التعليم الإسلامي في سياقات متحدية: نماذج من الصين
مقدمة:
الإسلام في الصين، ذلك الصندوق الأسود الكبير([1])، الذي لا نجد له مرجعًا جامعًا مانعًا يكشف ظلامه ويجلو أبعاده الغامضة، بدءًا من الحد الأدنى للمعرفة المتصل بتعداد المسلمين هناك، مرورًا بالتعرف على ديموغرافيا الانتشار الإسلامي في مناطق ومقاطعات الصين، وليس انتهاءً بالموضوعات الأكثر تعقيدًا المتعلقة بالعلاقة بين الإسلام، والعرقيات، واللغة الصينية، واللهجات أو اللغات المحلية لسكان الأقاليم التي تضم مسلمين.
في هذا الإطار، تعد المنظمات الإسلامية في الصين من بين أكثر الموضوعات غموضًا، ليس لكونها غير معروفة، ولا لكون الصين أصلًا دولة ضخمة الحجم مترامية الأطراف فيها 56 جماعة عرقية، 55 منها تعيش كأقليات قومية، وينحدر غالبية المسلمين من 10 قوميات منها، ولكن لطبيعة الحكومة الصينية الاشتراكية الإلحادية، التي تسيطر فيها الدولة على كل ما هو اجتماعي وثقافي، ولطبيعة نظرتها إلى الأديان، وبخاصة الأديان السماوية.
وفي قلب موضوع المؤسسات الإسلامية الصينية يأتي وضع التعليم والتربية الإسلامية وتعليم اللغة العربية في الصين([2])؛ فينطلق الإطار المرجعي لهذه الأخيرة لا من أسسٍ إسلامية -كما هو مفترض بالاتصال الوثيق بين العربية والقرآن والإسلام- ولكن من أسسٍ ثقافية إقليمية مبنية على أن الاهتمام الأساسي في تعليم اللغة العربية هو فهم أسُسها، وخلفية الثقافة الحضارية العربية، والعلاقات العربية الصينية، وطبيعة الأقاليم أو الجغرافيا العربية. ويعمل خريجو اللغة العربية في أقسام الترجمة المختلفة، وفي مجال العمل الدبلوماسي، وفي مجالات التجارة في المنطقة العربية، ويقبل على هذه الأقسام والجامعات -الكثيرة في الصين- المسلمون وغيرهم([3]).
ويبدو أن هذا الفصل العملي -وفقًا للمصادر([4])- بين اللغة والدين سياسة متعمدة في التعليم الصيني؛ فالتعليم الإسلامي تتولى الإشرافَ والسيطرةَ عليه الجمعيةُ الإسلاميةُ الصينية، التي تُنشئ فروعًا لها تمثل معاهد إسلامية لدراسة الدين بمقرراته المختلفة: القرآن وتفسيره، والحديث، والفقه، والشريعة، إلى جانب اللغة العربية، واللغة الصينية، والقواعد والقوانين الحاكمة في الصين، وفي بعض الأحيان اللهجة المحلية للإقليم الذي يُنشأ فيه الفرع.
يحاول هذا التقرير تتبع أوضاع التعليم الإسلامي في الصين، وذلك على ثلاثة محاور: المحور الأول، يتناول -في عجالة- جديد أوضاع المسلمين في الصين من حيث: التعداد، والمساجد، ومناطق الانتشار، وغيرها من الأمور التي تُقدم تمهيدًا منطقيًا للحديث عن التعليم الإسلامي في الصين. أما المحور الثاني، فيشير إلى تطور التعليم الإسلامي في الصين وصولًا إلى أوضاعه المعاصرة ونماذجه. وأما المحور الثالث والأخير، فيطرح من خلاله التقرير بعض التحديات المتصلة بهذا النمط من التعليم، مركزًا على السياسات الحكومية الجديدة التي جرى اتباعها إزاء الدين الإسلامي، والمعروفة اختصارًا “بتصيين الإسلامSinicization of Islam “.
أولًا- الإسلام والمسلمون في الصين: إشكالية التعداد ودور العبادة
لا يوجد إحصاء دقيق بشأن تعداد المسلمين في الصين في الوقت الراهن، وتشير معظم التقديرات إلى أنهم ما بين 20 إلى 30 مليونًا. يرجع هذا التفاوت إلى عدة عوامل، على رأسها: غياب إحصاء دقيق على أساس الدين لكل الفئات العمرية في الصين، وثانيًا انطلاق التقديرات من فرضية أن غالبية المسلمين في الصين هم حصرًا من أقليات الإيجور والهوي والطاجيك والأوزبك وليس من بينهم أي مسلمين من عرقية الهان صاحبة الأغلبية في الصين، وثالثًا حظر الصين ممارسة أي شعائر إسلامية دينية لمن هم دون سن الثامنة عشر، ورابعًا أن عددًا من المسلمين لا يعرِّفون أنفسهم كمسلمين (لا يفصحون عن إسلامهم) إما لأنهم فقدوا بصورةٍ أو بأخرى هويتهم الإسلامية أو لأنهم جرى إعادة تعليمهم([5]).
دفعت هذه العوامل مركز بيو إلى القول: إن تقدير عدد المسلمين “البالغين” في الصين بالكاد يصل إلى 18 مليونًا، استنادًا إلى آخر إحصاء حكومي في 2020، وإلى متابعات معينة لأوضاع المسلمين في الصين، ويُحدد المركز أن أغلب المسلمين يتركزون شمال غربي الصين، وفقًا للتوزيع المبين في الجدول (1)
جدول (1): توزيع المسلمين في الصين([6])
المنطقة | نسبة المسلمين من إجمالي مسلمي الصين | الأغلبية العرقية |
شانجيانج
Xinjiang |
56٪ | يعيش فيها 99٪ من شعب الإيجور، ويدين أكثر من 60٪ منهم بالإسلام، ويمثل إجمالي تعداد الإيجور ما يقرب من 43٪ من مسلمي الصين.
و10٪ من أقلية الهوي ذات الغالبية المسلمة. |
شنغهاي
Qinghai |
7٪ | معظم هذه الأقليات من عرقية الهوي ذات الأصول العربية في الصين، والتي تشكل ما يقرب من 35٪ من مسلمي الصين. وتمثل باقي الأقليات من الطاجيك، والأوزبك، والتتار بالكاد 10٪ من إجمالي عدد المسلمين في الدولة. |
نينغشيا
Ningxia |
10٪ | |
قانسو
Gansu |
8٪ | |
خنان
Henan |
6٪ | |
يونان
Yunan |
7٪ | |
مدن أخرى | 6٪ | تشير التقديرات إلى وجود 700 ألف مسلم – على الأقل – من عرقية الهان ذات الأغلبية العددية في الصين، ويعيش عدد كبير منهم في العاصمة بكين. فضلًا عن ذلك، يوجد ما يقرب من 300 ألف مسلم في هونج كونج. |
وإذا كان لا يوجد عدد دقيق للمسلمين في الصين، فإن الأمر نفسه ينطبق على عدد المساجد وتوزيعها في الصين. إجمالًا يمكن القول إن أكثر من ثلثي مساجد الصين يوجد في شينجيانج، إذ أشار نائب الجمعية الإسلامية في الصين في مقابلة نُشرت في فبراير 2021 إلى وجود 35 ألف مسجد و57 ألف موظف ديني (بين إمام ومقيم شعائر وغيرهما)، منهم 20 ألف مسجد و29 ألف موظف ديني في شينجيانج وحدها([7]).
في مدة قريبة من هذه الفترة، ظهرت دراسات تفيد أن عدد المساجد هذا تقلص بسبب تهديم عدد كبير من المساجد أو إغلاقها، أو دخول تغيرات تمس الهوية المعمارية “الإسلامية أو العربية” لهذه المساجد وحجمها. وتقدر دراسة عدد المساجد في شينجيانج بنحو 15 ألف مسجد، أكثر من 30٪ منهم هُدم أو أُزيل، وأن نسبة مماثلة تقريبًا أصابها أضرار بصورةٍ أو بأخرى في مبنى المسجد وساحته أو أماكن الوضوء، في حين أن 35٪ من المساجد فقط ظلت على حالتها؛ أي أقل من 7000 آلاف مسجد، كما تشير أيضًا أن أماكن إسلامية أخرى تضررت على رأسها مقابر المسلمين([8]).
كما أظهرت دراسة حديثة لمنظمة “هيومان رايتس واتش” أن الحكومة عملت على إزالة قباب ومآذن العديد من المساجد في مناطق الصين المختلفة الأخرى، تحديدًا في شنغهاي، ويونان، قانسو، ونينغشيا، وقُدِّر عدد المساجد التي أُغلقت في المنطقة الأخيرة ما بين 400 إلى 500 مسجدًا، كما وثقت المنظمة نماذج من هذا التغيير. تسعى الحكومة إلى تصيين تلك المساجد بجعلها متوافقة مع التراث المعماري الصيني، مشوهة بذلك أي ملمح معماري إسلامي أو عربي، كما تعتقل الحكومة كل من يعترض على هذه الأمور([9])، وهو ما سنعود له في المحور الثالث من هذا التقرير.
وفي هذا الإطار تأتي إشارة المستعرب الصيني “لي جونغ” بأن زمن أن يرادف الحديث عن الإسلام في الصين ميمات ثلاث: مساجد، ومطاعم، ومقابر، قد ولى([10]). فإذا كانت تلك الميمات الثلاث قد تضررت، فهذا يعني أن أوضاع المسلمين العامة، تلك التي تبدو أعقد من هذه المظاهر الإسلامية البسيطة جدًا، ستكون بالضرورة قد تضررت، وعلى رأسها التعليم الإسلامي كما سنتعرض له في المحور التالي.
ثانيًا- التعليم الإسلامي في الصين
يمكن القول ابتداء باختصار: إن التعليم الإسلامي في الصين قديم قدم دخول الإسلام نفسه إلى الصين، ولكنه مر بمراحل تطور عديدة، بدءًا من انتشار التعليم بصورة غير رسمية وغير منظمة ولا منتظمة على يد بعض العرب الذين استقروا في الصين خلال القرنين الرابع والخامس عشر الميلادي، ثمّ أخذ في القرن السادس عشر على يد نخبة صينية تعلمت القرآن الكريم ودرسوا الإسلام بصورةٍ جيدة سمة منظمة أُطلق عليها اسم “التعليم المسجدي”، الذي استمر وانتشر داخل مساجد الصين كاملة، ورافقه نوع آخر من التعليم التقليدي المبني على مصاحبة الأستاذ أو الشيخ للتتلمذ مباشرة على يديه([11])، ثمّ أخذ هذا التعليم طابعًا أكثر مؤسسية في الفترة التي سبقت قيام جمهورية الصين الاشتراكية، فأنشت الجمعيات والمدارس الإسلامية الأهلية في مطلع القرن العشرين، واستمرت في عملها حتى أُلغيت مع الثورة الثقافية الصينية (1966 – 1978).
ولكن تكونت مع إعلان الجمهورية الجمعية الإسلامية الصينية عام 1953، والتي عُهد إليها من قِبل الحكومة إدارة ومراقبة كافة أنماط النشاط الديني الإسلامي في عموم الصين، وكان تكوين الجمعية ليس فقط بمثابة نذير باقتراب نهاية التعليم الإسلامي غير الحكومي (الأهلي)، ولكن كذلك بنهاية أي نشاط إسلامي لا يخضع لرقابة الحكومة.
وخلال فترة الثورة الثقافية أُلغيت وأُغلقت كافة المؤسسات الإسلامية، بما في ذلك المساجد وكافة مظاهر التعليم الإسلامي، إلا من استطاع الإفلات بالقليل من طلابه ليعلمهم مبادئ الدين في بيته، وكان مصير من يُكشف أمره إلى الهلاك.
بدأ العمل الإسلامي في الصين يزدهر شيئًا فشيئًا بعد الثورة الثقافية، ولكن هذه المرة برعاية الجمعية الحكومية؛ فأعيد افتتاح وترميم عدد كبير من المساجد، كما استئُنف التعليم المسجدي، بل وافتُتحت مدارس أهلية إسلامية للمراحل العمرية ما بين الابتدائية حتى الثانوية([12]). ويمكن القول إن هذا العمل استمر مع عثرات وضربات موجعة لكنها ليست قاضية، منها -مثلًا- تأسيس لجنة داخل الجمعية للإشراف على التعليم الإسلامي عام 2000 حتى 2016، والذي أُعلن فيه رسميًا سياسة “تصيين الإسلام”، وكانت بوادر التضييق على الممارسات بدأت في التأكد مع وصول شي جين بينج للسلطة عام 2013.
- التعليم المسجدي: حضور أم تغييب؟
أخذ التعليم المسجدي حتى التاريخ المُشار إليه سابقًا وجهين: الأول بنظام دوام كامل، والثاني بنظام الدروس المسائية أو أيام العطلات. فأما نظام الدوام الكامل، فكان يلتزم فيه الطفل أو المُلتحق بالمسجد بسنوات دراسة مُقسمة على مراحل تمهيدية (ابتدائية)، ومتوسطة، ومتقدمة، يدرس خلالها القرآن الكريم، واللغة العربية، وبعض المتون الإسلامية في الفقه، والحديث، والأصول على حسب المستوى، ويتأهل مَن يُنهي المستوى المُتقدم لأن يكون إمام مسجد أو نحوه من العمل الدعوي لخدمة الدين الإسلامي في الصين. وأما نظام الدروس المسائية، فيلتحق به الطلاب غير المتفرغين المُقيدين في المدارس الحكومية ما قبل الجامعية لتحصيل الثقافة الإسلامية والتعليم الديني، ومن يرغب بنظام دراسة أشبه بالنظام السابق في أيام العطلات والأجازات([13]).
ويُعد التعليم المسجدي المدخل لقراءة الأوضاع المعاصرة للتعليم الإسلامي في الصين؛ نظرًا لحضوره التاريخي من جانب، وعمق تأثيره في الأفراد والمسلمين بشكل عام من جانب آخر، واستهدافه مراحل عمرية مختلفة من جانب ثالث. ولكن يكمن الجدل هنا حول حقيقة استمرار هذا النمط من التعليم في الوقت الحاضر؛ فبينما يشير أكثر من مصدر بعبارةٍ مجملة: “أن هذا التعليم مستمر إلى وقت الراهن”([14])، فلا يتضح أين، أو كيف، أو بأي طريقة توجد هذه المدارس؟ اللهم إلا إن كان مقصدهم باستمرار التعليم المسجدي هو قيام بعض أئمة المساجد بدروس قصيرة مُحددة بأيام، ويكون جمهورها من كبار السن، وغالبًا ما تأخذ يومًا في الأسبوع لتفسير القرآن أو قراءة بعض الآيات، وهو ما يجعل طرفًا آخر ينكر -بحكم الواقع- وجود أية مصادر للتعليم الديني الأهلي (غير الخاضع للإشراف الصارم للجمعية الإسلامية) في الوقت الراهن في ظل الحملة على المسلمين والمساجد.
- التعليم ما قبل الجامعي: هل حقًا يوجد مدارس إسلامية في الصين؟
وأما عن المدارس الأهلية، فالأكيد أنها هي الأخرى قد أُغلقت لصالح مدارس أخرى حكومية تُوصف “بالإسلامية” اسمًا وشكلًا في المراحل الابتدائية، والإعدادية، والثانوية. انتشرت هذه المدارس – بأعداد محدودة – في المناطق التي تضم مسلمين، سواءً في شينجيانج، أو قانسو، أو شنغهاي، ثمّ افتُتحت المدرسة الإسلامية في بكين.
وتشير أغلب المصادر إلى أن هذه المدارس ما زالت موجودة، ولكن بأعداد محدودة ربما لا تتعدى العشر على طول الصين وعرضها([15])، وهي تُدرِّس نفس المناهج التي تُدرَّس في المدارس الحكومية الصينية الأخرى التي تهتم بتعليم اللغة والثقافة الصينية، والمواد الدراسية، إلى جانب بعض المواد كاللغة العربية وثقافتها للطلاب، وأحيانًا اللهجات المحلية([16]).
ومع الحملة الراهنة ضد المسلمين الملازمة لحملات التصيين، أصبح يُضيَّق على تعليم اللهجات والثقافات المحلية خاصة للإيجور والهوي من المسلمين([17])، كما مُحيت -على سبيل المثال- الهوية المعمارية العربية والإسلامية لبوابة مدخل المدرسة الإسلامية في بكين، إذ أُزيل من عليها الكتابة العربية باللون الأخضر التي كانت تشير إلى كلمة “حلال”([18])، وهو ما دفع إحدى المُتخصصات بالتعليم الإسلامي في الصين إلى القول: “إن الشيء الوحيد الذي يميز المدارس الإسلامية في الصين هو تقديم الأطعمة الحلال”([19]).
واتساقًا مع ذلك، توسعت الحكومة الصينية في حث الإدارة الإقليمية لمقاطعة شينجيانج على إرسال التلاميذ الإيجور إلى مدارس داخل الصين، كما افتتحت منذ عام 2000 نحو 12 فصلًا مُخصصًا للطلبة من شينجيانج في بكين، وشنغهاي، تيانجين، وقوانتشو([20]).
ربما الاستثناء الوحيد في حال المدارس الإسلامية في الصين هو لمقاطعة هونج كونج ذات الحكم الذاتي، إذ يشير موقع “مجلس أمناء الجالية الإسلامية في هونج كونج” الذي تأسس في الأول من ديسمبر عام 1970، وتعترف به حكومة المقاطعة على أنه ممثل للمجتمع الإسلامي، إلى وجود مدارس إسلامية ضمن المساجد (المراكز الإسلامية) فيها؛ إذ جرى في 2004 – 2005 تجديد وتوسعة مسجد كولون بتكلفة 14 مليون دولار ليكون مركزًا إسلاميًا، ويضم مدرستين جديدتين للفتيات والفتيان، تستوعب كل منهما ما يصل إلى 200 طالب. تُدرس هذه المدارس اللغة العربية، والقرآن الكريم، والعلوم الإسلامية، كما تعقد دورات لتعليم اللغة الإنجليزية والأردية، بالإضافة إلى دورات دعوية لغير المسلمين([21]).
كما نجد أيضًا في ذات المقاطعة روضة للأطفال كمكمل إضافي لعمل المدارس، إذ من بين أهدافها الاهتمام بتنمية الطفل سواء في نطاق المدرسة أو المنزل، وذلك عن طريق التفاعل بانتظام مع أولياء الأمور لمتابعة الأطفال، مع التركيز على تطوير مهارات وقدرات التلاميذ على القراءة، والكتابة، والحساب، وهو ما يضمن القبول في المدارس الابتدائية الجيدة([22]).
وبذلك نلحظ أن نموذج التعليم الإسلامي في هونج كونج – وفقًا لهذه المعلومات – يقدم مزيجًا عصريًا للتعليم الإسلامي الذي يستند إلى تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم، إلى جانب اللغات الأجنبية، كما يهتم بجميع المراحل السنية، والمهارات المختلفة التي يحتاجها الطفل المسلم، سواء على جوانب المعرفة، أو الإدراك، أو السلوك.
- التعليم الإسلامي الجامعي وما في مستواه:
إذا كان ما سبق يمثل التعليم الإسلامي ما قبل الجامعي، فإن التعليم الجامعي الإسلامي يأخذ مسارين لا ثالث لهما: الأول، عبر الالتحاق بالمعاهد الإسلامية الحكومية، والثاني، عن طريق الابتعاث لأحد الدول الإسلامية المجاورة، وتحديدًا ماليزيا وباكستان، أو إلى مصر وسوريا تاريخيًّا.
تاريخيًّا -بالأخص- قبل إنشاء الجمعية الإسلامية الصينية، كان الطلاب المتميزون بعد إتمام مراحل التعليم ما قبل الجامعي، سواء في التعليم المسجدي أو المدارس الأهلية، عادة ما يُرسَلون لإكمال دراستهم خارج الصين على نفقة المسلمين أو المدارس الإسلامية الأهلية التي تربوا فيها، أما الآن فتسيطر الجمعية المذكورة على حركة البعثات للتعليم الإسلامي على نفقة الدولة خارج الصين.
وهنا يلزم التركيز على طبيعة المعاهد الإسلامية في الصين وانتشارها، إذ تُعد معاهد للتعليم العالي في الصين، تصل مدة الدراسة فيها بين 3 إلى 4 سنوات حسب الإقليم الذي تعمل فيه، ويعمل خريجوها بصفة أساسية كدعاة وأئمة مساجد، كما تقدم هذه المعاهد دورات مُتخصصة للأئمة الحاليين في الصين للتحقق من مدى موافقتهم لخط سياسة الحكومة الاشتراكية وقواعد الحزب الحاكم.
أُنشئت هذه المعاهد -بصفة عامة- خلال ثمانينيات القرن العشرين بقرار من الحكومة المركزية([23])، ثمّ جرى تجديد وتوسعة عددٍ منها خلال العقد التالي من نشأتها، وتجاوز عدد المعاهد الرئيسية (التي تُعد الآن فروعًا للجمعية الإسلامية الصينية) العشرة، تتوزع على مناطق الصين المختلفة([24]).
يوجد في شينجيانج -على سبيل المثال- المعهد الرئيس في العاصمة أورومتشي Urumqi، والتي تُعد رمزًا إسلاميًا بارزًا تعتني به الحكومة وتمعن في إخضاعه لرقابة صارمة. في 2017، توسعت مساحة المعهد لتصل إلى 50 ألف متر مربع بتمويل من الحكومة الصينية بلغ 280 مليون يوان صيني، ويضم المعهد فصولًا لتحصيل الشهادات العليا في العلوم الإسلامية، إلى جانب فصول أخرى لتدريب الأئمة.
ويُدرس المعهد ثلاثة برامج تعليمية مختلفة: هي المعرفة العامة الدينية، وتشمل التعرف على أركان الإسلام، وقراءة القرآن، والحديث النبوي، والشريعة الإسلامية، والتفسير، والثاني الثقافة الصينية، ويتضمن التفقه في الدستور والقوانين الصينية والثقافة السائدة، أما الثالث اللغة الصينية، فيقدم دورات لتدريب الملتحقين فيه على اللغة الصينية.
ويُشار إلى أن المعهد قد درب أكثر من ٢٣٠٠ من الأئمة خلال عامي 2017 – 2018، ويهدف إلى تدريب نحو 2000 إمام سنويًا من مختلف أقاليم المقاطعة. ووفقًا لمدير المعهد الشيخ عبد الرقيب الصيني، فإن للمعهد 8 فروع بمحافظات شينجيانج تقدم نفس التدريبات طوال العالم، كما يضم المعهد الرئيس مسجدًا بلغت مساحته ١٠٠٠ متر مربع، يسع حوالي 1200 إلى 1300 مُصلٍ، وفيه يُقام كل جمعة جلسات تفسير للقرآن الكريم([25]).
إذن، مع تشديد اللوائح الصينية على قمع مبادرات التعليم الخاص([26])، أصبح المعنيين بدراسة الإسلام من الأيجور يعتمدون إلى حد كبيرٍ على المعاهد التي تسيطر عليها الدولة لتحصيل المعرفة الإسلامية. وبما أن هذه المعاهد لا تتمتع إلا بقدر قليل من الشرعية في نظر العديد من الأيجور، فغالبًا ما يبحث طلاب العلوم الدينية عن طرق بديلة لاكتساب المعرفة الإسلامية؛ داخل حدود الصين، تضاءلت هذه البدائل، ما أدى إلى نقص في المتخصصين الدينيين الموثوقين اجتماعيًا داخل مجتمع الأيجور. وهو ما يفسر أن عدد طلاب هذه المعاهد في المقاطعة لا يتجاوز بضع مئات في العام الواحد، في ظل مجتمع تشير أقل التقديرات إلى وجود 10 مليون مسلم فيه([27])!
إذن، يبدو من هذا العرض السابق أن هذه المعاهد تعمل بمثابة كليات لمنح درجة البكالوريوس والدبلوم في العلوم الإسلامية في الصين، وتُدار بطريقة حكومية مركزية، إذ تتحكم الجمعية الأم في بكين بتعيينات الأساتذة والمعلمين في هذه المؤسسات. صممت الجمعية مؤخرًا عشرة كتب تُدرس في المعاهد الإسلامية بغرض توحيد المناهج الدراسية، وبذلك توفر هذه الكتب المدرسية وجهة نظر الدولة حول تعريف الشريعة الإسلامية في القانون، والتاريخ، والمذهب الصيني، وتسعى إلى تعزيز فهم الشريعة عن طريق خطابات الدولة الرسمية([28]).
ثالثًا- سياسات الصين في تقييد الهوية الإسلامية
لن يكتمل فهم صورة التعليم الإسلامي في الصين دون الحديث عن سياسات الحكومة الصينية تجاه الإسلام بصفة عامة، والتعليم الديني بصفة خاصة، مع التعريج على بعض ممارساتها تجاه الأقاليم التي تضم أغلبية مسلمة.
تتلخص رؤية الحزب الشيوعي الصيني إلى الأديان -غير الكونفشيوسية- بصفة عامة على أنها تهديد لسلطتها، كما تنظر للأديان السماوية على أنها أديان أجنبية، وهو ما يمكن قراءته في تعليق الرئيس الصيني شي جين بيج في مؤتمر العمل الديني الوطني في أبريل 2016، والذي أكد فيه أهمية “دمج المذاهب الدينية مع الثقافة الصينية ومنع التدخل الأجنبي”([29])، واعتُبر ذلك إعلانًا رسميًا لتنفيذ “سياسة تصيين الأديان في الصين”.
كما تشمل المكونات الرئيسة لسياسة “إضفاء الطابع الصيني على الإسلام” تفسير المعتقدات والممارسات الإسلامية بطريقة تتوافق مع الاشتراكية والكونفوشيوسية، وجعل الدين يعمل لصالح الدولة الصينية، و”تطهير” الإسلام من العناصر العربية والتركية، وبطريقة أكثر تحديدًا، ينبغي على المسلمين في الصين أن يعيشوا مثل الصينيين الهان في شكل الملبس، والطعام، والزواج، وطريقة بناء المساجد على الطراز الصيني التقليدي، كما ينبغي أن يُنَشَّأ الأطفال على الثقافة الصينية ويتحدثوا اللغة الصينية كلغة رسمية([30]).
ويُعد المحو التام للهوية الإسلامية لأطفال الإيجور من أكثر الحملات المعادية للإسلام التي أطلقها النظام الشيوعي الصيني في نطاق الحرب على الإسلام في تركستان الشرقية، ففي الوقت الذي كانت ترسل فيه السلطات الآباء الإيجور منذ 2014 إلى معسكرات الاعتقال أو السجون، كانت ترسل أطفالهم إلى المدارس الداخلية ودور الأيتام الحكومية([31]).
أتبع ذلك قيام مجلس الدولة بتحديث “اللوائح المتعلقة بالشؤون الدينية” في عام 2017، والتي كثفت معها السلطات المحلية في كل إقليم جهودها للتحقيق بشأن وجود أي أماكن للتجمع أو ممارسة الشعائر الدينية غير المصرح بها، مثل المدارس القرآنية السرية أو الكنائس المنزلية، وتسجيلها وإدارتها.
وفي عام 2021 أصدرت الحكومة لائحة جديدة بشأن المحتوى الديني عبر الإنترنت، تحظر من خلالها الأنشطة الدينية غير المصرح بها والمجموعات الدينية غير المسجلة من مشاركة المحتوى الديني عبر الإنترنت([32]).
وتتركز هذه السياسة في إقليم شينجيانج، إذ سعت الدولة الصينية منذ فترة طويلة بطريقة ممنهجة إلى “تحويل” حضارة وثقافة شينجيانج تحت ستار مكافحة “التطرف الديني” وتعزيز “الاختلاط بين الأعراق” بتجريد تلك العناصر من ثقافة الإيجور التي يعتبرونها “أجنبية”، أو “متخلفة”، أو “غير طبيعية”، أو ببساطة خارجة عن المألوف مع ثقافة الهان المركزية، إذ يُطلب من المساجد في جميع أنحاء شينجيانج تعليق العلم الوطني، ونشر نسخ من الدستور والقوانين واللوائح الصينية، والتمسك بالقيم الاشتراكية الأساسية، وإزالة الخط العربي، والمآذن، والقباب، والنجمة، والهلال، وغيرها من الرموز الإسلامية لصالح وضع رموز معمارية صينية تقليدية([33]).
وبناءً على ذلك يرصد أحد الباحثين المنتمين إلى الإيجور أربعة تحديات للأسرة المسلمة في الصين، وبخاصة الإيجور:
- سياسة الأسرة التوأمة: التي تقوم على إلزام المسلمين من الإيجور مشاركة تفاصيل حياتهم اليومية مع كوادر الحزب الشيوعي من عرقية الهان الذين يرفعون تقارير مفصلة عن نشاط كل أسرة مسلمة.
- الزواج القسري للمسلمات مع الهان الصينيين: رغم أن الإسلام يحرم زواج المسلمة من الملحد، فلا يمكن لأولياء الأمور التدخل لمنع الأمر، إذ يتزوجون تحت أنظار قادة الحزب.
- حظر التقاليد الاجتماعية والإسلامية المتعلقة بالأسرة: من زواج، وطلاق، وميراث، وتطبيق سياسة طفل واحد بحزم في الإقليم.
- منع التعليم الإسلامي بالكامل: سواءً في المدرسة أو في نطاق الأسرة، وتطبيق رقابة صارمة على الأسر ومعاقبة من يخالف هذا الأمر([34])، إذ يُحظر على الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عامًا أن يكون لهم أي انتماء ديني رسمي، كما تركز المدارس على الترويج للادينية، وينضم العديد من الأطفال إلى مجموعات الشباب التابعة للحزب الشيوعي الصيني حيث يجب عليهم التعهد بالالتزام بالإلحاد([35]).
تُفسَّر هذه الحملة على “الإسلام” في مناطق الإيجور بكون الإسلام يُنظر إليه كوسيلة يعزز بها الإيجور هويتهم كمجموعة وطنية متميزة ذات عقيدة دينية، فيمثل الإسلام فيها إحدى أبرز السمات التي تميزهم عن الهان الذين هم في الغالب ملحدين، ولذا تتخلل الممارسات الإسلامية مختلف جوانب الحياة الثقافية للإيجور، كما أنهم يعتبرون الإسلام وسيلة المقاومة الروحية للحكومة الصينية التي تدعو إلى الإلحاد([36]).
في مقابل هذه التغطية تهدف الصين إلى تقديم تغطية إعلامية مُضادة، تبرز حرية الدين في عموم الصين ورغد عيش المسلمين في شينجيانج، إذ استقبلت الصين في شينجيانج مطلع هذا العام (2023) وفدًا يضم لفيفًا من علماء الدين الرسميين في العالم الإسلامي من 14 دولة إسلامية، معظمهم من الدول العربية، أبدوا أثناء زيارتهم سعادتهم برؤية “المسلمين في شينجيانج يعيشون حياة سعيدة، ويتمتعون بحرية المعتقد الديني بشكل كامل”، على حد قول رشيد نعيمي رئيس الوفد ورئيس المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة([37]).
قُوبلت هذه الزيارة بانتقاد واضح من الاتحاد العالمي لمنظمات تركستان الشرقية والمنظمات الشريكة معها، التي أكدت على استخدام الصين سياسات تعسفية وعنيفة ضد مسلمي الإيجور بإنشاء مدارس إعادة التعليم والتأهيل، وسياسات تصيين الإسلام، وهدم المساجد([38])، كما أعلنوا في بيان مجمع لأكثر من 40 منظمةً وبحضور 30 شخصية إسلامية بارزة رفضهم “الدعاية (البروباجندا) الصينية المُضللة للعالم الإسلامي” بشأن ممارساتها تجاه مسلمي الصين عامة والإيجور خاصة([39]).
دعت الصين بعدها بشهور وفدًا آخر من الصحف العالمية في الأول من أكتوبر 2023 لزيارة الإقليم في جولة استمرت لمدة أسبوع، زاروا فيها مناطق عدة في الإقليم، وسُمح لهم الدخول إلى المساجد، والمعهد الإسلامي في أورومشي، ومدرسة تابعة له، والتحدث مع رئيسه. وعن هذه الزيارة ينقل الفريق الذي زار الإقليم عن شبكة ABC الأمريكية ما يلي:
“تمت دعوة ABC للقيام بجولة إعلامية في المنطقة نظمتها ورعتها بعناية الحكومة الصينية لعرض أفضل ما يمكن أن تقدمه المقاطعة. لقد شاهدنا روضة أطفال للأويغور حيث يقرأ الطلاب الآيات “بلغة الماندرين” في الفصل الدراسي، ثم يرقصون بسعادة في الملعب على أنغام الموسيقى التقليدية. كانت الجولة خاضعة لرقابة مشددة، ولم تترك لنا سوى القليل من الوقت في البرنامج المزدحم للتحدث إلى السكان المحليين بأنفسنا، وعند طلبنا رؤية أحد معسكرات الاعتقال السابقة حيث يُعتقد أن أكثر من مليون شخص محتجزون منذ أشهر أو سنوات، رفض المضيفون الصينيون ذلك. وجد الزائرون العلم الصيني يرفرف فوق قباب المساجد المتداعية، كما أنهم لاحظوا أنه من الصعب اكتشاف اللحى الطويلة أو الحجاب، وأنه يأتي بضع عشرات من الأشخاص للصلاة، أغلبهم من كبار السن، ولا أحد منهم تحت الخمسين”([40]).
يؤدى إصرار الصين عبر هذه الدعوات إلى تقديم صورة مزدوجة عن الإسلام في الصين: وجهها المُتصنع يظهر كافة صور حرية الأديان، واحترام ممارستها، وإشراف حكومي على هدم المساجد غير المستوية معماريًا، وتطوير الأخرى التي تحتاج لذلك، بالإضافة إلى تحسين البنية الأساسية للمعاهد الإسلامية، وتمتع المسلمين بحياة دينية مزدهرة حتى في أكثر المناطق التي تعرضت لما تعتبره تضليلًا إعلاميًا غربيًا بشأن حظر ممارسة الإسلام فيها، ووجهها الآخر قاتم تظهره شهادات من الشتات ومنظمات معنية بشأن تقييد أبسط الممارسات، وهدم المساجد، وإزالة أي معالم تظهر هوية إسلامية أو عربية مناقضة للهوية المعمارية الصينية التقليدية.
خاتمة:
يعيش في الصين ما بين 20 إلى 30 مليون مسلم تحت وطأة حزب شيوعي يتحكم في مسار ومصير كل إنسان يمشي على أرض الصين. هؤلاء الصينيون المسلمون يكتسب وضعهم خصوصية سياقية بفعل امتزاج عناصر الدين بالأقلية القومية والهوية العرقية، إذ يأتي أغلبيتهم من عشر أقليات قومية، ويتركز معظمهم في الشمال الغربي للصين، في ظل دولة تضم 55 أقلية عرقية، تمثل كلها مجتمعة أقل من 10٪ من تعداد الصين الذي يتجاوز المليار و400 مليون نسمة.
ويبدو أن المسلمين في الصين لا يُعاملون بنفس القدر من الشدة والتعسف الحكوميين، إذ يمكن القول إن ثمة علاقة بين زيادة عدد المسلمين في الإقليم وما يتعرضون له من ممارسات قمعية، فالأقاليم التي لا تضم أغلبية مسلمة أو عددًا كبيرًا من المسلمين -ومن بينها العاصمة بكين- تُعامل بقيود أقل حدة، في المقابل تُعامل أقاليم مثل شينجيانج وشنغهاي نينغشيا وقانسو بسياسات حكومية أكثر صرامة في مواجهة كل ما هو إسلامي، أي أنه كلما زاد تعداد المسلمين في الإقليم كان ذلك أوجب لسياسة صينية أشد وطأة، وأكثر تنكيلًا بكل مظاهر ممارسة الشعائر الإسلامية، وفي القلب منها التعليم الإسلامي.
وإذا أضفنا السوابق التاريخية إلى عامل زيادة تعداد المسلمين ستكون النتيجة أكثر سوءًا، فتاريخ إقليم شينجيانج ومحاولات الاستقلال، وتكوين تركستان الشرقية، وحكومة المنفى، وغيرها من المنظمات التي أقامها إيجور الشتات أو متعاطفون معهم لا ينفك عن ذاكرة القادة الصينيين والحزب الشيوعي على تغير أجياله ورواده. فضلًا عن ذلك، تأكدت الحكومة أن ارتباط الأقليات العرقية/ القومية بالإسلام عامل مقاومة وتعزيز لهويتها والمناقضة للآخر (قومية الهان الأغلبية، وثقافته الكونفشيوسية)، وهو أمر يدفعها إلى فرض مزيد من السياسات واللوائح التي تجعلها أكثر تحكمًا في نمط الإسلام الذي تريده في الصين.
ويمثل النظر إلى الإسلام على أنه ضمن الأديان “الأجنبية” أو “الخارجية” أحد العوامل الأخرى التي تزيد من الشقاق بين المسلمين والحكومة الرسمية، ويُصعّب من الثقة في المعاهد الإسلامية كمصدر مُعتمد في تلقي التعاليم الإسلامية والعلوم الشرعية، لا سيما وأن الصين تتحكم مركزيًا في تعيينات هذه المعاهد، وتحث العاملين فيها على غرس وتقديم قيم حب الوطن والحزب على الدين.
وعلى الرغم من إشارة المصادر وبعض السكان المسلمين داخل الصين -تحديدًا في شينجيانج- على توافقهم مع الحزب وسياساته تجاه الدين، بل موافقتهم على الفترات التي قضوها في معسكرات إعادة التأهيل التي دخلها أكثر من مليوني مسلم من الإيجور خلال أقل من 5 سنوات، ويُتمت أطفالهم قسريًا طوال مدة وجودهم في المعتقل، فإن المواقف الحقيقة لملايين المسلمين القاطنين داخل الصين غير متاحة أو ممكن التعرف عليها بسبب سياسات التعتيم وحظر النشر التي تفرضها الصين عليهم، ولا تظهر منه إلا أصوات من مسلمي الشتات ومتابعين من منظمات إسلامية غير حكومية.
وتبقى ملاحظة أخيرة، يطغى على الاهتمام بمسلمي الصين التركيز على إقليم شينجانج ومسلمي الإيجور، بسبب ما تعرضوا له تاريخيًا وما يتعرضوا له في الوقت الحاضر، كما يطغى -أيضًا- اهتمام المؤسسات الدولية البحثية والإغاثية المعنية بالأماكن الإسلامية وبممارسة الشعائر الدينية البسيطة مثل المساجد، والمقابر، والمطاعم، والصلاة، والصوم، والحج أكثر من الاهتمام بأي قضايا أخرى تتعلق بالتعليم، والحياة الاجتماعية للمسلمين، والمشاركة السياسة في إطار الحزب الشيوعي الحاكم.
انعكست هذه الأوضاع والسياسات على متابعة حال التعليم الإسلامي في الصين الذي أصبح في كافة مراحله تعبيرًا عن الرؤية الصينية لإعادة تأطير الإسلام داخل المجتمع (تصيين الإسلام)، وبذلك أُلغيت أي صورة من صور التعليم الأهلي، سواءً المسجدي أو عن طريق المدارس الأهلية التي كانت تُقدم العلوم الإسلامية في إطار شبه حداثي، وتُدار بطريقة فضفاضة يغلب عليها الطابع المجتمعي على الحكومي، وأضحت المدارس الإسلامية في مراحل التعليم ما قبل الجامعي كلها خاضعة للدولة، وتُدرِّس -تقريبًا- نفس المناهج التي تُدرَّس في المدارس الحكومية الأخرى، مع التشديد على أهمية تعليم اللغة الصينية وثقافتها للتلاميذ.
كما أن معاهد التعليم العالي الإسلامية خاضعة لإدارة صارمة من قبل الجمعية الإسلامية الصينية التابعة للحكومة، والتي تُخضِع التعليم للوائح والقواعد الصينية، وتجعل لغة الماندرين أساس تأهيل الطلاب والدعاة في هذه المرحلة، والذين يُعدون فيما بعد ليكونوا أبواقًا للحزب والحكومة في المساجد التي سيتولون إدارتها.
وخلاصة القول: إن السياق الذي وُجد فيه التعليم الإسلامي في الصين هو سياق مُتحدٍ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: مُتحدٍ للأُسر التي ترغب في تعليم أولادها مبادئ الإسلام ولا تستطيع القيام بذلك لا عن طريق المدارس، ولا المساجد، ولا حتى البيوت أحيانًا، ومتحدٍ لمن يرغب في إكمال دراسته في العلوم الشرعية داخل الصين، إذ يتوجب عليه الانصياع الكامل للرواية الصينية بشأن الإسلام، وخدمة الحزب قبل الإسلام، ومن ثمّ يعني الالتحاق بهذه المعاهد التخلي مبدئيًا عن قيم إسلامية أصيلة. ومع ذلك، يبذل المسلمون كافة جهدهم للبقاء مسلمين في ظل بيئة إلحادية تعادي كل ما له علاقة بالدين، وتعتبره تهديدًا لنسيجها القومي والاجتماعي.
______________
هوامش
([1]) راسل الباحث أكثر من 20 شخصية ومنظمة تُعلن اهتمامها بالإسلام والمسلمين في الصين، ولكن لم يتجاوب معه سوى اثنتين فقط، وكانت بإجابات مقتضبة، لم تفِد في هذا التقرير. وعليه تتأطر حدود هذا البحث بما استعان به الباحث من مصادر أولية (إخبارية وصحفية) وثانوية تمثلت في رسائل وبحوث مُحكمة ومواقع مراكز بحثية، وكلها رُجع عليها باللغة العربية والإنجليزية. ورغم مطالعة الباحث لبعض المواقع الصينية المعنية بالإسلام (عبر خاصية الترجمة) لم يجد فيها ما يقدم جديدًا بشأن حال الإسلام والمسلمين.
([2]) يوجد حوالي 50 جامعة تدرس اللغة العربية في الصين، داخل أقسام، وكليات، ومعاهد عليا، ويلتحق بها أكثر من 6000 طالب سنويًا، وفيها ما يقرب من 500 عضو هيئة تدريس وهيئة معاونة.
– انظر: اللقاء العلمي: تعليم اللغة العربية في الصين مع أ.د. ماخه بين، قناة مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية على اليوتيوب، 18 ديسمبر 2022، تاريخ المشاهدة: 20 نوفمبر 2023، الساعة 12:50، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/481Y3JN.
([3]) أ/ خديجة عللي، اللغة العربية في الصين، المجلس (75)، قناة مجالس الفصحى على اليوتيوب، 9 يناير 2023، تاريخ المشاهدة: 21 نوفمبر 2023، الساعة 12:50، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/47UpFkg.
([4]) يوسف سراج مافودة، تعليم اللغة العربية في الصين: ماضيه وحاضره، مجلة الاستعراب الآسيوي، المجلد الأول، العدد الثاني، 2018، ص 66.
([5]) James D. Frankel, Islam in China by, Kowloon Masjid Dawah Committee Channel on YouTube, 20 November 2023, Watched on: 21 November 2023, Available at: https://rb.gy/9lvilf.
([6]) المصدر: Measuring Religion in China, (Washington: Pew Research Center, 30 August 2023), p. 89.
([7]) I talked to the Uyghur vice president of China Islamic Association about Islam in China, Li Jingjing 李菁菁 Channel on YouTube, 2 February 2021, Watched on: 16 November 2023, Available at: https://bit.ly/3NdldF9.
([8]) Nathan Ruser, James Leibold, Kelsey Munro, Tilla Hoja, Cultural erasure: Tracing the destruction of Uyghur and Islamic spaces in Xinjiang, Policy Brief Report No. 38/2020, The Australian Strategic Policy Institute & International Cyber Policy Centre (ICPC), 2020, p. 7.
([9]) China: Mosques Shuttered, Razed, Altered in Muslim Areas, Human Rights Watch, 22 November 2023, Accessed: 23 November 2023, 11:00, Available at: https://bit.ly/3RsmTgx.
([10]) المستعرب الصيني لي جن جونغ يكشف العلاقة التاريخية بين الصين والمسلمين وسر ترميزهم بثلاث “ميمات” (1)، قناة أحمد منصور على اليوتيوب، 15 نوفمبر 2021، تاريخ المشاهدة: 26 نوفمبر 2023، الساعة 12:10، متاح على الرابط: https://bit.ly/3Gz08kA.
([11]) Michael C Brose et al., Ethnographies of Islam in China, (Honolulu: University of Hawaii Press, 2021), p. 248.
([12]) يونس عبد الله الصيني، الإسلام في الصين: رؤية موضوعية واقعية، مجلة الإسلام في آسيا، العدد الخاص الأول، مارس 2011، ص 15 – 25.
([13]) الباحث الصيني عبد الرحمن شنغ هوا تشانغ: جهود إحياء تراث مسلمي الصين القديم فردية ونطمح أن نكون جسرا بين حضارتين، حاوره: هاني صلاح، الجزيرة، 23 مارس 2023، تاريخ الاطلاع: 2 نوفمبر 2023، الساعة 4:30، متاح على الرابط: https://cutt.us/i9Wr8
([14]) عبد الحكيم بن حبيب الله، تعليم اللغة العربية في جمهورية الصين الصينية واقع ومأمول، مجلة دراسات العلوم الإسلامية، العدد الثامن، 2023، ص 129.
([15]) مدير المعهد الإسلامي في شينجيانغ: نتمتع بالحرية المطلقة، الجريدة، 24 يوليو 2023، تاريخ الاطلاع: 23 نوفمبر 2023، الساعة 5:30، متاح على الرابط: https://bit.ly/480jJpN.
([16]) هاني صلاح، ماذا تعرف عن أول مدرسة لأبناء المسلمين في عهد الصين الجديدة؟، مسلمون حول العالم، 11 يوليو 2023، تاريخ الاطلاع: 29 أكتوبر 2023، الساعة 6:30، متاح على الرابط: https://bit.ly/418htKK.
([17]) خبراء أمميون: “سياسة اللغة المطبقة على أطفال الأويغور وفصلهم عن أسرهم اضطهاد قسري”، تركستان تايمز، 29 سبتمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 22 نوفمبر 2023، الساعة 8:20، متاح على الرابط: https://bit.ly/46JT4ML.
([18]) Ma Wenyan, China: Gate of Famous Beijing Muslim School “Sinicized”, BITTER WINTER, 11 July 2023, Accessed: 20 November 2023, 3:12, Available at: https://bit.ly/3RsCQDf.
([19]) Fawzia Mai Tung, China Part II, Islamic Speakers Bureau of Arizona Channel on YouTube, 2 October 2021, Watched on: 24 November 2023, 3:30, Available at: https://bit.ly/3RtKXj1.
([20]) Mustafa Aksu, China’s Policies of Transforming Uyghurs: Labor Transfer, Language Change, and “Re-Education” Camps, Master of Arts, (Bloomington: faculty of the University Graduate School, Indiana University, December 2020), p. 38.
([21]) Kowloon Masjid, The Incorporated Trustees of The Islamic Community Fund of Hong Kong, Accessed: 19 November 2023, 12:20, Available at: https://islamictrusthk.org/kowloon-masjid
([22]) Muslim Community Kindergarten, The Incorporated Trustees of The Islamic Community Fund of Hong Kong, Accessed: 19 November 2023, 12:29, Available at: https://bit.ly/3GrX4qH.
([23]) افتُتح أول معهد إسلامي في بلانتشو (1984)، ثمّ تأسست ثلاثة معاهد في عام (1985) في بنينشيا، وبغنجتشو، وشنغهاي، وبعدها أُنشئ معهد بكين عام (1986)، تلاه في عام (1987) تأسيس معهدين في شينجيانج وكونج مينج، ومؤخرًا دخل المعهد الإسلامي في شينيانج حيز العمل عام (2002).
يانغ تشاو كيوان، توجيهات القرآن الكريم للأقليات المسلمة: الصين نموذجا، رسالة ماجستير، (عمان: الجامعة الأردنية، 2017)، ص 171.
([24]) للمزيد بشأن المعاهد، ومناهجها، وتاريخها، راجع:
– مالي قو، دور العلماء المسلمين الصينيين والمدارس الإسلامية في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في اللغة العربية، (إسلام آباد: كلية الدراسات والبحوث المتقدمة المتكاملة، الجامعة الوطنية للغات الحديثة، 2013)، ص ص 191 – 196، ص ص 207 – 216.
([25]) عبد الحليم الورداني، المعهد الإسلامي في شينجيانغ.. مهد إعداد الأئمة ومرآة لمكانة المسلمين في الصين، CGTN، 28 فبراير 2019، تاريخ الاطلاع: 28 أكتوبر 2023، الساعة 12:00، متاح على الرابط: https://bit.ly/3sUjn5j.
([26]) تشير مصادر إلى وجود نوع آخر من المؤسسات التي تُقدم التعليم الديني في الصين غير المدارس والمعاهد الإسلامية الحكومية، وهي المؤسسات التي أقيمت برعاية وتمويل خليجي، مثل المعهد السلفي بقانسو الذي مولته السعودية، ومعهد الثقافة الإسلامية في نيغشيا بتمويل سعودي وكويتي، بالإضافة إلى مركز الشيخ زايد للغة العربية والدراسات الإسلامية في بكين. فضلًا عن ذلك، يوجد مركز إسلامي في مقاطعة داشانج القريبة من بكين، يتميز بضخامة مساحته وفخامته المعمارية التي تجعل منه متحفًا إسلاميًا أكثر منه مركزًا للعلوم والثقافة، ولا تتوفر معلومات بشأن أي أنشطة تعليمية فعلية لهذه المراكز في الوقت الراهن.
للمزيد:
– أسامة عبد السلام منصور، طوائف الإسلام والمسلمين في الصين: الوجود والاختلافات، مركز المسبار للدراسات والبحوث، سبتمبر 2015، ص 14.
– Sheikh Zayed Centre in Beijing: A cultural beacon, Emirates News Agency )WAM), 16 July 2018, Accessed: 22 November 2023, 11:00, available at: https://wam.ae/en/details/1395302699146.
– Da Chang Muslim Cultural Center / Architectural Design & Research Institute of SCUT, Arch Daily, 14 November 2016, Accessed: 21 November 2023, 12:00, Available at: https://bit.ly/4a3cDmf.
([27]) Michael C. Brose, et al, Ethnographies of Islam in China, Op. cit. p. 248.
([28]) Matthew S. Erie, Defining Shariʿa in China: State, Ahong, and the Postsecular Turn, Cross-currents: East Asian History and Culture Review, Vol. 3, No. 2, 2015, pp. 542-572.
([29]) Nathan Ruser, James Leibold, Kelsey Munro, Tilla Hoja, Cultural erasure, Tracing the destruction of Uyghur and Islamic spaces in Xinjiang, Op. Cit, p. 33.
([30]) Islamophobia in China and Attitudes of Muslim Countries Report, (Virginia: Center for Ughur Studies, April 2023), p. 15.
([32]) Measuring Religion in China, Op, Cit, pp. 111 – 113.
([34]) محمد أمين الأويغوري، عن تحديات الهوية الإسلامية وبنية الأسرة التركستانية، المجتمع، 7 سبتمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 24 نوفمبر 2023، الساعة 4:22، متاح على الرابط التالي: https://mugtama.com/07/307233/
([35]) 10 things to know about China’s policies on religion, Pew Research Center, 23 October 2023, Accessed: 30 October 2023, 2:20, Available at: https://pewrsr.ch/4a50HQK
([36]) Boqiong Li, Uyghur Identity in Continuum, Master of Arts, (Vienna: Webster University, December 2020), p. 97.
([37]) وفد الشخصيات والعلماء في الإسلام المشهورين عالميا يزور منطقة شينجيانغ الصينية،CGTN، 10 يناير 2023، تاريخ الاطلاع: 20 نوفمبر 2023، الساعة 2:22، متاح على الرابط: https://bit.ly/4ajQ0u3
([38]) بيان الاتحاد العالمي لمنظمات تركستان الشرقية بخداع الصين لتضليل الشخصيات الدينية بزيارة عرض إلى تركستان الشرقية، الاتحاد العالمي لمنظمات تركستان الشرقي، 11 يناير 2023، تاريخ الاطلاع: 28 أكتوبر 2023، الساعة 1:15، متاح عبر الرابط التالي: https://udtsb.com/ar/page/192
([39])بيان العلماء والمنظمات ضد الدعاية الصينية المضللة للعالم الإسلامي، الاتحاد العالمي لمنظمات تركستان الشرقي، 16 يناير 2023، تاريخ الاطلاع: 4 نوفمبر 2023، الساعة 2:30، متاح عبر الرابط التالي: https://udtsb.com/ar/page/195
([40]) David Lipson, after years of brutal repression, China’s Communist Party tries to turn Xinjiang into a tourism hotspot, ABC News, 1 October 2023, Accessed: 22 November 2023, 3:05, available at: https://ab.co/484Slai
- نُشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات- العد الثاني والثلاثون- يناير 2023