أين مصر الآن؟

(1)

إن الدرس الرئيسي الذي يعكس خبرة التاريخ المصري المعاصر من نهايات القرن التاسع عشر حتى الآن، هو أن موضوع “الديمقراطية” وإنشاء مؤسساتها هو الكفيل بتحقيق ما يصبو إليه الشعب المصري من استقلال لإرادته السياسية عن القوى الخارجية ولإدارة شئون بلاده الداخلية لتنميتها اقتصاديًا وللتوزيع المعقول المتوازن لدخلها القومي المتنامي ولتحقيق توازن المصالح والمنافع بين جماعاتها الشعبية مع النهوض الحضاري والثقافي العام في إطار ما يتمتع به الشعب المصري تاريخيًا من مستوى ثقافي لنخبه المتعلمة على مدار تاريخه المعروف.

وهذا الدرس استفدناه جيدًا من انتكاسة ثورة 23 يوليه 1952 منذ السبعينيات من القرن العشرين. إذ حققت البلاد على مدى الخمسينيات والستينيات مستوى طيبًا من الاستقلال السياسي والنهوض الاقتصادي والازدهار الثقافي، ولكن  قضى على كل ذلك وانتكس به جميعه بعد وفاة عبد الناصر ما كان غائبًا من العنصر الديمقراطي، فانهار النظام الاستقلالي النهضوي من داخله بمجرد أن تُوفي عبد الناصر، وانهار بذات القوى الاستبدادية وتشكيلاتها المؤسسية التي كانت ساندت عبد الناصر في النهوض السابق. وعرفنا جيدًا أنه إن أمكن بالحكم “الاستبدادي المستبد” الإسراع في الإصلاح السياسي والاجتماعي، فإن الاستبداد لا يضمن قط إمكان استمرار هذه الإصلاحات بعد التغيير في أشخاص الممسكين بالسلطة. وأن سرعة الإصلاح الاستبدادي لا تعادلها إلا سرعة الانتكاس بهذا الإصلاح.

لذلك جاءت ثورة 25 يناير 2011 ثورة تستجيب لهذا الدرس التاريخي وتركز أهم هدف لها في مطلب الديمقراطية، أو هكذا كان الأمل منها بحكم ما مورس سابقًا من تجارب ماضية، والمقصود “بالديمقراطية” في هذا السياق يتعلق أساسًا بإعادة تنظيم أبنية أجهزة الدولة بما يكفل لها التعدد في السلطات والتوازن في القوى الذي يكفل عدم سيطرة إحداها عليها مع الجماعية في اتخاذ القرارات، وكذلك ضمان قيام التشكيلات الأهلية بين جماهير الناس بصورة مستقلة عن أجهزة الدولة ومُجَمعِّة لجماعات المصريين في الأعمال والمِهن والحِرف والتكوينات التي تمارس بها الأنشطة الأهلية وتكون مستقلة عن أجهزة الدولة وموازية لها. ومراعاة أن كل هذه الأمور إنما تكون مصحوبة بمضامين سياسية استقلالية للوطن والجماعة وللنهوض الاقتصادي والاجتماعي والتوازن بين القوى الشعبية المتباينة، فلا يمكن فصل الأبنية الديمقراطية التنظيمية عن مضامينْها السياسية وإلا صارت جوفاء لا تدل على شيء.

ولكن الذي حدث أن جاءت النكسة سريعة فما أسرع ما تحولت به المسألة الديمقراطية في ثورة 25 يناير من سياقها السياسي والتنظيمي ومضامينه الاجتماعية الاقتصادية، تحولت إلى سياق أيديولوجي يتعلق بما أُسمي “ماهية الدولة” لتكون دينية أم مدنية بالمعنى العلماني لكلمة المدنية. فتركز الاستقطاب السياسي والفكري بقيادة أجهزة الإعلام وقوى الاستبداد السياسي المملوكة لجهاز الدولة والنخب الثقافية الخائفة من الشعب، سرعان ما تركز في مسألة “ماهية الدولة” وكأن المصريين لا يعرفون ماهيتهم. وبهذه الصياغة الفكرية تحددت القوى السياسية وتعين الاستقطاب السياسي وهو في حقيقته يعكس استقطابًا بين القوى الشعبية من جهة وقوى الاستبداد السياسي الخائف من الديمقراطية من جهة أخرى.

(2)

ومضت الشهور من وقت ثمين جدًا من أوقات الثورة، لأنه يحدد مصير أمة لعشرات السنين التالية، ضاعت هذه المدة بغير عائد، وانتهت إلى ذات النقطة التي كنا نقف عندها، لأن النقاش والصراع الاجتماعي اختار المسألة التي ليست مطروحة ولا كان ينبغي أن تكون مطروحة، لأن السؤال عن “الماهية” هو سؤال عن “من أكون أنا” فهل نحن المصريين بعد كل ما وصلنا إليه من مستوى حضاري وثقافي لازلنا لا نعرف “من نحن” وما هي ماهيتنا. ولأنه لا تعارض حقيقي بين المرجعية الدينية بحسبانها المرجعية الثقافية العامة وبين مسائل الواقع السياسي والاجتماعي وما به من سلبيات وكيفية معالجته. كما أن التعارض بين ما هو ديني وما هو علماني لا يتحقق به تمايز حقيقي بين ما هو ديمقراطي وما هو مستبد، لأن في الإسلاميين مستبدين وديمقراطيين وفي العلمانيين مستبدين وديمقراطيين، ولذلك فإثارة الخلاف الديني العلماني يطمس حقيقة الصراع بين أنصار الثورة الديمقراطية وأعدائها.

كانت خسارة جهد ووقت ثمين وخسارة وعي وذهول عن حقيقة المطلوب وخسارة تكلف صراعًا بغير نتيجة، وذلك بسبب الغفلة عن قضايا الواقع وأزماته ومطالبه الملحة. وقد تشارك في ذلك العلمانيون والإسلاميون لأنه كان بوسع كل من الاتجاهين أن يفطن إلى مقتضيات التوازنات القائمة ومدى المؤدي الصحيح للموقف السياسي وحالة التوازن القائمة في المجتمع، وكان مطلوبًا من كل منهما أن يفطن للمسائل الملحة وثقل اهتمام الرأي العام بها. ويظهر لي أن مسئولية الاتجاه العلماني أشد لأنه هو الممسك بناصية أجهزة الإعلام كلها، المرئي والمسموع والمقروء، ومنه النخب التي تتصدى لمواجهة الرأي العام في كل حين وكل لحظة.

وقد بدأت أجهزة الإعلام هذه حملتها حول “ما هية الدولة” قبل أن يمضي أسبوعان أو ثلاثة من تنحي حسني مبارك عن الحكم. ويمكن لمجموعة من الباحثين الشباب أن ينشغلوا في مشروع بحثي حول أجهزة الإعلام في هذه الفترة، وماذا كانت تثير من مسائل الحوار والجدل حول مشاكل مصر بعد الثورة، وأن يقدموا لنا ما انشغلت به هذه الأجهزة عن برامج تنظيمات الدولة وأجهزة الديمقراطية وبرامج تشكيل الهيئات والتنظيمات الأهلية من اتحادات ونقابات وهيئات لا تسيطر عليها الحكومة وتنشأ مستقلة عنها تجمع القوى الشعبية فضلاً عن الأحزاب. وما انشغلت به هذه الأجهزة الإعلامية عن السياسات الخارجية لمصر ومدى تحقيقها لاستقلالها السياسي، وعن الزراعة والصناعة والاحتياجات في أي مجال إنتاجي وكيفية إدارة ما توقف من مصانع وشركات ومتطلبات ذلك، وكذلك الحديث عن مدى إمكانية إعادة التماسك لجهاز إدارة الدولة وإعادة البناء الديمقراطي في صوره الملموسة.

كانت لدينا ولا تزال مشاكل الاستبداد التنظيمي والتبعية للخارج والاحتياج الاقتصادي واختلال التوازن الاجتماعي، فتركنا كل ذلك واستغرقنا في الجدل والصراع حول “مدنية الدولة ودينيتها” بغير أن يكون هناك تناقض حقيقي بين الأمرين، وبغير أن نصل إلى نتيجة تخالف ما كنا عليه، وبقيت هذه المسألة في الدستور كما هي. هي بنص المادة الثانية من دستور 1971 إلى دستور 2012 إلى دستور 2014، والمفروض والمتصور أن المرجعية الدينية توجب مراعاة مصالح الناس وأن المرجعية العلمانية توجب مراعاة مصالح الناس أيضًا.

(3)

إننا إزاء ثورة وهي حدث سياسي يستهدف تحقيق غايات سياسية فكان يتعين أن يكون تصنيف القوى المهتمة بهذا الأمر تصنيفًا سياسيًا يجري على أساس ما تتجمع عليه كل من هذه القوى من أهداف سياسية واجتماعية ذات مردود سياسي.

والقوة الاجتماعية في ظني هي الجماعة المنظمة التي تجتمع على مطالب معينة في إطار الجماعة الوطنية العامة، للتأكيد على وجودها أو لحماية مصالحها وتنميتها، سواء كان مبنى هذا التجمع هو الانتماء بين أفراد هذه الجماعة لوحده انتماءً فرعيًا في الجماعة الوطنية، قبلية كانت أو طائفية أو إقليمية، أو كان مبناه الدفاع عن مصالح اقتصادية لفئات اجتماعية كالطبقات أو الشرائح الطبقية، رجال أعمال أو فلاحين أو عمال أو غيرهم.

والقوة السياسية هي ما يتوجه من ذلك للدولة بوصفها سلطة سياسية عامة تحكم الجماعة الوطنية كلها، وذلك لتقرير ما تراه من سياسات وتنفيذها بوسائل الدولة في إدارة المجتمع.

إذا كان الأمر كذلك، فما وضع المسألة “الدينية والمدنية” حسبما أثيرت ما هو وضعها في هذا الشأن. إنها لا تتعلق بالسياسات التي تُرسم وتُتخذ ولكن بما يعلو على هذه السياسات، أي أنها هي المرجعية العامة للسياسات التي تتخذها الدولة أو تُطالَب الدولة باتخاذها ويصدر عنها المواطنون. هي أمر ثقافي ومرجعي للسياسات وليست السياسات ذاتها، أي أنها تتعلق بالأصول الثقافية العامة التي تصدر عنها الجماعات والأفراد في سلوكهم وفي قراراتهم ونظمهم وفي حكمهم على الأمور بالصواب أو الخطأ أو بالصحة والفساد أو بما يسميه رجال الفلسفة بالحَسن والقبيح، وهذا يميزها عن الأحكام التي تتعلق بالشأن السياسي في المستوى الأدنى ومُقاس بمعايير الجدوى وعدم الجدوى أو بوسائل النجاح والفشل في تحقيق الأهداف. المرجعية هي شأن ثقافي يتعلق بالثقافة العامة السائدة في المجتمع، شأنها في ذلك كشأن اللغة المتعلقة بإمكان الاتصال والتخاطب. ولذلك فهي تنتشر وتسود بالدعوة وليس بالقرار السياسي والسائد منها مُلزِم للجماعة لأنه لا يتغير بقرار تصدره سلطة ما أو بسياسة تُتخذ لتحقيق أسلوب ما في التنظيم أو الإنتاج أو التوزيع، وشأنها في ذلك بما يسود منها بين الجماعة كشأن اللغة التي تسود فيها.

ومعنى ذلك أنه عندما جرى الاستقطاب بين الناس خلال فترة ما بعد قيام ثورة 25 يناير، إنما جرى على ما يعتبر شأنًا ثقافيًا، أي أنه جرى لا على سياسات الدولة المراد بناء أجهزتها وتنظيماتها وأساليب تبادل العلاقات بين جماعاتها السياسية والاجتماعية، ولكنه جرى على ما هو فوق السياسات ثم انتهى إلى ما كان عليه وهو أن مصر لغتها العربية والإسلام هو الدين الرسمي للدولة والشريعة الإسلامية هي “مصدر” التشريع حسبما تنص المادة 2 من دستور 1971 وحسبما ورد بدستوري 2012، 2014. لأن الشأن الثقافي يعبر عنه الدستور حسب السائد في الجماعة وهو لا يتعلق بتنظيمات ولا بعلاقات قوى مما يختص الدستور بتنظيمه.

وهذا الذهول الذي ساد بفعل الإعلام وبتزكية من قوى الاستبداد، هو ما أضاع على الثورة ومستقبل مصر ما كان يُرجى أن تبدأ في تحقيقه من نظام ديمقراطي ومن محتوى نهضوي واجتماعي.

أضاع ذلك حتى الآن، وهو ذهول لأن الثورة كما سبقت الإشارة حدث سياسي وليست وضعًا ثقافيًا، ولكل أساليبه ومجاله ومستواه.

 

(4)

المشكلة في ذلك جاءت إلينا متدحرجة من عهد حسني مبارك ومن السياسات الأمريكية “المباركية” التي سادت عبر السنوات الثلاثين السابقة على ثورة 25 يناير 2011.

فمنذ سنة 1979 قامت ثورة إيران ضد شاه إيران المستبد وضد الهيمنة الأمريكية، وهي كانت ثورة تخرج من الوعاء الثقافي الإسلامي العام، فأعادت الصلة بين حركات المقاومة للاستعمار والاستبداد بالمرجعية الإسلامية، وذلك على ما كانت عليه سابقًا في عهد جمال الأفغاني بالنسبة للمشرق العربي والإسلامي ومصطفى كامل في مصر ومحمد بن أحمد المهدي في السودان وعبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي في المغرب العربي والإسلامي.

وفي ذات السنة أبرم أنور السادات في مصر معاهدة السلام مع إسرائيل بالمباركة الأمريكية، فقامت ضده حركات المقاومة المصرية والعربية. ثم في سنة 1984 دخل الإخوان المسلمون في مصر الانتخابات النيابية متحالفين مع حزب الوفد وظهروا سياسيًا كقوة تخوض معارك السياسة من خلال التغيير الإسلامي.

ومع نهايات الثمانينيات سقط الاتحاد السوفيتي العدو الشيوعي التقليدي للإمبريالية الأمريكية، واستعاضت الولايات المتحدة عن هذا العدو الماركسي العلماني عدوًا آخر أسمته العدو الحضاري للغرب وهو الإسلام، تقصد بذلك الحركات الوطنية والديمقراطية المقاوِمة للهيمنة الأمريكية في بلادنا بلاد الشرق، وتحول الصراع السياسي الذي يظهر أطماعها كقوة استعمارية في بلادنا إلى صراع يظهر بمظهر الصراع الثقافي بين ما تدعيه لنفسها من تحضر وبين ما تتهم به الثقافة الإسلامية من تخلف وماضوية.

ووجد نظام حسني مبارك مصلحته السياسية في أن ينحرف الصراع السياسي ضد استبداده وعمالته للولايات المتحدة إلى صراع فكري ديني ضد الحركات الإسلامية التي كانت هي الوحيدة القادرة على النشاط بين جماهير الشعب والقادرة على تشكيل تنظيمات جماهيرية مستقلة عن إرادة الدولة وتوجيهها.

وظهر أن أنجع وسيلة لفك الاستقطاب والتجمع السياسي ضد نظامه الاستبدادي الخاضع للهيمنة الأمريكية الإسرائيلية، لا أن يقاومه بأدوات الدولة القمعية فقط، ولكن أن يطرح على المستوى الثقافي غطاءً من مسألة أخرى غير المسائل السياسية والاجتماعية الجارية والمثارة حول السياسات المتبعة التي كانت تفكك أجهزة الدولة والتشكيلات الاجتماعية والاقتصادية المساندة لبقاء مصر بلدًا مستقلاً.

فكانت مسألة الصراع الحضاري على المستوى العالمي تقودها الولايات المتحدة ضد حركات التحرر والمقاومة لنفوذها في العالم، وعلى مستوى مصر كان نظام حسني مبارك يقود الصراع ضد الحركات الإسلامية المقاوِمة لاستبداده وسياساته، واستمرت أدوات الإعلام والتثقيف التابعة للدولة تنتهج هذا الأسلوب حتى قامت ثورة 25 يناير.

ومع ثورة 25 يناير، ما أن أزيح حسني مبارك عن الحكم حتى لاحظنا أن ثمة إصرارًا إعلاميًا على إبقاء المسألة المثيرة للاستقطاب هي المسألة الثقافية المتعلقة بالمرجعية واتخذت شكل موضوع “الهوية” بين ما هو ديني وما هو علماني يعبر عن ذاته بوصف “المدني”.

فانحرفت الصراعات والأنظار عن مسائل التنظيم الديمقراطي وطرائقه المناسبة للأوضاع المصرية، وعن صراعات البناء الاقتصادي المستقل والسياسات الخارجية المعبرة عن المصالح الوطنية المصرية، وجاء ذلك بذات أسلوب نظام حسني مبارك ولكن بأشخاص جديدة.

(5)

ترتب على هذا الاستقطاب المصطنع حول ماهية الدولة بين الدينية والعلمانية المسماة بالمدنية، ترتب على ذلك نتيجة بالغة الشذوذ في التاريخ المصري السياسي.

لقد حكم حسني مبارك مصر ثلاثين سنة، ولكي ندرك معنى هذا الأمر علينا أن نذكر ما نشرته صحيفة الشروق المصرية في 21 أغسطس 2013 (صفحة 10)، أنه بعد تبرئة حسني مبارك في قضية القصور الرئاسية في 19 أغسطس السابق فإن موقعًا إلكترونيًا إسرائيليًا نشر أن هذه التبرئة “قد تكون بفضل دعوات الحاخام عوفاديا يوسف، الزعيم الروحي لحزب شاس الديني في إسرائيل، وذكر أن هذا الحاخام معروف بمواقفه العنصرية ضد العرب “وأنه كان خصص محاضرة في العام الأسبق ذكر فيها أنه كان يصلي لينقذ الله مبارك من يد أعدائه بمصر” وحكى عوفاديا عن لقائه مبارك في القاهرة قبل 28 سنة حيث استقبله مبارك بحفاوة بالغة ووافق على طلب بنقل مشروع أحد الطرق التي تمر بمقابر اليهود وأنه “في نهاية اللقاء طلب مبارك انصراف جميع الحضور وقال لي سيدي الحاخام أريد أن تباركني فأنا أومن ببركتك، فوضعت يدى على رأسه وقلت لتكن مشيئة الرب أن تطول أيام حكمك”.

وعوفاديا يوسف، كما ورد في كتاب “أسرار آخر الحروب” الذي أصدره الأستاذ توحيد مجدي في السنة قبل الماضية، وعرض فيه لما أخرج عنه من وثائق رسمية أمريكية وإسرائيلية ومنها ما يتعلق بمصر ومفاوضات السلام بينها وبين إسرائيل وأمريكا أيام كان أنور السادات رئيسًا لمصر وحسني مبارك نائبًا للرئيس، عوفاديا يوسف ولد سنة 1920 بالعراق وسافر به والداه إلى القدس وهو في الرابعة من عمره حيث تربى ودرس القانون الشرعي اليهودي وعُيِّن قاضيًا يهوديًا في سنة 1945 ثم جاء مصر في 1949 قاضيًا يهوديًا بين يهود مصر والتحق بمنظمة سرية صهيونية ثم بجهاز المخابرات الصهيوني وفي هذا الوقت عرف شابًا ضابطًا في السلاح الجوي المصري هو محمد حسنى السيد مبارك الذي كان على صلة بالطائفة اليهودية بمصر وأسرهم (ص 43-47).

وكان عوفاديا يوسف استغل علاقته بحسني مبارك بعد حرب 1973 في استرداد جثث القتلى الإسرائيلين من الأراضي المصرية. وعرف أنور السادات بهذه العلاقة وعمل على استغلالها في عملية السلام مع إسرائيل، كما كان لحسني مبارك علاقات مع موسى ديان أيام اتفاقات السلام وعملية تهجير الفلاشا اليهود الإثيوبيين عبر السودان إلى إسرائيل. (ص 273- 278).

وإذا كانت هذه العلاقات مما كشفت عنها الوثائق المنشورة من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي في السنوات الأخيرة، فهي تفيد أمرًا مهمًا وهو أن سياسات حسني مبارك المنصاعة للأمريكيين والإسرائيليين والمدمِّرة للاقتصاد المصري والمفكِّكة لأجهزة الدولة المصرية فيما عدا الأمن، لم تكن مجرد فشلاً ولا سوء تقدير ولا كانت مجرد استجابة لمصالح ذاتية للفئة الحاكمة المصرية، إنما جاءت تنفيذًا لسياسات خارجية تستهدف ما تحقق من نتائج.

والحاصل أنه إذا كانت قيادات بأجهزة الدولة المصرية وأجهزة الإعلام المصري وجمهرة من المثقفين المصريين الليبراليين ذوي الأقلام والظهور، إذا كان كل هؤلاء قد احتملوا أن يحكم مصر رجل له كل هذه التوجهات لإسرائيل عدو مصر القومي، وذلك لمدة ثلاثين سنة، فهل هذا يفسر كيف لم يحتملوا نظامًا ديمقراطيًا يأتي بانتخابات حرة في سنة 2012 في ظل دستور ديمقراطي، ويأتي بقوة سياسية تتشح برداء الإسلام.

(6)

الجماعة السياسية تقبل قيام الصراع بين تياراتها السياسية المختلفة حول السياسات الوطنية والاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي أن تسود في حكمها وتمارسها الدولة في كل مرحلة من مراحلها التاريخية، والصراع هنا قد يبلغ حد الثورة على نظام الحكم القائم. ولكنها في ظني لا تحتمل بوصفها جماعة سياسية أن يصل الحوار بين مكوناتها الثقافية حد الصراع. لأن الجماعة السياسية تقوم على وضع ثقافي قبِلته وارتضته الجماعة السياسية لتقيم عليه دولتها ونظام حكمٍ واحد عام يشملها. والحوار كما نعلم هو أسلوب للخلاف بين أطراف يقبل كل منها الآخر وتبحث معه عن المساحة المشتركة بينها وتعديل المواقف الفكرية الجزئية التي يقوم بها التكامل والتعايش بينهم. بينما الصراع يصل إلى حد يسعى للنفي المتبادل بين الأطراف المتصارعة ولذلك فهو في المجال الثقافي المتعلق بتكون الجماعة ومسائل الانتماء الجمعي يمكن أن يحطم الجماعة السياسية القائمة بين المتصارعين.

ونحن نعلم أن قوى الاستعمار الغربي تعمل على تحول صراع الشعوب المستعمَرة ضدها من صراع سياسي إلى صراع ثقافي، وذلك رغبة منها في إخفاء الطابع العدواني لها على الشعوب الأخرى، لأن الوضع السياسي لحركات التحرر الوطني يكشف أنه صراع يدور حول تحرير الأرض والشعوب المستعمَرة وأن الوجود الأجنبي في ذلك هو المعتدي، بينما إخفاء هذا الطابع السياسي يعيد تصوير الصراع بأنه بين قوم يقاومون الآخرين لأن فكرهم وثقافتهم تجعلهم يرفضون الآخرين. ونحن بوصفنا شعوبًا معتدَى عليها علينا أن نحفظ الطابع السياسي لهذا الصراع.

ومن جهة أخرى فإن الحاصل أيضًا أن قوى الاستبداد في داخل مجتمعاتنا تحاول كذلك أن تخفي وضع الاستبداد الداخلي بوصفه وصفًا سياسيًا. تحاول أن تخفيه بتصويره كوضع ثقافي من جهة القوى الأهلية الرافضة للاستبداد، وذلك بتصوير هذه القوى بأنها تحمل ثقافة رافضة للأوضاع القائمة. وهي بتصويرها الصراع السياسي بأنه صراع ثقافي تعطي نفسها ذريعة أن تشن حربًا داخلية ضد هذا القسم من شعبها الذي يرفضها لا لأنه يرفض الاستبداد، ولكن لأنه يحمل من الأفكار ما يتنافى مع قبول الوضع القائم بما يهدد الجماعة السياسية ويهدد تماسكها.

ومن هنا نفهم لمَ اعتاد الناطقون باسم القوى الاستبدادية المسيطرة على الحكم الآن أن يصوروا أن الحكم في حالة “حرب” تخوضها الحكومة ضد “أعداء” للشعب وهم دائمًا يصورون الوضع على أنه صراع ثقافي مقصود به تحطيم الجماعة الوطنية، والمقصود بذلك الترويج للتصور العام الذي يتقبل نفي الآخر السياسي وليس مجرد التنافس مع إمكان التعايش معه. وهم بذلك يسعون إلى أن يجردوا معارضيهم السياسيين من وصف المواطنة مبررين بسعيهم كل ما يُتخَذ من نفي للآخر السياسي وإقصاء له عن الوجود السياسي داخل الجماعة السياسية. وهم لا يدركون بذلك أنهم بوصفهم هذا يجردون أنفسهم من شرعية تمثيل الجماعة الوطنية في جملتها وفي تكاملها السياسي.

إن “العدواة” و”الحرب” ليستا مجرد موقف بين خصوم وجماعات متعارضة في المصالح، إنما هما يشيران إلى ما يتحتم به رفض التعايش والإقصاء الكامل للآخر بسحب صفة المواطنة عنه وتبرير كل ما يُتخذ ضده. وتصويره بأنه بمحض وجوده في الحياة وداخل الجماعة فهو يكون معتديًا. ومن هنا جاء رفض الاحتكام إلى النظام الانتخابي الحر النزيه للمفاضلة بين المختلفين سياسيًا ومن هنا نلحظ هذا التهيُّب الشديد عند تشكيل النظام الانتخابي للمجلس النيابي (المرتقب) سواء في تقسيم الدوائر أو في إعداد قوائم المرشحين أو حتى في اختيار رجال الدولة في جهاز الإدارة.

(7)

النظام الاستبدادي بطبيعته اللصيقه به نظام مغلق من ناحية القائمين عليه، وأن من يحيط بالقمة الفردية يندر أن يتغيروا أو أن تتغير موازينهم النسبية، وأن تغذيتهم من خارجهم بعناصر جديدة إن لم يكن مستحيلاً فهو بالغ الصعوبة، وإن لم يكن ممتنعًا فهو بالغ الندرة. فالاستبداد يفيد الحصر والقصر، وهو في مآلاته يتطور نحو الأضيق فالأضيق، وذلك حسبما تدلنا الخبرة التاريخية ولذلك فهو نظام عقيم ليس له بعد، لأنه لا يُولِّد من داخله ممكنات للتجدد والتكاثر.

وإن من يتبوأ مركز القمة في السلطة المستبدة يتحتم عليه أن يستبد، لأنه إما أن يوجد بسلطاته كلها وإما ألا يوجد، لأن كل أجهزة الدولة ومؤسساتها صاعدة إليه وحده هابطة منه وحده، وأن التوازنات التي تقوم إنما تقوم بين من هم دونه.

وهي تؤدي إلى صعوده المنفرد وتكفل له أن ينفرد وحده من دونهم، وذلك إذا أحكم قيادة نفسه وأدرك طبيعة ما لديه من سلطات وطبيعة ما لدى مَنْ دونه من إمكانات ينفي بعضها بعضًا، فتكون إمكانات في مواجهة الرئيس هي إمكانات تتوازن بتطارح الأصفار لأنه هو وحده من الناحية التنظيمية من جمعها.

وفي التنظيم القائم على سلطة الفرد عادة ما يبدأ بالبراءة مما سبقه على أنه الظلمة والظلمات، وأن ما يصنعه من إيجابيات هو بالضبط فعل الضد عن النظام أو الأوضاع السابقة عليه. وكان هذا هو الشأن فيما عرفنا مع تغير الرئاسات المصرية منذ منتصف القرن العشرين، دائمًا الرئيس الجديد الذي كان قد اختاره السابق، إنما يحاول كسب الشعبية بتصوير أنه سيشرع بفعل عكس ما كان سلفه يصنع، فعلها أنور السادات مع عبد الناصر وفعلها حسني مبارك مع أنور السادات في بدايات حكمه.

ولكن المشكل الآن، أن الوضع الحالي بعد 3 يوليه 2013 ليس له سابق ذو سياسة وتطبيق معروف الأثر، لأنه لم يمكث في الحكم إلا سنة واحدة كان فيها محاصرًا عن الفعل الطليق، وكذلك فإن من تولى الحكم ليس له جماعة ارتبط بها وارتبطت به في الفعل المؤدي إلى الوصول إلى السلطة، ويصعب تكوينها بعد الوصول إلى السلطة. لذلك نلحظ أمرين، أولهما أن الوضع الحالي لا يرى سياسات سابقة يقوم ضدها، فليس إلا ما يثار بشأن “الإرهاب” المدعى عن أفعال تالية وليست سابقة. وثانيهما هذا التباطؤ والتراخي في اختيار من يمكن أن يكونوا عناصر سياسية حاكمة أو مشاركة في الحكم من بعد.

إن الاستبداد يفرض نفسه على المستبِد ويضيّق عليه الخناق.

(8)

هذا عن الأوضاع الحاكمة، أما من حيث الحركة الشعبية فتعين أن يستفيد المصريون من خبرتهم التاريخية، وهي خبرة تعلمهم أن مصر على مدى القرن العشرين وحتى ثورة 25 يناير 2011، عرفت أربعة تيارات شعبية أساسية: أولها التيار القومي الوطني الذي يرى حركة استقلال مصر عن السيطرة الأجنبية، وثانيها التيار الديمقراطي الذي يجتهد في تنظيم الشأن المصري على نحو يزيل الاستبداد أو يقلل من إمكاناته في حكم البلاد وإدارة المجتمع، وثالثها التيار الإسلامي الذي يرعى الوضعية الثقافية العامة السائدة في المجتمع طبقًا للقواعد العامة ذات الذيوع في الشعب بكافة مستوياته، ورابعها التيار الاجتماعي الذي يعمل على أن يكون توزيع الدخول في مصر على قدر من الرشد والعدالة بحفظ التوازن بين طبقاته الاجتماعية مع السعي للنهوض الاقتصادي بعامة.

هذه التيارات الأربعة لم تنسَّق في تنظيم أو تيار واحد في أي من مراحل هذه الفترة المعاصرة، مع أنها ليست متناقضة ولا متنافية، لا من حيث تشكلها الفكري والسياسي ولا من حيث ما تمثلت فيه من تنظيمات تاريخية. وقد عرفت مصر في الحزب الوطني لمصطفى كامل ومحمد فريد من بداية القرن العشرين في ثورة 1919 ارتباطًا وجمعًا بين التيار الوطني والتيار الإسلامي كما عرفت في حزب الوفد على عهدي سعد زغلول ومصطفى النحاس من ثورة 1919 حتى ثورة 23 يوليه 1952 جمعًا بين التيار الوطني والتيار الديمقراطي. وعرفت في عهد جمال عبد الناصر من سنة 1952 حتى سنة 1970 جمعًا بين التيار الوطني والتيار الاجتماعي.

ثم عرفت من تجربة العامين الأولين لثورة 25 يناير سنة 2011 جمعًا بين التيار الإسلامي والتيار الديمقراطي. وهذا أهم درس وخبرة حصلنا عليها سنتي 2011، 2012.

وعرفت من خبرة هذه السنوات المائة وعشر ليس فقط أن هذه التيارات والأهداف ليست متنافية ولا متناقضة، وكذلك أن الوعي الإسلامي الحركي استوعب الجانب الديمقراطي مع نزوعه الوطني.

كما عرفت الأهم من ذلك لمستقبل هذه البلاد، وهو أنه لا مستقبل ولا استمرارية ولا فاعلية لأي من هذه التيارات أو بعضها الا إذا انضمت كلها إلى تشكيل فكري وسياسي واجتماعي واحد، يتشكل بحركة  شعبية وتنعكس أهدافه وأوضاعه على نظام الحكم وإدارة المجتمع.

والحمد لله

طارق البشري

فبراير 2015

————————–

افتتاحية العدد الثاني عشر من “أمتي في العالم”: عامان من تحولات الثورة المصرية (يونيو 2012 – يونيو 2014)، (عدد إلكتروني).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى