الانسحاب الأمريكي من أفغانستان: مواقف وتداعيات قطر والسعودية وتركيا

مقدمة (*) :

أدَّت سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية منتصف شهر أغسطس 2021، وفرار الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى طاجيكستان ثم إلى الإمارات العربية المتحدة بعد انهيار الحكومة الأفغانية وانهيار القوات الأمنية الأفغانية ذات التدريب الأمريكي، إلى إرباك المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط شديدة التعقيد أصلًا. فاتَّسمت مشاهد الإجلاء من مطار كابول الدولي بالفوضى مما أدَّى إلى المزيد من حالة الضبابية وعدم اليقين بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانسان، على الرغم من الإعداد لتلك اللحظة والإعلان عنها قبل حدوثها بأشهر، بعد توقيع اتفاق السلام بين حركة طالبان والولايات المتحدة في 29 فبراير 2020 في العاصمة القطرية الدوحة[1].

ومنذ توقيع الاتفاق، أخذت الدول ترتِّب أوضاعها ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، خاصَّةً وأن هذا الانسحاب -وبالطريقة التي تمَّ بها لاحقًا- يدلِّل على فشل الولايات المتحدة في إنجاز انتصار حاسم ضد حركة طالبان على مدى 19 عامًا من القتال العسكري بين الولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة، وبين الحركة المسلحة التي سيطرت على حكم أفغانستان لعدة سنوات سابقة من جهة أخرى. وهو ما يسلط الضوء على محدودية القوة العسكرية والتدخلات القسرية ومدى نجاعتها في تحقيق أهدافها من جانب. ومن جانب آخر، يساهم في تصوير الولايات المتحدة على أنها حليف غير موثوق به، وأنها تتراجع عن الاضطلاع بمسئولياتها العالمية[2]. ومن ثم، أخذت دول المنطقة زمام المبادرة وبدأت حراكًا إقليميًّا يسعى لتغيير خريطة تحالفات الشرق الأوسط بهدف التأقلم مع الوضع الجديد بعد انحسار الدور الأمريكي في المنطقة.

وعليه، يركِّز هذا التقرير على مواقف ومصالح وردود أفعال كل من قطر والسعودية وتركيا على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول.

أولًا- قطر: من الحياد للوساطة للتأثير المباشر

على الرغم من عدم اعتراف دولة قطر بحكومة طالبان إبان سيطرتها على أفغانستان وإعلان الإمارة الإسلامية 1996-2001 أو إقامة علاقات دبلوماسية معها، إلا أنها لم تشارك في الحرب الأمريكية على أفغانستان 2001[3]، ومن جانب آخر فقد احتفظت الدوحة باتصالات مع الحركة خلال تلك الفترة، وقد تزايد أن الدور القطري بالنسبة للأحداث في أفغانستان منذ العام 2013، حيث افتتحت الحركة مكتبًا سياسيًّا لها في الدوحة بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت الدوحة منذ ذلك الحين مقر المفاوضات المباشرة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، وتكلَّلت جهود الدوحة أخيرًا بعد سبع سنوات من المفاوضات بتوقيع اتفاق سلام بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان في 29 فبراير 2020.

وبفضل هذا الدور المحوري الذي استطاع تخليص الولايات المتحدة من أطول حروبها في الخارج، فقد حصلت قطر على موقف دبلوماسي متميز في النظام الدولي عمومًا، وبالنسبة للولايات المتحدة بشكل خاص. حيث أصبحت بذلك أقرب حلفاء الولايات المتحدة علاقةً بطالبان من جهة، وأقرب حلفاء طالبان علاقةً بالولايات المتحدة من جهة أخرى. وبالنظر لقائمة الدول ذات العلاقة مع طالبان (التي تضم قطر وتركيا وروسيا والصين وباكستان)، فقطر هي الحليف الأكثر موثوقية بالنسبة لواشنطن من بين تلك الدول[4].

وعلى الرغم من الدور الذي لعبته قطر في إنجاح تلك المهمة، إلا أنها اتخذت موقفًا معتدلًا إزاء الأحداث في أفغانستان، حيث لم ترحب بسيطرة طالبان على الحكم في منتصف أغسطس، ودعا بيان الخارجية القطرية لوقف فوري وشامل ودائم لإطلاق النار، ودعت لانتقال سلمي للسلطة في أفغانستان يستوعب كافة الأطراف الأفغانية. وعلى الجانب الآخر، فإن قطر ما زالت تحشد الدعم الدولي لحكومة طالبان الجديدة، عبر إبرازها أخطار التهديد الإرهابي الذي قد ينجم من عزل أفغانستان؛ فالمقاربة القطرية في ذلك تقوم على أن الانخراط والتعامل مع الحركة والحكومة الجديدة في أفغانستان سيساعد الأصوات المعتدلة في الحركة “على توفير حافز لتكون أكثر نفوذًا وفعالية في حكومتها”[5].

ويمكن إرجاع عدم الاعتراف القطري بالحكومة الجديدة، على الرغم من استمرار التعاون بينهما، لسببين رئيسين، الأول: هو عدم المبادرة بمثل تلك الخطوة بعيدًا عن التنسيق مع الولايات المتحدة، مثل باقي دول المنطقة. والثاني: هو رغبة صانع القرار القطري في التمهُّل والحكم على طالبان بناء على سلوكها وعلى الوضع على الأرض؛ تجنُّبًا لزيادة الصدْع في المنطقة، حيث تبدو الدوحة أقل اندافعًا في تأييد حركة طالبان ذات الخلفية الإسلامية، بسبب موقفها السابق من القوى الإسلامية إبان ثورات الربيع العربي، وما ترتَّب عليه من توتُّر متكرِّر مع قوى إقليمية، مثل مصر والسعودية والإمارات، التي تنظر بعين العداء لتلك الجماعات[6].

على الجانب الآخر، فإن قطر تعد المستفيد الأكبر من الوضع الحالي لأفغانستان على عدة جوانب:

  • أولها- أن سيطرة الحركة على كابول يساعد الدوحة في استثمار علاقتها السابقة معها منذ 2013 للحصول على نفوذ أكبر في أفغانستان، كما يمكنها من القيام بدور بارز في ملف إعادة إعمار أفغانستان، حيث أتاح فرار الحكومة الأفغانية السابقة الفرصة أمام حركة طالبان لتولِّي إدارة البلاد منفردة بحكم ما تتمتَّع به من قوة على الأرض.
  • وثانيها- أن الدوحة استطاعت أخيرًا جني ثمار طموحها ذي الثلاثة عقود في لعب دور خارجي مستقل عن القطبين الإقليميين: إيران والسعودية[7].
  • وثالثها- زيادة الدور القطري على المستوى الدولي واعتماد الدول الأجنبية على قطر بوصفها وسيطًا موثوقًا فيه. حيث لم ينتهِ الدور القطري عند توقيع اتفاق السلام بين طالبان والولايات المتحدة في فبراير 2020، كما أنه لم يفشل بفشل المفاوضات الأفغانية – الأفغانية عقب سيطرة الحركة على العاصمة، بل ازداد الدور الدبلوماسي للدوحة؛ إذ نقلت عدَّة دول سفاراتها من كابول إلى الدوحة، على رأسها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة[8]. كما شهدت الدوحة في شهر أكتوبر 2021 محادثات بين حكومة طالبان من جهة، وبين دبلوماسيين أمريكيين وممثلين لنحو 10 دول أوروبية والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وهي المحادثات الأولى وجهًا لوجه منذ سيطرة طالبان على العاصمة الأفغانية[9]، فضلًا عن عدة جولات أخرى في الدوحة مع ممثلين عن حكومات الصين وألمانيا وغيرهما.

وليس أدلَّ على المكانة التي حظيت بها قطر على خلفية دورها في إنجاح مفاوضات السلام بين الحركة وواشنطن، ودورها في إجلاء الأجانب والأفغان الفارين بعد سيطرة طالبان على البلاد، وتقديم الرعاية لهم، من زيارة وزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين إلى الدوحة تقديرًا للدور القطري، معربين عن امتنان بلادهما لهذا الدور من جهة، وعن متانة الشراكة بينها وبين قطر من جهة أخرى؛ وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية الأمريكي بقوله: “لن ينسى الرجال والنساء والأطفال الذين مرُّوا من هنا حُسن صنيعكم معهم في لحظة محورية في حياتهم، ولن ننسى ذلك نحن أيضًا”[10].

ومن أجل تحقيق أقصى استفادة قطرية من الوضع الحالي، فإن عليها التأكُّد دائمًا من التزام طالبان بتعهداتها، سواء على الجانب السياسي في إدارة البلاد وتوسيع رقعة المشاركة السياسية لمختلف أطياف المجتمع الأفغاني متعدِّد العرقيات، أو على الجانب الأمني وعدم تمثيل أفغانستان أي تهديد لأي بلد خارجي، سواء للولايات المتحدة أو لجيرانها الإقليميين. أما عن الاعتراف القطري بحكومة طالبان فإنه يظل مرهونًا بالمقاربة الدولية للتعامل مع الحكومة الجديدة في كابول، والذي ينتظر بدوره من طالبان إثبات أنها تتبع نهجًا أكثر انفتاحًا من ذي قبل، واحترامها لحقوق المرأة ولحقوق الأقليات، وأن طالبان 2021 مختلفة عن طالبان 1996، وهو ما يؤكده دائمًا قادة حركة طالبان أنفسهم.

ثانيًا- تركيا: التعاطي مع الأحداث والبحث عن النفوذ

على عكس قطر، شاركت تركيا قوات حلف الناتو في حربها على حركة طالبان 2001، إلا أنها امتنعت عن المشاركة في الحملات العسكرية ضد الحركة، واكتفت بخدمات عسكرية غير قتالية تمثَّلت في الدعم اللوجستي والأمني، مثل تأمين مطار كابول، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والمشاركة في التمويل والتدريب في المدارس العسكرية الأفغانية، كما أنها رعت التواصل السياسي لمختلف العرقيات التركية في أفغانستان[11]، وقدمت مساعدات واستثمارات اقتصادية لتعزيز القطاع الخاص[12]، وهو ما يبرر ما تتمتع به تركيا من سمعة طيبة بين صفوف الشعب الأفغاني، وبعلاقات متوازنة مع حركة طالبان.

وقد انخرطت تركيا بفعالية في النشاط الدبلوماسي في عملية السلام الأفغانية، حيث كان من المقرَّر أن تستضيف مؤتمر سلام أفغاني في أبريل 2021 قبل انتهاء مهلة انسحاب القوات الأمريكية “لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق سلام” بين حكومة كابول وحركة طالبان، وبحضور ممثلين عن كل من روسيا والصين وباكستان وإيران والهند والولايات المتحدة، وذلك بالتنسيق مع الدوحة[13]؛ غير أن رفض حضور طالبان لهذا الاجتماع حال دون انعقاده؛ ما دفع تركيا لاستضافة لقاء افتراضي بين وزراء خارجية كل من تركيا وباكستان وأفغانستان لتأكيد الالتزام بدعم قيام أفغانستان ذات سيادة ومستقلة وديمقراطية وموحدة، وتجديد الدعوة لوقف إطلاق النار الفوري وتوفير المناخ المناسب لمحادثات السلام، وحثَّ حركة طالبان على الالتزام بمصالحة شاملة تتم عبر المفاوضات[14].

وقد اتخذت أنقرة موقفًا إيجابيًّا من حركة طالبان، وبدأت مباشرة في استثمار علاقاتهما الجيدة عبر الانخراط المباشر في محادثات بينهما، فبعد أقل من أسبوعين من سيطرة الحركة على العاصمة، بدأت أنقرة محادثات مباشرة معها حول إدارة مطار كابول، حيث أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده أجرت محادثات مع الحركة استغرقت ثلاث ساعات ونصف، في الجزء العسكري من مطار كابول، حيث تتمركز السفارة التركية في أفغانستان، ويقع الخلاف بين الجانبين في تحمُّل مسئولية تأمين المطار، ففي حين تريد طالبان قصر الدور التركي على الإدارة اللوجستية للمطار، تسعى تركيا أيضًا إدارة تأمين المطار، وهو ما اكتسب أهمية كبيرة للجانب التركي بعد التفجير الذي وقع أمام المطار قرب انتهاء عمليات الإجلاء وأدَّى لوفاة عشرات الأشخاص بينهم جنود أمريكيون[15].

حيث أصرَّت الحركة على خروج كل القوات الأجنبية من كامل الأراضي الأفغانية، كما اعتبرت الحركة أن أي وجود أجنبي هو بمثابة احتلال، ولهذا قوبل الطلب التركي بتأمين المطار بالرفض. ومع ذلك، فإن الحركة تعاطت بإيجابية مع العرض التركي بتقديم المساعدة الفنية. كما طلب المتحدث باسم طالبان محمد نعيم الدعم التركي في عدد من المجالات، مثل إعادة الإعمار، والاقتصاد، والرعاية الصحية، والتعليم[16].

وعقب تشكيل الحكومة الجديدة في أفغانستان، التقى وزير الخارجية التركي نظيره الأفغاني في الحكومة المؤقَّتة في أنقرة منتصف شهر أكتوبر، معربًا عن استعداد بلاده لمساعدة طالبان في تجاوز الأزمة الإنسانية التي تعيشها أفغانستان، وداعيًا المجتمع الدولي إلى “الانخراط” مع حكومة طالبان بهدف حماية الاقتصاد الأفغاني، مؤكِّدًا في نفس الوقت على أنه “يختلف الاعتراف عن الانخراط”، وقد انتهت الزيارة من دون التوصُّل لأي اتفاق فيما يتعلَّق بكيفية إدارة وتشغيل مطار كابول الدولي[17].

تحاول تركيا من هذا التقارب مع حركة طالبان استغلال الوضع الإقليمي الجديد لزيادة نفوذها في محيطها الإقليمي، حيث أفسحت واشنطن المجال أمام تركيا للعب دور أقوى في أفغانستان ما بعد الانسحاب الأمريكي، من خلال دعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاب ألقاه في 14 أبريل 2021 دول المنطقة لـ”بذل المزيد من الجهود لدعم أفغانستان، وخاصة باكستان، وكذلك روسيا والصين والهند وتركيا”[18].

كما أن تركيا تمتلك عدَّة عوامل تمكِّنها من لعب دور في أفغانستان، حيث يمكن لهذا الدور أن يضمن تحقيق مكاسب لكل من تركيا ولحركة طالبان على السواء. فتركيا من جهة هي الدولة المسلمة الوحيدة في حلف شمال الأطلسي، وهي الدولة العضو الوحيدة في الناتو التي لها وجود كبير في أفغانستان، وهو ما يعني أن لها نفوذًا على الجانبين لضمان تحقيق مصالح كافة الأطراف، ويمكن لتركيا حصد الكثير من المميزات والفوائد من دورها في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، مثل[19]:

– تعزيز الدور الأمني ​​التركي: حيث تقدِّم تركيا تدريبًا عسكريًا وصفقات تعاون أمني لعدد متزايد من الدول النامية، فقد استضافت القوات التركية قوات الأمن الأفغانية والصومالية والأذربيجانية والباكستانية والليبية وغيرها من أجل تدريبات بناء القدرات كجزء من مهام الناتو أو خارجها. ومن المرجَّح أن تواصل تركيا تدريباتها مع أفغانستان وتقدِّم فرصًا جديدة للتعاون التقني والعسكري لحكومة طالبان، وهو ما يتماشى مع أهداف الناتو في الحفاظ على أمن واستقرار أفغانستان.

– إدخال شركات تركية إلى أفغانستان ضمن جهود إعادة الإعمار: حيث ستعمل تركيا على توفير فرص بناء واستثمار في أفغانستان من أجل الربح ولإفادة الاقتصاد التركي، خصوصًا مع وجود 76 شركة تركية عاملة في أفغانستان، حقَّقت 701 مشروعًا بقيمة 6.6 مليار دولار أمريكي تقريبًا بين عامي 2003 و 2018[20].

– تحسين مكانة تركيا داخل الناتو: تركيا هي واحدة من دول الناتو القليلة التي ستحتفظ بتمثيل دبلوماسي في أفغانستان، كما أنها على اتصال دائم بالعديد من أصحاب المصلحة لمناقشة التطورات في أفغانستان والمطالبة بالدعم المالي، وهو ما يعني أن أنقرة ستسعى لاستخدام موقعها المتميز في أفغانستان والوصول إليها لتحسين العلاقات مع حلفاء الناتو، ولا سيما الولايات المتحدة، وضمان حصولها على تنازلات من دول الناتو.

أما على المستوى المحلي التركي، فإن تعميق علاقات تركية أفغانية “يُتيح للرئيس أردوغان توسيع رقعة الشطرنج الخاصة بسياسته الخارجية”، وزيادة الدعم الشعبي من القواعد المؤيدة لحزب العدالة والتنمية، خصوًصا أولئك الذين يستحضرون تاريخ تركيا العثماني في علاقاتها مع الدول الإسلامية[21].

وبالنسبة لحركة طالبان، فإن علاقاتها مع تركيا سوف تضمن لها إضفاء الشرعية الدولية على حكومتها وتسهيل وصولها إلى الأنظمة المالية العالمية، بفضل ما تتمتَّع به أنقرة من علاقات دولية جيدة مع دول حلف شمال الأطلسي، والدول الغربية بشكل عام.

وعلى الرغم من الحوافز لدى كلٍّ من تركيا وطالبان لتعزيز العلاقات بينهما، فإن تركيا لم تعترف بعدُ بحركة طالبان، كما أنه توجد عدَّة عوائق تقلِّل من حماسة أنقرة بالترحيب بحركة طالبان، منها: 1) الانغماس التركي في أحداث كل من سوريا وليبيا والحرب الأذرية الأرمينية خصوصًا مع قلة حلفاء أنقرة. 2) التكلفة الدبلوماسية والسياسية المتزايدة على حكومة أردوغان، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات التركية 2023. 3) الانتظار للتعرُّف على سلوك طالبان لتجنُّب أن تكون تركيا دولة راعية لنظام سياسي موسوم بالإرهاب ويتبع سياسة قاسية بناء على فهمه للشريعة. 4) رفض الجمهور التركي الوجود الدائم لقوات بلادهم في أفغانستان؛ ما قد يدفع أنقرة لإعطاء الأولوية للأدوار السياسية والدبلوماسية على حساب الأدوار الأمنية والعسكرية[22].

كل تلك الأسباب تجعل حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا تتحسَّسُ مواضع قدميها في علاقتها مع طالبان، وعدم التسرُّع في الاعتراف بحكومتها الحالية، وهو ما يمكن اعتباره درسًا تعلَّمته أنقرة من مواقفها السابقة إزاء الثورات العربية 2011.

بجانب ما سبق من أسباب تجعل تركيا غير مستعدَّة الآن للاعتراف بحركة طالبان، فإن تعامل حركة طالبان مع العرقيات التركية في أفغانستان سيكون أحد محددات العلاقة بين تركيا وطالبان، حيث عملت تركيا على تنمية علاقاتها مع العرقيات التركية في أفغانستان، وهي عرقيات تاريخيًّا في خصومة ميدانية مع حركة طالبان ذات الغالبية البشتونية[23]. ومن ثم فإن تركيا ترى أن الدفاع عن حقوق تلك العرقيات واجب عليها إذا ما تعرَّضت للخطر من قبل طالبان؛ ولهذا فقد دعت تركيا لإنشاء حكومة أفغانية “تضم جميع الأطراف السياسية والعرقية في البلاد”[24]. من جهة أخرى، فإن تطوير تركيا لعلاقات مع تلك العرقيات بما يهدد سلطة طالبان قد يمثل تهديدًا لعلاقة تركيا بالحركة[25]، خصوصًا في ضوء العلاقات التاريخية بين أنقرة وبين القائد الميداني الأوزبكي عبد الرشيد دوستم[26]. وستسعى تركيا لبناء علاقات متوازنة مع كافة أطياف الشعب الأفغاني حتى لا تضيع فرصة زيادة نفوذها في محيطها الإقليمي بخسارتها علاقتها مع طالبان.

ونظرًا لسيطرة طالبان على الوضع في أفغانستان وتبديد الخطط الأمريكية لإدارة البلاد ما بعد الانسحاب الأمريكي، فإن هذا الوضع يدفع بتركيا للعمل بشكل منفرد للبحث عن نفوذ لها هناك، وهو ما يضعها في منافسة مع دول أخرى لها علاقات طيبة مع طالبان وتسعى للحصول على نفوذ في أفغانستان، وعلى رأس تلك الدول روسيا والصين، وهو ما يزيد من حساسية خيارات صانع القرار التركي في تحديد مساحات التأثير التي يمكن أن تلعب بها تركيا حتى لا تتأثر علاقاتها بموسكو وبيكين. من جهة أخرى، فإن هكذا وضعًا يدفع تركيا للتنسيق مع موسكو على حساب الولايات المتحدة سوف يعزز من علاقة التحالف التي تجمع بين موسكو وأنقرة على مختلف الأصعدة[27]، بعد التنسيق التركي الروسي في روسيا، وشراء تركيا منظومة الصواريخ الروسية إس-400؛ وهو ما يزيد من تآكل دور الولايات المتحدة في المنطقة.

ونظرًا للعلاقات الوثيقة بين قطر وتركيا، والدور القطري البارز في أفغانستان، فقد يساعد ذلك تركيا في تحقيق المزيد من المكاسب وكسب النفوذ في أفغانستان بناء على علاقاتها مع الدوحة، وهو ما قد ظهر في التعاون القطري التركي في تشغيل مطار كابول وإدارته فنِّيًّا عقب الانسحاب الأمريكي. وعلى الرغم من البحث القطري والتركي عن النفوذ في أفغانستان، فسوف يتم ذلك من خلال التنسيق والتعاون بين البلدين، وليس من خلال المنافسة بينهما، فهما دولتان متحالفتان في الكثير من قضايا الشرق الأوسط، وفي نفس الوقت تجمعهما علاقات طيبة مع الولايات المتحدة والعواصم الغربية بشكل عام.

ثالثًا- السعودية: بين التحديث السياسي والخطر الإيراني

على عكس كل من قطر وتركيا، كانت المملكة العربية السعودية، بجانب الإمارات العربية المتحدة وباكستان فقط، معترفة بحكومة طالبان خلال فترة إمارة أفغانستان الإسلامية (1996-2001)، بل إن المملكة مثَّلت داعمًا رئيسيًّا لحركة طالبان بوساطة باكستانية، خصوصًا بالدعم المالي، وقد كان ذلك بفضل الدور السعودي التقليدي في رعاية الإسلام السني من جهة، ولما تمثله الحركة من ثقل سني يحول دون هيمنة جارتها إيران الشيعية من جهة أخرى، والذي مثَّل هدفًا مشتركًا لكلٍّ من السعودية والولايات المتحدة آنذاك[28]. غير أن هذا الدعم كان دعمًا براجماتيًّا وبدرجة أقل حماسة أيديولوجية من الدعم السعودي للمجاهدين في ثمانينيات القرن الماضي، حيث مثلت طالبان بالنسبة للسعودية الفصيل الأكثر قدرة على حفظ استقرار أفغانستان[29]. مع ذلك، فلم يكن ثمة تطابق فكري بين الإمارة الإسلامية والرياض، وهو ما أدَّى لطلب المملكة العربية السعودية من القائم بأعمال طالبان مغادرة المملكة في العام 1998، وذلك بعد أن رفضت طالبان تسليم أسامة بن لادن للرياض، وذلك قبل أن تسحب المملكة اعترافها بحكومة طالبان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وبدء الحرب الأمريكية عليها.

غير أن تلك العلاقة “الباردة” التي جمعت حركة طالبان بالرياض لم تعد موجودة حاليًّا، بسبب التطورات السياسية التي شهدتها المملكة العربية السعودية، ممثلة في دور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في إعادة المملكة إلى “الإسلام المنفتح والمعتدل” والبعد عن دعم الحركات الإسلامية الأصولية (وهو ما يعد أحد الركائز التي تعتمد عليها الرياض في نيل ثقة المجتمع الدولي من أجل تحقيق هدفها في بناء مشاريع اقتصادية متنوعة ومستدامة)، فمع بداية الرحيل الأمريكي عن أفغانستان، لم تُبْدِ الرياض أي اهتمام بالتطورات في أفغانستان[30].

وبعد سيطرة الحركة على كابول، أصدرت الحكومة السعودية بيانًا عبَّرت فيه عن متابعة التطورات في أفغانستان الشقيقة، كما دعت حركةَ طالبان إلى حفظ الأمن والأرواح والاستقرار انطلاقًا من “المبادئ الإسلامية السمحة، وعملًا بقول الله تعالى: “إنما المؤمنون إخوة”[31]. كما أعلنت السعودية في ذات اليوم سحب بعثتها الدبلوماسية من كابول وإعادة طاقم البعثة إلى السعودية، بسبب الاضطرابات الأمنية الناتجة عن انسحاب قوات الأمن (دون إعلان قطع للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين)، لتعيد في 30 نوفمبر افتتاح القسم القنصلي في السفارة؛ “انطلاقًا من حرص حكومة المملكة العربية السعودية على تقديم كافة الخدمات القنصلية للشعب الأفغاني”[32]. وبعد أقل من شهرين من سيطرة طالبان على كابول، سمحت المملكة العربية السعودية لشركة الخطوط الجوية الوطنية الأفغانية بتسيير رحلات استثنائية من المملكة إلى العاصمة الأفغانية، بداية من السابع من أكتوبر 2021[33].

وعقب تشكيل طالبان حكومتها المؤقتة، أبدت السعودية تفاؤلها[34] بتشكيل الحكومة الأفغانية على لسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان، حيث عبر عن أمله في أن يكون تشكيل الحكومة خطوة للاستقرار ونبذ العنف والتطرف، مؤكدًا على “دعم المملكة للشعب الأفغاني والخيارات التي يتخذها فيما يتعلق بمستقبل بلادهم، بعيدا عن التدخل الخارجي”[35].

وعلى الرغم من تلك الإيجابية في التعاطي السعودي مع حركة طالبان، فإن الحركة لم توجِّه دعوة إلى السعودية لحضور مراسم تنصيب الحكومة الجديدة المؤقَّتة، في حين دعت الحركة كلًّا من روسيا والصين وقطر وتركيا وباكستان وإيران[36]. وهو ما يعني أن الحركة نفسها أقل حماسة في التعامل مع السعودية، ولا تعوِّل عليها كثيرًا في المرحلة المقبلة بسبب تحديثات ولي العهد السعودي وموقف المملكة من الحركات الإسلامية بشكل عام.

من جهة أخرى، فإن الرياض لا تريد توريط نفسها في مأزق إقليمي جديد والتعامل مع طالبان دون التعرُّف على حقيقة سلوكها، فهي أصلًا مثقلة بالمشاكل الإقليمية، سواء في اليمن، أو سوريا، أو لبنان، فضلًا عمَّا تعانيه السعودية من تحديات داخلية أبرزها الوضع المالي غير الجيد بسبب تقلب أسعار النفط بعد جائحة كورونا[37].

ويمكن القول إن السعودية تتعاطى بـ”إيجابية حذرة” مع حركة طالبان، ويمكن إرجاع هذه الإيجابية إلى أجندة الجهاز البيروقراطي السعودي الذي يميل للانخراط في ملفات الدول الإسلامية بسبب وجود الحرمين الشريفين بالسعودية وما يحمله ذلك من رمزية دينية، وعدم إتاحة الفرصة لإيران لملء الفرغ السعودي في أفغانستان. وذلك على الرغم من توجُّهات ولي العهد السعودي البعيدة عن التعامل مع الحركات الإسلامية، وهو ما يبرِّر إصدار البيانات الرسمية على مستوى وزارة الخارجية السعودية من دون أي إعلان من العاهل السعودي أو ولي عهده، اللهم إلا بيان من ولي العهد عقب اتصال هاتفي بينه وبين رئيس وزراء باكستان في 5 سبتمبر، بحثا خلاله التطورات في أفغانستان[38].

وتعدُّ السعودية هي أكثر الدول تضرُّرًا وحيرة من الوضع الجديد في أفغانستان والانسحاب الأمريكي، فعلى الرغم من العلاقات التاريخية بين السعودية وطالبان، إلَّا أن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان بهذا الشكل يمثل مصدر قلق للرياض، فليس من مصلحتها -كباقي عواصم الخليج- تقويض السلطة الأمريكية في المنطقة، خصوصًا مع جهود إدارة بايدن إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، حيث يمكن لهذا الوضع أن يزيد من ثقة طهران ويقوي موقفها التفاوضي بناء على إيمانها بقدرتها على انتزاع أكبر قدر من التنازلات الأمريكية في المفاوضات مثلما فعلت طالبان في مفاوضاتها في الدوحة[39].

وفي الوقت الذي تتعارض فيه أفكار وتوجهات كل من الرياض وطالبان على الكثير من الأصعدة وفي مختلف المجالات، ليس أقلها الاجتماعية والسياسية والدينية، فعلى السعودية أن تتفاعل مع حركة طالبان بطابع برجماتي بعيدًا عن الدوافع الأيديولوجية، حيث يضمن هذا التفاعل تحقيق مجموعة من الأهداف للرياض، مثل مواجهة النفوذ الإيراني في أفغانستان -خصوصًا مع محاولات إحياء الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة واحتمال رفع العقوبات عن طهران-، ومزاحمة قطر في دورها في أفغانستان، وتعزيز العلاقة الخاصة مع باكستان والحفاظ عليها[40]. وفي نفس الوقت، فإن الحذر السعودي في التعامل مع طالبان سوف يشجع على مزيد من التعاون بين إيران وطالبان، وهو ما يمثل تهديدًا إيرانيًّا -آخر- للسعودية في محيطها الإقليمي، ولمنطقة نفوذ محتملة، فضلًا عن العلاقات التاريخية بين الرياض وطالبان، خصوصًا مع وجود علاقات أمنية سرية إيرانية مع طالبان منذ عام 2015، واستضافة إيران لمحادثات بين حكومة كابول وبين طالبان في 2018[41].

ويبدو أن السعودية أدركت ذلك التعقيد مبكرًا، حيث أعلنت وكالة أنباء رويترز عن احتمال إجراء لقاء بين الأمير محمد بن سلمان وبين ممثلين عن حركة طالبان الأفغانية على هامش زيارة ولي العهد السعودي لباكستان في فبراير 2019، وهو ما لم يرد بشأنه إثبات أو نفي من الرياض أو إسلام آباد آنذاك (وإلى الآن)، ووفقًا لرويترز، فإن اللقاء يأتي بدعوة سعودية، حيث صرح أحد قادة طالبان لرويترز بـ”أنه لم يتم اتخاذ قرار حول ما إذا كانوا سيلتقون بولي العهد السعودي”[42].

وهكذا، فعلى صانع القرار السعودي الإسراع في مقاربته في التعاطي مع حركة طالبان، والاختيار بين التعامل مع حركة إسلامية تجمع السياسي والعسكري، أو بين ترك أفغانستان مفتوحة للنفوذ الإيراني، لتنضمَّ بذلك كابول لقائمة عواصم الشرق الأوسط الحليفة لطهران، وذلك على الرعم من الاختلاف العقيدي والسياسي بين حركة طالبان وإيران، فإن التعويل على ذلك الاختلاف لا يضمن شيئًا في عالم السياسة الذي تحكمه المصلحة والبرجماتية، وهو ما أثبتت حركة طالبان الاستجابة له من خلال علاقاتها مع موسكو وبيكين.

ويزداد الوضع ضبابية بالنسبة للسعودية بعد الانسحاب الأمريكي في افتقادها القدرة على الاعتماد على واشنطن في تزويد المملكة بما تريده من معلومات حول أنشطة طالبان، وهو ما دفع في صالح العلاقات الروسية السعودية، حيث التقى نائب وزير الدفاع السعودي مع نظيره الروسي لتوقيع اتفاقية تعاون عسكري بعد شهر من سيطرة طالبان، حيث يمكن استثمار تلك العلاقات بين البلدين لصالح المملكة، من خلال تزويد موسكو الرياضَ بمعلومات استخباراتية عن نشاط طالبان على الأرض بسبب علاقة روسيا الطيبة مع الحركة. كما تسعى الرياض لاستثمار علاقتها مع إسلام آباد (والضغط عليها أحيانا) في التواصل مع حركة طالبان والتعرُّف على أنشطتها، ومع ذلك كله، فإن هذا التقارب تقارب برجماتي في الأساس، حيث افتقدت واشنطن قدرتها الاستخباراتية مقارنة بروسيا وباكستان[43].

سيطرة طالبان والهاجس الأمني

بجانب ما سبق من نتائج ومصالح للدول -محل الدراسة- إزاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة طالبان عليها، يعدُّ الهاجس الأمني هو المحدِّد الأول لتصرُّفات دول المنطقة ولرسم خريطة تحالفاتها، فالتنسيق الأمني بين دول منطقة الشرق الأوسط اليوم هو الحافز الأكبر وراء تغيُّر خريطة الأحلاف في المنطقة، حيث شهد عام 2021 مجموعة من المصالحات والصفقات التي “سترسخ النظرة الأمنية المشتركة من دون أن تنهي المنافسة السياسية والاقتصادية” بين دول المنطقة، والهدف الأخير من هذا التنسيق الأمني هو منع أي ميليشيات من أن تحذو حذو طالبان، وتعلن في رغبتها الصعود السياسي خليجيًّا وإقليميًّا[44]. ومن ضمن تلك الصفقات اتفاق العلا الموقع بين الدول الخليجية ويُنهي حالة المقاطعة الخليجية المصرية لدولة قطر، أو الجولة التي قام بها الشيخ طحنون بن زايد، مستشار الأمن القومي الإماراتي، والتي التقى خلالها الأمير القطري في الدوحة، والرئيس التركي في أنقرة، بجانب الرئيسين المصري في القاهرة، والأردني في عمّان. وصولًا لتطبيع العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي بزيارة ولي عهد أبو ظبي لأنقرة ولقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والإعلان عن إنشاء صندوق استثمارات إماراتي بقيمة عشرة مليارات دولار لدعم الاقتصاد التركي، وتأكيد الرئيس أردوغان نية بلاده التقارب مع مصر والسعودية على غرار تقاربها مع الإمارات.

وعلى الرغم من عدم وجود حواضن شعبية لحركة طالبان خارج حدود أفغانستان، إلا أن نجاحها في بسط سيطرتها على أفغانستان قد يداعب خيال حركات مسلحة في منطقة الشرق الأوسط، مثل داعش وجيوبها المنتشرة في المنطقة من جهة، أو يعيد إحياء حلم الثورات العربية من جهة أخرى بعدما فشل في كل الدول العربية تقريبًا، من باب أن التغيير أمر ممكن! هذا فضلًا عن “ضبابية الدور” الذي من المفترض أن تضلع به حركة طالبان في مكافحة التهديدات الأمنية لأمن الولايات المتحدة وحلفائها[45]. كل تلك العوامل دفعت الدول إلى الحفاظ على أمنها ومواجهة أي تهديد محتمل بالاعتماد على ذاتها بعيدًا عن الولايات المتحدة التي نفضت يدها من المنطقة، وأدارت وجهها للصعود الصيني على حساب أمن حلفائها في الشرق الأوسط.

خاتمة:

حاولت تلك الورقة رسم صورة عن مواقف كل من قطر والسعودية وتركيا حول الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على مقاليد الحكم للمرة الثانية بعد 20 عامًا من عزلها القسري بسبب الحرب الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر. وعلى الرغم من التقارب القطري والتركي تجاه طالبان مقارنة بالموقف السعودي منها، يظل الغموض وعدم اليقين ممثليْن للحالة العامة التي تسيطر على صنَّاع السياسة الخارجية في الدول الثلاث، بل في مختلف دول العالم. إذ لم تقم أي دولة حتى الآن بالاعتراف بحكومة طالبان بشكل رسمي، وهو الأمر الذي سوف يتوقَّف على المقاربة الدولية للتعاطي مع حركة طالبان، ومواقف الدول الكبرى من الوضع الأفغاني الجديد، وهي تنتظر مراقبة سلوك طالبان في الحكم، ومدى المرونة التي سوف تظهرها الحركة من جهة، وضمان الإجابة على تخوفات المجتمع الدولي من جهة أخرى.

وبافتراض عدم حدوث تغيرات دراماتيكية في أوضاع أفغانستان والشرق الأوسط، فإنه توجد الكثير من العوامل التي تدفع دول الخليج لتكون أول الدول العربية تطبيعًا للعلاقات مع حركة طالبان بوصفها حاكمة أفغانستان، ومن تلك العوامل: القرب الجغرافي بين دول الخليج وبين أفغانستان، بالإضافة لوجود علاقات تجارية واجتماعية تاريخية مع أفغانستان، يمكن تلمُّسها في إقامة نحو 150 ألف أفغاني في دول الخليج، بالإضافة إلى اعتماد أفغانستان على مطارات وموانئ ومصارف دول الخليج للتواصل مع العالم الخارجي[46].

لقد استطاعت قطر حصد الكثير من الإيجابيات بفضل ما قامت به من وساطة بين طالبان والولايات المتحدة، وما أظهرته من قدرة على تسيير وتيسير المفاوضات بشكل مهني وجاد، ما جعلها محط أنظار العالم، والبوابة الأكثر فعالية للولوج إلى أفغانستان. كما فتح الانسحاب الأمريكي الكثير من الفرص أمام أنقرة للعب دور فعَّال في أفغانستان، مستفيدة من علاقاتها مع دول حلف الناتو من جهة، وعلاقاتها التاريخية مع طالبان من جهة ثانية، ورعايتها للعرقيات التركية في أفغانستان من جهة ثالثة، وعلاقاتها مع كل من روسيا والصين أيضًا من جهة رابعة. وأخيرًا، تعد السعودية هي الدولة الأكثر حيرة في التعامل مع الملف الأفغاني، فبعد استثمار الكثير من الوقت والجهد في نبْذ حركات الإسلام السياسي والتحديث الاجتماعي والسياسي الذي يقوم به ولي العهد، وجدت الرياض نفسها فجأة أمام إحدى خيارين أحلاهما مُر: إما التعامل مع حركة طالبان بشكل برجماتي لضمان النفوذ السعودي في أفغانستان، أو إفساح المجال أمام طهران لضم كابول لحظيرتها.

على مستوى الإقليم، فقد أدَّى انسحاب الولايات المتحدة بهذا الشكل الفوضوي من مطار كابول إلى دفع دول الشرق الأوسط للاعتماد على ذاتها في حماية أمنها واستقرارها، وتجاوز خلافاتها البينية، أو على الأقل تحييد السياسي منها، من أجل تأمين الهاجس الأمني الذي يمثل التهديد الأكبر أمام تلك الدول، حيث يتم ترتيب الأوضاع لما بعد الخروج الأمريكي من الشرق الأوسط.

====================

الهوامش

(*)  يتقدم الباحث بالشكر والعرفان للزميل أحمد سعيد الخليفة على ما قدمه من عون وما بذله من مجهود في جمع الكثير من المادة الأولية لهذا التقرير

[1] للمزيد حول الاتفاق وبنوده الرئيسية، انظر: واشنطن وطالبان توقعان اتفاقا تاريخيًّا في الدوحة، DW، 29 فبراير 2020، تاريخ الاطلاع: 2 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://p.dw.com/p/3Yea9

[2] Ari Heistein and Others, A Deal with the Devil? Terms, Implications, and Risks of the US-Taliban Accord, INSS Insights, Institute for National Security Studies, No. 1270, 8 March 2020, p. 3.

[3] أرسلت الإمارات العربية المتحدة فرقة عسكرية تحت رعاية بعثة الناتو التابعة للقوة الدولية للمساعدة الأمنية، وشاركت في مهام التدريب والدعم، وبعض المهام القتالية خلال الفترة 2003-2014، أثناء التدخل العسكري الغربي في أفغانستان.

[4] Kirsten Fontenrose, What the Arab Gulf is thinking after the Afghanistan withdrawal, Atlantic Council, 23 September 2021, Accessed: 2 November 2021, available at:  https://bit.ly/3GhzIlx

[5] Ibid.

[6] توم بيتمان، أفغانستان: قطر وتركيا تمثلان حبل نجاة لحركة طالبان وحلقة وصل لها بالعالم الخارجي، بي بي سي عربي، 2 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 2 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/3lmmcEZ

[7] المرجع السابق.

[8] دول أجنبية تنقل سفاراتها من كابول إلى الدوحة، العربي الجديد، 1 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 2 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/31BHqHR

[9] أميركا تتحدث عن “مناقشات مثمرة” مع طالبان بالدوحة وقمة الـ20 تتعهد بمساعدات إنسانية، الجزيرة، 13 أكتوبر 2021، تاريخ الاطلاع: 2 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3dq5yjE

[10] Secretary Antony J. Blinken and Secretary of Defense Lloyd J. Austin, Qatari Deputy Prime Minister and Foreign Minister Mohammed bin Abdulrahman Al Thani, and Qatari Deputy Prime Minister and Defense Minister Dr. Khalid bin Mohammed Al Attiyah at a Joint Press Availability, US Department of State, 7 September 2021, Accessed: 5 November 2021, available at: https://bit.ly/3xWWoo4

[11] مثل الأوزبك والهزارة والتركمان. للمزيد حول التركيبة السكانية في أفغانستان، انظر: أفغانستان: ما التركيبة القومية والدينية لهذا البلد الذي لم يعرف الاستقرار منذ نصف قرن؟، بي بي سي عربي، 27 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 2 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/3xXbTw9

[12] Ezgi Yazici and Others, Turkey Aims to Play Stabilizing Role in Afghanistan after NATO Withdrawal, Institute for The Study of War, 3 September 2021, Accessed on: 9 November 2021, available at: https://bit.ly/3IyAj43

[13] تركيا تعتزم استضافة مؤتمر سلام أفغاني في أبريل، العربية.نت، 12 مارس 2021، تاريخ الدخول: 10 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://ara.tv/jfxyf

[14] تركيا وباكستان وأفغانستان تدعو “طالبان” للالتزام بمصالحة شاملة، وكالة الأناضول، 23 إبريل 2021، تاريخ الاطلاع: 10 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3lfxFpL

[15] تركيا تجري أول محادثات مع طالبان.. وأردوغان يكشف التفاصيل، سكاي نيوز عربية، 27 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 10 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3pesuI6

[16] زاهر البيك، تركيا وطالبان.. ما نقاط الاختلاف والالتقاء؟، الجزيرة، 14 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 18 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/31wtor6

[17] تركيا مستعدّة لمساعدة «طالبان» دون اعتراف بحكمها، جريدة الشرق الأوسط، 14 أكتوبر 2021، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3rqlH0K

[18] Remarks by President Biden on the Way Forward in Afghanistan, The White House, 14 April 2021, Accessed: 18 November 2021,  available at: https://bit.ly/3nZ7gyh

[19] Ezgi Yazici and Others, Turkey Aims to Play Stabilizing Role in Afghanistan after NATO Withdrawal, Op. cit., p. 2.

[20] توم بيتمان، أفغانستان: قطر وتركيا تمثلان حبل نجاة لحركة طالبان، مرجع سابق.

[21] المرجع السابق.

[22] Iain Macgillivray, Turbulence, the Taliban, and Turkey’s role in Afghanistan’s future, The Interpreter – Lowy Institute, 6 September 2021, Accessed: 18 November 2021, available at: https://bit.ly/3pfOXEx

[23] للمزيد حول علاقة المجموعات الإثنية في أفغانستان بطالبان، انظر: من البشتون إلى الهزارة.. عرقيات أفغانية في قلب السياسة والصراع، موقع الحرة، 23 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 3 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://arbne.ws/3lElNOj

[24] سعيد الحاج، تركيا وطالبان.. نقاط الخلاف ومسارات الالتقاء، عربي21، 30 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3ll9tmc

[25] Ezgi Yazici and Others, Turkey Aims to Play Stabilizing Role in Afghanistan after NATO Withdrawal, Op. cit., p. 3.

[26] يعد عبد الرشيد دوستم أحد أمراء الحرب في أفغانستان، وأحد الخصوم الميدانيين لحركة طالبان منذ الحرب الأهلية في التسعينيات قبل سيطرة الحركة على البلاد، وبعد الحرب الأمريكية على الحركة 2001. وقد زار دوستم تركيا مرارًا وتكرارًا. وقد التقى في أبريل 2021 بالرئيس التركي رجب طيب أرودغان، انظر: الرئيس أردوغان يلتقي “دوستم” في إسطنبول، وكالة أنباء الأناضول، 24 إبريل 2021، تاريخ الدخول: 3 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3DwErh7

[27] Joe Macaron, What will the Taliban takeover mean for the Middle East?, Aljazeera, 19 August 2021, Accessed: 18 November 2021, https://bit.ly/32LQ3Ar

[28] Fayaz Hussain, Implications of the Enigmatic Rise of Taliban: A Historical Perspective, Global Regional Review, Vol. 6, No. 1, Winter 2021, p. 231.

[29] Thomas Hegghammer, Small and Middle Powers: Gulf States, (in): David G. Lewis and Aniseh Bassiri Tabrizi (ed.), Regional Powers and Post-NATO Afghanistan, (Rome: NATO Defense College, No. 20, June 2021), p. 57.

[30] Vaishali Basu Sharma, As Change Continues in Afghanistan, Middle Eastern Nations Aim for Diplomatic Edge, The Wire, 8 August 2021, Accessed: 19 November 2021, available at:  https://bit.ly/3I5077S

[31] بيان وزارة الخارجية السعودية، تويتر، 16 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 20 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3dyp2mg

[32] الخارجية السعودية تعيد افتتاح القسم القنصلي بسفارتها في كابول، العربية.نت، 30 نوفمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 1 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://ara.tv/v2xxy

[33] الإعلان عن أول رحلة طيران من السعودية إلى أفغانستان منذ استيلاء “طالبان” على الحكم، روسيا اليوم، 2 أكتوبر 2021، تاريخ الاطلاع: 22 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3pFBl5V

[34] وتتضح إيجابية الموقف السعودي عند مقارنته بالموقف الإماراتي إزاء حكومة طالبان، ففي حين وصفت الصحف السعودية حكومة طالبان الجديدة بأنها “أكثر مرونة وبراغماتية من السابق” وأن الحركة تتبنى “خطابًا سياسيًّا معتدلًا”، (انظر: الملالي وطالبان.. تاريخ متقلب ومستقبل ملغوم، جريدة الرياض، 9سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 2 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3onerR9)، وصفت جريدة الخليج الإماراتية الحكومة الأفغانية الجديدة بـالـ”بتراء غير المكتملة”، وأنها حكومة اللون الواحد: لون حركة طالبان. (انظر: حكومة «طالبان» الأولى، جريدة الخليج، 9 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 2 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3InMVe8).

[35] السعودية: نأمل في أن تسهم حكومة أفغانستان الجديدة في تحقيق الاستقرار، روسيا اليوم، 8 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 20 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3G02Eyg

[36] طالبان تكشف عن الدول التي دعتها لحضور تنصيب الحكومة الجديدة لأفغانستان، روسيا اليوم، 8 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 23 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/315btbj

[37] الملعب الأفغاني” ـ ساحة تنافس محتملة بين قطر والسعودية؟، DW، 27 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 23 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://p.dw.com/p/3zWtH

[38] ولي العهد ورئيس الوزراء الباكستاني يستعرضان هاتفيًّا العلاقات الثنائية وتطورات الأحداث في أفغانستان، جريدة مكة المكرمة، 5 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 1 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3rG4bWe

[39] Tony Walker, As Afghanistan falls, what does it mean for the Middle East?, The Conversation, 16 August 2021, Accessed: 22 November 2021,available at: https://bit.ly/317HW0G

[40] Thomas Hegghammer, Small and Middle Powers: Gulf States, Op. cit., p. 59.

[41] Sabena Siddiqui, Saudi Arabia seeks low key influence in Afghanistan, Al-Monitor.com, 14 September 2021, Accessed: 23 November 2021, available at: https://bit.ly/3G4M5kK

[42] مصادر: طالبان الأفغانية ستلتقي على الأرجح بولي العهد السعودي في باكستان، رويترز، 16 فبراير 2019، تاريخ الاطلاع: 22 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://reut.rs/3oj10lm

[43] Kirsten Fontenrose, Op. cit.

[44] جويس كرم، موسم الصفقات الإقليمية بعد أفغانستان، موقع الحرة، 3 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 23 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://arbne.ws/3FMBN8K

[45] Ari Heistein and Others, Op. cit., p. 2.

[46] محللون: الدول العربية “تنتظر وتراقب” أداء طالبان قبل قرار الاعتراف بها، موقع الحرة، 20 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 25 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://arbne.ws/3Emn1oH

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى