أفغانستان بعد ثلاث سنوات من الانسحاب الأمريكي: السياسي والاقتصادي
مقدمة:
إن البحث في الشؤون الأفغانية الداخلية ليس بالأمر اليسير، بل إنه بحث محفوف بصعوبات عدة، يتجلى أبرزها وأهمها فيما يتصل بمصادر المعلومات الأولية التي تُمكن الباحث من بناء المادة البحثية. ذلك أن القنوات الإخبارية والمصادر الإعلامية الدولية التي تتناول الشأن الأفغاني من خارج أفغانستان توجهها الميول والمواقف الأيديولوجية من حركة طالبان من ناحية، وربما عدم الاهتمام الكافي بالشأن الأفغاني بعد الانسحاب الأمريكي من ناحيةٍ أخرى. وكذلك لأن الحكومة الأفغانية الحالية لم تول مسألة التواصل الإعلامي مع العالم الخارجي الذي لا يعرف اللغة البشتوية الاهتمام الكاف، فلا يجد المتابع العربي بالشأن الأفغاني سوا منصة “أفغانستان بالعربي” التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك وإكس وتيليجرام” والتي أُنشئت حديثًا ولم يتجاوز عدد متابعيها (100) ألف متابع، ويقتصر ما تقدمه هذه المنصة على بعض الفيديوهات الدعائية للحكومة وأفعالها وتاريخ حركة طالبان ومسيرتها الجهادية، والجزء الآخر عبارة عن أخبار مقتضبة عن منجزات الحكومة الداخلية والدولية في الشؤون السياسية والاقتصادية.
”
البحث في الشؤون الأفغانية الداخلية ليس بالأمر اليسير، ذلك أن القنوات الإخبارية والمصادر الإعلامية الدولية التي تتناول الشأن الأفغاني من خارج أفغانستان توجهها الميول والمواقف الأيديولوجية من حركة طالبان من ناحية، وربما عدم الاهتمام الكافي بالشأن الأفغاني بعد الانسحاب الأمريكي من ناحيةٍ أخرى.
رغم أن هذا التقرير ليس موضوعه التغطية الإعلامية للشأن الأفغاني، إلا أن التوقف على أبرز ملامح هذه التغطية يقدم مؤشرًا ذا دلالة بشأن المواقف الدولية والإقليمية من حكومة طالبان من حيث القبول بها أو رفضها، وهو لا شك أمر يؤثر على مساحات الحركة المسموح لها بها. ذلك حيث يخضع الخطاب الذي تقدمه القنوات الإعلامية والإخبارية الدولية للموقف الأيديولوجي من حركة طالبان، فقد خلصت دراسة تناولت التغطية الإعلامية لمجموعة قنوات دولية موجهة باللغة العربية هي (CNN – الحرة – روسيا اليوم – الجزيرة – العربية) أن القنوات الدولية الأمريكية أكثر ميلًا لتقديم حركة طالبان بشكلٍ سلبي، بسبب الموقف السياسي المتعارض بين الولايات المتحدة والحركة. فالولايات المتحدة تعتبر حركة طالبان جماعة إرهابية، وترى أنها تمثل تهديدًا لمصالحها في أفغانستان والمنطقة. بينما كانت قناة روسيا اليوم أكثر ميلًا لتقديم حركة طالبان بشكلٍ إيجابي، بسبب الموقف السياسي المتعارض بين روسيا والولايات المتحدة. فروسيا ترى أن حركة طالبان هي قوة إقليمية مهمة بالنسبة لها، وتعارض تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان. أما القنوات العربية، فكانت تغطيتها متباينة، حيث كانت قناة الجزيرة أكثر عرضةً لتقديم تغطية إيجابية لحركة طالبان، بينما كانت قناة العربية أكثر اتجاهًا لتقديم تغطية سلبية للحركة. الأمر الذي يعكس التنوع في المواقف السياسية والثقافية للقنوات العربية تجاه حركة طالبان[1].
وعلى كل حال، فإن هذا التقرير، وفي هذا السياق الموضح، يسعى لبحث التطورات التي ألمت بالوضع السياسي والاقتصادي الأفغاني بعد ثلاث سنوات من الانسحاب الأمريكي. وذلك لما للشأن الأفغاني من أهمية مرتبطة أولًا بكون أفغانستان الدولة الأحدث تحررًا من الاحتلال الأجنبي المباشر، وهي بذلك تقدم نموذجًا ناجحًا لمقاومة الإمبريالية الأمريكية والتحرر الوطني. وثانيًا، لما لها من علاقات وروابط بالأمة الإسلامية عامةً على المستوى الحضاري، وهو ما ظهر جليًا في تفاعل الشعب الأفغاني وحكومة طالبان مع القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023. وثالثًا، لكون الموقع الجيوستراتيجي لأفغانستان لا يزال على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية، وخاصةً في تقاطع العلاقات والمصالح الروسية /الصينية -الأمريكية في منطقة آسيا الوسطى، والذي يجعلها منطقة تفاعل دولي محورية وبالتالي فالدور الأفغاني له قدر من الثقل في حسابات الأطراف كافة، وخاصةً في المسائل المتعلقة بمواجهة الجماعات الإرهابية وتحقيق الأمن الإقليمي أو ممرات الغاز والنفط والأمن الاقتصادي.
أولًا- المشهد السياسي الأفغاني بعد ثلاث سنوات من الانسحاب الأمريكي:
أ) الدستور والحكومة:
أعلنت طالبان في 7 سبتمبر 2021 قيام أو عودة “إمارة أفغانستان الإسلامية”؛ بدلًا من “جمهورية أفغانستان الإسلامية” التي قامت على دستور 2004، ثم أعلنت تشكيل ما وصفته بحكومة “تصريف الأعمال”، لحين إعلان تشكيل حكومة جديدة دائمة، ولم تُعلن الحركة حينها موعدًا لتشكيل هذه الحكومة الدائمة، بل لم تعلن عنها حتى الآن بعد مرور ثلاث سنوات على توليها الحكم. وعند تشكيل الحكومة المؤقتة جاء اسم الملا محمد حسن آخند أحد مؤسسي الحركة، رئيسًا للحكومة، وكان قد شغل منصب نائب وزير الخارجية بين عامي 1996 و2001 عندما كانت الحركة في السلطة. ويستمد آخند وضعه الاعتباري داخل الحركة من كونه من الرعيل الأول لطالبان، وعمله إلى جانب مؤسسها الراحل الملا محمد عمر، وهو في الوقت ذاته مقرَّب للغاية من هبة الله آخوند زاده الزعيم الروحي الحالي لطالبان[2].
تتكون الحكومة من 33 وزيرًا كانوا مسؤولين سابقين في طالبان أو موالين لها مثل وزير التجارة نور الدين عزيزي، علمًا أن بعضهم يخضع لعقوبات الأمم المتحدة والولايات المتحدة. فإلى جانب الملا محمد حسن آخند الذي يتولى رئيس الوزراء بالوكالة، يشغل أحد مؤسسي الحركة الملا عبد الغني برادر -الذي قاد مفاوضات السلام مع واشنطن- منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية. ويشغل الملا عبد السلام حنفي منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الإدارية، والمولوي عبد الكبير منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون السياسية، وسراج الدين حقاني حقيبة الداخلية، ويتولى نجل مؤسس الحركة المولوي محمد يعقوب مجاهد منصب وزير الدفاع، ويشغل أمير خان متقي حقيبة الخارجية، وذبيح الله مجاهد هو المتحدث باسم الحكومة الأفغانية[3].
ويبدو أن طالبان حين تولت الحكم عملت على إكساب الدولة سماتها التنظيمية؛ بمعنى أنها عملت على تحوير تنظيمها -أي الدولة- إلى ما يتناسب مع نظام العلاقات التي كانت سائدة في الحركة قبل وصولها إلى الحكم، وهو أمر يبدو شائعًا بين التنظيمات التي تصل إلى السلطة عقب تغيير عنيف كالثورة أو الحرب[4]. وفي هذا السياق، أظهرت تقارير عدة أن زعيم طالبان قد سيطر على مفاصل الدولة، وحدد لكل مسؤول دائرة عمله، ولا يستطيع أحد التحدث في أمور مصيرية مهما يكن شأنه وتاريخه في الحركة. وحتى أجندة مجلس الوزراء، يجب أن يطلع عليها الزعيم قبل مناقشتها في المجلس، والقرارات التي تمت الموافقة عليها فيه يجب أن يُوافق عليها الزعيم قبل إعلانها[5].
”
ويبدو أن طالبان حين تولت الحكم عملت على إكساب الدولة سماتها التنظيمية؛ بمعنى أنها عملت على تحوير تنظيمها -أي الدولة- إلى ما يتناسب مع نظام العلاقات التي كانت سائدة في الحركة قبل وصولها إلى الحكم، وهو أمر يبدو شائعًا بين التنظيمات التي تصل إلى السلطة عقب تغيير عنيف كالثورة أو الحرب
ومن التصريحات التي تؤكد هذا التوجه ما أوردته شبكة الجزيرة نت منسوبًا لمصدر بوزارة العدل الأفغانية: “زعيم طالبان آخوند زاده يُسيطر على جميع الإدارات الحكومية، كما أن تعيين وإقالة أي مسؤول من صلاحيته فقط، وما يُميزه عن الحكام السابقين هي طاعة المسؤولين المطلقة له”. ومن ثم، حدد زعيم الحركة مهام اللجان السياسية والعسكرية والمالية في الحكومة، ويقوم الجميع بالمهام الموكلة إليهم، ويلتزمون بالطاعة المطلقة ولا يستطيعون مناقشة القضايا المهمة والمصيرية في الدولة. وقد ظهرت هذه الديناميكية، التي لا تزال تتطور، إلى العلن عندما ألغى آخوند زاده في اللحظة الأخيرة عودة الفتيات إلى المدارس الثانوية التي وعدت بها طالبان منذ مدة طويلة، ورغم التذمر الداخلي على مستوى القيادة، فإنهم ومن باب مبدأ الطاعة لا يستطيعون نقد القرار وإنما فقط قبوله. أما من يعترض فعليه التنحي من منصبه، كما حدث مع أول وزير للتعليم العالي عبد الباقي حقاني[6].
لم تنجح الحركة حتى الآن في وضع دستور وطني ونظام قانوني تستند إليه في الحكم، وإنما اعتمدت على القرارات التي تصدرها قيادات الحركة والحكومة ويصفها البعض بالفرمانات، وربما يُستثنى من هذا قانون “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الذي أصدرته وزارة العدل الأفغانية وأشرفت على كتابته وزارة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وبعد نقاش استمر سنة كاملة تم رفعه إلى مكتب زعيم طالبان الذي وافق عليه وطالب بتنفيذه في عموم البلاد، ومنح صلاحيات واسعة للوزارة. وهو ما أثار موجة انتقادات دولية -أوروبية وأمريكية بالأساس- واسعة من منطلق القيود على الحريات والحقوق، وخاصةً حرية المرأة، التي ستترتب على تطبيق القانون.
”
لم تنجح الحركة حتى الآن في وضع دستور وطني ونظام قانوني تستند إليه في الحكم، وإنما اعتمدت على القرارات التي تصدرها قيادات الحركة والحكومة ويصفها البعض بالفرمانات
وقد أوضح وزير “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الشيخ خالد الحنفي أن هذا القانون هو أول قانون يوقع عليه زعيم الحركة، وأن جميع مواده استُخرجت من الفقه الحنفي، ومن ثم لا يحق لأحد بعد ذلك أن يقول إن طالبان لم تُدون قانونًا. ويتضمن القانون 35 مادة وقد نُشر في الصحيفة الرسمية، ويُعد أول إعلان رسمي لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في أفغانستان منذ تولي طالبان الحكم عام 2021، والتي تُعلن أن تطبيق الشريعة جزءًا من سياستها. ويحتوي القانون الجديد بشكلٍ أساسي على[7]:
– ثلاثة فصول يوضح فيها تعريف المحتسب (من يتولى تطبيق قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ويشرح صلاحياته ومسؤولياته بشأن التعامل مع المعتقلين والسجناء.
– فصل رابع يتناول الأحكام المتفرقة التي لها علاقة بالقانون وتنفيذه.
وينص القانون -بشكلٍ خاص- على “وجوب ستر المرأة جسدها بالكامل في حضور الرجال الذين لا ينتمون إلى أسرتها”، وكذلك وجهها “خوفًا من الفتنة”. وخُصصت المادة 13 لحجاب المرأة، وتنص على “وجوب تغطية وجه المرأة وصوتها وبدنها وإخفائه خوفًا من الفتنة”. في حين خُصصت المادة 14 “للرجال وعورتهم”، ويحق للمحتسب أن يستجوب الرجل الذي لا يُراعي ما جاء في القانون. وعلى جميع الأشخاص، بمن فيهم الأجانب الذين يعيشون في أفغانستان، تطبيق هذا القانون الذي لم يرد فيه أي استثناء. وتتولى وزارة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” مسؤولية تنفيذه، وهو يطال جميع جوانب الحياة الأفغانية الاجتماعية والخاصة. يمكن تصنيف هذا النوع من القوانين على أنه من القوانين الرقابية التي تُمكن الحكومة من تقويم المجال العام وضبطه بما يتسق ورؤيتها للشريعة الإسلامية، ولذا فإنه يتسع ليشمل مجالات أخلاقية لا تتناولها في العادة القوانين الوضعية.
ب) الحقوق والحريات:
ولعل واحدًا من أكثر الأمور لفتًا للانتباه فيما يخص السياسة الداخلية للحركة، تركيز كافة التقارير الصحفية والإخبارية على مسألة حقوق المرأة وقرار طالبان بمنع الإناث من استكمال التعليم الثانوي والجامعي؛ باعتباره من سوءات نظام طالبان وسبب أساسي لموقف الدول الغربية المعادي للحركة. وذلك بالرغم من أنه على المستوى العملي، قامت الحركة باستبدال التعليم الثانوي للإناث بـ “دورات تدريبية” و”تعليم ديني” يستخدم مناهج مماثلة لتلك المقررة في التعليم الثانوي. ومن ناحيةٍ أخرى، لم ينتبه سوى قِلة من المراقبين إلى مؤشر إيجابي مفاجئ ألا وهو؛ ارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس الابتدائية للفتيات والفتيان على حدٍ سواء. إذ تُظهر الأرقام أن المدارس الابتدائية قصة مختلفة، وخاصةً للفتيات. فوفقًا لمسح أجراه البنك الدولي التحقت 60٪ من الفتيات في سن السابعة إلى الثانية عشرة بالمدارس الابتدائية في عام 2023، بارتفاعٍ قدره 36٪ عما قبل استيلاء طالبان على السلطة. ويبدو أن هذا الارتفاع هو نتيجة ثانوية لنهاية الحرب وتحقق قدر من الأمن، فضلًا عن حقيقة أن بعض العائلات تنظر إلى المدارس التي تديرها طالبان على أنها أكثر قبولًا من الناحية الدينية أو الثقافية من مدارس النظام السابق. كما حصل المزيد من الفتيان على التعليم، وبشكلٍ عام فإن الفجوة بين الجنسين آخذة في الضيق. ولكن العامل الأبرز الذي يحد من مزيد من التحسن على مستوى التعليم الابتدائي هو ندرة المدارس، وخاصةً في المناطق الريفية[8].
”
لم ينتبه سوى قِلة من المراقبين إلى مؤشر إيجابي مفاجئ ألا وهو؛ ارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس الابتدائية للفتيات والفتيان على حدٍ سواء. فوفقًا لمسح أجراه البنك الدولي التحقت 60٪ من الفتيات في سن السابعة إلى الثانية عشرة بالمدارس الابتدائية في عام 2023، بارتفاعٍ قدره 36٪ عما قبل استيلاء طالبان على السلطة.
ج) الأمن والخدمات العامة:
وعلى مستوى الأمن الداخلي، استطاعت طالبان تحقيق الإنجاز الأكبر في سياستها الداخلية. فمع انتهاء عشرين عامًا من الحرب بانسحاب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، كان التحسن الرئيسي منذ تولي طالبان السلطة هو السلام والأمن الذي عم البلاد. ذلك خاصةً أنه في المراحل الأخيرة من الحرب، فقد الأفغان عشرات الآلاف من أرواحهم كل عام، مما جعل أفغانستان لسنواتٍ عديدة الساحة الأكثر دموية في العالم.
هدأت الفوضى مع انتصار طالبان، حيث استطاع مقاتلو الحركة السيطرة على مساحة أكبر من أراضي البلاد مقارنةً بأي حكومة تمتعت بها منذ عقود. وبالرغم من أن أعمال العنف ضد طالبان لا تزال مستمرة، ولاسيما من فرع جنوب آسيا لتنظيم الدولة الإسلامية وبقايا قوات الأمن السابقة في المناطق النائية، لكن عدد الاشتباكات انخفض بشكلٍ مطرد. ذلك أن استخبارات طالبان تراقب بوضوح مثل هذه الجماعات، وكانت حملات الحركة على تنظيم الدولة الإسلامية قوية وناجعة. كما أن طالبان لديها قنوات مفتوحة مع نظرائها الغربيين بخصوص هذه المسائل؛ إذ يعتبر المسؤولون الأمنيون الأمريكيون والأوروبيون تنظيم الدولة الإسلامية المصدر الرئيسي للخطر، ويرى العديد منهم أن طالبان تشكل حصنًا ضده. كما انخرطت الحكومات الإقليمية، التي يُقاتل العديد منها -بما في ذلك الصين وطاجيكستان وأوزبكستان، فضلًا عن باكستان- المسلحين الذين يلوذون بأفغانستان، مع طالبان لمعالجة مخاوفها الأمنية، وإن كانت النتائج محدودة حتى الآن[9].
واتصالًا بسياسات الأمن الداخلي، نجحت حركة طالبان في تطهير الكثير من الفساد الذي اشتهرت به الحكومات السابقة المدعومة من الولايات المتحدة. فمنذ عام 2001 وحتى عام 2021، اختلس المسؤولون الفاسدون مليارات الدولارات من المساعدات الأجنبية. مع العلم أن حركة طالبان احتفظت بمعظم البيروقراطية السابقة، لكنها اتخذت تدابير صارمة لمكافحة الفساد. وبسبب انخفاض الفساد جزئيًا أصبحت بعض وظائف الدولة، مثل تحصيل الضرائب، أكثر انسيابية. ووفقًا لبعض التقديرات، فقد قضت عمليات التنظيف التي قام بها النظام الجديد في الجمارك ونقاط التفتيش على حوالي 1.4 مليار دولار من الرشاوى[10].
كما أطلقت طالبان حملة لمحاربة المخدرات -عقب توليها السلطة في أفغانستان عام 2021- أدت إلى انخفاض زراعة خشخاش الأفيون بنسبة 95٪، وهذه النتيجة تعد أكثر نجاحًا من أي حملة أخرى لمكافحة المخدرات في العصر الحديث. وقد جاء في تقرير لمجموعة الأزمات الدولية بعنوان “مشكلة حقول الأفيون في أفغانستان: حرب طالبان على المخدرات” إن حملة طالبان بدأت بطيئة، وسرعان ما أصبحت أكثر صرامة، إذ استهدفت قوات طالبان الأهداف السهلة مثل جمع المتعاطين في السجون ومراكز إعادة التأهيل، مع تحذير المزارعين من زراعة الأفيون الذي اعتمدوا عليه قرونًا، وعندما فشلت التحذيرات نشرت طالبان قواتها لمواجهة المزارعين وتدمير محاصيلهم[11].
د) السياسة الخارجية:
وعلى صعيد السياسة الخارجية، سعت الحركة لبناء علاقات دبلوماسية مع جيرانها أو استعادة تلك التي جُمدت عقب الانسحاب الأمريكي، وإن كانت معظم دول العالم لم تتخذ موقفًا إيجابيًا من تبادل العلاقات الدبلوماسية مع الحركة بعد وصولها للحكم، وخاصةً على خلفية المواقف الأيديولوجية من “إمارة إسلامية” كما وسمت الحركة أفغانستان بعد وصولها للحكم. إلا أنه بالرغم من ذلك، وفي 30 يناير 2024، تسلم الرئيس الصيني شي جين بينغ أوراق اعتماد السفير الأفغاني لدى بكين، بلال كريمي، في خطوة عدها البعض بمثابة أول اعتراف بحكومة حركة طالبان في أفغانستان من إحدى القوى الدولية، بينما اعتبرها آخرون تنطوي على تناقض من جانب بكين في ظل تعاملها مع طالبان من دون الاعتراف بها رسميًا كحكومة. كما تعد الصين أول دولة تُعين رسميًا سفيرًا جديدًا في أفغانستان منذ سيطرة حركة طالبان على السلطة، بعد أن قدم سفيرها أوراق اعتماده في سبتمبر2023[12]. أيضًا أعلنت وزارة الخارجية الأفغانية التي تديرها حركة طالبان تعيين أول سفير معتمد لها في الإمارات، لتكون بذلك الدولة الثانية التي تقبل بمبعوث من حكومة طالبان على هذا المستوى بعد الصين[13].
أما روسيا، فقد اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن حركة طالبان الأفغانية حليفة بلاده فيما أطلق عليه “مكافحة الإرهاب”، جاء ذلك في أعقاب حديث روسي الأشهر الماضية عن اقتراب موسكو من إقامة علاقات كاملة مع الحكومة الأفغانية التي شكلتها الحركة. ورغم أن روسيا لم تعترف بعد بالحكومة التي شكلتها طالبان في كابول، فإنها تتعامل معها وتستقبل تباعًا وزراء ومسؤولين من الحركة في زياراتٍ رسمية، كما سُلمت السفارة الأفغانية في موسكو لممثلي طالبان. يمكن فهم الموقف الروسي من الحركة بالنظر إلى الأهمية الكبيرة التي تكتسبها أفغانستان في السياسة الخارجية والاستراتيجية الأمنية الروسية، فهي تشترك بحدود مع طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان في آسيا الوسطى، التي تُعرف وفقًا لاستراتيجية روسيا الأمنية، بأنها الحدود الأجنبية القريبة، وتعتبر منطقة نفوذ ومصالح حيوية لروسيا[14].
وعلى هذا الأساس، فإن الأولوية الأهم لروسيا في العلاقات مع أفغانستان هي مسألة الأمن، يُضاف لذلك المنافسة مع الولايات المتحدة والصين على تقاسم النفوذ في منطقة آسيا الوسطى، خاصةً مع توسيع النفوذ الغربي في مناطق كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي سابقًا.
ومن ناحيةٍ أخرى، شهدت علاقات الحركة بدول آسيا الوسطى تحولًا ملحوظًا، إذ توقفت قرغيزستان عن تصنيف طالبان منظمة “إرهابية”، كما أزالت كازاخستان طالبان من قائمتها للمنظمات “الإرهابية”، بينما تعاملت أوزبكستان وتركمانستان مع طالبان بشكلٍ أكثر ليونة، إذ لم تعدها “إرهابية” أصلا، كما أخذت أوزبكستان تتبادل مع أفغانستان الوفود التمثيلية بانتظام. وفي نهاية أغسطس 2024، زار رئيس وزراء أوزبكستان عبد الله أريبوف العاصمة الأفغانية مصحوبًا ببعض الوزراء[15]. وقد وقع الطرفان نحو 35 بروتوكول اتفاق تجاري واستثماري بقيمة 2.5 مليار دولار، مع تطلعات لزيادة حجم التبادل التجاري إلى 3 مليارات دولار في المستقبل.
لكن في المقابل، عملت الحركة على نفي علاقاتها الدبلوماسية ببعض الدول، إذ أعلنت وزارة الخارجية الأفغانية 30 يوليو 2024 أنها لن تعترف بعد الآن بالوثائق القنصلية الصادرة عن البعثات الدبلوماسية الأفغانية في العديد من الدول الغربية؛ بسبب عدم استجابتها للتعاون مع الحكومة الأفغانية. وقالت الوزارة في بيانها إنها قطعت العلاقة مع سفارات وقنصليات أفغانية لدى كلٍ من لندن وبرلين وبون وبلجيكا وسويسرا والنمسا، وفرنسا وإيطاليا واليونان وبولندا والسويد والنرويج وكندا وأستراليا. وأضافت الوزارة أن هذه البعثات عملت “بصورة تعسفية” وانتهكت توجيهات كابول التي دعتها مرارًا للتعاون مع الحكومة المركزية، لكنها لم تستجب[16].
ثانيًا- المشهد الاقتصادي الأفغاني بعد الانسحاب الأمريكي
”
تشهد أفغانستان الآن أزمة اقتصادية، تقتضي الموضوعية ربطها بالانسحاب الأمريكي وليس بقصرها على سياسات طالبان في السلطة.
أ) الانسحاب الأمريكي والأزمة الاقتصادية الأفغانية:
تشهد أفغانستان الآن أزمة اقتصادية، تقتضي الموضوعية ربطها بالانسحاب الأمريكي وليس بقصرها على سياسات طالبان في السلطة. فقد قطع المانحون الغربيون فور الانسحاب الأمريكي مساعدات التنمية التي كانت تغطي 75٪ من نفقات الحكومة السابقة. وإلى جانب النهاية المفاجئة لاقتصاد الحرب وعوامل أخرى، أدى هذا الانقطاع إلى انزلاق أفغانستان إلى أزمة اقتصادية وإنسانية. أوقف المانحون العديد من المشاريع، بما في ذلك مشاريع الطاقة والنقل والري التي تزيد قيمتها على 2.8 مليار دولار، ولم يُستأنف سوى القليل منها بعد ذلك. وقدر البنك الدولي أن البلاد خسرت نحو 26٪ من ناتجها المحلي الإجمالي الحقيقي في عامي 2021 و2022. وبهذا انزلق ملايين الأفغان إلى براثن الفقر في الأشهر الأولى بعد عودة طالبان، وكان العديد منهم يتجهون نحو المجاعة، حيث ُعانى 55٪ من السكان من مستوياتٍ حادة من الجوع. وتقع أعباء سوء التغذية بشكلٍ أكبر على عاتق الفتيات في الأسر الفقيرة، حيث أفاد الأطباء في مراكز التغذية العلاجية أن معدلات الوفيات بين الفتيات أعلى بنسبة 90 ٪ من معدلات الوفيات بين الأولاد[17].
لقد تم تعليق غالبية المساعدات، بما في ذلك جميع المساعدات الإنمائية الرسمية في أعقاب تغيير الحكومة، مما دفع أفغانستان إلى حالة انهيارٍ اقتصادي. واعتبارًا من أغسطس 2024 تلقت خطة الاستجابة للاحتياجات الإنسانية في أفغانستان 25٪ فقط من تمويلها الضروري. يؤثر هذا الانخفاض في الدعم بشدة على تقديم الخدمات الإنسانية، فقد أُجبر 343 فريقًا صحيًا متنقلًا -بما يُقدر بأكثر من نصف جميع الفرق في مختلف أنحاء البلاد- على الإغلاق هذا العام فقط. وفي هذا الإطار، توضح مديرة اللجنة الدولية للإنقاذ في أفغانستان سلمى بن عيسى أن “عدم اليقين السياسي، والعزلة الدولية، وأزمة المناخ، والأزمة الاقتصادية تسببت في زيادة الاحتياجات الإنسانية التي تركت ما يقرب من 24 مليون شخص في حاجةٍ إلى الدعم”. ومن ثم يحتاج الأفغان، بشكلٍ عاجل، إلى المساعدة الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الفورية والمساعدة التنموية لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة في البلاد[18].
”
لقد تم تعليق غالبية المساعدات، بما في ذلك جميع المساعدات الإنمائية الرسمية في أعقاب تغيير الحكومة، مما دفع أفغانستان إلى حالة انهيارٍ اقتصادي.
ب) السياسات الاقتصادية لحكومة طالبان:
ناضل ملايين الأفغان من أجل البقاء على قيد الحياة خلال ذلك الشتاء الأول تحت حكم طالبان؛ حيث كانت الدولة على وشك الانهيار، وظل الموظفون المدنيون دون رواتب، وانخفضت قيمة العملة الوطنية. ومن ناحيةٍ أخرى، تتفاقم ضغوط التوظيف بسبب الأعداد الهائلة من المهاجرين الأفغان الذين أُجبروا على العودة إلى البلاد، بما في ذلك أكثر من 600 ألف من باكستان منذ سبتمبر 2023 وأعداد مماثلة من إيران. وأصبح نصف مليون عامل آخرين كانوا يعملون في حقول الأفيون عاطلين عن العمل بعد أن حظرت طالبان المخدرات في عام 2022. وتضررت عمالة النساء بشكلٍ أكبر، حيث انخفضت بنسبة 25٪ منذ استيلاء طالبان على السلطة، مقارنةً بانخفاض بنسبة 7٪ للرجال، ولم يعد يُسمح للنساء بالقيام بالعديد من الوظائف الحكومية. وتؤدي القواعد المتعلقة بالملابس والمرافق المنفصلة بين الجنسين والمرافقين الإلزاميين إلى تعقيد عملهن في القطاعات التي لا تزال مفتوحة أمامهن[19].
بالرغم من تلك الأزمات والصعوبات نجحت طالبان في إعادة قدر من الاستقرار إلى الاقتصاد، إذ تحسنت المؤشرات الرئيسية، مع تحسن أحجام الصادرات، وإيرادات الحكومة، وقوة العملة الوطنية الأفغانية. ذلك أن السلطة الجديدة عملت على محاولة احتواء انهيار العملة بعد الانسحاب الامريكي بحظر التعاملات بالأوراق النقدية الأجنبية، مع مجموعة تدابيرٍ أخرى. وذكر البنك الدولي في تقرير (مراقبة اقتصاد أفغانستان) عن أغسطس 2024 أن التراجع الاقتصادي توقف العام الماضي مع وجود علامات واضحة على الاستقرار وبعض التعافي، إذ استؤنفت العمليات المصرفية جزئيًا، وبدأ المزيد من الشركات في العمل، كما أظهر الوضع المعيشي للأسرة تحسنًا طفيفًا. يقول وليام بايرد الخبير في الشؤون الأفغانية من معهد الولايات المتحدة الأمريكية للسلام في واشنطن: “قامت حركة طالبان بعمل أفضل مما كان متوقعًا في إدارة الاقتصاد الأفغاني على الرغم من بعض الأخطاء، وكانت إدارة طالبان للاقتصاد الكلي أفضل مما كان متوقعًا، كما يتضح من استقرار سعر الصرف، وانخفاض التضخم، وفعالية تحصيل الإيرادات، وارتفاع الصادرات”، وأضاف أن أفغانستان قامت بما يلي[20]:
– انخفاض في الفساد في الجمارك.
– تطبيق إجراءات ضد التهريب والرشوة.
– تضييق الخناق على هروب رؤوس الأموال المتفشي في ظل النظام السابق (كان يصل إلى 5 مليارات دولار سنويًا أو حتى أكثر)، وذلك من خلال التطبيق الصارم للقواعد ضد تصدير النقد.
– التنظيم الأكثر صرامةً للتحويلات غير الرسمية.
– زيادة إيرادات الحكومة من خلال إجراءات صارمة لجمع الضرائب.
وأشار بايرد إلى أن تراجع التضخم كان مؤشرًا آخر على تحسن نسبي في الاقتصاد الأفغاني، فبحلول فبراير 2024، انخفض التضخم الإجمالي بنسبة 9.7٪ على أساس سنوي وفق تقرير مشترك صادر عن مؤسسة مستقبل أفغانستان والبنك الدولي، كما انخفضت الأسعار بصورة كبيرة وفق التقرير إذ تراجعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 14.4٪ والمواد غير الغذائية بنسبة 4.4٪.
وبالرغم من هذا، لا يزال لدى الأفغان قدرة أقل على الوصول إلى العديد من الخدمات الحكومية، والذي يرجع جزئيًا إلى نقص الأموال لدى الدولة بعد أن توقف المانحون عن دفع المساعدات، وكانت خدمات الصحة والمياه والصرف الصحي الأكثر تضررًا في ذلك، فقد أُغلقت مئات المرافق الصحية منذ عام 2021، وتفتقر تلك التي لا تزال تعمل إلى الصلاحية والمعدات والموظفين المدربين. وينبع جزء من المشكلة من القيود التي يفرضها النظام على النساء، مما يعوق قدرة الموظفات على العمل وتقديم الخدمات للنساء الأخريات، حتى لو منحت طالبان استثناءات للعاملات الصحيات. كما تجعل العقوبات والقضايا المصرفية من الصعب استيراد الإمدادات، فقد أصبح طلب المواد الأساسية ودفع ثمنها واستلامها عبئًا ثقيلا. وكانت النتيجة زيادة في الأمراض التي يمكن الوقاية منها، وخاصةً بين الأطفال.
كما أدى نقص الإمدادات والصيانة إلى تدهور شبكات المياه، وخاصةً في المناطق الحضرية، مما أسفر عن ارتفاع نسبة الأسر التي لا تتمتع بإمكانية الوصول إلى المياه بشكلٍ صحيح من 48٪ في عام 2021 إلى 67٪ في عام 2023. وعلى صعيد الخدمات الإدارية في هذا السياق، انزلقت الإجراءات الحكومية من استخراج الوثائق اللازمة للسفر وشهادات الميلاد والزواج، وخاصةً جوازات السفر، في تأخيرات بيروقراطية[21].
لكن من ناحيةٍ أخرى، ساعد الأمن النسبي الذي حققته الحركة في الدولة السلطات على إصلاح بعض البنية الأساسية المتدهورة في البلاد، ولاسيما النقل. وعلى الرغم من القيود المالية الخطيرة التي تواجهها طالبان، فقد استأنفت بعض المشاريع، بما في ذلك جانب من المشاريع التي كانت جارية قبل أن تتوقف عندما قطع المانحون التمويل. وقد أكملت السلطات بناء العديد من السدود ومضت قدمًا في بناء قناة “قوش تيبا” على الحدود الشمالية، والتي صُممت لري 550 ألف هكتار من الأراضي الزراعية. كما تعمل طالبان على بناء أو إصلاح طرق النقل مثل نفق سالانج الذي يربط كابول بشمال البلاد وطريق سيربط أفغانستان بالصين[22].
كما برزت بعض الإنجازات الاقتصادية التي أعلنت عنها الحكومة من قبيل إعلان وزارة المناجم الأفغانية منذ فترة قصيرة عن توقيع 13 عقد تعدين في مختلف الولايات، وبيع 78 ألف قيراط من زمرد بنجشير بقيمة 5.5 مليون دولار عام 2023[23]. وكذلك أعلنت وزارة المالية في سبتمبر 2024 أنها قامت بسداد 2.7 مليار أفغاني من مخلفات فترة الاحتلال -على حد تعبيرها- منها 910 مليون أفغاني للبنك الدولي و1.9 مليار أفغاني للبنك الآسيوي للتنمية[24]. ومن تلك الإنجازات أيضًا، إعلان وزارة الصناعة والتجارة الأفغانية تحولها من الاكتفاء الذاتي في الرخام إلى التصدير بقيمة 6 ملايين دولار خلال خمسة أشهر[25].
على جانب آخر، ذكر تقرير للبنك الدولي أن واردات أفغانستان ارتفعت إلى 5.6 مليارات دولار في الفترة من يناير إلى يوليو 2024، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 28٪ مقارنةً بالفترة نفسها في عام 2023. وزادت واردات الأغذية، التي شكلت 19٪ من الإجمالي إلى 1.1 مليار دولار، ونمت واردات المعادن التي تشكل 20٪ من الإجمالي إلى 1.14 مليار دولار. في المقابل، انخفضت واردات المنسوجات التي تشكل 7٪ من إجمالي الواردات إلى 397 مليون دولار. وبينما أظهرت واردات السلع الأساسية نموًا متواضعًا، كانت ثمة زيادات كبيرة على أساس سنوي في خدمات النقل 77٪، والمنتجات الكيميائية 54٪، والآلات والمعدات 46٪. هذا وتشير بعض البيانات إلى أن أفغانستان تستثمر في صناعاتها الخاصة، مما يُشير إلى نموٍ محتمل في الناتج الصناعي المحلي في المستقبل[26].
في المقابل، يبدو أن التوترات بين طالبان وجيرانها تؤثر سلبًا على ميزانها التجاري، فبالرغم من استقرار الأمن في كافة أنحاء أفغانستان وكون جميع المعابر الحدودية مفتوحة أمام التجارة، فإن العجز التجاري لأفغانستان اتسع 38٪ في الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، ليصل إلى 4.8 مليارات دولار؛ فمنذ يناير إلى يوليو 2024، انخفض إجمالي صادرات أفغانستان إلى 805 ملايين دولار، وهو انخفاض 11٪ مقارنةً بالفترة نفسها في عام 2023. ويرجع تقرير مراقبة اقتصاد أفغانستان ذلك بالدرجة الأولى إلى توتر العلاقات التجارية مع باكستان، إذ حوّلت الحكومة الباكستانية محطات الطاقة التي تعمل بالفحم إلى الفحم المحلي لتقليل الاعتماد على استيراد الفحم من أفغانستان وسحبت امتيازات الرسوم الجمركية على الفواكه الأفغانية الطازجة والمجففة مع تقييد المعابر الحدودية؛ فانخفضت صادرات أفغانستان من الفحم إلى باكستان بنسبة 73٪، لتصل إلى 54 مليون دولار فقط في الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، مقارنةً بـ198 مليون دولار خلال الفترة نفسها من العام السابق، كما انخفضت صادرات الأغذية بنسبة 2.7٪[27].
”
عملت أفغانستان طالبان على استغلال موقعها الجيوستراتيجي لإقامة مشروعات من شأنها العودة بمنافع اقتصادية على الدولة.
ج) المشروعات الاقتصادية الإقليمية:
على صعيدٍ آخر، عملت أفغانستان طالبان على استغلال موقعها الجيوستراتيجي لإقامة مشروعات من شأنها العودة بمنافع اقتصادية على الدولة. ومن ذلك مشروع “تابي” لنقل الغاز، وحسب وزارة المناجم الأفغانية، يُعتبر مشروع نقل الغاز من تركمانستان إلى باكستان والهند عبر أفغانستان “تابي” (وهو اسم يشير إلى الحروف الأولى لأسماء الدول المشاركة فيه) من المشاريع الإقليمية الضخمة والواعدة لنقل الغاز بين وسط وجنوب آسيا. ويبلغ الطول الإجمالي لخط أنابيب غاز “تابي” 1814 كيلومترًا، ويمر عبر ولايات هرات وفراه ونيمروز وهلمند وقندهار في الجزء الأفغاني، حيث يبلغ طول الخط داخل الأراضي الأفغانية 816 كيلومترًا. يمتد هذا الخط على طول طريق هرات قندهار السريع في أفغانستان، ثم يمر عبر كويتا ومولتان في باكستان، وصولا إلى مدينة فزيلكا في الهند. وتبلغ التكلفة الإجمالية لهذا المشروع 22 مليار و500 مليون دولار. ومن المتوقع أن ينقل قرابة 33 مليار متر مكعب من الغاز، سيكون نصيب أفغانستان منها 500 مليون متر مكعب وسيتم تقسيم الباقي بين باكستان والهند. كما سيتم تنفيذ العديد من المشاريع الأخرى على طول خط الأنابيب، ومنها مشروع نقل الكهرباء بقدرة 500 كيلو وات بين تركمانستان وباكستان عبر أفغانستان. وبناءًا على التصريحات الحكومية، ستحصل كابول على ما يصل إلى 110 ملايين دولار من حقوق العبور من نقل الكهرباء، وسيتم بناء 3 محطات فرعية للكهرباء في ولايات هرات وفراه وقندهار. كما سيتم أيضًا مد كابلات الألياف الضوئية في المنطقة لربط الدول المجاورة، وهناك مشروع آخر سيتم تنفيذه على طول خط أنابيب الغاز، وهو خط السكة الحديدية الذي يربط باكستان وتركمانستان عبر أفغانستان[28].
يبدو واضحًا أن الوضع الاقتصادي الأفغاني معقد وصعب، فتوابع انسحاب الولايات المتحدة ووقف التمويل الدولي كانت كارثية من ناحية، لكن من ناحيةٍ أخرى يبدو أن طالبان تعمل في ظل ظروف شديدة الصعوبة وعزلة دولية على إيجاد منفذ لتحسين الأحوال الاقتصادية، معتمدةً بالأساس على سياسات قوامها محاربة الفساد وتوظيف الموارد المتاحة لتعظيم العائد. وفي الوقت ذاته، وما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا، أن بعض السياسات التي اتبعتها حركة طالبان كانت السبب في ارتفاع نسبة الفقر بصورةٍ كبيرة في السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد إخراج جانب من موظفي الحكومة السابقة من وظائفهم، إضافةً لمنع النساء من العمل في الدوائر الحكومية أولا، ثم منعهن أيضًا من العمل في المنظمات الدولية والمحلية، كما مُنعت معظم الأعمال التي تديرها النساء، وأبرزها صالونات التجميل، مما أدى إلى فقد الآلاف من العائلات الأفغانية لمصادر رزقها[29].
خاتمة:
لا ريب أن أفغانستان بعد ثلاث سنوات من الانسحاب الأمريكي تشهد تحديات سياسية واقتصادية كبيرة، ولعل أبرز هذه التحديات يتأتى من:
أ. فقدان نظام طالبان للشرعية الدولية، إذ إن أغلب دول العالم لا تزال تسم الحركة بكونها حركة إرهابية، وترفض تبادل التمثيل الدبلوماسي معها، كما لا تحظى الحركة بتواجد في المجتمع الدولي -مؤسساته وتنظيماته- وإن كانت بعض الدول تتجاوز هذه المسألة فيما يخص العلاقات التجارية والاقتصادية.
ب. لا تزال الحركة تواجه تحديًا داخليًا مرتبطًا بنمط نظام الحكم، ومدى قدرتها على تحقيق شكل من أشكال التوافق الوطني حول مستقبل البلاد. فحركة طالبان بحكم موقعها على رأس السلطة اليوم تتحمل مسؤولية أكبر تجاه الوطن والمواطن، فهناك فرق كبير بين كون حركة طالبان جماعة مقاتلة في السابق تقاوم الاحتلال، وبين كونها تمسك زمام الحكم وتدير البلاد حاليًا، فلكل مرحلة طبيعتها ومتطلباتها، فالجماعة المقاتلة لها هدف محدد ويتركز نشاطها ونضالها على القتال لتحرير الوطن. أما الحكومة فتدير البلاد ومسؤولة عن شؤون الدولة كلها، وينتظر المواطنون منها الحكم الراشد، وتوفير ظروف حياة كريمة، وعلى مستوى العلاقات الخارجية ينتظر المجتمع الدولي منها أن تكون دولةً مسؤولة، تنسجم مع النظام الدولي، وتفي بمسؤولياتها، وتلتزم بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية ما لم تنتهك السيادة الوطنية والاستقلال[30].
ج. التحدي الاقتصادي الذي يواجه الحركة بعد قطع التمويل الدولي، وغياب استراتيجية اقتصادية كبرى وسياسات اقتصادية واضحة لكيفية معالجة الأزمات الاقتصادية، وكذا رفض الحركة التدخلات الدولية الإيصائية وخاصةً من جانب الأمم المتحدة والدول الغربية، وإن كانت تعمل في الوقت ذاته على كسر عزلتها الدولية عبر إقامة علاقات اقتصادية وتجارية مع روسيا والصين ودول آسيا الوسطى، كما أبدت رغبتها في الانضمام لمنظمة البريكس.
ومن ثم ليست الصورة قاتمة ولا المشهد معتمًا، فالوضع في تجاذب بين الصعوبات والتحديات والسعي للتغلب عليها وتجاوزها، وعلى كل حالٍ فثلاث سنوات بعد احتلالٍ أجنبي دام قرابة عقدين ليست فترة كافية للحكم على الحركة بالنجاح أو الفشل.
_______
هوامش
[1] فاطمة شعبان، انعكاس الاختلافات الأيديولوجية على تغطية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في القنوات الدولية الموجهة باللغة العربية، المجلة المصرية لبحوث الرأى العام، العدد الأول يناير/مارس 2024، ص283.
[2] مدحت ماهر ومروة يوسف، الطريق إلى تشكيل حكومة انتقالية في أفغانستان وشروط الاعتراف بها، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 27 يناير 2022، تاريخ الاطلاع: 25 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/mWlekI6u
[3] حميد الله محمد شاه، كيف يمارس زعيم حركة طالبان سلطته في أفغانستان؟، الجزيرة نت، 30 يناير 2021، تاريخ الاطلاع: 1 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/bvFzG8gT
[4] انظر أصل هذه الفكرة عند طارق البشري، جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر المعاصرة، (القاهرة: دار نهضة مصر، 2015)، ص 78.
[5] حميد الله محمد شاه، كيف يمارس زعيم حركة طالبان سلطته في أفغانستان؟، مصدر سابق.
[6] المصدر السابق.
[7] حميد الله محمد شاه، تفاصيل قانون “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في أفغانستان، الجزيرة نت، 27 أغسطس 2024، تاريخ الاطلاع: 28 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/pc073fUO.
[8] Graeme Smith, Afghanistan Three Years after the Taliban Takeover, International crisis group, 14 August 2024, Accessed on: 20 August 2024, available at: https://2u.pw/xmsWuhXo
[9] Ibid.
[10] Ibid.
[11] مجموعة الأزمات: كيف نجحت طالبان في خفض 95٪ من زراعة المخدرات؟، الجزيرة نت، 12 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/0WK42V2H.
[12] عادل علي، تأمين الجوار: دوافع وقيود تبادل السفراء بين الصين وحكومة طالبان الأفغانية، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 20 فبراير 2024، تاريخ الاطلاع:30 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/aRtmhT8W.
[13] طالبان تُعيّن سفيرا في الإمارات، الجزيرة نت، 22 أغسطس 2024، تاريخ الاطلاع: 30 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/OSjuySx0.
[14] فضل الهادي وزين، 4 قضايا تلخص علاقة روسيا بحركة طالبان، الجزيرة نت، 29 يوليو 2024، تاريخ الاطلاع: 4 أكتوبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://linksshortcut.com/Ghyye.
[15] إزفستيا: دول آسيا الوسطى تقيم علاقات مع حركة طالبان، الجزيرة نت، 8 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 10 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/FVGq1tEM
[16] أفغانستان “تتبرّأ” من بعثاتها الدبلوماسية في 14 دولة، الجزيرة نت، 30 يوليو 2024، تاريخ الاطلاع: 20 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/DwDUVIt3
[17] Graeme Smith, Afghanistan Three Years after the Taliban Takeover, Op. cit.
[18] Millions of Afghans endure crisis three years after Taliban takeover, International crisis group, 14 August 2024, Accessed on: 20 August 2024, available at: https://linksshortcut.com/nNQXE
[19] Graeme Smith, Afghanistan Three Years after the Taliban Takeover, Op:cit.
[20] فضل الهادي وزين، مؤشرات إيجابية في أفغانستان.. هل نجحت طالبان اقتصاديا؟، الجزيرة نت، 16 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 18 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/gfbQ
[21] Graeme Smith, Afghanistan Three Years after the Taliban Takeover, Op.cit.
[22] Ibid.
[23] منشور على صفحة “أفغانستان بالعربي” على الفيس بوك بتاريخ 23 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/TafCv2cq
[24] منشور على صفحة “أفغانستان بالعربي” على الفيس بوك بتاريخ 16 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/rndmdItZ
[25] منشور على صفحة “أفغانستان بالعربي” على الفيس بوك بتاريخ 23 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/TafCv2cq
[26] فضل الهادي وزين، مؤشرات إيجابية في أفغانستان.. هل نجحت طالبان اقتصاديا؟، مصدر سابق.
[27] المصدر السابق.
[28] تفاصيل أكبر مشروع لنقل الغاز بآسيا دشنته طالبان، الجزيرة نت، 12 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/pQqy
[29] نصف الأفغانيين تحت خط الفقر ومنظمات أممية تدق ناقوس الخطر، الجزيرة نت، 10 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/nPBO
[30] فضل الهادي وزين، أفغانستان في ظل حكم طالبان.. المكتسبات والتحديات والفرص، الجزيرة نت، 18 فبراير 2024، تاريخ الاطلاع: 25 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/VhkWiLJm
- فصلية قضايا ونظرات – العدد الخامس والثلاثون – أكتوبر 2024