إدارة ترامب الثانية وجديد السياسة الأمريكية تجاه الطوفان والعدوان

مقدمة:
في ظل العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة جاء تنصيب دونالد ترامب ليعود مرةً ثانية لتولي منصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، حاملًا معه الكثير من الوعود والتهديدات لغزة ولطوفانها الجاري؛ وذلك بالسلام المزعوم من ناحية ومن ناحيةٍ أخرى بالتهجير القسري وبفتح أبواب الجحيم عليها -على حد تعبيره. فقد أتى دونالد ترامب مقدمًا نفسه مجددًا على الساحة السياسية بشخصية “الرجل القوي”، مستثمرًا في الصراع القائم لتأكيد حضوره السياسي من خلال وعود بالقضاء على “الإرهاب”، ودعم إسرائيل بلا قيدٍ أو شرط في حربها على غزة، مستهدفًا من وراء ذلك صورة الزعيم الحازم الذي لا يتهاون في حماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وفي الوقت نفسه، فإن الحسابات الاقتصادية حاضرة بقوة في سياسته ونهجه، فهو يسعى لجذب استثمارات خليجية ضخمة تصل إلى تريليونات الدولارات، مع الحرص على فصل ملف التطبيع العربي مع إسرائيل عن القضية الفلسطينية، في ظل سياسة تتعامل مع المنطقة كشبكة من الصفقات والمصالح لا كمنظومة متكاملة ذات بعد أخلاقي أو حقوقي، هذا بالإضافة إلى سعيه الحثيث أن يجعل إدارته وسياسته متباينة في كل شيء عن إدارة سلفه جو بايدن.
وفي ذلك الإطار، يأتي هذا التقرير للوقوف على سياسة ترامب تجاه الطوفان والعدوان، وتسليط الضوء على مستجدات السياسة الأمريكية في ظل ولايته، ويتضمن التقرير تقديم ملخص لسياسة بايدن ليكون بمثابة إرهاص ومنطلق، ثم الوقوف على سمات سياسة ترامب، وبناءً على ذلك يتم رصد لسياسته منذ توليه الرئاسة حتى سبتمبر 2025، وأخيرًا دلالات هذه السياسة وأثرها على مستقبل القضية الفلسطينية وكذلك مستقبل الولايات المتحدة كدولة عظمى.
أولا- السياسة الأمريكية نحو الطوفان والعدوان في ظل إدارة بايدن: خلفية وإرهاص
منذ اللحظة الأولى لعملية طوفان الأقصى وما تلا ذلك من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، أعلن الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن دعمه الكامل لإسرائيل، واصفًا هجوم حماس بأنه “عمل إرهابي” ومشبهًا إياها بالقاعدة وداعش، ومؤكدًا على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، ولم يتطرق حينها إلى الضحايا المدنيين في غزة، بل تبنى بشكلٍ كامل الرواية الإسرائيلية، حتى في قضايا مثيرة للجدل، مثل انفجار مستشفى الأهلي (المعمداني) في غزة 17 أكتوبر 2023، حيث اتهم حينها حركتي حماس والجهاد بلا مبرر أو دليل. وبلغ الانحياز مداه عندما صرّح بايدن برؤية “صور أطفال قُطعت رؤوسهم” وهو ما تبيّن لاحقًا أنه غير صحيح، ولكنه لم يتراجع عن موقفه.
وقد انعكس هذا الانحياز في التوجيهات السياسية والإعلامية داخل الإدارة الأمريكية؛ إذ صدرت تعليمات للمسؤولين بعدم استخدام عبارات مثل “وقف إطلاق النار” أو “خفض التصعيد”، والتركيز بدلًا من ذلك على دعم هدف “القضاء على حماس”. وتجلّى الانحياز أيضًا في التحركات الدبلوماسية؛ حيث سافر وزير الخارجية أنطوني بلينكن إلى إسرائيل في الأيام الأولى للحرب، مؤكدًا الدعم الأمريكي، وسعى لحشد دعم إقليمي وعربي لمواقف واشنطن، من خلال ممارسة ضغوط على الدول العربية لإدانة حماس والمساعدة في إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والأمريكيين[1].
أما في مجلس الأمن، فقد عرقلت الولايات المتحدة أي مساعٍ دولية لوقف إطلاق النار، مستخدمةً حق النقض (الفيتو) ضد عدة مشاريع قرارات، بحجة أنها “قد تُضعف الجهود الأمريكية الخاصة” التي لم تكن تهدف فعليًا إلى وقف العدوان، بل إلى منحه المزيد من الوقت والغطاء.
وعلى المستوى العسكري، سارعت واشنطن إلى إرسال مساعدات عاجلة لإسرائيل، بما في ذلك الذخائر والصواريخ، كما دعمت نظام “القبة الحديدية”، ودفعت بحاملتي طائرات إلى شرق المتوسط، فضلًا عن آلاف الجنود ومنظومات دفاعية واستخباراتية متقدمة، أيضًا طلب الرئيس بايدن من الكونجرس تمويل حزمة مساعدات كبرى تصل إلى 100 مليار دولار تشمل دعمًا عسكريًا لإسرائيل وأوكرانيا.
في المقابل، تجاهلت إدارة بايدن الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة. فلم تصف القصف الإسرائيلي بأنه جريمة حرب، رغم استهداف المدنيين والبنى التحتية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والمخيمات. ورغم التنسيق مع مصر لإدخال بعض المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، فإن هذا الجهد بقي محدودًا جدًا، لا يتناسب مع حجم الكارثة، خصوصًا في ظل حصارٍ شامل فرضته إسرائيل، وتجاهل أمريكي لمطالبات المجتمع الدولي بوقفٍ فوري لإطلاق النار[2].
أيضًا رفضت إدارة بايدن مرارًا دعوات لوقف دائم لإطلاق النار، مفضلة الحديث عن وقفٍ مؤقت، وفي مايو 2024، عرض بايدن خطة وقف إطلاق نار تدريجية تشمل تبادل أسرى وانسحاب مرحلي ودخول المساعدات، وقد أبدت حماس موافقة مبدئية عليها[3]، بينما رفضتها حكومة نتنياهو لاحقًا[4].
أما فيما يخص اليوم التالي للحرب، فقد طرحت إدارة بايدن عدة تصورات تضمنت: دورًا محوريًا للسلطة الفلسطينية في حكم غزة بعد القضاء على حماس وربط إعادة إعمار غزة بعملية تطبيع بين السعودية وإسرائيل، لكن هذه التصورات قوبلت بالرفض من الجانب الإسرائيلي، ولم تجد قبولًا شعبيًا فلسطينيًا، وذلك في ظل تجاهلها القضايا الجوهرية مثل الاحتلال، والحصار، والاستيطان.[5]
باختصار، نستطيع القول إن إدارة بايدن اعتمدت على نهج داعم وغير مشروط لإسرائيل في حربها على غزة، مرتكزة على أولوية الأمن الإسرائيلي والتوازنات الإقليمية الضامنة له، دون الاكتراث الجدي بالكلفة الإنسانية الباهظة على المدنيين الفلسطينيين. وهي قد اتسقت على هذا النحو بشكلٍ كبير مع السياسة الأمريكية التقليدية تجاه القضية الفلسطينية[6]؛ حيث الدعم الأمني لإسرائيل والحماية السياسية في المحافل الدولية وفصل الدعم العسكري لإسرائيل عن أي تغييرات سلوكية واضحة من قبل إسرائيل.
ثانيًا- إدارة ترامب بين السياسة الأمريكية التقليدية والخروج عن المألوف
من المعلوم أن أيديولوجيا السياسة الخارجية ومواقف الإدارات الأمريكية المختلفة في المجال الدولي تتراوح بين تصنيفين أساسيين، هما: الانعزالية Isolationism والعالمية Internationalism، إذا ما اعتبرنا أنَّ العالمية والانعزالية على طرفي نقيض، فإنَّ هناك طيفًا من المواقف بين هذين الطرفين، وقد تراوحت مواقف قيادات الحزب الجمهوري تاريخيًّا بين درجات متقاربة من الانعزالية والعالمية ضمن هذا الطيف، فمن رؤية عالمية واقعية أصلت لضرورة الانخراط في المشهد الدولي على أساس براجماتي وفي نطاق ضيق، وهي مدرسة وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر والرئيس الأسبق جورج بوش الأب، إلى رؤية انعزالية -محدودة- لا تتعاطى مع الخارج إلا في إطار تأكيد مصلحة الداخل الأمريكي، إما عبر تدخلات عسكرية محدودة بهدف الردع أو عبر صفقات فردية بعيدة عن القيم الليبرالية ومفهوم الاتفاقيات الدولية الشاملة والمؤسسات الدولية.
إنَّ الفارق بين الرؤيتين هو أنَّ الأولى تعترف بأهمية النظام الدولي لخدمة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، لكنها تتبنى مقاربة واقعية تسعى بشكلٍ مستمر للحد من الالتزامات الأمريكية تجاه هذا النظام وعدم تعارضه مع المصلحة القومية. أما الثانية، فلا تعترف بفاعلية النظام الدولي وتراه عبئًا على الولايات المتحدة، وهو الاتجاه الذي يمثله الرئيس الحالي دونالد ترامب، والاتجاهان يمثلان صورًا مختلفة للإمبريالية.
وفي هذا السياق، يُمثل ترامب حالةً استثنائية في التاريخ السياسي الأمريكي وذلك على عدة مستويات؛ فعلى المستوى الشخصي يمثل خطاب ترامب الشعبوي، العدائي، والبعيد عن الدبلوماسية والطرح المعمق نمطًا غريبًا عن أنماط الخطاب السياسي التقليدي. جزء من هذا الخطاب تفسره شخصية ترامب الفظة، في حين تفسر “اللحظة السياسية” بقية أجزائه؛ حيث أدرك ترامب مبكرًا مدى رواج هذا الخطاب الذي مس غضب كامن لدى شرائح واسعة من الأمريكيين.
على صعيدٍ آخر، مثّل سلوكه السياسي الارتجالي والمتهور حالةً نادرة أخرى في مشهد الرئاسة الأمريكية، فإجراءاته غير المنضبطة بالأعراف والقوانين مثل الإقالات التعسفية لكبار المسؤولين والتعرض لهم بالشتم، والإعلان عن مواقف مفاجئة في قضايا السياسة الخارجية، والإفصاح عما يجري في كواليس العمل السياسي عبر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، كل ذلك أحدث هزات سياسية واجتماعية كبيرة.
تاريخيًّا، كان لطبيعة شخصية رئيس الولايات المتحدة أثرها في المقاربة الدولية أو الخارجية، لكن في جوهرها لم تتباين الاستراتيجيات الخارجية تجاه القضايا المركزية بشكلٍ كبير، حيث كان حضور “المؤسسة” على المستوى الاستراتيجي ضابطًا دومًا للاختلافات بين تصورات الإدارات المتعاقبة. وقد مثّل الموقف من القضية الفلسطينية شاهدًا على ذلك، فمثلًا في قضية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها يعود تاريخ هذا القرار إلى أكتوبر 1995، حيث أقر مجلس الشيوخ مشروع هذا القانون مع وجود بند يسمح للرئيس بتأجيل توقيعه لستة أشهر من طرحه، وهو ما مارسه الرؤساء المتعاقبون. ومن ثم، ففي حين تُجسد خطوة توقيع ترامب على القرار أثر الاختلافات في الشخصية على مقاربة السياسة الخارجية، فإنَّ إعداد مشروع القرار قبل نحو ثلاثة عقود يُجسد المستوى الأعمق لاتجاهات السياسة الخارجية.
كما أنه عند الفحص القريب والدوري لسياسات وخطاب كل إدارة فإنَّ الفروقات تبدو كبيرة بين واحدة وأخرى، وذلك لوجود نزعة لتفسير السياسات الأمريكية على أساس الخطاب الحقوقي والأيديولوجيا الليبرالية، لكن عند النظر للسياق التاريخي الأعم والاتجاهات الاستراتيجية فإنَّ الفروقات تتضاءل بشكلٍ كبير، وقد كان سلوك إدارة بايدن تجاه حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة منذ نحو 400 يومًا أحدث شاهد على ذلك.
ولكن استثنائية ترامب تنبع من تكوينه الشخصي وتاريخه المهني، فالبراجماتية العالية، والأطماع الشخصية، والتشبع بالاستحقاق الأمريكي، وغياب الرؤية الأيديولوجية أو التاريخية لقضايا السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، هي المحدد الأساسي لمواقف ترامب، وقد لخص ذلك مستشاره الأسبق للأمن القومي جون بولتون عند سؤاله عن رؤية السياسة الخارجية لرئيسه بقوله “لا تتعب نفسك، ليس هناك رؤية ثابتة، فقط مزاجية، وضغائن، وهوس بصورته”[7]. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، كان ترامب أول رئيس للولايات المتحدة يخل بالعرف الأمريكي القائم على تنازل المرشح الخاسر في سباق الرئاسة للرئيس المنتخب، بل لم يكتفِ ترامب بذلك فأقدم على سابقة خطيرة بالطعن في نتائج العملية الانتخابية واتهام الديمقراطيين واليسار بتزوير الانتخابات ثم تحريض أنصاره على التظاهر أمام مبنى الكونجرس، الأمر الذي قاد للهجوم على الكابيتول في 6 يناير 2021.
فخطورة ترامب -كما يحب أن يصفها خصومه السياسيين- تكمن في أثر سلوكياته المتجاوزة للحظة السياسية، وبالتالي فإن الطرح الذي يقدمه يمثل تهديدًا “للقيم الأمريكية” والمشروع الليبرالي الذي قامت عليه الولايات المتحدة[8]. فقد دأبت سياسات ترامب وخطاباته على تقويض مبادئ هذا المشروع من حماية الحقوق الفردية، وسيادة القانون، وتعزيز التعددية، والديمقراطية، محليًا ودوليًا بحجة أنه يمثل الأغلبية الانتخابية[9].
وبناءً على ذلك، يمكن النظر إلى سياسة ترامب الخارجية باعتبارها مزيجًا من الاستمرارية والقطيعة مع التقاليد الأمريكية. فمن جهةٍ، واصل ترامب نهجًا تقليديًا راسخًا في ملفاتٍ عدّة، مثل الالتزام الصارم بأمن إسرائيل عبر المساعدات العسكرية والدعم السياسي، أو ممارسة الضغوط على الخصوم الاستراتيجيين كإيران وروسيا والصين، وكذلك الاعتماد الكثيف على سلاح العقوبات الاقتصادية الذي يشكّل منذ الحرب الباردة إحدى أدوات النفوذ الأساسية لواشنطن. كما أن تشكيكه في جدوى بعض المؤسسات الدولية لم يكن جديدًا تمامًا، إذ سبقه رؤساء مثل ريجان وبوش الابن في التعامل مع الأمم المتحدة وغيرها باعتبارها قيدًا على حرية القرار الأمريكي.
لكن في المقابل، حملت سياسات ترامب استثناءات واضحة عن الخط التقليدي. فقد تبنّى خطابًا صداميًا تجاه الحلفاء الغربيين، انتقد فيه الناتو وفرض تعريفات جمركية على أوروبا وكندا، وهو أمر غير مألوف في علاقات واشنطن بحلفائها التاريخيين. وعلى المستوى الاقتصادي، تخلى ترامب عن النزعة المؤيدة للعولمة التي تبنّتها إدارات متعاقبة منذ التسعينيات، فانسحب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ وأعاد التفاوض على “نافتا” بروح قومية أكثر وضوحًا. وفي الشرق الأوسط، تجاوز سياسة “الغموض البنّاء” التقليدية باتخاذ قرارات رمزية حادة مثل نقل السفارة إلى القدس، والاعتراف بالجولان لإسرائيل، ووقف تمويل الأونروا. يُضاف إلى ذلك ميله إلى شخصنة العلاقات الدولية والتعامل معها بمنطق الصفقات، فضلًا عن خطابه الشعبوي الحاد.
وفي هذا السياق، يقول البروفيسور روبرت كيوهان: “أعتقد أننا بلغنا نهاية القرن الأمريكي الطويل؛ فالهيمنة الأمريكية قد ولَّت، لكننا لم نصل إلى نهاية التاريخ. لقد كانت الولايات المتحدة فعالة جزئيًا على مدى الثمانين عامًا الماضية في كونها رائدة عالمية بفضل قوتها الصلبة، لكنها كانت فعالة أيضًا بفضل قوتها الناعمة. هذه القوة الناعمة تعتمد على مدى جاذبية المجتمع للمجتمعات الأخرى، وقد كانت الولايات المتحدة جذابة للغاية، كما امتلكت الولايات المتحدة الكثير من القوة الناعمة قبل ترامب. كما عطَّل ترامب أنماط الصداقة والتحالفات الأمريكية، بما في ذلك ما كان مع دول أوروبية نشترك معها في قدرٍ هائل من القواسم المشتركة، وهذا من شأنه أن يجعل الناس يشعرون بالقلق بشأن مدى قربهم من الولايات المتحدة أو اعتمادهم عليها كما كانوا في الماضي، لذا وبكلمةٍ واحدة، فإن ترامب يتخلص من القوة الناعمة الأمريكية، وهي فكرة سيئة للغاية”[10].
ثالثًا- إدارة ترامب الثانية: النهج والسياسات
لم يغير ترامب النهج العام للسياسة الخارجية التي اتبعها في إدارته الأولى في إدارته الثانية، فلا تزال سياسته الخارجية ترفع شعار “أمريكا أولا”، وإنما الفارق أن الواقع هو الذي تغير فعكس حقيقة هذا الشعار وحوله من مجرد شعار إلى حقيقة ملموسة يُعايشها العالم بكل ما تحويه من فوقية وتهميش للآخر وعودة للنزعة الإمبريالية، ولكن بأساليبٍ معاصرة وأدوات أكثر تعقيدًا وخطورة. فبينما تتشابك الأزمات الإقليمية والدولية، سعت إدارة ترامب إلى فرض رؤية أحادية الجانب تقلص من دور الحلفاء والمؤسسات الدولية، وتُعيد صياغة خريطة المصالح العالمية وفق منطق القوة، وليس الشرعية أو السيادة.
فالسياسة الخارجية الأمريكية لإدارة ترامب الثانية تقوم على ثلاث ركائز أساسية: أولًا، مبدأ “أمريكا أولًا” أصبح منظور شامل يرى أن الولايات المتحدة تقف في مواجهة بقية العالم، ويجب أن تتصرف وفق مصالحها فقط، دون التزامات غير متكافئة. ثانيًا، أن أمريكا تتعرض للاستغلال من قبل الحلفاء والخصوم، ويجب تصحيح هذا الوضع عبر اتفاقيات جديدة أكثر نفعًا للولايات المتحدة. ثالثًا، التصعيد كأداة تفاوضية[11].
ومن هذا المنظور وضمن هذا الإطار، تأتي السياسة الأمريكية تجاه طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي على غزة، فخلال الـ 100 يوم الأولى من ولايته الثانية، اتبعت إدارة ترامب نهجًا متناقضًا تجاه الشرق الأوسط، خاصةً في تعاملها مع قطاع غزة والضفة الغربية. فقد بدأت بمحاولة فرض هدنة بين إسرائيل وحماس، لكن ما لبثت أن تخلت عن هذا المسار، مانحةً إسرائيل حرية شبه مطلقة في عملياتها العسكرية، متجاهلةً جهود وقف إطلاق النار التي كانت ستضعها في صدام مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. هذا التردد أدى إلى فشل الإدارة في تحقيق أهدافها المعلنة كهزيمة حماس أو استعادة الرهائن. من ناحيةٍ أخرى، بدأت تهديدات ترامب ودعواته المثيرة بتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” عبر تهجير سكانها، وفي الضفة الغربية، عززت الإدارة موقفها المنحاز بوضوح لإسرائيل بإلغاء عقوبات على المستوطنين، ورفع الحظر عن شحنات أسلحة ثقيلة، متجاهلةً قرارات الشرعية الدولية[12].
وفي هذا السياق، نرصد أهم القرارات والسياسات التي تبنتها إدارة ترامب تجاه غزة منذ تولي ترامب الرئاسة للمرة الثانية وحتى سبتمبر 2025:
1- تهجير أهل غزة:
في بداية عام 2025، فجّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جدلًا واسعًا بعد إدلائه بتصريحات صادمة تتعلق بمصير قطاع غزة والشعب الفلسطيني، حيث طرح خطة تتضمن الاستيلاء على القطاع وتهجير سكانه بشكلٍ دائم.
في 25 يناير 2025، وبعد فترة وجيزة من تنصيبه رئيسًا، دعا ترامب كلًّا من مصر والأردن إلى استقبال الفلسطينيين القادمين من غزة، واصفًا القطاع بأنه “موقع يجب هدمه”، في إشارة إلى تدميره الكامل واستبعاد إعادة إعمار الحياة فيه للفلسطينيين. ثم عاد في 4 فبراير ليطرح مقترحًا أكثر تفصيلًا، يقضي بتهجيرٍ دائم للفلسطينيين من غزة، ووضع القطاع تحت إشرافٍ أمريكي مباشر، مع تعهد بتمويل عملية إزالة الذخائر غير المنفجرة وإعادة تأهيل البنية التحتية، ولكن دون ضمان عودة السكان إليه.
وأمام التصاعد الحاد في الانتقادات، حاول مستشارو ترامب تهدئة اللهجة الرسمية، مؤكدين أن التهجير سيكون “مؤقتًا” وأن الولايات المتحدة لا تعتزم نشر قوات على الأرض.
في 7 أبريل، وخلال لقائه الثاني مع نتنياهو في البيت الأبيض، وصف ترامب غزة بأنها “عقار مهم للغاية”، مقترحًا مجددًا أن تتولى الولايات المتحدة السيطرة على القطاع كـ “قوة سلام”. كما كرر فكرة إعادة توطين الفلسطينيين في دولٍ أخرى، مشيرًا إلى وجود دول مستعدة لذلك. في المقابل، كانت الدول العربية قد تبنت خطة إعادة إعمار مصرية بقيمة 53 مليار دولار لتجنب التهجير، وهي خطة رفضها ترامب وإسرائيل حينها.
في 7 يوليو، خلال اجتماعه الثالث مع نتنياهو، تراجع ترامب عن التعليق المباشر على تهجير الفلسطينيين، كما أوضح هذه المرة أن إسرائيل والولايات المتحدة تبحثان عن دول تقبل إعادة توطين الفلسطينيين، وأضاف: “من يريد البقاء يمكنه ذلك، ومن يريد المغادرة يجب أن يُسمح له”. وعند سؤاله عن حل الدولتين، قال ترامب: “لا أعرف”، وأحال السؤال إلى نتنياهو، الذي شدد على ضرورة بقاء السيطرة الأمنية بيد إسرائيل[13].
وفيما يتعلق بمسار المفاوضات لوقف الحرب، كان آخر خطوات ترامب إرسال المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف مقترحًا جديدًا في بداية سبتمبر 2025، حيث يتضمن المقترح الجديد حلا شاملا لإطلاق سراح جميع الأسرى مقابل إنهاء الحرب في غزة، حيث قال الموقع الأمريكي أكسيوس إن المقترح الجديد يهدف لإيجاد حل دبلوماسي قبل العملية العسكرية الإسرائيلية لاحتلال مدينة غزة. وقد أبدت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ردة فعل إيجابية تجاه التفاوض، حيث أعلنت الحركة في بيانٍ لها أنها جاهزة للجلوس إلى طاولة المفاوضات لبحث إطلاق سراح جميع الأسرى مقابل إعلان واضح بإنهاء الحرب، والانسحاب الكامل من القطاع، وتشكيل لجنة لإدارة القطاع من المستقلين الفلسطينيين تتسلم عملها فورًا[14].
وقد جاء ذلك تعليقًا على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما وصفه بقبول الإسرائيليين شروطه، وأنه وجَّه “إنذارًا أخيرًا” إلى حماس لقبول صفقة للإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين[15].
وعلى الرغم من ذلك، قامت إسرائيل في التاسع من سبتمبر 2025 بشن غارة جوية على العاصمة القطرية الدوحة في محاولة لاغتيال الوفد المفاوض من حركة حماس، وبحسب جريدة الجارديان، فقد التزمت الولايات المتحدة الصمت بشكل ملحوظ حيال الضربات الإسرائيلية التي استهدفت قادة حماس في الدوحة، وهناك تقارير تفيد بأن دونالد ترامب أعطى الضوء الأخضر للهجوم[16].
2- الدعم العسكري لإسرائيل:
لقد قام ترامب بدعم إسرائيل دون توقف في إمدادات الأسلحة، ففي 7 فبراير 2025، أبلغت إدارة ترامب الكونجرس عن بيع أسلحة بقيمة 7.4 مليار دولار لإسرائيل، تشمل قنابل موجهة GBU‑39/B، وقنابل MK‑82، ومقذوفاتHellfire ، بالإضافة إلى أدوات توجيهJDAM [17].
في 28 فبراير 2025، تمّت الموافقة على بيع طارئ بقيمة 3 مليار دولار، يتضمن أكثر من 35,500 قنبلة، و4,000 رؤوس حربية طائرات بدون طيار، وما قيمته 298 مليون دولار من الجرافات العسكرية[18].
بالإضافة إلى هذه الصفقات المعجلة، قامت إدارة ترامب بإلغاء الضوابط الرقابية على هذا الإمداد المفتوح، ففي 24 فبراير 2025 أُلغي أمر تنفيذ يربط مبيعات الأسلحة الأمريكية بالتقيد بالقانون الدولي والحقوق الإنسانية (NSM-20)، مما أزاح متابعات نقل المعلومات حول استخدام الأسلحة أمريكية الصنع[19].
هذا فضلًا عن إمدادات إضافية، ففي 30 يونيو 2025، جرى إخطار الكونجرس بمبيعاتٍ جديدة بقيمة 510 مليون دولار لأكثر من 7,000 أدوات توجيه JDAM إضافية[20]. وقد جاءت غالبية هذه الصفقات بنظام الاستثناء الطارئ الذي سمح بتجاوز مراجعة الكونجرس، عبر تبرير “وجود حالة طوارئ تهدد المصالح القومية”[21].
3- الفيتو على قرار وقف إطلاق النار في يونيو 2025:
استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف فوري، غير مشروط، ودائم لإطلاق النار وإلى رفع الحصار عن غزة[22]. وقد حظي المشروع بدعم 14 من أعضاء المجلس الـ15، وكانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة المعارضة[23]، والسبب الذي أعلنته بعد التصويت، أن القرار “لم يدين حماس ولا يطالب بنزع سلاحها”، وبالتالي لا يدعم الجهود الأمريكية الدبلوماسية لوقف إطلاق النار[24].
4-رفع العقوبات عن المستوطنين:
أصدر ترامب في يوم تنصيبه 20 يناير 2025 أمرًا تنفيذيًا يلغي العقوبات التي فرضها بايدن على جماعات المستوطنين اليهود المتطرفين، والأفراد المتهمين بارتكاب أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.
5- الموقف من المساعدات الإنسانية:
في 2 مارس 2025، فرضت إسرائيل حصارًا كاملًا، قاطعةً جميع المساعدات الإنسانية مرحليًا حتى مايو، بدءًا من 5 مايو، سمحت بإدخال مساعدات غذائية محدودة مثل الطحين، وفعلتها فقط بعض الوكالات الدولية المختارة[25].
في يونيو 2025، خصص البيت الأبيض 30 مليون دولار لمؤسسة “Ghaza Humanitarian Foundation” (GHF)، وهي كيّان يحصل على دعم أمريكي لإدارة مراكز التوزيع في غزة، ما أثار انتقادات بسبب الاضطرابات وسقوط ضحايا قرب هذه المراكز[26].
حيث طالبت أكثر من 170 منظمة إغاثة دولية بإغلاق “مؤسسة غزة الإنسانية” الممولة أمريكيًا وإسرائيليًا، والتي تعمل بعيدًا عن إِشراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وذلك لأنها تُعرّض المدنيين لخطر الموت والإصابة، حيث تنفذ تل أبيب وواشنطن منذ 27 مايو2025 خطة لتوزيع مساعدات محدودة بواسطة هذه المؤسسة، ثم يقصف الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين المصطفين لتلقي المساعدات، ويُجبرهم على المفاضلة بين الموت جوعًا أو رميًا بالرصاص، مما رفع حصيلة الشهداء المجوعين إلى 600 شهيدًا وأكثر من 4186 مصابًا، وفق وزارة الصحة في القطاع[27].
6- الموقف الأمريكي من الحرب الإسرائيلية على إيران في يونيو 2025:
في هذا السياق أيضًا نذكر أنه مع انطلاق أولى الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع حيوية في العاصمة الإيرانية طهران في 13 يونيو 2025، صرّح ترامب أنه طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “تأجيل توجيه ضربة لإيران”، بهدف منح واشنطن مزيدًا من الوقت لدفع المسار الدبلوماسي، على أمل التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع طهران.
وفي الأيام التالية، نفى الرئيس الأمريكي أي تورط مباشر لإدارته في الغارات، أو تقديم دعم عسكري لإسرائيل. لكن في الوقت نفسه أشار، إلى أن “إيران أُعطيت مهلة 60 يومًا وقد انتهى الموعد”[28].
وفي صباح يوم 22 يونيو 2025، فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما أقسم أنه لن يفعله؛ حيث قام بشن هجوم عسكري ضد ثلاثة مفاعلات نووية إيرانية، وقد جاء هذا الهجوم تلبيةً للضغوط الإسرائيلية على ترامب من أجل مساعدة تل أبيب على الإجهاز الكامل على البرنامج النووي الإيراني والضغط على إيران من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات[29].
بناءً على ما سبق، يمكن القول إن سياسة ترامب تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة تتسم بثلاث سمات رئيسية:
– تعريف العدوان الإسرائيلي على غزة بأنه جزء من الحرب ضد الإرهاب، أي ضد الجماعات التي تُصنفها واشنطن على أنها إرهابية، مثل حماس والجهاد الإسلامي، وهذا ما ينعكس واقعيًا في تبني سياسة “القصف أولًا” لحسم الصراع[30].
– البراجماتية الصفَقِيّة: التعامل مع السياسة كـ “صفقات” تُقاس بالربح والخسارة لا بالقيم.
– الاستهانة بالقانون الدولي: ترامب لم يُبدِ أي التزامًا جديًا بالمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية، بل كثيرًا ما اعتبرها “منحازة” ضد حلفائه.
وهذه السمات الثلاث يمكن تضمينها داخل العقيدة التي يتبعها ترامب في سياسته الخارجية “السلام من خلال القوة”، وفي إطارها يمكننا فهم طبيعة السياسة التي تتبناها إدارة ترامب تجاه الطوفان والعدوان، وقد تم تعريفها من خلال استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2017 بأنها إعادة بناء التفوق العسكري والردع وتوظيف الإكراه وكل أدوات القوة الوطنية من أجل ذلك[31].
هذه العقيدة تميل لتقليل القيود العلنية على الحلفاء إذا كان الهدف “حسم التهديد بسرعة”؛ وهو ما ينسجم مع الخط العام لعلاقات ترامب السابقة مع إسرائيل، فعلى سبيل المثال اتفاقات أبراهام لم تشترط وقف الاستيطان أو تقديم تنازلات للفلسطينيين، بل ركّزت على بناء تحالفات ردع ضد إيران، ما يدل على تغليب “الأمن” على “العدالة السياسية”[32]. وتظهر هذه العقيدة أيضًا في عدم تعاطي إدارة ترامب مع قرارات محكمة العدل الدولية التي صدرت في يناير 2024، وهي قرارات من شأنها أن تفرض على أي إدارة أمريكية التعامل مع ضغطها القانوني/ والأخلاقي، ولكن نهج “السلام من خلال القوة” غالبًا ما يُهمّش القيود القانونية الدولية إذا تعارضت مع أهداف الردع.
وتنعكس أيضًا هذه العقيدة بالنسبة لليوم التالي للحرب في رغبة ترامب تطبيق نموذج أمني ثقيل مع رقابة مشددة على الإعمار والمساعدات داخل غزة، ومحاولة إعادة تشكيل الحكومة الفلسطينية (تقوية السلطة أو بدائل عربية /دولية) مع وجود حكومة يقودها مسؤول أمريكي لفترة مؤقتة[33].
وفي هذا السياق، يقول البروفيسور روبرت كيوهان محللًا سياسة ترامب بأنه يؤمن بالقوة الصلبة، وبتوظيف التهديدات بالعقوبات المادية أو تقديم المنافع للتأثير على الدول الأخرى لقبول شروطه. لذا؛ فإن سياسته التجارية، وسياسته تجاه غزة، كلها ترتكز على مبدأ “شيء مقابل شيء”. إنه نهج مساومة في التعامل مع القوة والتجارة[34].
على صعيدٍ آخر، فإن أحد الأبعاد التي تفسر لنا طبيعة السياسة “الترامبية” تجاه العدوان الإٍسرائيلي على غزة هو تبني ترامب للخطاب الديني الإنجيلي، حيث يؤمن كثير من الإنجيليين الأمريكيين بأن عودة اليهود إلى “أرض الميعاد” (فلسطين التاريخية) وإقامة دولة إسرائيل شرطان ضروريان لعودة المسيح، وذلك بحسب بعض تفسيراتهم لسفر الرؤيا والكتب النبوئية في العهد القديم.
وقد تنبه دونالد ترامب لهذه القاعدة الشعبية القوية خلال حملته الانتخابية الأولى وحوّلها لدعمه من خلال تبني خطابها وترجمته إلى خطواتٍ عملية، مثل الدعم غير المحدود لإسرائيل، والاعتراف بالقدس عاصمتها الأبدية، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وكذلك ضم هضبة الجولان.
وقد عاد ترامب إلى ذلك في حملته الانتخابية الأخيرة، وفاز بالانتخابات بدعمٍ كبيرٍ وساحق من الحركة الصهيونية المسيحية الإنجيلية. وخلال مشاركته في مؤتمر ضخم نظمه “ائتلاف الإيمان والحرية”، أكبر منظمة للمسيحيين الإنجيليين في أمريكا، قال رئيس الحركة رالف ريد: “لقد كان لدينا بعض القادة العظماء، ولكن لم يكن هناك من دافع عنا، وحارب من أجلنا، وأحببناه أكثر من دونالد ترامب. لقد رأينا جوهره، فوجدنا فيه كل ما وعد به وأكثر”.
ومن بين هذه الوعود كان تعيين ترامب للعديد من قيادات حكمه ووزرائه من هذا التيار، على سبيل المثال، اختار ترامب السيناتور الجمهوري ماركو روبيو، المؤيد القوي لإسرائيل، لمنصب وزير الخارجية، وهو الذي أبدى عدم موافقته على وقف الحرب على قطاع غزة حتى تقضي إسرائيل على جميع مقاتلي المقاومة الفلسطينية، مضيفًا: “هؤلاء الناس حيوانات شرسة”.
وقد عين ترامب أيضًا فيت هيغسيت وزيرًا للدفاع، وهو من ضباط احتلال العراق، حيث تؤكد رسومات الصليب وكتابات الوشم على جسده على مواقفه، ومنها أن الله منح إسرائيل هذه الأرض، وعلى أمريكا إطلاق يدها لحسم الصراع. كما عين ترامب مايك هاكابي ليكون السفير الأمريكي لدى إسرائيل، وهو من المحافظين الذين يؤيدون بشدة إسرائيل واحتلالها للضفة الغربية، ووصف حل الدولتين بأنه “غير قابل للتنفيذ”، واختار ترامب النائبة الجمهورية إليس ستيفانيك، التي وصفت الأمم المتحدة بأنها “مستنقع لمعاداة السامية” بسبب تنديد المنظمة بسقوط قتلى في غزة، اختارها لتكون سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة[35].
هؤلاء يُشكّلون قاعدة انتخابية ضخمة بالنسبة لترامب[36]، ومن هنا يستخدم ترامب هذا الخطاب لتبرير الدعم السياسي والعسكري غير المشروط لإسرائيل، ليس فقط كحليفٍ استراتيجي، بل كجزء من “خطة إلهية”.
رابعًا- سياسة ترامب تجاه الطوفان والعدوان: مآلاتها وانعكاساتها على القضية الفلسطينية وعلى مستقبل الولايات المتحدة
إن صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والشعبوية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة عكس حقيقة أن تصدعات بدأت تظهر في صميم ما يُعرف بالنظام الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة، وبالتالي فهي تعتزم التمسك بمكانتها كقوة عظمى[37].
ولا شك أن سياسة إدارة ترامب بصورةٍ عامة تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، وما تتضمنه من دعم لا مشروط لإسرائيل، وخطة لتهجير أهل غزة، وتقييد دور المنظمات الدولية إلى غير ذلك من السياسات، تكشف عن استخفافٍ عميق بسيادة القانون واحتقارٍ صريح لحياة البشر. فالرئيس ترامب يظهر على الساحة الأمريكية والدولية دون أدنى قدر من التعاطف أو الالتزام الأخلاقي، ويتعامل مع الجميع، لا سيما المستضعفين، كأنهم مجرد بيادق على رقعة شطرنج[38]. وهذا بلا شك يزيد من تقويض الديمقراطية الأمريكية التي كشف الطوفان زيفها منذ اليوم الأول، كما تتشوه الصورة العالمية للولايات المتحدة وللمشروع الليبرالي برمته.
ولم يسلم الشارع الأمريكي من التأثر بهذه السياسات فزاد انقسامه، فبحسب استطلاع رأي قام به مجلس شيكاغو للشؤون العالمية -إبسوس تراجعت نسبة الذين يؤيدون استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل حتى يتم تحرير الرهائن من حوالي 60% إلى 55% الآن[39].
وعلى نطاقٍ أوسع، فإنَّ أثر سياسة ترامب على استقرار النظام الدولي المعاصر لا شك ستكون سلبية، وأنَّ دور الولايات المتحدة خلال ولايته سيتجه نحو الإمبريالية، في المقابل فإنَّ ما يكشفه النمط الذي يتبعه ترامب هو أنَّ رئاسته تمثل تهديدًا وفرصةً في آنٍ واحد، وأنَّ صعوده على علاته قد يدفع باتجاه ترسيخ حالة لامركزية، وبالتالي مساحة أكبر للفعل والتأثير[40].
على جانبٍ آخر، لا يمكننا إغفال الانعكاسات المحتملة لسياسة إدارة ترامب تجاه طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي على غزة على القضية الفلسطينية في المستقبل، فلا شك أن طوفان الأقصى أعاد مركزية القضية الفلسطينية على الساحة العالمية، إلا أنه عند الحديث بشكلٍ خاص عن انعكاس سياسة إدارة ترامب على القضية، فإن سياسته بالطبع زادت من صعوبة الحرب الدائرة حاليًا ومزيد من معاناة الفلسطينيين.
فخطة ترامب المقترحة لنقل أو تحويل غزة تحت السيطرة الأمريكية، تمثل تهديدًا للقضية الفلسطينية. أيضًا هناك تخوفات من استئناف صفقة القرن ومسار التطبيع، خاصةً أنه في ظل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وما يقوم به من حرب إبادة لم تنسحب أيًا من الإمارات أو المغرب أو البحرين من اتفاقيات التطبيع، مما يكشف عن أن التطبيع بات وًاصبح خيارًا استراتيجيًّا لدول المنطقة، وليس مصلحة مؤقتة، بل صار بمثابة مسارًا منفصلًا عن مسار القضية الفلسطينية، الأمر الذي يُضعف مساحات التفاوض الفلسطيني والضغط على الكيان الصهيوني[41]. من ناحيةٍ أخرى، ساهمت سياسة إدارة ترامب في التوسع الاستيطاني وشرعنته، وكل هذا له انعكاس سلبي على مستقبل القضية الفلسطينية.
ولكن هذا لا يلغي بالطبع آثار الطوفان العظيمة على مستقبل القضية الفلسطينية التي لا يمكن محوها، والتي ستؤتي ثمارها ولو بعد حين. فقد عزز الطوفان وحدة الشعب الفلسطيني؛ فبالرغم من الخلافات الداخلية بين الفصائل الفلسطينية، فإن عملية طوفان الأقصى وحدت العديد من قوى المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وداعميه، ورأينا حالة من الإجماع الشعبي على أن النضال الفلسطيني يجب أن يستمر في كافة أشكاله، وأنه لا بديل عن المقاومة.
هذا فضلًا عن تعزيز هوية القضية الفلسطينية، فالطوفان كان بمثابة تذكير قوي لشعوب العالم بأن القضية الفلسطينية ليست مجرد صراع إقليمي، بل هي قضية الأمة وقضية حقوق إنسان وقضية عادلة لها جذور تاريخية عميقة، لقد أظهرت أن الفلسطينيين لن يتخلوا عن أراضيهم، وأن المساعي الإسرائيلية لتصفية القضية لن تُحقق نجاحًا سريعًا كما كانوا يظنون. وعلى الرغم من الدعم الدولي الواسع لإسرائيل، إلا أن الشعوب في بلدان عديدة حول العالم قد تيقظت إلى ضرورة الضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها[42].
فضلًا عن كشف الطوفان عن هشاشة النظام الدولي وحقيقة شعارات المشروع الليبرالي والديمقراطية الغربية، وعلى رأٍسها الديمقراطية الأمريكية التي جلاها ترامب دون مواراة، وهو ما زاد من وعي الشعوب بحقائق من شأنها أن يكون لها ما بعدها في قلب منظومة القيم التي يسير العالم المعاصر وفقًا لها.
خاتمة:
بناءً على ما سبق، يمكننا القول إن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب غزة الأبي تستمر بدعم الولايات المتحدة التي تتوالى عليها الإدارات لتؤكد حقيقة واحدة، وهي أن الدعم غير المشروط لإسرائيل هو بمثابة عقيدة لا تجرؤ المؤسسة السياسية الأمريكية على الاقتراب منها، فالولايات المتحدة تنظر إلى إسرائيل باعتبارها حليفًا حيويًا، يساهم في تعزيز الهيمنة الأمريكية العالمية في وقتٍ تواجه فيه واشنطن تراجعًا لا مفر منه. وتعتقد النخب الأمريكية أن بقاء إسرائيل، بصيغتها الاستيطانية الاستعمارية الحالية، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحفاظ على التفوق الأمريكي[43].
وقد جاءت إدارة ترامب الحالية لتعبر عن هذه الحقيقة بكل وضوح انطلاقًا من منطق القوة التي لا يحدها قانون ولا تلتزم بقيم، وإنما فقط الحسابات المادية والمصالح المجردة من الأخلاق، وأن النظام الدولي بمنظماته الإنسانية والدولية لا يملك أية استقلالية وقدرة على إنفاذ قراراته فهو تابع بشكلٍ كامل للولايات المتحدة.
وعلى أية حال، فإن النهج الذي يتبعه ترامب تجاه الطوفان والعدوان، على الرغم مما يبثه من تهديدات، فإنه في الوقت نفسه قد يكون بداية انهيار إمبراطورية الولايات المتحدة وإحداث حالة من اللامركزية في هذا النظام الدولي تكون بمثابة فرصة للتغيير نحو عالم أكثر عدلًا وأخلاقًا.
⁕ باحثة في العلوم السياسية.
[1] موقف إدارة بايدن من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة: خلفيات الانحياز وحساباته، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، 24 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/ObtCN
[2] المرجع السابق.
[3] Ethan Mayer, Biden Offers an Israeli Proposal to End the Gaza War, Arab Center Washington DC, 3 June 2024, available at: https://shorturl.at/JeeFK
[4] Matthew Lee, Aamer Madhani And Ellen Knickmeyer, Trump and Biden both claim credit for Gaza ceasefire deal, AP News, 16 January 2025, available at: https://shorturl.at/bQcxy
[5] إدارة بايدن ومعضلة «اليوم التالي» للحرب الإسرائيلية على غزة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 23 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/VqlVE
[6] Christopher S. Chivvis, Biden’s Foreign Policy Traditionalism Held Him Back, Carnegie Endowment, 16 January 2025, available at: https://shorturl.at/YQ1O9
[7] أحمد مولانا، نحو الإمبريالية: هل يعيد ترامب تشكيل العالم، الملتقي الاستراتيجي، 16 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/nlR7q
[8] Muhannad Ayyash, Palestine and the decline of the US empire, Al Jazeera, 6 May 2025, available at: https://shorturl.at/mBvmM
[9] حمدي عبد الرحمن، الفوضى الخلاقة: كيف يفكر الرئيس دونالد ترامب، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 5 مايو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/qSQxh
[10] البروفيسور روبرت كيوهان لـ”الجزيرة نت”: ترامب أنهى قرن أميركا الطويل وجفَّف منابع قوتها الناعمة، الجزيرة، عثمان أمكور، 27 يوليو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/JoZeI
[11] بيير يعقوب ومروة محمد عبد الحليم، الـ 100 يوم الأولى لـ “ترامب” سخط داخلي وإعادة توجيه السياسة الخارجية، المرصد المصري، 7 مايو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://marsad.ecss.com.eg/83548
[12] المرجع السابق.
[13] Kanishka Singh, Timeline of Trump’s remarks on Palestinian displacement, Gaza takeover, Reuters, 8 July 2025, available at: https://shorturl.at/zhu64
[14] مقترح أميركي لإنهاء الحرب على غزة.. ما الجديد فيه، الجزيرة، 8 سبتمبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/fQpao
[15] حماس جاهزة للتفاوض بعد تلقيها أفكارا عبر الوسطاء من الطرف الأميركي، الجزيرة، 8 سبتمبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/bMSCd
[16] Trump spokesperson calls strike on Qatar ‘unfortunate’ after Israel targets Hamas leaders in Doha – live updates, The Guardian, 9 September 2025, available at: https://shorturl.at/TWB4B
[17] Jared Szuba, Trump administration notifies Congress of $7.4 billion in arms sales to Israel, Al-Monitor, 7 February 2025, available at: https://shorturl.at/ed14w
[18] Trump administration approves major $3bn arms sale to Israel, The National, 1 March 2025, available at: https://shorturl.at/wuuAU
[19] US scraps order linking arms sales to international law, Aljazeera, 25 February 2025, available at: https://shorturl.at/jA8Vx
[20] Trump Administration Arms Transfers and Sales to Israel, Forum on the Arms Trade, available at: https://shorturl.at/I1yyx
[21] Oren Liebermann and Natasha Bertrand, State Department announces $7 billion arms sale to Israel, circumventing review process, 7 February 2025, available at: https://shorturl.at/Bzrdy
[22] Michelle Nichols, Nidal Al-Mughrabi and Crispian Balmer, US vetoes UN Security Council demand for Gaza ceasefire, Reuters, 5 June 2025, available at: https://shorturl.at/x7jwi
[23] Edith M. Lederer, US vetoes UN Security Council resolution demanding an immediate Gaza ceasefire, AP News 5 June 2025, available at: https://shorturl.at/Aheuq
[24] Michelle Nichols, Nidal Al-Mughrabi and Crispian Balmer, US vetoes UN Security Council demand for Gaza ceasefire, Reuters, Op. cit.
[25] Mohammed Samhouri, Starved, Ruined, and Displaced: What’s Next for Gaza, Arab Center Washington DC, available at: https://shorturl.at/9Xgfb
[26] US to give $30m to Gaza Humanitarian Foundation despite violent and chaotic rollout of food distribution, The Guardian, 24 June 2025, available at: https://shorturl.at/BlRcw
[27] أكثر من 170 منظمة دولية تطالب بإغلاق مؤسسة غزة الإنسانية، الجزيرة، 1 يوليو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/Zs1SL
[28] سارة العريفي، ترامب وكواليس الحيرة الأميركية في حرب إسرائيل وإيران، الجزيرة، 19 يونيو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/RuwCw
[29] أحمد قنديل، ماذا بعد الهجوم العسكري الأمريكي على إيران، مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، 22 يونيو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/pKkEI
[30] Joseph Stepansky, ‘Bomb first’: Trump’s approach to war-making in his second term, Al Jazeera, 24 July 2025, available at: https://shorturl.at/F07VO
[31] President Donald J. Trump Announces a National Security Strategy to Advance America’s Interests, National Security Council, 18 December 2017, available at: https://shorturl.at/g5pwh
[32] Alexandre Kateb, The Abraham Accords After Gaza: A Change of Context, Carnegie Endowment For International Peace, 25 April 2025, available at: https://shorturl.at/0kVGc
[33] ترامب يقول إن تفاصيل جديدة متعلقة بغزة ستُعلن خلال الساعات القادمة، وتقارير تفيد بأن مسؤولًا أمريكيًا “سيُدير” القطاع، بى بى سي، 7 مايو 2025، متاح عبر الرابط التالي:https://shorturl.at/ULVVO
[34] البروفيسور روبرت كيوهان لـ”الجزيرة نت”: ترامب أنهى قرن أميركا الطويل وجفَّف منابع قوتها الناعمة، مرجع سابق.
[35] عامر الهزيل، ترامبزم وحاضنته الشعبية الحركة الصهيونية المسيحية الإنجيلية، الملتقى الفلسطيني، 10 مارس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/as2X5
[36] Yasin Mandacı, Christian Zionism and Its Influence on Trump’s Israel Policy, Journal of middle eastern studies, 16 June 2025, available at: https://shorturl.at/9Ehoq
[37] Muhannad Ayyash, Palestine and the decline of the US empire, Al Jazeera, 6 May 2025, available at: https://shorturl.at/mBvmM
[38] Daniel Brumberg, The Gaza War and the Future of Democracy in the United States and Israel, Arab Center Washington DC, 14 February 2025, available at: https://shorturl.at/iKK7Q
[39] Dina Smeltz and Lama El Baz, Americans Grow More Divided on US Support for Israel, The Chicago Council on Global Affairs, 15 May 2025, available at: https://shorturl.at/cWEMO
[40] أحمد مولانا، نحو الإمبريالية: هل يعيد ترامب تشكيل العالم، الملتقي الاستراتيجي، 16 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/nlR7q
[41] Khaled Elgindy, The Fallacy of the Abraham Accords, Foreign Affairs, 22 January 2025, available at: https://shorturl.at/TmtMK
[42] أحمد مصطفى الغر، طوفان الأقصى نقطة تحول في القضية الفلسطينية والمنطقة، مجلة البيان، 21 يناير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/ReREj
[43] Muhannad Ayyash, Palestine and the decline of the US empire, Al Jazeera, 6 May 2025, available at: https://shorturl.at/mBvmM
نشر في العدد 39 من فصلية قضايا ونظرات – أكتوبر 2025





