات الأخيرة مثّل الصراع حول غاز شرق المتوسط محور الاهتمام الرئيسي في العلاقات بين تركيا وكل من قبرص واليونان؛ حيث ارتبط ذلك النزاع بقضايا قديمة ومتجددة تتعلق بالخلافات الحدودية بشأن تحديد المياة الإقليمية والجرف القاري بين البلدان الثلاثة؛ حيث تدعي تركيا أن جرفها القاري يمتد لجزر بحر إيجه، وتحاول السيطرة عليها تطبيقًا لإستراتيجية “الوطن الأزرق”[8]، كما تطالب تركيا بتعديل “اتفاقية باريس للسلام” لعام 1947 والتي أعطت اليونان سيادة كاملة علي جزر بحر إيجه. ومن أهم أركان الخلافات التركية اليونانية بخصوص هذه القضية رفض تركيا للتوقيع علي اتفاقيتي “الأمم المتحدة لتقسيم أعالي البحار” في 1982، و”اتفاقية الأمم المتحدة لتقسيم الجرف القاري” في 1902. وقد تم إجراء 65 جولة للمفاوضات بين تركيا واليونان منذ 2001 وحتي يناير 2021، وانتهت جميعها بالفشل في حل الخلاف التركي اليوناني[9].

وقد قوبلت عمليات التنقيب التركي عن الغاز في المناطق التي اعتبرتها تركيا ضمن جرفها القاري قبالة السواحل اليونانية برفض أوروبي واسع؛ حيث اعتبرتها قوى الاتحاد الأوروبي استفزازات تركية غير قانونية وغير مقبولة، وأعربت ألمانيا عن قلقها إزاء هذه الخطوات التركية داعية إلى خفض التصعيد[10]؛ بينما تبنت فرنسا خطابًا أكثر حدة في مواجهة هذه الممارسات التركية حيث أدانت ما اعتبرته “انتهاكا تركيًا لسيادة قبرص واليونان” مطالبة بمعاقبة كل من يهدد الفضاء البحري لأحد أعضاء الاتحاد الأوروبي[11].

وفي ديسمبر 2020 قرر قادة الاتحاد الأوروبي خلال اجتماعهم في بروكسل فرض عقوبات اقتصادية ضد مجموعة من الأفراد والكيانات الاقتصادية المؤثرة في تركيا بسبب ما اعتبروه تصرفات عدوانية ضد اليونان وقبرص[12]، وفي نوفمبر 2021 قرر الاتحاد الأوروبي مد العقوبات الاقتصادية على تركيا لعام إضافي؛ وتشمل هذه العقوبات تجميد أصولهم المالية ومنعهم من السفر للاتحاد الأوروبي ومنع الأشخاص والكيانات التابعة للاتحاد الأوروبي من إتاحة الأموال للأفراد والكيانات التركية التي تستهدفها هذه العقوبات[13].

كما اتجهت اليونان وقبرص إلى عقد اتفاقيات لترسيم الحدود بينها وبين كل من مصر وإسرائيل بما يطوق قدرة تركيا على التنقيب عن غاز شرق المتوسط، في مقابل اتجاه تركيا للتدخل العسكري في ليبيا وعقد اتفاقية ترسيم حدود مع حكومة فايز السراج في سعي للتأكيد على ما تعتبره حقًا لها في غاز شرق المتوسط[14].

  • الدور التركي في الشرق الأوسط والمخاوف الأوروبية:

يثير النفوذ التركي المتزايد في ليبيا مخاوف القوى الأوروبية خاصة في جنوب أوروبا من استغلال تركيا لنفوذها في ليبيا من أجل تهديد القوى الأوروبية بأوراق ضغط متعددة عسكرية واقتصادية بالإضافة إلى التحكم في تدفق اللاجئين العرب والأفارقة من ليبيا إلى جنوب أوروبا[15].

وثمة خلافات أوروبية تركية بشأن الأزمة السورية؛ وخاصة بشأن وضع ومستقبل الأكراد في سوريا؛ حيث يدعم الاتحاد الأوروبي قوات سوريا الديمقراطية التابعة لأكراد سوريا، بالإضافة لسعيه لإدماج الأكراد في الحل السياسي للأزمة السورية، وهو ما ترفضه تركيا خوفًا من تأسيس قوة كردية جديدة مهددة لها على حدودها الجنوبية[16] .

ومما يزيد مستويات التوتر الأوروبي التركي ارتفاع مستويات التنسيق والتقارب الروسي التركي في بعض الملفات؛ حيث تتجه تركيا للتنسيق مع كل من روسيا وإيران في الأزمة السورية في بعض الأحيان[17]؛ ويتزامن ذلك مع التعاون العسكري الروسي التركي المتمثل في شراء تركيا لبعض لصواريخ S 400 الروسية؛ الأمر الذي يثير مخاوف واعتراضات أوروبية وأمريكية كثيرة لكون منظومات التسليح الروسية لا تتوافق مع أنظمة الدفاع لحلف الناتو الذي تتمتع تركيا بعضويته[18].

كما يرى البعض أن قيام تركيا بهذه الخطوة هي بمثابة تهديد منها للولايات المتحدة وأوروبا وأنه بإمكانها أن تدير ظهرها للغرب وتتجه للتحالف مع روسيا في ظل اعتقاد الإدارة التركية بتورط الولايات المتحدة وأوروبا في دعم المحاولة الانقلابية في عام 2016[19].

تعارض القوى الأوروبية أيضًا الدور التركي في النزاع بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناغورني كرباخ وتتهم القوى الأوروبية تركيا بتعمدها تضخيم الأزمة والتسبب في تفاقمها، وثمة ضغوط كبيرة على المستوى الشعبي والبرلماني داخل الدول الأوروبية لمطالبة الحكومات بالتحرك بشكل أقوى على مستوى ردع تركيا عن تدخلها في هذا النزاع؛ وخاصة من قبل الجاليات الأرمينية في البلدان الأوروبية والتي تتهم تركيا بمحاولة تكرار مذابح الأرمن مجددًا وبإرسال مقاتلين إسلاميين إلى المنطقة؛ وعلى الرغم من التحركات الدبلوماسية الطفيفة التي تسعى لوقف النفوذ التركي في النزاع حول إقليم كراباخ إلا أن الحضور التركي يبدو أقوى من أن توقفه هذه المواقف الأوروبية التي توصف بـ “الضعيفة”[20].

ويرتبط بهذا الموضوع إقرار معظم القوى الأوروبية لـ “قانون الإبادة الأرمنية” الذي يتهم الدولة العثمانية بارتكاب مذابح ضد الأرمن في فترة الحرب العالمية الأولي تُقدر بحوالي مليون وأربعمائة ألف أرميني، بينما تنكر أنقرة وتقول أن عددهم بلغ ثلاثمائة ألف أرميني وكان ذلك بسبب ظروف الحرب([21]).

  • قضية اللاجئين:

في مارس 2016 وقَّع كلٌ من الاتحاد الأوروبي وتركيا اتفاقًا من أجل إيقاف تدفق المهاجرين إلى أوروبا، حيث وافقت تركيا علي عودة اللاجئين – الذين اعتُبروا غير المؤهلين للجوء- والذين دخلوا اليونان عبر أراضيها، وفي المقابل يعطي الاتحاد الأوروبي تركيا 6 مليار يورو لمساعدتها لدعم أكثر من 2.5 مليون لاجئ سوري يقميوا في تركيا، هذا بالإضافة إلى تنشيط طلب عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ورفع مستوى الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي، والسماح للمواطنين الأتراك للسفر للاتحاد الأوربي بدون تأشيرة[22].

وبعد انقلاب 2016 في تركيا ولجوء الحكومة التركية إلى عدد من الإجراءات السلطوية التي تمثلت في اعتقال عدد كبير من المتهمين بالانضمام لجماعة فتح الله كولن والذي بلغ عددهم حوالي 78000 شخص، وإقالة حوالي 110,000 موظف مدني، بالإضافة إلى توسيع صلاحيات الرئيس، وتقليص سلطات البرلمان بإقرار النظام الرئاسي، بعد الاستفتاء الدستوري في إبريل 2017، وهي إجراءات لاقت انتقادات أوروبية واسعة خاصة في ظل ما ارتبط بها من اتهامات تركية للقوى الأوروبية بالتورط في دعم المحاولة الانقلابية؛ ويرى البعض أن هذه الأحداث أسفرت عن فقدان القوى الأوروبية شهيتها لتنفيذ اتفاق اللاجئين مع تركيا؛ بالإضافة إلى تحفظ الدول الأوروبية على السماح بسفر الأتراك دون تأشيرة إلى أوروبا بحجة أن تركيا لم تنفذ معايير مكافحة الفساد وتشريعات مكافحة الإرهاب والتعاون القضائي وحماية البيانات بالصورة المطلوبة؛ ونتج عن هذا التوتر في العلاقات تهديد أردوغان بوقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي بخصوص ملف الهجرة؛ واتُهمت تركيا بأنها شجعت عشرات الألاف من المهاجرين للتوجه إلى الحدود اليونانية في بدايات عام 2020، كما أدان الاتحاد الأوروبي إستخدام الهجرة كورقة ضغط سياسية، وأعلن التضامن مع اليونان([23]).

  • التحول السلطوي وانتهاكات حقوق الإنسان موضوعًا للخلاف الأوروبي التركي:

تتعرض تركيا لانتقادات أوروبية قاسية فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان خاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة كما سبق ذكره؛ كما تنتقد القوى الأوروبية ما تعتبره قيودًا مفروضة على الحريات الدينية والمذهبية تحدث للعلويين والمسيحيين في تركيا؛ فضلًا عن اعتقالات الحكومة التركية لزعماء ونواب حزب الشعوب الديموقراطي الكردي واتهامه بدعم حزب العمال الكردستاني؛ كما تتهم بعض القوى الأوربية الحكومة التركية بتزويرها للاستفتاء الدستوري الذي أقر بتحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي؛ حيث ترى لجنة مراقبة الانتخابات التي تم أرسلتها منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، أنه تم التلاعب بحوالي مليوني ونصف صوت، وهذا الرقم كان كافيا لنجاح نعم في التعديلات الدستورية التي تمت للتحول للنظام الرئاسي[24].

ثانيًا- مستقبل العلاقات التركية الأوربية… السيناريوهات المتوقعة:

في مقابل التوترات المتعددة التي تشهدها العلاقات التركية الأوروبية بشأن الكثير من الملفات، إلا أن كلا الطرفين لا يزالان يحتفظان بالعديد من المصالح المشتركة التي تفرض عليهما معالجة التوترات والحرص على إبقائها ضمن حدود ضيقة لا تتعادها؛ خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي وحّدت الدول الأوروبية وأعضاء حلف الناتو حول المخاوف من خطر التمدد الروسي والصيني من ورائه.

ومع هذا؛ فإن السياسة الخارجية التركية تجاه الحرب الروسية الأوكرانية تجمع بين الانسجام مع مواقف دول الناتو والاتحاد الأوروبي -المنددة للغزو الروسي لأوكرانيا والداعمة لمعاقبة روسيا سياسيًا واقتصاديًا إلى جانب الدعم العسكري لأوكرانيا- وبين الخروج عن الإجماع الغربي والسعي لرسم سياسة مغايرة تتمثل في لعب دور الوساطة بين طرفي النزاع والحفاظ على العلاقات مع روسيا وعدم الذهاب بعيدًا في مواجهتها على غرار القوى الغربية؛ خاصة أن العلاقات الجيدة لتركيا مع روسيا تعتبرها الأولى ورقة ضغط على الولايات المتحدة والغرب، وفي ظل اعتقاد النخبة الحاكمة في تركيا بتورط القوى الغربية في المحاولة الانقلابية الأخيرة عام 2016[25].

وبذلك يمكن القول إن السيناريوهات المتوقعة لتطور العلاقات الأوروبية التركية تحتمل طيفًا متنوعًا من التطورات المتعارضة من توافق وتعاون أو مزيد من الصراع والتوتر، وفيما يلي نستعرض أبرز هذه السيناريوهات:

السيناريو الأول.. تصاعد التوتر وصولًا إلى العداء الكامل:

يتحقق هذا السيناريو حالة إصرار القوى الأوروبية على تمديد العقوبات الاقتصادية على تركيا وتعميق هذه العقوبات بما يفاقم التأثيرات السلبية على الاقتصاد التركي، إلى جانب مواصلة تركيا أعمال الحفر والتنقيب عن الغاز الطبيعي في السواحل المتنازع عليها؛ وقد تصل العقوبات الأوروبية على تركيا إلى حد تجميد الوحدة الجمركية بين تركيا وأوروبا وحظر استخدام الشركات التركية للموانئ الأوروبية بما يزيد من أوجاع الاقتصاد التركي[26].

ويعد احتمال تحقق هذا السيناريو احتمال ضعيف خاصة في ظل وجود إدارة ديموقراطية في البيت الأبيض تتبني نهجًا أكثر احتواءً للحكومة التركية؛ بالإضافة إلى ظروف الغزو الروسي لأوكرانيا والأهمية الاستراتيجية لتركيا في حلف الناتو كحائط صد أمام الخطر الروسي وتهديداته لأوروبا والولايات المتحدة.

السيناريو الثاني.. تصفية الخلافات والعودة التركية إلى الحاضنة الأوروبية:

في مواجهة المراهنة الروسية على تفكك الناتو وانقسام القوى الغربية التي استمدت روسيا منها جرأتها في إعلان الحرب على أوكرانيا؛ قد تعمل القوى الغربية على تصفية كافة الخلافات داخل قوى حلف الناتو والبلدان الاستراتيجية في المواجهة الأوروبية للخطر الروسي؛ وتأتي تركيا في مقدمة هذه البلدان نظرًا لموقعها الجغرافي على الحدود مع روسيا وأهمية هذا الموقع بالنسبة للناتو كموقع استراتيجي في التصدي لأية هجمات روسية محتملة على الغرب[27].

ومن ثم فإن القوى الغربية ستبذل جهودًا كبيرة بكل تأكيد من أجل احتواء تركيا ومنع تحويلها إلى حليف استراتيجي لروسيا في مواجهة أوروبا[28]؛ وقد تجد تركيا في هذا السيناريو أيضًا بديلأ جيدًا عن الصدام مع أوروبا وحلًا للتخلص من وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة على تركيا، ومع ذلك تظل احتمالات نجاح هذا السيناريو ضعيفة بالنظر إلى الطموحات التركية للعب أدوار سياسية تتجاوز مجرد التبعية لمواقف القوى الغربية وإصرارها على رسم خطوط مستقلة لسياساتها الخارجية بهدف التحول إلى أحد الأقطاب الرئيسية في السياسة الدولية.

السيناريو الثالث.. استمرار التوتر في نطاقات محدودة:

يتضمن هذا السيناريو الحفاظ على التحالف الاستراتيجي بين الغرب وتركيا فيما يتعلق بالعلاقات العسكرية والتعاون الأمني في إطار حلف الناتو لمواجهة التهديدات الروسية أو الصينية المحتملة مستقبلًا؛ مع بقاء مساحات التوتر والخلاف القائمة بشأن قضية غاز شرق المتوسط أو قضايا اللاجئين وغيرها من الخلافات ضمن حدود ضيقة لا تتعداها؛ مع حرص الطرفين على عدم تفاقم هذه الخلافات بما يُضعف موقفهما في مواجهة الخطر الروسي.

ومما يدعم هذا السيناريو تلك الرغبة التركية في تبني سياسات خارجية مستقلة عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاحتفاظ بعلاقاتها المتوازنة مع روسيا دون التخلي عن الحفاء الأوروبيين؛ كما أنه من غير المتوقع تخلي تركيا عن رغباتها في الحصول على نصيب من غاز شرق المتوسط أو إمكانية التوصل إلى حلول دبلوماسية فيما يتعلق بهذه القضية في المستقبل القريب؛ ومن ثم فإن سيناريو استمرار التوترات مع الاحتفاظ بها ضمن حدود ضيقة هو السيناريو الأقرب من وجهة نظر الباحث، وقد يُمثل الخطر الروسي على أوروبا فرصة لتركيا من أجل تحقيق أهدافها المتعلقة بغاز شرق المتوسط واستئناف عمليات التنقيب قبالة السواحل اليونانية دون الخوف من رد فعل أوروبي قوي.

[1] سجل العلاقات التركية الأوروبية.. تقارب بطعم النفور، أحوال تركية، 5 إبريل 2021، تاريخ الاطلاع: 10 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3pNxAMt

[2] العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي، الموقع الرسمي لوزارة الخارجية التركية، تاريخ الاطلاع: 10 مارس 2022.، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3vWvGNd

[3] محمد جمال على، تركيا وطرق التحول الديموقراطي والإصلاح الإسلامي، (في): نادية مصطفى وآخرون (محررون)، أمتى في العالم السياسات العامة في نظم ومجتمعات العالم الإسلامي نماذج وخبرات، (القاهرة: مفكرون الدولية للنشر والتوزيع، 2020)، صـ 79.

[4] العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي، الموقع الرسمي لوزارة الخارجية التركية، مرجع سابق.

[5] محمد نور الدين، العلاقات التركية – الأوروبية: تأثيراتها ومآلاتها، شؤون عربية، عدد 170، صيف 2017، ص 88.

انظر أيضًا: إبراهيم خليل العلاف، الاتحاد الأوروبي.. هل هو نادي مسيحي؟، دنيا الوطن، 21 فبراير 2007، تاريخ الاطلاع: 19 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي:  https://bit.ly/3pQDr3I

[6] لماذا أثار  تحويل  آيا صوفيا إلى مسجد كل هذا الجدل والانقسام؟، BBC  عربي، 12 يوليو 2020، تاريخ الاطلاع: 4 أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/bQvV5

[7] تركيا والاتحاد الأوروبي.. تاريخ من العلاقات المتوترة، اندبندنت عربية، 5 أبريل 2021، تاريخ الاطلاع: 16 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3JTuFcH

[8] هو مصطلح وضعه عسكري تركي يدعى “كيم جوردينيز” في عام 2006، ويعبر عن المناطق البحرية التي يجب أن تكون ضمن الحدود التركية، وتشمل “المناطق الاقتصادية التركية” في بحر إيجه والبحرالمتوسط والبحرالأسود، وتقُدر بمسافة 200 ميل بحري في الاتّجاهات المختلفة.

[9] أيمن سمير، مستقبل العلاقات التركية الأوروبية، 5 يوليو 2021، تركيا الآن، تايخ الاطلاع: 10 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي:  https://bit.ly/3BTX2ov

[10] تركيا واليونان.. صراع على ثروات شرق المتوسط، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 16 أغسطس2020 ، تاريخ الاطلاع: 17 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3pdPoju

[11] تركيا واليونان: ما أسباب التوتر بين البلدين؟، BBC عربي، 29 يوليو 2020، تاريخ الاطلاع: 20 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/fXaod

[12] اتفاق في القمة الأوروبية على فرض عقوبات على أنقرة، DW، 11 ديسبمر 2020، تاريخ الاطلاع: 21 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي:  https://bit.ly/3MDYX5g

[13] الاتحاد الأوروبي يمدد العقوبات على تركيا بسبب أعمال التنقيب شرق المتوسط، روسيا اليوم، 11 نوفمبر2021، تاريخ الاطلاع: 24 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي:   https://bit.ly/3KxoN9d

[14] تركيا واليونان.. صراع على ثروات شرق المتوسط، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، مرجع سابق.

[15] كرم سعيد، المسارات المحتملة للتوترات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 15 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 25 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3skoAQs

[16] المرجع السابق.

[17] المرجع السابق.

[18] صواريخ “إس 400”.. ورطة أردوغان بين واشنطن وموسكو، DW، 6 يوليو 2021، تاريخ الاطلاع: 16 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3M52r0j

[19] Howard Eissenstat, Neither East nor West: Turkey’s calculations in the Ukraine crisis, the Middle East Institute, 25 FEB 2022, accessed: 15 March, available at: https://bit.ly/3vSceRW

[20] كيف تنظر أوروبا “الضعيفة” إلى النزاع في ناغورني كاراباخ؟، دويتشه فيليه، 8 أكتوبر2020، تاريخ الاطلاع: 11 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3I2ZFp8

وانظر أيضًا: مايكل يونغ، اللعب بالنار في جنوب القوقاز، كارنيجي، 16 نوفمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 11 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/F147y

[21] خورشيد دلي، مرحلة مغايرة: ما هي حدود التوتر في العلاقات التركية-الأوروبية؟، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، الإثنين، 03 أبريل 2017، تاريخ الاطلاع: 13 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3KpZ2I3

[22] Luigi Scazzieri, FROM PARTNERS TO RIVALS? The Future of Eu-Turkey  Relations, center for European reform, 23 Jun 2021, accessed: 20 March 2022, available at:  https://bit.ly/3I0DJeo

[23] Ibid.

[24] محمد نور الدين، العلاقات التركية – الأوروبية: تأثيراتها ومآلاتها، مرجع سابق، صـ 87.

[25] Howard Eissenstat, Neither East nor West: Turkey’s calculations in the Ukraine crisis, Op. cit.

[26] أيمن سمير، مستقبل العلاقات الأوروبية التركية، مرجع سابق.

[27] عبد اللطيف حجازي، لماذا لن تسحب واشنطن رؤوسها النووية من تركيا؟، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 22 أكتوبر 2019، تاريخ الاطلاع: 21 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي:  https://bit.ly/3tH5gfQ

[28] Kemal Kirişci, Can the Russia-Ukraine crisis offer an opportunity to re-anchor Turkey in NATO?, Brookings, 16 FEB 2022, accessed: 22 March 2022, available at:  https://brook.gs/3sXA9xw

فصلية قضايا ونظرات – العدد الخامس والعشرون ـ أبريل 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى