الأمن القاتل والأمن الفاعل
الأمن حقيقة موضوعية، وقد يتوهم الإنسان الأمن. الشعور بالأمن حقيقة ذاتية، فإذا لم ينطبق الشعور بالأمن مع أمن حقيقي موضوعي، فإن ضرر هذا الشعور يكون غالبًا أكبر من الشعور بعدم الأمن. في عالم السياسة، وبالأخص السياسة العالمية، ينبغي العمل بمبدأ “الحذر”. وفي القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ …..﴾ ..﴿خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾…﴿ وَاحْذَرُواْ ﴾. ويجب الحذر من الوقوع في حال (الغفلة)، والانخداع بمظاهر أمن غير حقيقية، ويجب الحذر من التراخي في ذلك. النفس تميل إلى الشعور بالأمن، من أجل الشعور بالراحة، وبالسلام النفسي، والتمتع باللحظات. فالشعور بعدم الأمن مرهق. ومن ثم يلزم في التنشئة السياسية أن يكون جزءًا أساسيًّا فيها: التربية على الحذر، وعلى عدم التخدُّر بشعور بالأمن الذي لا ينبني على حقائق موضوعية.
الأمن القاتل:
(من مأمنه يؤتي الحذِر)، فكيف بالغافل المتغافل؟ وكيف بالأبله المنخدع؟
الحذر ينفع في وقتي الأمن والخطر؛ ولا يقال هنا: (لا يغني حذَرٌ من قدَر)، فنحن لا نتكلم في القدر، إنما في الخطر المحدِّق بالجماعة السياسية في ظل عالم قائم على الصراع والعدوان، وتكوينات فكرية وسياسية إجرامية معلنة الإجرام؛ وإن كانت تتحلى خطابيا بعبارات مثل: المصالح، الدفاع عن النفس، الاستراتيجيات العالمية…إلخ، فما هذه المصالح إلا أهداف أنانية عدوانية.
وبناء عليه، فإن كثيرًا من سياساتنا (الظاهرة، والمستمرة) قد تدخل في عداد (الأمن القاتل)، خاصة مع عدم التحسب للمستقبل وتهديداته ومخاطره.
إن انقلاب الإقليم إلى ساحة حرب أمر محتمل الآن، ودخول العالم وقواه الكبرى في حرب كبرى أيضا أمر محتمل عما قريب، أو على الأقل ليس ببعيد. فماذا أعددنا لذلك؟ ليس على المستوى العسكري والأمني (المضيق) فقط، فهذا كثيرًا ما يُغلق دوننا ويقال إنه أسرار ولا يصح التصريح بها، و”كله تمام يا أفندم”، وكل شيء على ما يرام، حتى نصطدم بنكبة أو نكسة أو كارثة. إنما المقصود (الأمن الاستراتيجي) ومن حوله (الأمن الإنساني والحضاري)؛ الأمن الذي فاعله الأساس هو الشعوب؛ برعاية وحماية وحفز من الدول والحكومات، فيما يجب أن يكون.
أين هذا الأمن؟ وأين نحن منه؟ أين نحن من تصوره؟ ومن تخطيطه؟ ومن تمكينه وحفزه؟ ومن تفعيله وحمايته؟ .. إن ما أشعر بعدم الأمان تجاهه، هو حال الشعور بالأمن غير الموضوعي، أشعر أنه من نوع (الأمن القاتل)، فلنُفــق… ولنستيقظ!!
الأمن الفاعل:
في المقابل، يعتمد مفهوم الأمن الفاعل على عدة مبادئ:
- المبدأ الفكري: الأمن عبر التفكير والتخطيط الاستراتيجي؛ لتحديد التهديدات الكبيرة الحاضرة والمستقبلية، وكيفية مواجهتها بخطة طويلة المدى تحقق مزيدا من ضمانات الأمن تدريجيا وبشكل متراكم، خطة تمنع تزايد التهديدات أو ظهور تهديدات جديدة. وأهم ما في ذلك تحضير الأدوات والوسائل التي تحقق الأمن من الأخطار الاستراتيجية. وهذا يرتبط بالمبدأ الثاني.
- المبدأ التخطيطي الواقعي: بالوصل المستمر بين الواقع والمتوقع، والتفكير فيما يجب عمله. ويعتمد هذا المبدأ على تحليل مستمر للواقع من منظور “الأمن-عدم الأمن”؛ وتوقع امتدادات وتداعيات هذا الواقع ومآلاته المستقبلية من المنظور ذاته؛ ومن ثم رسم خريطة الواقع الأمني ومستقبله، رسما دقيقا ومتجددا، وعلى أن يطور باستمرار رصد تطورات الواقع ورسم اتجاهاتها. ومن ثم يأتي البحث عن العمل المكافئ، وهذا يرتبط بالمبدأ الثالث.
- المبدأ العملي الدائب المتقدم: ويعني الانتقال المستمر والمتصاعد من رصد التحديات إلى تعظيم القدرة على مواجهتها؛ وتفعيل هذه القدرة بالقضاء المستمر على التحديات: تحديا تحديا، ومواجهة التهديدات: تهديدا تهديدا. وفي هذا الإطار تتعدد القدرات والمهارات العملية التي ينبغي أن يتحلى بها المدير الاستراتيجي للأمن القومي وغيره.
هذه المبادئ الأولية يعمل بها كل جاد عبر العالم، ولا يغفل عنها أو يغفلها إلا المضيعون لأممهم وأوطانهم. يجب أن تتضامن الجهود لحفظ وتعظيم “الأمن الفاعل”، وضمان أن مقتضياته السياسية والثقافية والإدارية والمالية والفنية متوفرة.
وإذا كانت بعض مساحات التخطيط والتفعيل في هذا الصدد سرية وغير معلنة بطبيعتها، فإن أطرها والكثير من مساحاتها مما يجب إعلانه والمشاركة العامة فيه، وعلى هذا تمضي الأمم العاقلة والدول العادلة والإدارات الناجحة.
وفي إطار الوضع القائم، فإن مجالا واسعا ينبغي أن يُفتح لبناء تصور أوسع عن الأمن الاستراتيجي الفاعل؛ ومن منظور استراتيجي حضاري؛ بحيث تُحدد وتُجدد فيه خريطة التهديدات الاستراتيجية والقريبة، ووضع تصورات واسعة، وأخرى محددة، للمواجهة الاستراتيجية والمواجهة المباشرة. وبالطبع لا يمكن ذلك إلا مع تصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع. وهذا ممكن ويمكن تيسيره بطرق مختلفة؛ إذا صلحت الإرادة، وصدقت النيات، والله يتولانا.