التحالفات العراقية والإقليمية وانعكاستها على قضيَّتَي”كردستان”،”وداعش”

مقدمة:

فمنَ المسلَّمِ لهُ؛ أنَّ لكلِّ قضيَّةٍ، أو إشكاليَّةٍ جذورَهَا، التي تمتدُّ من المجالِ المحلِّيَّ، لتبلغَ المجالَ الإقليميَّ، والدوليَّ كذلك؛ فثمَّةَ حقيقةٌ- أشارَ إليها المعنيّونَ بدراسة العلوم السياسيَّةِ، والمعنيّون منهم بحقل العلاقات الدوليَّةِ- تتمثَّلُ في ذوبان الحدود والحواجزِ، بين ما هو دوليّ-من حيثُ الاختصاص، وما هو داخليٌّ، يتَّصل بالدراسات الدستورية وسواها-حتَّى صارَ ممَّا تُعنَى بمعالجتِه المنظَّماتُ الدوليَّةُ، في السياسةِ الدوليَّةِ؛ وبوصفها من جملةِ ما ترتَّبَ-على مرحلةِ العولمة والنظامِ العالميِّ الجديد-من نتائج، وما أعقبهَا كذلك.
وممَّا تعنيه التحالفاتُ؛ أنَّنا أمام أمور، تخضَعُ لما يأتي من اعتبارات:
أوَّلها: أنَّ ثمَّةَ تشابُكاً في المصالحِ، بين الأطراف المتحالفةِ، في إطارِ إشكاليَّةٍ ما.
ثانيها: أنَّ تلك الإشكاليَّاتِ يتطلَّبُ حلُّهَا “تنسيقاً” بين فواعل متعدِّدة.
ثالِثُهَا: أنَّ البحثَ عن حلٍّ لإشكاليَّةٍ ما، هو الذي دفعَ إلى عقدِ بعضٍ من التحالفاتِ لبلوغِهِ.
ومفيدَةٌ الإشارةُ إلى أنَّ القضيَّةَ الكردية، وكذلك قضيَّةَ “داعش”، قد ارتبطتا-في البحثِ-لأمور:
الأمرُ الأوَّلُ- أنَّ كلَّ قضيَّةٍ، من القضيَّتينِ، مستهدفتان من تشكيل التحالفاتِ، الإقليميَّةِ والمحلِّيَّةِ؛ وأنَّ هذه الأطرافَ المعنيَّةَ بالتحالفِ، لها رؤًى متقاربةٌ، في قضايا كثيرة، من بينها تلكما القضيَّتين.
الأمر الثاني: أنَّ كِلَا القضيَّتينِ، قد دفع لعقد تحالفاتٍ، تستهدفُهما تحديداً، وأسهمتا في إحداثِ تقاربٍ، بين الفواعل المتحالفة.
الأمرُ الثالثُ: أنَّ الأراضي التي هي جزءٌ من إقليمِ كردستان العراق، أو من المناطق التي تسكنها الأقليَّةُ الكردية في سوريَّا، قدْ اُسْتُهْدِفَتْ من”تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشامِ” المُسَمَّى”داعش”، وفي المقابل قدْ اُستُهدِفَ التنظيمُ، من بعض الفصائل الكردية المسلَّحةِ؛ ما شكَّلَ مساحةً معرفيَةً، يُبحَثُ في إطارِهَا مصالحهما، الدافعة لمواقفهما من بعضهما.

أوَّلاً- أثر التحالفات العراقية والإقليمية وانعكاساتها على قضيَّة”كردستان”(1):

قضيَّةُ كردستان، مُذْ نشأَتْ خرجت عن كونِهَا قضيَّةَ اختيارِ شعبٍ، وتقرير مصيره؛ لهذا كانت من القضايا المتجذِّرة، التي تؤثِّرُ في إعادةِ نَسْقِ “النسيج الاجتماعيَّ” الموروث، عن تفكُّكِ أقاليم الدولة العثمانيةِ وانهيارها؛ مع أنَّ القضيَّةَ قدْ تحمَّلَتْ أكثرَ ممَّا تحتملَهُ، بتأثيرِ سياسات الدول ذات الأقليات الكردية، الأمرُ الذي زادَها تعقيدَاً؛ فتحوَّلَتْ من المطالبة بوسائل سياسية، إلى صراعٍ مسلَّحٍ، نتيجةَ التخندُقِ القوميِّ، الذي يَتذرَّعُ طرفٌ منهُ بـ”الخصوصيَّةِ القوميةَ” و”الاستحقاق الإنسانيِّ”، والآخرون يتذرَّعونَ “بالوحدةِ الوطنيَّةِ”، “والاستحقاق التأريخيّ”.
وعقبَ احتلال العراق 2003، ومشاركة الكرد في إدارة شؤون الدولة، اتَّسعَت آفاق حلِّ قضيَّةِ الكرد-في العراق-وجاءت في مجالين:
الأول- ما أقرَّهُ دستور العراق 2005؛ بأنَّ: “جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ…”، وما ترتَّبَ عليه، وعلى الاتفاقات السياسيَّةِ التي حدَّدَتْ كثيراً من: حقوق وواجبات، وصلاحيات إقليم كردستان، بعدَ نشأَتِهِ، ليكونَ أوَّلَ ثمرات”تغيير النظام السياسيِّ، وما سبقه من اتفاقات، بين قوى المعارضةِ العراقية، قبيل الاحتلال، حينَ كانت القوى الكردية، سبَّاقةً في السعي لإسقاط النظام السابق، والتعجيل باحتلال العراق، تحتَ مسوِّغِ “تحريره من النظام المستبدِّ”، وفق رؤيتهم ورؤيةِ فصائل المعارضة؛ نجمَ عنه حقَّانِ للكرد:
1. إقرار حقّ الكرد في الاستقلال، أو في إقامة إقليمٍ خاصٍّ بهم.
2. اشتراكهم في إدارة الحكومة المركزية، زيادةً على تفرُّدهم بإدارة الإقليم.
الثاني- ما اتَّصل بعلاقات الكرد مع القوى العراقية، والإقليمية، والدولية؛ بما يراعي المجال الأول، ولا يخرج-افتراضاً-عن مقتضياته؛ فالإقليمَ كانَ من ثمراتِ العلاقات المتينةِ للقيادة الكردية قبل العام 1990 وبعده، بالولايات المتحدة والدول الأوروبية، والذي يلمِحُ إليه أمران:
1) في 8/4/1991، عُقِدَ اجتماعٌ للاتحاد الأوروبي، للتصديق على خطة إنشاء ملاذ آمنٍ، تابع للأمم المتحدة في العراق، لحماية الأكراد، وقدْ قررتْ الولايات المتحدة بعدها بيومين، إنهاء جميع الأنشطة العسكرية في هذه المنطقة(2).
2) وفي 26/8/1992 تمَّ تحديدُ منطقة حظر طيران، لا تَسمَحُ للطائرات العراقية بدخولها شمالَ العراق وجنوبَه(3).
· التحالفات والوعود، في ظلِّ قتال داعش، وإعادة تقسيم المنطقةِ:
جاءَ طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير -والذي يأتي على الأنسجة الاجتماعية لدول المنطقةِ، قبل حدودها- بما يُحيي من جديدٍ آمالَ الكرد في تحويلِ إقليمِ كردستان -حال إعلانِ استقلالهم- لدولةٍ كرديَّةٍ، مستفيدينَ ممَّا يُسَرَّبُ من معلوماتٍ، عن إمكانيَّةِ تخصيصٍ دولةٍ لهم، ضمن ما يترتَّبُ على ذلك المشروع والتطوُّرات التي أعقبتْهُ(4).
وما يقوِّي آمالهم تلك، علاقاتُهم بإسرائيل، المبنيَّةُ على رعاية المصالِحِ، وتعاونهم المشهود مع الولايات المتحدة الأمريكية، ما يحقِّقُ لها موطئَ قدمٍ في كردستانَ، يلبِّي مصالحَهَا، وما تبديه مقابل ذلك من تقديم العون للإقليم، في مجال التسليح والتدريب، وفي التنمية البشريةِ، والمساعدات الإنسانيةِ واللوجستيَّةِ، في شتَّى المجالات.
أمَّا إسرائيل؛ فممَّا يفسِّرُ دعمَهَا إجراءَ استفتاءِ كردستان، أمرٌ لا يبتعدُ عن تدهور علاقة إسرائيل بتركيا، وليكون عاملَ ضغطٍ على تركيا، بإشعالِ مشاعِلَ عثرةٍ أمامها، فتتحوُّل إسرائيلُ من”التذلل لها واستجداءِ إعادة شراكتها لما كانت عليه”، إلى الضغط على تركيا بدعم استقلال كردستان العراق، ومساعدتهم للحصول على اعتراف حليفتها الولايات المتحدة(5).
وممَّا ترتَّبَ على تحالف كردستان، والعراق كذلك، مع الولايات المتحدة الأمريكية، في ظلِّ التحالف الدولي لقتال تنظيم “داعش”، (بدا ذلك من الموقف الأمريكي” بعد أن بات وشيكاً اتفاق برلمان كردستان، على تغيير النظام السياسي إلى برلماني، وتحديد صلاحيات الرئاسة، وإنهاء ولاية الرئيس مسعود بارزاني في 19/8/ 2015)، جاءَ “الموقف الأمريكي” عبر مندوبها لكردستان، لعرقلة إقالة بارزاني، بسبب حاجة الولايات المتحدة، والتحالف الدولي له في زعامة الإقليم؛ لقتال داعش؛ وأظهرَ جليَّاً اعتمادَ الإقليم على مواقف، الدول الكبرى ودعمها وحمايتها ومساعداتها، في بقائه، وقبول ما تراه في مستقبله”(6)؛ وأعطى لرئاسة الإقليم، والحزب الديموقراطي الكردستاني، إشارةً لرضا الأمريكان، واستُغِلَّتْ لإيجاد مخرجٍ، يعيدُ إمكانيةَ البقاء في الرئاسة فترةً قادمةً، بغضِّ النظر عن الاتفاقات السياسية، وعن الاعراف الدستورية، التي حدَّدت العام 2017 لتحوُّل نظام كردستان من رئاسي إلى برلماني، وتحديد صلاحيات رئيس الإقليم.
· التحالفات الهادفة لاحتواء استفتاء استقلال إقليم كردستان العراق:
عَمِلَ الحزب الديمقراطي الكردستاني “البارتي” لأجل لحظة الاستفتاء؛ لعلمه أهمية عام 2017 بوصفه عامَ نهاية حرب داعش، وينتظر البارتي “مكافأةَ” التحالف الدولي وأمريكا، على اشتراكه في قتالِ الإرهاب؛ لهذا عقد “البارتي” نيَّةَ إجراء الاستفتاء عام2017، ليؤكِّدَ أنَّ الاستفتاءَ وسليةُ تمسُّك بالرئاسة، وتجاوزٍ لما يَحدُّ من صلاحيَّاتِها.
وكانَ لتميُّزِ علاقات إقليم كردستانَ بإسرائيل، والنظر إليها حليفاً وداعماً له، أن دفعت إسرائيل بالإقليمِ قُدُمَاً، لإجراءِ استفتاءِ استقلالِهِ، بطريقةٍ ملفتةٍ للمراقبين؛ إلاَّ أنَّ هذا الدعمَ، وتلك الرغبةَ، قدْ تواريا أمامَ ضروراتِ التحوُّل الأمريكيِّ، في قراءتها لما يجري وما تريده الولايات المتحدة منهُ.
وأصرَّتْ رئاسةُ الإقليم على إجرائه، في خطوةٍ عُدَّتْ مخالفةً لدستور العراق 2005، الذي أسَّسَ لنشأة الإقليم؛ ما دفعَ الولايات المتحدة -حليفَةَ بغداد، وكردستان- لإبداء رغبتها في الإبقاء على الوضع الراهن، وحدود المنطقة، وأنْ لا يجري تغييرٌ عليها إلاَّ بعد اتفاقات وتوافقات، تفوق توقعات الإقليم الفجَّة المتسرِّعة؛ لكثرة الفواعل وتفاوت أهدافهم الاستراتيجية، والاعتبار بما يجري في سوريا-من متغيرات وتحولات المواقف- وفي العراق، وطيّ صفحة الإرهاب، والحرب عليه. فعاقب الأمريكان الإقليم على إجرائه الاستفتاء، وتم تضييق الخناق عليه، لمخالفته رغبتها، التي تحوَّلت من موافقتها المبدئية عليه، إلى التوجيه بإلغائه. فالأمر خاضعٌ للحسابات الأمريكية، وللتبدُّل السريع الذي تشهده المنطقةُ وتحالفاتها وأزماتها؛ ولا سيَّما الأزمة السوريةُ، وتحوُّل الأمريكان عن استقلال الإقليم، وما يفجِّرُهُ من قضايا تربك: الإيرانيين، والأتراك، إلى ما كانَ من مستجدات الرؤية الأمريكية، في تقديم ورقة إنشاء قوات كرديةٍ سورية في سوريا، ودعمها، بما يحقِّقُ فتحَ جبهاتٍ جديدةٍ: للروس، وإيران، وتركيا، والنظام، وداعش، جملةً واحدةً.
أمَّا تأثيرُ التنسيق التركي-الإيراني/العراقي، بشأن الإقليم، وما أعقب الاستفتاء: فإنَّ من أبرز ما يمكن تسجيلُهُ، في إطار التعاون التركي/الإيراني، وتوافقهما تُجاهَ قضيَّةِ استفتاء كردستان، ما يسجِّلُ سابقةً في إطار التأثير الإقليميّ في قضاياه، بما يفوق التأثير الدوليَّ، وما جرى في ظلِّ سرعةِ تنسيق المواقف، والعملِ على تنسيقِ الرؤى، والخطط المستقبلية، بين إيران وتركيا، وتعاونهما المباشر مع حكومة المركز ببغدادَ، لإيجادِ حلٍّ يحقِّقُ مصالحَهم، في الحفاظ على الوحدة الوطنية، بصيانةِ وحدةِ الأراضي، والنسيج المجتمعي بكلِّ مكوِّناتِه -وفقَ قناعات الدول الثلاث- إزاء تهديدهما من الإقدامِ على إجراءِ الاستفتاء؛ بما يجعل الدورَ الإقليميَّ أمراً له أثره في سيرورة ما سيطرأُ فيه، وبما يضغطُ تأثير الدور العالميّ في المنطقة؛ ولعلَّ ما يمكن تسجيلُه إزاء هذا الأمر نقاط أبرزها:
أ‌- أنَّ التهديدات الموجَّهة لإيران، وإرادة الولايات المتحدة، من إعادة النظر في البرنامج النووي الإيرانيّ، لها أثرها في تقارب إيران من تركيا، إضافةً إلى تقرُّبها وتحالفها مع روسيا -زيادةً على تفاهمهم في الأزمة السوريةِ، وانسحابِ الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي- لتشكِّلَ قوَّةَ مانعةٍ، أمامَ تغيير الوضع في الدول ذات المناطق الكردية، ولاسيَّما العراق، وإقليمه الكرديِّ.
ب‌- الأمر الآخر، ما يتَّصل بتركيا، التي تحولَّت من إدارة ظهر أوروبا لها واتحادها، إلى أن تدير تركيا ظهرها لأوروبا، باستحداث نشاط استراتيجيٍّ في المنطقة، لا يستبعد إمكانيَّة التقارب مع أيِّ طرفٍ إقليميٍّ، عقب ما أقامته من علاقات بإيران، وروسيا فيما يتصل بالمنطقة، وفيما يرسمُ مستقبلها(7)؛ فالتحسُّسُ من استقلال إقليم كردستانَ، باتَ القضيَّةَ الأهمَّ، عقب تبدُّدِ طموحات تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ؛ شكَّل ذلك تحديَّاً كبيراً، أمام المضيِّ قدماً باستقلال كردستان.
ت‌- من هنا تأتي حقيقةُ تحوُّل كثيرٍ من قضايا المنطقةِ، إلى قضايا تتخطَّى المجال الوطني، لتدخل المجال الإقليميَّ، فالدوليَّ؛ لما لها من تأثير على الدول، التي وجدتْ نفسَهَا مضطرَّةً لتنسيق مواقفها، وتوحيد جهودها، في إطار تحالفات، اتَّسَمَتْ “بسرعةِ التغيُّر في خارطتها وفي أطرافها”، أذابَ الأنماطَ التقليديةَ للتحالفات، ومسوِّغاتها الأيديولوجيةِ، ليكونَ تقديم المصلحةِ أمراً حاكماً في نسج تحالفات تصونُهَا.
ث‌- انعكست هذه كلُّها على مستقبل كردستانَ؛ التي لمْ يعدْ أمرها محصوراً في رغبات الكرد أنفسهم، بوصفهم شعباً يسعى لتقرير مصيره، وبناءِ دولته؛ ولم تَعُدْ القضيَّةُ معلَّقةً بآمال موافقةِ دولةٍ ما، مهما تعاظمت قوَّتها، أو توطَّدتْ بهم علاقاتُهَا.
– فقد جرت الأمور بما تشتهيه سفن الدول الإقليمية؛ وأكَّدَتْ إمكانيَّةَ حلِّ المنطقةِ لكثيرٍ من مشاكلها، بالتنسيق بين قواها الفاعلةِ الأبرز، والمعنيَّةِ بأيَّةِ أزمةٍ تنشأُ.
– وتم إحراج الولايات المتحدة، وإبعادها عن دعم إقليم كردستان في إتمام مساعيه عقب إعلان نتائج الاستفتاء، زيادةً على رغبتها في عدم المضيِّ بنتائجه، والعمل وفق مقتضياته، فهو يُعَرِّضُ مصالحها وتحالفها الاستراتيجي المتميز مع بغداد للخطر.
· التحالفات التي أدَّتْ إلى مزيدٍ من التوازن والتهدئة إزاءَ قضيَّة إقليم كردستان:
من ناحيةٍ: كانَ للفصائل الكردية في سوريا، قصَّةٌ تمتدُّ جذورها إلى ما قبل نشأتها، من خلال علاقات الإقليم بحزب العمال الكردستاني، وبالحركات الكردية بسوريا.
وما يهمُّنا في هذا الموضع، التأكيد على أنّ ردَّةَ فعل الولايات المتحدة- إزاءَ تجاوز سلطة إقليم كردستان، بإصرارها على إجراء الاستفتاء، والتقليل من شأن مناشدات الأمريكان لعدم إجرائه- جاءَت بترك الأمر للقوى الإقليمية المعنية: تركيا، وإيران، والعراق؛ وأعطتْ الضوء للحكومة المركزية ببغداد للتعامل وفق الدستور إزاء الاستفتاء؛ فتعنُّت الولايات المتحدة مع الإقليم، يضرُّ بتقييم الكرد لموقف الأمريكانَ من قضيَّتهم المركزية، ولا سيما من شرعت بتدريبهم وتسليحهم، ودعمهم، من فصائل كرد سوريا.
ومن ناحيةٍ أخرى؛ فإنَّ علاقات العراق، وتحالفاته مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ جعلت الموقف الأمريكي متوازناً إزاء العراق، لهذا أدارت ظهرها لرغبة رئاسة الإقليم بإجراء استفتاء الاستقلال؛ مع أنَّ الإقليم لمسَ دعم الأمريكان رئاسة الإقليم وإبقاءها، لقتال داعش، وفهمَتْ منه رئاسة الإقليم أنَّها ستكافأُ، بعد أن كان العام 2017 عامَ إنهائه.
ولَمْ تتمادَ بغدادُ مع الإقليم في تضييق الخناق عليه، إلى حدِّ “إلغاءِ الإقليمِ” والنكوصِ به إلى محافظات؛ ومن بين ما خفَّفَ حدَّةَ موقف الحكومة المركزية ببغدادَ؛ تقارب إيران مع الإقليم، من ناحيتي: الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية وتربطه بإيران علاقات تعاون تاريخية، وكذلك مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الممسك بزمام السلطة بأربيل، وقدْ أبدى الأخير لإيران في زياراتٍ سريةٍ -فيما رشحَ من معلومات- أبدى استعداده للتعاون متعدِّد المجالات مع إيران، التي لها ما يدفعها للترحيب بهذا العرض، وقد أثقلها حصار اقتصادها، واستراتيجيتها؛ في وقتٍ بدأت به الولايات المتحدة بالتلويح بالانسحاب من الاتفاق النووي، وقد فعلتْ؛ ما دفع إيرانَ، لفتح المعابر بدءًا -ليس من حليفها التقليدي في السليمانية- بل بمعابرِ أربيل؛ وأثَّرتْ إيران على بغدادَ لتخفيف حدَّةِ تعاملها مع الإقليم؛ زيادةً على ما سيأتي من ثمرات تخصُّ بغدادَ، عقب الانتخابات البرلمانية العراقية التي جريتْ في 12مايو2018؛ وما تمثِّله القوى الكردية الرئيسة، من ترجيح الكتل التي لها علاقات متميزة مع إيران.
وهذه الأحداث الأخيرة، أُنعشتْ آمال سلطة الإقليم، وقواه السياسية؛ ودفعها للمطالبةِ بإعادة نسبةِ الموازنة إلى ما كانت عليه، وإلى المطالبة بإجراء توازن أمنيٍّ، في المناطق المتنازع عليها بين الإقليم والحكومة المركزية ببغداد؛ عقبَ الإعلان عن نتائج الانتخاباتِ، وبروز أثر الكتل الكردية في أن تكون عاملاً مرجِّحاً، وحاسماً بين الكتل الكبيرة الثلاث، المؤثرة في تشكيل الحكومة القادمة.
أمَّا ما يمكنُ توقُّعُهُ، لمستقبل إقليم كردستان، فقد يأتي في ظلِّ مراعاةِ عدد من الأمور:
1- مراعاة عدم المجازفةِ مجدَّداً، باتِّخاذ أيَّةِ خطوةٍ، من شأنها تأليبُ الدول الإقليمية المعنيَّةِ بالقضيَّةِ الكردية، ولها أقليَّاتٌ كردية، أعني: تركيا، وإيران، ناهيكَ عن سوريا.
2- مراعاة العمل وفق دستور العراق لعام 2005، وعدم المجازفة بمخالفته، بالمطالبةِ بما لمْ يقرّه الدستور.
3- عدم الذهاب بعيداً في بناء علاقات خارجيةٍ، مع الدول الأخرى، إلاَّ في إطارِ ما يسمح به الدستور العراقيُّ، الذي يجعل بناءَ العلاقات الخارجيةِ أمراً محصوراً ببغداد، إلاَّ ما كانَ ودِّياً منها، ولا يؤثِّرُ على العراق ومصالحه وعلاقاته، ونظامه السياسي.
4- محاولة تحقيق أعلى سقفٍ من المكاسبِ، سياسيَّا من بغدادَ، عبر عقدِ التحالفاتِ، التي لا تثيرُ من شأنها حفيظةَ القوى السياسية، ولا سيَّما الكبيرةَ منها ضدَّ الإقليم، وضدَّ الكتل الكردية المشاركة في العملية السياسية ببغداد.
5- إبداءُ التعاون مع حكومة المركز ببغداد، فيما يخصُّ إعادةَ القوات الكردية في المناطق المتنازع عليها، في خطوةٍ تبقي على ما يؤشِّرُ لعلاقة كردستان بتلك المناطق، ولحقوقها فيها ولو في المستقبل البعيد.

ثانياً- أثر التحالفات العراقية والإقليمية وانعكاستها على قضيَّة”داعش”:

من بينِ ما يكشِفَ ذلكَ التشابُكَ، ويُسهِمُ في حلِّ عقدةِ فهم ما يجري؛ وتسليط الضوءِ على الظروف التي نشأَ في ظلِّها تنظيم”داعش”؛ والوقوف كذلكَ عندَ أبرز القوى المؤثِّرةِ، في إطارِ التحالفات، التي لم تعدْ حلولها متاحةً لطرفٍ، مهما تعاظمتْ قوَّتُهُ، وكبرَ شأنُهُ.

1) نشأةُ “تنظيم داعش، وملابساتُهَا:
اُختيرَ “أبو بكر البغداديِّ، على رأس تنظيم القاعدةِ في العراق، عقبَ مقتل مؤسسها الزرقاويِ، ومقتلِ أبي أيوب المصري، في مايو 2010. وسنةَ 2013، تحوَّلَ التنظيمُ إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، بعدَ أن امتدَّت ثوراتُ الربيع العربيِّ إلى الشام، الذي يستدعي “فتحها” وفق اصطلاحهم، حتَّى توفَّرتْ مستلزماتُ إعلانِ الخلافَةِ، بعدَ توفُّر الأرض “للخلافةِ”، بتأثير قصفِ الفلوجة من القوات العراقية، بداية العام 2014، والدعوة لإخلاءِ ساكنيها؛ وتمدُّدهم إلى أراضٍ واسعةٍ، تخصُّ أكثر من محافظة عراقية؛ ووصلَ الرقَّةَ بسوريَّا كذلك.
ومن اللافت للنظر، أنَّ ظهورَ “تنظيم الدولة” وتوغُّلَه في العراق والشام، جاءَ في ظلٍّ أمور تسهمُ في الكشفِ عن مقاصدِ تأسيسه، أو استدعائهِ، وفق ما يذهبُ إليه بعضُ المراقبين، ومن تلك الملابساتِ:
أ‌) الاعتصامات التي شهدتها المحافظات ذات الأغلبية السُنِّيَّة، في العام 2013، وعقبَ اقتحامِ خيام اعتصامات الحويجةِ، وما جرى فيها من قتلٍ لمتظاهرين غير مسلَّحين.
ب‌) توسيعِ العمل بقانون 4 إرهاب، ومحاولةِ تصفيةِ الخصوم السياسيين، من لدن الحكومة العراقية وقتها؛ فَحُكِمَ على نائب رئيس الجمهوريةِ حينَهَا “طارق الهاشمي” بالإعدام، ولوحقَ نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير المالية “رافع العيساوي”، وسواهما، من نفسِ الانتماءِ المذهبيّ؛ في العام 2013.
ت‌) تحوُّل موقف رئيس الوزراء”نوري المالكي”، وقت الاعتصامات، من التصريح بقبوله: تحقيق المطالب القانونية، ودراسة المطالب غير القانونية؛ إلى التصريح فجأةً: أنَّ المعتصمين “فقاعةٌ”؛ الأمر الذي يؤكِّدُ تلقِّيهِ تطميناتٍ وتعهُّداتٍ بالتعاون معه باتِّجاهٍ، يبعثُ على شعوره بالاستقواء، وأنَّ لما يجري حدوداً مرسومةً، أو محدَّدَةً نهاياتها.
ث‌) يوليو 2013: فرار أكثر من 500 سجين، معظمهم أعضاءُ بارزون في تنظيم القاعدة من سجني التاجي وأبو غريب، في عمليتين نوعيتين.
ابتداءً؛ لابدَّ من التذكير بأنَّ ما يُعرَفُ اختصاراً بتنظيم”داعش”، يتَّصلُ في نشأتِهِ بالعراق والشام، وامتدَّ عبرهما ليبلغَ أماكنَ عديدةً، من بينها أوروبَّا؛ فيكونُ مقبولاً تصوُّرُ أن مستقبل هذا التنظيم، ونهايته -وفقَ من يظنُّها قريبةً- تكونُ في أرض العراق والشامِ؛ وما يتَّصلُ بالأزمات التي تعصفُ بهِما، والتي كانتْ عاملَ جذبٍ للتنظيم -ولا نقولُ عاملَ دفعٍ بهِ- لإعادَةِ ترتيب الأوضاعِ فيهما، نريدُ العراقَ والشامَ، فيؤولُ الأمرُ فيهما، إلى ما تشتهيه الفواعل المختلفةُ المعنيَّةُ بالأزماتِ، وبتنظيم”داعش”؛ فيتحقَّقُ الاستقرارُ، بشروطٍ محسوبةٍ سَلَفَاً.
2) وجودُ التنظيم وعلاقته بتحقُّق السلم المجتمعيِّ وغيابهِ:
لا يخفَى وجودُ ترابطٍ بينَ: غيابِ السلمِ المجتمعيِّ ونشوء التنظيمات المتطرِّفَة؛ فوجود تنظيم”داعش”، في العراق وفي الشامِ تحديداً، استدعَتْهُ عوامُلُ اللا-استقرار، وغيابُ السلم المجتمعي، وغيابُ الأمن بشتَّى ضروبِه.
فسوريَّا شهدَتْ ثورةً شعبيَّةً، لمْ تشهد مثيلتَها منذ الاحتلال(8)؛ تحوَّلت الثورةُ إلى صراعٍ مسلَّحٍ، أفقدَ الشعب السوريّ أمنه وسلامَهُ من جهةٍ، وأدَّى إلى تفاقمِ أزمتها بدخولِ فواعلَ إقليمية ودولية بدأتْ تؤثِّرُ في استقرار سوريا، وفقاً لمصالحهم ورؤاهم، من جهةٍ أخرى.
أمَّا العراقُ، فقد سبقَ سوريَّا في فقدانِ أمنه واستقراره عقب الاحتلال؛ وهو أمرٌ طبيعيٌّ في ظلِّ مقارعة الاحتلال ومقاومته الوطنيةِ؛ إلاَّ أنَّ الأمرَ تفاقَمَ عقب انسحابِ الاحتلال من العراق، وقوَّتِه المسلحة القتالية؛ الأمرَ الذي رجَّحَ فرضَ ارتباط وجود التنظيمِ”داعش” لا فقط في غياب الأمن والسلم المجتمعيّ وحسبْ، بل يرتبطُ بإراداتٍ خارجيَّةٍ، لها مصلحتُهَا في تعميق الاضطراب، وتكريس عدم الاستقرارِ، ليكونَ ذلكَ من آثارِ وجودِ تنظيمِ”داعش”، وليس فقط عوامل جذبٍ له.
والعاملُ الآخر الذي تسبَّبَ في غيابِ الأمنِ، والسلم المجتمعي، ما سجَّلَهُ المراقبونَ، من تكريس الصبغة الطائفية لحكومة بغداد، لاسيَّما بعد العام 2010، التي ولَّدتها الانتخابات حينَها؛ وسُجِّلَ خلالها: التهميش والإقصاء السياسي والوظيفيّ، وبدأت وقتها مرحلةُ التمييز الطائفيِّ في كثيرٍ من المجالات، أدَّتْ إلى إحداثِ تصدُّعٍ، في جدار الوحدة الوطنية، وتعرُّضِ الآخرين إلى مضايقاتٍ وتجاوزاتٍ، دفعتْ إلى الاعتصاماتِ، التي تأثَّرتْ بالعوامل المحليَّةِ المذكورةِ، التي جعلتْ العراقَ والمناطق، التي شهدتْ الاعتصاماتِ صدًى لثورات الربيع العربيِّ، والسوريِّ لقربِه منها؛ ودفعَتْ للمطالبةِ بإقامة إقليمٍ خاصٍّ بالمحافظات السنِّيَّةٍ؛ وشهدتْ تلكم الاعتصاماتْ تغلغلَ عناصرَ من تنظيمِ”داعش”، وبذلكما: صارتْ سوريَّا والعراقُ أرضاً خصبةً؛ تبرِّرُ وجودَ تنظيم داعش، إن لمْ تكنْ تستدعيه.
وكانَ لذلكَ آثارُهُ، التي يجملُهَا المعنيون بأربعِ نقاط(9):
أ‌- سقوط عددٍ من المدن العراقيَّةِ بيد تنظيمِ”داعش”.
ب‌- نزوحُ أهالي تلك المدن وهجرتهم منها.
ت‌- غياب الاستقرار السياسي.
ث‌- تدهورُ الوضعِ الاقتصاديّ.
وبالمقابِل؛ فلأجلِ صنعِ السلامِ، وترميمه مجدَّداً، لا بدَّ أن يكونَ ذلكَ بتوفير آليَّاتٍ، وبذل جهودٍ؛ منها آليَّاتٌ وجهودٌ: دستوريَّة قانونية، سياسية ودبلوماسية، ومجتمعية ثقافية، وجهودٌ وآليَّاتٌ دوليَّة(10).
3.التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”:
وأوَّلُ تحالُفٍ يهدِفُ إلى قتالِ تنظيم “داعش” يتمثَّلُ بالتحالف الدوليِّ المعقود في سبتمبر 2014-بقيادة الولايات المتحدة الأميركية- ويَضُمُّ أكثر من عشرين دولةً، غايتُهُ قتال تنظيم “داعش”، ووقف تقدُّمِهِ في العراق وسوريا، بعدَ أن سيطَرَ على مساحات شاسعة فيهما(11)؛ وقدْ مهَّدَ للتحالُف انطلاقُ الغارات الأميركية في 7 أغسطس 2014، بعد كلمة الرئيس الأميركي “أوباما” الموجَّهةِ للشعب الأمريكيِّ، واصفاً الأوضاع السيئة في العراق، والاعتداءات العنيفة ضدَّ طائفةِ الإيزيديين؛ وهدفُهُ: حماية المواطنين الأميركيين في المنطقة، والأقلية الإيزيدية، ووقف تقدُّم تنظيم”داعش تُجاهَ أربيل؛ وفي 10سبتمبر 2014 شُنَّتْ غارات أمريكية في سوريا دون انتظار موافقة الكونغرس، وتكثيف الغارات في العراق.
وتوالتْ الدول بعدَ أيّامٍ في مشاركةِ الولايات المتحدة الأمريكية غاراتِهَا؛ فدخلت فرنسا ثاني دولة تشارك بعدةِ ضربات جوية ضد تنظيم “داعش”، وأرسلت قوات خاصة إلى إقليم كردستان، لتدريب قواته على الأسلحة الجديدة المرسلة إليهم؛ وفي 23 سبتمبر، شنت كل من الولايات المتحدة والبحرين والأردن وقطر والسعودية والإمارات أولى غاراتها في سوريا؛ وأطرافٌ آخرون شاركوا التحالفَ جهودَه، بالدعم اللوجستي والتدريب أو بشنِّ غاراتٍ، في سوريا والعراق؛ ومنها بريطانيا، والمغرب، وأستراليا، وبلجيكا، وألمانيا، والنرويج، وهولندا ونيوزلندا، وإسبانيا، وتركيا، والبرتغال، ودول كثيرةٌ أخرى انضمَّتْ للتحالفِ أو أيَّدَتْهُ، ومنظَّماتٌ.
والتحالف لا يتضمَّنُ إرسالَ قوات بريَّة مقاتلةٍ، مكتفياً بتدريب وتسليح الجيش العراقي، وكذلك”المعارضة السورية المعتدلة”، والقوات الكردية.
4.التحالف الروسي الإيراني السوري العراقي(12):
رفضَتْ سوريَّا الانضمامَ للتحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لاعتقادِها أنَّه يهدفُ إلى الإجهاز على نظامها، وعلى تدمير سوريَّا، وتعتقد أنَّ تركيا-وهي جزءٌ منه- تدعمُ الإرهابَ في سوريا؛ ومن ناحيتها رفضَتْ روسيا الانضمام للتحالفِ، لأنَّه لا يتمتَّع بالشرعيَّةِ الدوليَّةِ، إذْ لمْ يتلقَّ طلباً من جهةٍ دوليَّةٍ، تُخوِّلُهُ التدخُّلَ في سوريا، التي لمْ تبدِ مواقفتها عليه؛ ولمْ تعترف إيرانُ من جانبها بالتحالفِ، لعدمِ شرعيَّتِه.
هذا الأمر، سوَّغَ لإيران، وروسيا، وسوريا تكوين تحالفٍ بينها، بحجَّةِ قتالِ الإرهابِ، وليس تنظيم “داعش” تحديداً؛ فسوريا وحليفاها، يعتقدونَ أنَّ الإرهابَ مشخَّصٌ في المعارضة السورية، التي حملت السلاح بوجه النظام، والنظام هو صاحبٌ الشرعيَّةِ الوحيد، وفق رؤيتهم.
أقدمتْ في نهايةَ سبتمبر2015 كلٌّ من روسيا وإيران وسوريا والعراق، على إنشاء مركز معلوماتي، يضمُّ ممثلي هيئات أركان جيوش دولهم؛ يعمل المركز على جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها، وتبادل المعلومات عن أوضاع الشرق الأوسط؛ وتنسيق العمليات العسكرية، المتَّصلةِ في قتال الإرهابِ، توحيد جهود دول المنطقة في مواجهة الإرهاب وتنظيم “داعش”، بتشكيل لجنة تنسيق العمليات وإدارة قوات روسية وسورية وعراقية وإيرانية في قتالِ “داعش”؛ يتناوب على إدارة المركز دوريَّاً ضباطٌ من: سوريا، والعراق، وإيران.
5.تحوُّل الموقف التركي إلى التحالف مع روسيا وإيران:
مع أنَّ تركيا جزءٌ من التحالف الدولي لقتال داعش بقيادةٍ أمريكية، بدعمه لوجستيَّاً، إلاَّ أنَّها قد وجدتْ نفسها بحاجةٍ مقدَّرةٍ إلى إعادة حسابات تحالفاتها، مدفوعةً بعواملَ، من بينها:
أ‌- فشل محاولاتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ب‌- تنصُّل الدول المانحة، لدعمها في جهودها الإغاثيَّةِ، والتصدِّي للهجرة غير الشرعيَّةِ لأوروبا.
ت‌- تلمُّس تركيا دلائلَ دعمٍ وتقويةٍ للمعارضةِ، وتنميةِ قواعد ومؤسسات التنظيم الموازي.
ث‌- دعم الحركات الكردية ذات الأجنحة المسلَّحة في تركيا، ووجود دلائل تشير إلى دعم واستعانة الولايات المتحدة بقوات حزب العمال الكردستاني BKK، في العراق بحجَّةِ الاستعانة به في قتال داعش.
ج‌- مصلحة تركيا العمل في ظلٍّ تحالفٍ مع روسيا، وإيران، لما لهما من علاقات اقتصادية تجارية واستثمارية وسياحية لها أثرها على اقتصادِ الأطراف الثلاثةِ.
ح‌- وجدت تركيا أنَّ الحليف الأمريكي، في إطار الناتو، لم يعد يعبأُ بأمن حدودها، ولا بما يتهدَّدُ وحدةَ مجتمعها، في ظلِّ العلاقات الأمريكية، ومن ورائها علاقات إسرائيل بالكرد السوريين.
ونتيجة هذا التحالف، صارت عملية تنسيق المواقف بين الأطراف الثلاثة، ومن ورائهم النظام السوري أمراً متاحاً؛ بما يسمح بتوجيه مآلاتها، بما يخدم مصالح الأطراف كلِّها، ويتيحُ لتركيا حمايةَ حدودها، والوفاء بالتزامها لفصائل المعارضة السورية، التي تسكنُ تركيا، وتحظى بدعمها، ومنها فتح ممرات آمنة للمعارضة، للخروج من المناطق المدمَّرة، مقابل تقبُّل تركيا خيارَ بقاءِ النظام، والكفِّ عن المطالبةِ بإزاحته.
ولمْ تخلُ الأزمةُ السورية من اختلاف الرؤى، ورفض ما يقوم به النظامُ السوريُّ من خرقٍ، وشنِّ عملياتِه القتالية في مناطق”خفض التوتر” المتَّفق عليها؛ كما جرى حيالَ “إدلب” أواخر العام 2017، والذي أزعجَ تركيا، ودفعها لطلب الضغط على النظام من لدن روسيا وإيران، للكفِّ عن ذلك؛ حتَّى وُصِفَ التحالف بالهشاشة، لاختلاف الرؤى حولَ مسائلَ مستجدَّةٍ، منها ما يتَّصل بتخريب المدن من لدنِّ روسيا وإيران والنظام، أمام رفض تركيا واحتجاجها عليه، لما تحمله تلكم الحملات من سياسةِ التهجير القسريِّ، والاستهداف المذهبيّ.
فيما يتَّصل بمستقبل سوريا، فقد باتت خيوط اللعبةِ، وتحديدُ مستقبل سوريا غيرَ بعيدٍ عن التحالف، ولا سيما باعتمادِ الولايات المتحدة الأمريكية على قوات سوريا الديمقراطية، بوصفها ذراعاً، يمكنُ من خلاله إبقاءُ التأثير الأمريكيِّ، وبعضٍ من حلفائها، في مستقبل سوريّا، التي يمكن أن تكونَ مقبولةً من التحالف الآخر، ما دام الأمر يستثني إزاحةَ النظام، ويستثني تقديم الأسد لمحكمةٍ دولية؛ وقدْ يدفعُ بتحوُّل التقارب الروسي التركي الإيراني، إلى شكلٍ أقرب للتحالفِ، ما تأكَّد لتركيا من دورٍ لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في الانقلاب الفاشل 2016؛ وتعميق التبادل التجاري بين روسيا وتركيا، إلى ما يبلغ عشرة أضعاف ما كان عليه؛ زيادةً على تجاوزِ إيران وتركيا قضيَّةَ استفتاء كردستان، بما ينبئ بمستقبلٍ واعدٍ للتحالف الثلاثيِّ، في ظلِّ تأزُّم الموقف إزاء الاتفاق النووي الإيرانيِّ.
وعلى ما سبق؛ يتبيَّنُ أنَّ تنظيم”داعش” قد أوشك على نهايتهِ، ولمْ يبقَ له سوى جيبٍ، لكنَّه ممتدٌّ إلى عمق الصحراء، وقد يجدُ منافذ إلى البحر بيسرٍ، تجعلُ الإجهازَ عليهِ، مطلباً أوروبياً أولاً.
6.محور الفصائل: اللبنانية، العراقيَّة، الأفغانيَّة:
يأتي دورُ الفصائل المسلَّحة، الشيعيَّةِ: اللبنانيةِ، والعراقيَّةِ، والأفغانيَّة، تبعاً للدور الإيرانيِّ بسوريا، وإسناد النظام السوريّ، في مواجهة المعارضة المسلحةِ، وتواجُدِ تنظيم”داعش” أكَّدَه ممثل المرشد الإيراني -علي خامنئي- من الحرس الثوري علي سعيدي، أواخر سنة 2015 بتأكيدِ دور إيرانَ، في حفظ العراق ولبنان وسوريا، بل وحتى إيران(13).
ومن هنا يتأكَّدُ للمعنيِّ بتحليل الأزمة السورية، أنَّ إيرانَ لنْ تدَّخِرَ وسعاً، إلاَّ ووظَّفتْهُ وزَجَّتْ به لحسم الأزمة السورية، والإبقاء على نظام الأسد فيها؛ ومن بين ذلك: “حزبُ الله”، وقدْ كشفَ حسن نصرُ اللهِ، أنَّه ذو تمويلٍ إيرانيٍّ، وتسليحٍ إيرانيٍّ، ويتَّبِعُ الفقيه في إيران.
ورصَدَ المعنيونَ، الفصائل المقاتلة في سوريا بالآتي(14):
– كتائب”عصائب أهل الحق” و”فيلق بدر” و”حزب الله” العراقي، قاتلت في العراق ثم انتقلتْ بتوجيه إيراني إلى سوريا.
– ألوية “أبو الفضل العباس”: دافعت عن نظام الأسد، بدعوى حماية المراقد المقدسة.
– كتائب سيد الشهداء وذو الفقار: انتقلت من العراق إلى سوريا بتوجيه إيراني.
– فرقة “فاطميون” وفرقة “زينبيون” الأولى عناصرها أفغانية، والثانية باكستانيون قاطنون بإيران.
– فيلق “ولي الأمر”: وهم فرقة خاصة، بحماية المرشدِ ومسؤولين إيرانيين، أرسلت لسوريا حلب تحديداً.
وأكَّدَتْ تقاريرُ إعلامية أن تلك الفصائلَ، قاتلتْ المعارضة السورية، وخاصة الجيشَ الحُرَّ ثمَّ جيش الفتح، ولم تقاتل تنظيم”داعش”؛ وأنَّ تلك الفصائل الشيعيَّةَ، استعانتْ “بالخطاب الطائفيِّ للتحشيدِ المعنويِّ في معاركها بسوريا، ليوازي -وفق قناعاتها- التحدِّيات الطائفية المقابلة، والتي ترجعُ وفقاً لهم إلى(15):
– تدخُّل الدول السنِّيَّة، كالسعودية، وبعض دول الخليج، وسواها.
– ظهور التيارات التكفيرية، والتنظيمات الجهادية الوهابيةِ في معتقدها.
– دور حركة الإخوان المسلمين، في إشعال نار الثورة ضدَّ النظام السوريِّ.
7.تحوُّل الموقف السعودي، من قتال داعش إلى احتواء إيران:
من جانبها، بدت السعودية في حالٍ، يدفعها إلى تحويل اهتماماتها بقتال تنظيم “داعش”، من مستوى المشاركة العسكرية الفاعلة، إلى تراجُعِهِ نحو الدعم غير القتالي، في إطار عضويَّتِها في التحالف الدولي لقتال تنظيم”داعش” بقيادته الأمريكية؛ ولا أدلَّ على ذلك من طلبِ الأمير محمد بن سلمان من الرئيس ترامب، خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية، الإبقاءَ على القوَّات الأمريكية في سوريا لفترة قادمة؛ بما يفسِّرُ انشغال السعوديَّةِ في حربها في إطار الأزمة اليمينة، وتفاقُمِ تعرُّضها للهجماتِ الصاروخيةِ، التي تنطلق من اليمن صوبها.
وتعي السعوديَةُ أنَّ تلك الصواريخَ تحملُ رسائلَ ساخنة، من إيران بإمكانيَّةِ التصعيد، دفعت بالسعودية نحو جعل “احتواء إيران” أمراً ذا أولويَّةٍ إستراتيجيةٍ، فهي تخشى أن يتحوَّل الحزام الاستراتيجي المعروف “بالهلال الشيعيّ”، إلى ما يهدِّدُ النسيجَ المجتمعي السعوديِّ، بخطرٍ يأتي عليه، لتشتعلَ فيه عوامل تحويل التنوُّع المذهبيِّ، إلى صراعٍ طائفيٍّ، يلهبُ الساحل الشرقيَّ، ويمتدُّ ليبلغَ البحرينِ، وسواها من دول الخليج.
وتخشى السعوديَّةُ من توجيه فصائل المقاومة الشيعية، نحو حدودها، وقد تعرَّضَتْ من قبلُ إلى هجمةٍ بالقذائف موجَّهة من العمق العراقي نحو حدودها، وأعلن أحدُ الفصائل العراقيَّة مسؤوليَّتَه، ما يرجِّحُ أن تكون الأراضي السعودية، مستهدفةً مستقبلاً، ولا سيَّما عقب تنفيذ حكم الإعدام “بالشيخ نمر النمر”؛ وهو ناشطٌ شيعيٌّ، متَّهمٌ بالتحريض على النظام السعوديِّ.
والأمرُ ذو الأولوية الاستراتيجية لإيران، يكمن في أمنها من توجيه ضربةٍ ضدَّ أراضيها، وأن لا تخسرَ مكاسبَ الاتفاق النوويِّ، بتحريضٍ سعوديٍّ، تحت ذريعةِ تحويل إيران لبرنامجها النووي لأغراضٍ عسكرية.

خاتمة- مستقبلُ تنظيم”داعش”:

أكَّدتْ الأحداثُ أنَ داعشَ، ومنذ نهاية العام 2017 يلفظُ أنفاسه الأخيرةَ في العراق، عقبَ نهايةِ معركةِ الموصلِ، وما أعقبها من الإجهازِ عليه في بعض مناطقِ كركوك وتكريت؛ وتوِّجَ الأمر بإعلان التحالف الدوليِّ إغلاق مكتبه بالعراق؛ إيذاناً بانتهاء العمليات القتالية الرئيسية ضد داعش في العراق(16)؛ ولا ينفي ذلك وجود خلايا صغيرة لتنظيم “داعش” في بعضِ محافظات العراق؛ كثيرٌ منهم مشخَّصون مطلوبون.
أمَّا في سوريا، فلم يبق لداعش مكان، سوى الصحراء التي يتخفَّى في كهوفها، وبعضٌ من خلاياه النائمة، عقبَ إخلاء عناصره من مخيم اليرموك، وجنوب دمشق، واقتيدَتْ عناصره -حسب تصريحات النظام السوري- إلى سجون الدولة السورية، في حين أعلن مركز المصالحة الروسي، عن مغادرة 2556 عنصراً من داعش مع عوائلهم جنوبَ دمشق، الثامن من مايو 2018، ما يلمحُ بوجودِ صفقةٍ، لمْ تُعلَنْ تفاصيلُها، ولم يُعرَف مصير المقاتلين ولا عوائلهم بصورةٍ كاملةٍ، يوم 20 مايو 2018.
أمَّا مستقبلُ تنظيم “داعش” ومقاتليه، فثمَّةَ احتمالات، تنحصرُ في:
– انتهاء التنظيم بشكلٍ تامٍّ، وهو احتمالٌ ضعيف، فثمَّةَ أعداد خرجتْ من مخيم اليرموك، وجوب دمشق، ولا يزالون موجودين بسوريا، وفي العراق عقب انتهاء عمليات تحرير الموصل.
– عودة التنظيم مجدَّدَاً، بدليل وجود خلايا نائمة، وبقايا قيادات منتشرة، وأعدادٌ منهُ مختبئةٌ في كهوفٍ جُهِّزَتْ بعنايةٍ، لتوفِّرَ عناصر المطاولةِ في الاختباء، في المناطق الصحراوية، وأخرى حدودية بين سوريا والعراق.
– أن يتحوَّلَ إلى دولٍ أخرى بعيدةٍ، يمكن أن تكونَ في أفغانستانَ، بوجودِ طالبان؛ أو أن يُستَدْعَى للشروع بتصفيَةِ قضيَّةٍ ما، في مكانٍ ما.
– أن يتمَّدَّدَ فيظهرُ أماكنَ جديدةٍ، وبثوبٍ جديدٍ في أفريقيا: مثل مصرَ نتيجةَ تضييقها على الحركات الإسلاميِّةِ من جهةٍ، ولقتال القوات المصرية عناصر بيت المقدس، أو أن ينتقلَ، مع بقايا الفصائل المستهدفةِ في ليبيا، إلى أماكنَ وسط أفريقيا، إلى جانبِ وجود بقايا فصيل بوكو حرام، وسواها من العناصر المتشدِّدة.
****

الهوامش:

(*) أستاذ العلوم السياسية.
(1) من المهمِّ التنويهُ إليه: أنَّ القضيَّةَ الكردية، قدْ تأثَّرت بالتحالفات، بمستوييها: المحلِّي، والإقليميِّ، مثلما أثرَّرت القضيَّةُ الكردية نفسها في دفع الفاعلين، للدخول في تحالفاتٍ، ضمَّتهم لأجلِ حلِّ القضيَّةِ تلكَ، ونشأت تلك التحالفات لأَجلها.
(2) تسلسل زمني لأهم الأحداث في العراق: موقع BBC عربي، متاح على الرابط التالي: https://goo.gl/RxcAfu
(3) نفس المصدر السابق.
(4) وممَّا تجدُرُ الإشارةُ إليه في مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يعدُّ مشروعاً، يترجمُ الرؤيةَ الأمريكيةَ حول المنطقة، والذي بدأت بوادر المشروع عقب التفجيرات الإرهابية لبرجي التجارة، في الولايات المتحدة الأمريكية، 2001، وما أعقبها في سنة 2002، من ظهور استراتيجية أمنية أمريكية تعمل على الترويج للديمقراطية، والتصدي لتحديات المنطقة، وبما يربطها باتفاقات التجارة الحرة، بديلاً عن التكامل العربيّ،،، لكنَّ المشروع تشكَّلت ملامحه الأولى سنةَ 2004، عقب احتلال العراق، وما سيكون من تغيير خارطة المنطقة، بما يضمن: صيانة أمن إسرائيل، وتسهيل شنِّ الحرب على الإرهاب، وإنهاءَه.
انظر:
– ملخَّص كتاب: الشرق الأوسط الكبير…دلالاته وإشكالاتُه¸ماجد الكيلاني، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، أبو ظبي، 2007.
– مشروع الشرق الأوسط الكبير،، موقع الجزيرة نت، منشور بتاريخ 10 يناير 2005، متاح على الرابط التالي:
https://goo.gl/RYJ1uG
(5) مصطفى جابر العلواني، إقليم كردستان-ما بعد الاستفتاء-وتحركات حكومة بغداد (المستقبل والمآلات)، مركز رؤيا للبحوث والدراسات،17 /1/2018، متاح على الرابط التالي:
http://ruyaa.cc
(6)المرجع السابق.
(7) مصطفى جابر العلواني، بواعث الدور الإستراتيجي التركي في الشرق الأوسط، بحثٌ ألقي في مؤتمر جامعةِ سيرت بتركيا، 2016، المقدمة ص3.
(8) مع ما شهدته من ضرب المعارضة الإسلامية في حماه، وغيرها في ثمانينيات القرن الماضي.
(9) صنع السلام بعدَ “داعش”، د.عبد العزيز عليوي العيساوي، ورقةٌ بحثيَّةٌ قُدِّمَتْ في ندوةِ: عراق ما بعد داعش، التحديات وآفاق المستقبل، كلية القانون والعلوم السياسية بجامعة الأنبار،
(10) نفس المصدر السابق.
(11) ما هو التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية؟، موقع الجزيرة نت، منشور بتاريخ 6/1/2015، متاح على الرابط الآتي:
https://goo.gl/3uDU5U
(12) اجتماع لعسكرين من العراق وروسيا وسوريا وإيران لمكافحة الإرهاب، روسيا العربية، منشور بتاريخ 19 أبريل 2018، متاح على الرابط التالي: https://goo.gl/UAChX9

(13) المليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا، موقع الجزيرة نت، منشور بتاريخ 6/12/2015، متاح على الرابط التالي:
https://goo.gl/5npWrB
(14) المصدرُ السابقُ نفسُه.
(15) المرجع السابق نفسه.
(16) التحالف ينهي العمليات القتالية ضد داعش في العراق، موقع قناة العربية، منشور بتاريخ 30/4/2018، متاح على الرابط التالي:
https://goo.gl/e25wdH

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى