هل يُمثل نمو القطاع الزراعي في تركيا تنميةً مستدامة؟

مقدمة:

خلال مأدُبة إفطار رمضاني للمزارعين في المجمع الرئاسي بأنقرة، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن بلاده أصبحت الأولى أوروبيًا في الإنتاج الزراعي، كما ذكر أردوغان، أن تركيا تحتل المرتبة الرابعة عالميًا في إنتاج الخضراوات والفواكه، أيضًا تحتل المرتبة الـتاسعة عالميًا والثالثة أوروبيًا في إنتاج الحليب، وتحتل المرتبة السابعة عالميًا والأولى أوروبيًّا في إنتاج لحوم الأبقار[1]. مع العلم أن ذلك الذي أتى في سياق استعراض رئاسي لبعض الإنجازات في القطاع الزراعي، لا يعني أن الصورة وردية، فهناك رؤى نقدية محلية متصاعدة لسياسات الإنتاج من أجل التصدير وللتضخم الكبير الذي أصاب القطاع الزراعي، دون إنكار حدوث طفرات في هذا القطاع الحيوي بالبلاد على مدار العقدين الماضيين من صعود وتصدر حزب العدالة والتنمية للسياسة التركية ورسمه مع شركائه في الحكم للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، بما شملته من استمرارية أو انقطاع عن المسارات السابقة للدولة التركية وتطور الاقتصاد السياسي للجمهورية التركية منذ التأسيس في عشرينيات القرن العشرين.

يسعى هذا التقرير إلى بحث وتحليل وضع القطاع الزراعي ضمن الاقتصاد السياسي للصعود العام للنموذج التنموي التركي، وما مر به من محطاتٍ ضمن المسعى العام لتقديم رؤى نقدية بنائية، كلية وجزئية، نظرية وتطبيقية للعلاقة الوطيدة بين السياسي والاقتصادي وتفاعلهما في المجال الزراعي خلال العقدين الماضيين بما أنتج علاقات عمل وملكية قادت للوضع الحالي وما يحمله من إيجابياتٍ وسلبيات. والهدف العام هنا هو الوقوف على الأثر بالنسبة للتنمية المستدامة، واستخلاص الدروس في هذا الصدد على نحوٍ يدعم تجارب أخرى في عالمنا الإسلامي والعربي.

أولا- الوضع الحالي للقطاع الزراعي التركي

بحسب تقارير إدارة التجارة الدولية بوزارة التجارة الأمريكية، يُعد الاقتصاد الزراعي لتركيا من بين العشرة الأوائل عالميًا، حيث تُشكل الأراضي الزراعية نصف مساحة البلاد، ويعمل ما يقرب من ربع السكان في القطاع الزراعي. وتُعد تركيا منتجًا رئيسيًا للقمح وبنجر السكر والحليب والدواجن والقطن والطماطم، بالإضافة إلى الفواكه والخضروات الأخرى، كما أنها تحتل المرتبة الأولى عالميًا في إنتاج المشمش والبندق.

وتوفر التركيبة السكانية في تركيا، التي تُعد شابة مقارنةً ببقية البلدان الأوروبية، فرصًا لنمو السوق وإدخال منتجات جديدة. في الوقت نفسه تستورد تركيا البذور الزيتية، بما في ذلك فول الصويا والزيوت النباتية، بالإضافة إلى منتجات الحبوب، كمدخلاتٍ للأعلاف الحيوانية المستخدمة في قطاعي اللحوم والدواجن الذين يشهدان نموًا سريعًا. كما تستورد تركيا مدخلات لصناعة معالجة الأغذية والمخابز، بالإضافة إلى المزيد من القطن كمدخل أولي لصناعة النسيج المتقدمة لديها والتي تقوم على استيراد الجزء الأكبر من القطن من الخارج[2].

شكل (1): تطور حصص القطاعات الاقتصادية في الناتج القومي الإجمالي لتركيا 2013-2023[3]

 

بحسب تقرير نقلا عن معهد الإحصاء التركي “تويك”، فإن نمو القطاع قد شهد تذبذبًا خلال السنوات الخمس الماضية بل كان هناك انكماش في بعض السنوات، ففي الوقت الذي نما فيه الاقتصاد التركي بنسبة 4.5% في عام 2023، شهد القطاع الزراعي انكماشًا بنسبة 0.2%. كما كان قد تقلص بنسبة 3% في عام 2021، قبل أن يُسجل نموًا بنسبة 1.3% في عام 2022[4].

وبحسب إحصائية حديثة للمعهد، فبالمقارنة بين عامي ٢٠٢٣ و٢٠٢٤، فإن عدد رؤوس الماشية (الأبقار والجاموس) ارتفع بنسبة 2.4% في عام 2024 مقارنةً بعام 2023، ليصل إلى 16 مليون و986 ألف رأس، فيما ارتفع عدد الحيوانات الصغيرة (الأغنام والماعز) بنسبة 4.8% في عام 2024، ليصل إلى 54 مليونًا و903 ألف[5].

يعكس هذا النمو استمرار التوجه التصاعدي في قطاع الثروة الحيوانية التركي، مما يُظهر تحسنًا في إنتاجية القطاع وزيادة في الاستثمارات الموجهة نحو تربية الماشية. يُمكن أن تُعزى هذه الزيادة إلى عدة عوامل، منها: السياسات الداعمة التي تتبناها الحكومة لتعزيز الإنتاج الحيواني، والتحسينات في الرعاية البيطرية والتغذية، مما أدى إلى خفض معدلات النفوق وزيادة الإنتاجية، ويُعد هذا المؤشر إيجابيًا لقطاع الثروة الحيوانية في تركيا، ويُعزز مكانتها كواحدة من الدول الرائدة في الإنتاج الزراعي والحيواني على المستويين الإقليمي والعالمي.

ووفقا للشكل (1)، فإن متوسط مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي التركي على مدار السنوات العشر من ٢٠١٣-٢٠٢٣ تصل إلى قرابة ٦.٢٠%. وهي وإن كانت نسبة ضئيلة مقارنةً بالصناعة والخدمات، إلا أنها جيدة في ظل حجم الناتج الذي وصل إلى أكثر من تريليون دولار، وبالنظر إلى أن جزءًا هامًا من الصناعات هو صناعات غذائية أو تعتمد على الزراعة والميكنة الزراعية.

وبحسب دراسة تركية حديثة، فإن تركيا تُعد دولة زراعية مهمة على مر التاريخ وحتى الوقت الحاضر، فبينما تمتلك تركيا 0.8% من الأراضي الزراعية العالمية، فإنها تُنتج أكثر من 1.29% من الإنتاج العالمي، وهي تتأثر بالتغيرات التكنولوجية الزراعية وتؤثر فيها. وعند النظر إلى التحولات التي شهدها القطاع الزراعي التركي على مدى العشرين عامًا الماضية وإمكاناته، يتبين أن تبني الاتجاهات التكنولوجية قد عزز من قدراته الإنتاجية بشكلٍ ملحوظ. ومن ثم، تندرج تركيا ضمن الدول المؤثرة في القطاع الزراعي العالمي، حيث تبلغ طاقتها الإنتاجية السنوية حوالي 50 مليار دولار، مع إمكانية ارتفاع هذه القدرة إلى 100 مليار دولار في السنوات المقبلة[6].

وإذا نظرنا لتجارة التجزئة والواردات الغذائية التركية في ظل التحديات الاقتصادية، يواصل قطاع تجارة التجزئة الغذائية في تركيا نموه، مدعومًا بشبابيَّة السكان الذين يبلغ عددهم 85 مليون نسمة، وبتصاعُد الطبقة المتوسطة وما تُعززه سياسات الأجور من تحفيز للاستهلاك. ويتألف القطاع في غالبيته من سلاسل محلية تتنافس على تخفيض الأسعار؛ حيث تُنتَج معظم المواد الغذائية المعروضة على رفوف المتاجر محليًا. ولا تُشكل الواردات من السلع الغذائية الاستهلاكية سوى 4 – 5% فقط من إجمالي مبيعات البقالة السنوية التي تبلغ نحو 60 مليار دولار[7].

على الرغم من أن الأهمية النسبية للقطاع الزراعي في تكوين الناتج المحلي الإجمالي قد انخفضت على مر السنين، إلا أن الإنتاج الزراعي لتركيا بالقيمة الحقيقية أظهر اتجاهًا ثابتًا للزيادة، ففي حين أن القطاع الزراعي كان له حصة قدرها 25.8% من الدخل القومي في عام 1980، إلا أن هذه الحصة بدأت في الانخفاض بسرعة بسبب تأثير سياسات الاقتصاد الكلي القائمة على التصدير التي اتُبعت في الثمانينيات، وبلغت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 ما قدره 4.8%. وفقًا لبيانات المعهد الإحصائي التركي (TurkStat)، في عام 2022، سجل القطاع الزراعي نموًا معتدلًا بنسبة 0.6% وكانت مساهمته في النمو الاقتصادي البالغ 5.4% محدودة لكن ظل القطاع محافظًا على أهميته الاستراتيجية؛ حيث ساهم بتشغيل نحو 15.8% (4.9 مليون) من إجمالي العمالة (30.8 مليون)، وفي الوقت ذاته ساهم القطاع بـ ٣٠ مليار دولار من الصادرات التركية[8]. وبهذا، فإن أهمية القطاع في التشغيل وفي تعزيز الصادرات لا تزال كبيرة وحيوية.

ثانيًا- دعم الدولة للقطاع الزراعي

هناك دعم كبير للقطاع الزراعي يمتد إلى العهد العثماني، حتى أن أول بنك عثماني كان البنك الزراعي Ziraat Bankası، والذي لا يزال ضمن البنوك الأكبر والأوسع انتشارًا في تركيا الحديثة. بالتوازي مع ذلك، هناك تعاونيات الائتمان الزراعية Tarım Kredi Kooperatıf المنتشرة في القرى والمدن التركية على نطاقٍ واسع، والتي تُشكل فاعلا قويًا في تسويق المنتجات الزراعية ودعم المزارعين. وقد نشأت هذه الكيانات في أواخر العهد العثماني أيضًا، إذ يعود إنشاء تعاونيات الائتمان الزراعي في تركيا إلى “الصناديق القطرية” التي أنشأها مدحت باشا عام 1863، وشكلت التعاونيات الزراعية مؤسسات للتعاون والتضامن، مثل “Ahilik” و”İmece”، والتي بقيت منذ ذلك العهد الأساس لتطوير التعاونيات بالمعنى الحديث. ومن ثم، انتقلت تركيا إلى موقعٍ متقدم في الزراعة مع تطور وتوسع تعاونيات الائتمان الزراعي، وهي تتمتع بأقوى هيكل لأصحاب المصلحة العاملين بقطاع الزراعة في البلاد؛ إذ تمتلك 1805 نقاط خدمة و17 اتحادًا إقليميًا و800 ألف شريك و19 شركة. وتُساهم هذه التعاونيات بخلق التوازن بين المزارع والمستهلك، عبر تقدير المزارعين وتوفير الثقة للمستهلكين[9].

أيضًا، منذ صعود حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم، شهدت البلاد محاولات للاندماج في الاتحاد الأوروبي، وقد استفاد القطاع الزراعي ضمن سياسات التوأمة مع الاتحاد من بعض السياسات والمؤسسات. ذلك حيث تزايدت برامج دعم المزارعين، على سبيل المثال: أُنشئت مؤسسة دعم الزراعة والتنمية الريفية (TKDK/ARDSI) في عام ٢٠٠٧، وهي مؤسسة عامة تابعة لوزارة الزراعة والغابات، اعتمدتها المفوضية الأوروبية عام 2011، وهي مسؤولة عن تنفيذ برنامج أداة المساعدة لما قبل الانضمام للتنمية الريفية (IPARD). ووفقًا لوزارة الزراعة والغابات، أنه في عام 2024، بلغت الميزانية المخصصة لدعم القطاع الزراعي في تركيا 91.5 مليار ليرة تركية، موزعة بشكلٍ أساسي على النحو التالي[10]:

  • الإنتاج النباتي: 70.4% (64.5 مليار ليرة).
  • الإنتاج الحيواني: 22.6% (20.7 مليار ليرة).
  • التنمية الريفية: 6% (5.5 مليار ليرة).

كما أن هناك دعمًا للمازوت والأسمدة وصلت قيمة المصروف منه في أبريل 2025 حوالي ٨.٣ مليار ليرة تركية، وهو الدعم الذي تمت مضاعفته ثلاث مرات في عام ٢٠٢٤، وهي مخصصات يتم إيداعها في بطاقات المزارعين لدى البنك الزراعي بالتوازي مع الارتفاعات في أسعار الوقود أو الأسمدة. ويُوجه أكثر من ربع تلك المخصصات لدعم عمليات تجديد زراعة الشاي، وهي عمليات شاقة في الجبال والظروف المناخية شديدة البرودة والمطر، لكنها ضرورية لإبقاء مزارع الشاي وسكان هذه المناطق فيها[11].

لا تزال الدولة تدعم العديد من المصانع الكبرى في القطاع الزراعي، والتي تُعد ملكية للقطاع العام التركي، ومنها على سبيل المثال مصانع الشاي التي تُمثل عصب الحياة لولايات الشمال الشرقي لتركيا جميعًا. لكن هناك جدل كبير بين السلطة والمعارضة ورجال الأعمال حول جدوى الدعم الحكومي لمزارعي الشاي ومصانعه، إلا أن هناك ما يُشبه الالتزام العابر للأنظمة بدعم صناعة الشاي كإحدى الصناعات الاستراتيجية بالبلاد مع السماح بظهور مصانع خاصة تعمل في إنتاج الشاي.

يتبنى الرئيس أردوغان رؤية مفادها أن طريق تركيا القوية ينطلق من قطاعٍ زراعيٍ قوي؛ ولذا فإن هناك خططًا للإنتاج الزراعي تُراعي استخدامات المياه في كل مجال من مجالات الزراعة. وهذه الخطط بها مضاعفة للدعم المقدم للعديد من الزراعات، على سبيل المثال: القطن ضعفين ونصف، ومرة ونصف للزيوت والبندق والفاصوليا وفول الصويا، و١٣٠% للقمح، و١٠٠% للذرة والبصل والبطاطس[12].

الدعم الأهم الذي تقدمه الدولة هو حماية الأراضي والملكيات عبر القوانين الصارمة للتسجيل للأراضي الزراعية، ومتابعة استخدامات الأراضي والمياه بدقة. وهذا يُحمد للدولة التركية، فنزاعات الملكية محدودة جدًا، كما أن الأراضي الزراعية وأراضي الدولة كلها مسجلة تقريبًا، وهناك قوانين صارمة لتحديد استخداماتها ولا تزال الملكيات كبيرة وغير مفتتة على النحو الذي نشهده في البلدان ذات التعداد السكاني الكبير.

كما أن هناك دعم واسع لعمليات شراء الميكنة والمشروعات الزراعية بكافة أحجامها عبر البنوك التشاركية التي لا تُقدم دعمًا ماليًا يُغرق المزارعين بالديون، بل تدعم عمليات الشراء ضمن مشروعاتٍ مدروسة جيدًا، وقد تدخل شريكًا في بعض المشروعات بعد دراسة جدواها بدقة. وهناك دعم موجه لمناطق وأقاليم معينة بهدف تشجيع الاستثمارات والمشروعات الزراعية، والإنتاج الحيواني فيها.

وبشكلٍ عام، نجد أن هناك تحسن كبير في مؤشرات عدالة النفاذ للخدمات العامة في الريف التركي وفي مدن الأطراف التي تنتشر بها الزراعة، فمدينة قونيا ربما تتمتع بخدماتٍ صحية وتعليمية ونقل عام وحدائق عامة وطرق أفضل من اسطنبول وأنقرة، وذلك بفضل دورية الانتخابات البلدية والتنافس الكبير على خدمة المواطنين فيها.

ثالثًا- هجرة الشباب وعلاقات العمل… تحديات حقيقية تواجه الزراعة التركية

مثل بقية بلدان العالم تعرضت تركيا لمظاهر التطور الحضري الذي أدى إلى تقليص عدد ساكني القرى والريف بنسبةٍ كبيرة، فبينما كانت نسبة سكان الريف في العالم إلى إجمالي السكان 66% عام 1960، انخفضت هذه النسبة إلى 43% عام 2021. وفي عام 2021، بلغت نسبة سكان الريف إلى إجمالي السكان 25% في الاتحاد الأوروبي و23% في تركيا[13]، أي أننا أمام معدلات تطور حضري عالية وهجرة كبيرة من الريف إلى المدينة، هذا على الرغم من توافر كافة الخدمات بالريف التركي ربما بجودةٍ أعلى من العاصمة والمدن الأخرى.

عند زيارة العديد من القرى التركية يمكن ملاحظة آثار الهجرات المكثفة من الريف إلى المدينة، فلم يعد يبق بالكثير من القرى سوى كبار السن الذين يضطرون لتجرع مرارة العمل الزراعي الصعب صيفًا وشتاءً، ومنهم من يستعين ببعض الأبناء والأحفاد أحيانًا وببعض العمالة المهاجرة من المقيمين بطريقة شرعية أو غير شرعية أحيانًا كثيرة لجمع المحاصيل من الأراضي الشاسعة ذات الطبيعة الجبلية الوعرة التي تتمتع بها البلاد.

من ثم، فمع تصاعد موجات العنصرية والخطابات الشعبوية ضد اللاجئين والمهاجرين من قبل أحزاب المعارضة التركية، وبالذات في المواسم الانتخابية، أصبح هناك مخاوف حقيقية على قطاع الزراعة والإنتاج الحيواني خاصة؛ حيث ترتبط عمليات الرعي وإنتاج اللحوم والألبان بعملٍ يدوي شاق لم يكن يُغطيه سوى العمالة الأجنبية خلال العقد الماضي، حيث استفادت البلاد من هجراتٍ واسعة للمزارعين الأفغان والسوريين والعراقيين بسبب الظروف السياسية في تلك البلدان.

وعلى سبيل المثال، شهد الصيف الماضي ارتفاعًا كبيرًا في أجور جمع محصول الشاي في ولايات الشمال الشرقي، حيث العديد من القرى تبدو مهجورة بسبب الظروف المناخية القاسية شتاءً وموسمية العمل الزراعي وتركزه في أشهر الصيف فقط. ذلك بجانب تصاعد أصوات تحريض ضد العمال الأفارقة؛ حيث يقومون بجمع الشاي بكمياتٍ هائلة وبسرعةٍ فائقة، وبالتالي يُحصلون أجور يومية قياسية. فقد أثارت قدرة هؤلاء العمال على جمع ما بين طن و٨٠٠ كجم من الشاي بمقابل ٥٢٠٠ ليرة في اليوم حفيظة بعض التيارات التي بدأت التحريض ضد العمالة الأجنبية في القطاع، وإن كان ذلك مع صعود أصوات مدافعة عنهم أيضًا[14].

شكل رقم (2): تطور تصنيف تركيا على مؤشر الجوع العالمي 2000-2024[15]

 

في هذا السياق، شهد قطاع رعي الأغنام والأبقار وتربية الحيوانات مؤخرًا إعلانات بأجورٍ مرتفعة جدًا لاستقطاب رعاة بعد رحيل كثير من الأفغان والسوريين العاملين في القطاع، وهو الأمر الذي يمكن إرجاع التضخم الكبير في أسعار اللحوم إليه.

الأمر لم يتوقف عند حد إعلانات وفيديوهات أو أرقام متداولة على السوشيال ميديا، ولكن استغاثات رسمية أيضًا، فمنذ ما يقرب من عامٍ أثارت تصريحات وزير التجارة التركي، عمر بولات، مخاوف كبيرة بشأن مستقبل قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية في تركيا. هذا حيث المخاطر والتحديات التي قد تواجه مثل هذه القطاعات الحيوية نتيجة غياب اليد العاملة من المهاجرين[16].

وقد حدثت عدة تطورات في طبيعة العمل الزراعي في العقدين الماضيين؛ ففيما بين ٢٠٠٦ و٢٠١٦ انخفضت نسبة العاملين في أراضيهم فقط من ٨٥.١% إلى ٧٩.٥%، فيما ارتفعت نسبة من يعملون في أراضيهم وأراضي الغير من ٤.٣% إلى ١٢.٧%، كما ارتفعت حصة الشركات الزراعية التي تستخدم أراضٍ لا تملكها من 14.90% إلى 20.49%، وارتفعت نسبة من لا يملكون الأرض لكنهم يُديرونها عن طريق وسائل مثل تأجيرها من 2.18% إلى 3.42%[17]. وهذا مرتبط بخطط وتوسعات في الزراعة التعاقدية والتصديرية.

وتُمثل الزراعة التعاقدية نمطًا جديدًا يتوسع في القطاع الزراعي التركي نتيجة تدخل كبريات الشركات المحلية والدولية في الزراعة، ونتيجة تطور القطاعات المرتبطة بتصنيع الميكنة الزراعية، والتي تقوم بتصدير جزء كبير منها للسوق الأوروبي. وبرغم قدرة هذا النمط من الزراعة على تحسين الصادرات، إلا أن لديها أبعادًا أخرى ترتبط باستنزاف الثروات المائية والسمكية والطبيعية المرتبطة بالأسمدة وغيرها.

رابعًا- مؤشرات على طريق الاستدامة للزراعة والأغذية التركية:

بمراجعة مؤشر الأمن الغذائي العالمي، نجد أن تركيا أحرزت تقدمًا ملحوظًا على هذا المقياس، فبينما كان أكثر من ١١% من سكانها يُعانون الجوع عام ٢٠٠٠، فإنها قد أحرزت تقدمًا هائلا في مؤشر الجوع العالمي (GHI) لعام 2024، إذ تُصنف تركيا ضمن أفضل الدول أداءً حيث حققت درجة أقل من 5، مما يشير إلى انخفاض مستوى الجوع. وإن متابعة التطور على هذا المؤشر -كما في الشكل (2)- تؤكد أن إحداث التطور السريع في هذا المجال أمر ممكن.

تعكس الدرجة الأقل من 5 أمنًا غذائيًا قويًا، وسياسات اجتماعية فعالة، وإنتاجًا زراعيًا مستدامًا. يتوافق أداء تركيا مع اقتصادات الدول المتقدمة، مما يُظهر نجاحها في تقليل سوء التغذية، وتقزم الأطفال، وتحسين إمكانية الوصول إلى الغذاء. كما تتفوق تركيا على العديد من الدول المجاورة والدول متوسطة الدخل كما يتضح من الشكل (3)، مما يُبرز سلاسل إمداد الغذاء المستقرة وبرامج الرعاية الاجتماعية الفعالة. ولكن هذا لا يعود للسياسات الزراعية وحدها وإنما لبرامج الدعم، وبرامج الوجبات المدرسية، ومبادرات الحد من الفقر التي تساعد في التخفيف من الجوع. فعلى الرغم من التضخم، فإن الإنتاج الغذائي يحمي من النقص الشديد ويُعزز القدرة على الوصول للغذاء بشكلٍ أفضل من بلدانٍ أخرى ذات دخولٍ أعلى ومعدلات تضخم أقل لكنها غير منتجة للغذاء بكثافة، هذا كما في الكثير من بلدان الخليج العربي وبعض البلدان الأخرى.

يتطلب الحفاظ على هذا التصنيف معالجة ارتفاع تكاليف المدخلات (الأسمدة، الطاقة)، والمخاطر المناخية على الزراعة المرتبطة بارتفاع خطر الجفاف، كما أن الاستثمار المستمر في التنمية الريفية وبرامج التغذية سيكون أمرًا بالغ الأهمية.

شكل رقم (3): مؤشر الجوع العالمي في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا 2024[18]

 

عادةً ما تُروج عدة مغالطات حول اعتبار تركيا من كبار مستوردي القمح، بما يتجاهل التقارير حول قيام تركيا بإعادة تصدير الدقيق والمخبوزات والأغذية على نطاقٍ واسع، وبما لا يُقارن مع كبار المستوردين الآخرين من المنطقة، وبالذات مصر التي تستورد أكثر من نصف استهلاكها المحلي من الخارج وتعد عمليات إعادة تصدير الغذاء منها للخارج محدودة جدًا مقارنة بما تقوم به تركيا. بل إن تركيا في بعض السنوات اتخذت قرارات مؤقتة بحظر الاستيراد لحماية المنتجين المحليين، إذ إن إدارة اختلال التوازن بين العرض والطلب في السوق قد تتطلب اتخاذ إجراءات معينة، للمساعدة في توفير المواد الخام اللازمة للإنتاج الموجه للتصدير من الإنتاج المحلي للحبوب وضمان استقرار الأسعار لصالح المنتجين، مثلما حدث في الفترة من 21 يونيو وحتى 15 أكتوبر 2024.

تعد تركيا واحدةً من الدول القليلة القادرة على تلبية استهلاكها المحلي من القمح، ففي موسم 2023- 2024 بلغ إنتاج القمح في البلاد 22 مليون طنًا واحتلت تركيا المرتبة الأولى عالميًا في تصدير الدقيق، إذ صدرت نحو 3.7 ملايين طن من هذه السلعة في تلك الفترة، وهو ما يُعزز مكانتها كقوة رئيسية في السوق العالمية للدقيق.[19]

ورغم اعتمادها سياسات النقل المغطى للفواكه والخضروات، لكن هناك مؤشرًا هامًّا ذا دلالة سلبية ألا وهو معدلات هدر الطعام والغذاء، حيث تُعاني تركيا من معدلاتٍ عالية في هدر الطعام بالنسبة للقطاع العائلي عالميًا بمعدل ١٠٢ كجم للفرد سنويًّا وبمقدار ٨.٧ مليون طن من الطعام المهدر. وإذا نظرنا لهذه الأرقام بالنسبة لمصر، فنصيب الفرد من هدر الطعام ١٦٣ كجم وبما يعادل ١٨ مليون طن من الطعام المهدر سنويًّا، وهي أرقام شديدة السوء[20].

خاتمة:

رغم أن الزراعة والرعي نشاط قديم في أراضي منطقة الأناضول والأراضي التركية، إلا أن العديد من سياسات التحديث على النمط الغربي اتخذت مسارًا خطِّيًّا لعقود، وهو يعتمد على الاهتمام بالتصنيع كعلامة تقدُّم ثم انضمَّ إليه الاهتمام بالخدمات كعلاماتٍ وحيدة للتقدُّم بالمفهوم الغربي، وهذا أدى إلى إهمال قطاع الزراعة لعقودٍ في العديد من بلدان العالم الثالث ومنها البلدان الإسلامية، إلى أن وصلنا لمحاولات خلق التوازن في النمو بين القطاعات. في هذا الإطار، لا تزال الزراعة نشاطًا هامشيًّا -إلى حدٍّ ما- في مسيرة التنمية التركية، على الرغم من الاهتمام المتصاعد به وعلى الرغم من دوره الكبير في التشغيل وكذلك تشكيله قرابة خمس الصادرات التركية الأساسية.

هناك خطط كبيرة وطموحة لدعم القطاع الزراعي التركي، وهي تؤتي الكثير من ثمارها، لكن الإفراط في خطط الإنتاج من أجل التصدير والتركيز على الزراعات التعاقدية التي تنامت كثيرًا في الفترة الأخيرة، قد يؤثر على القطاع الزراعي من الناحية الاجتماعية والتضامنية سلبًا. فالشركات الكبرى تزرع احتياجات السوق العالمية وتتجاهل السوق المحلي، ما يؤدي لتفاقم التضخم في أسعار الغذاء والذي أصبح أمرًا ملموسًا لكل مرتادي الأسواق الأسبوعية وسلاسل المتاجر من الأتراك. كما أن الخطط المتبعة تقوم على برامج زراعية صارمة تسميدًا ورعايةً واستخدامًا للبذور والمحاصيل الأكثر إنتاجيةً وربحًا، وهذا يؤثر بشدة على السيادة الغذائية؛ إذ تفقد الشعوب رويدًا قدرتها على تحديد الاستخدام الأمثل للأراضي وقدرتها على تلبية احتياجاتها المحلية في مقابل اندماجٍ هش في السوق العالمي.

لا يزال دعم الدولة على محدوديته هو حجر الزاوية في عمليات ضخ الحياة في القطاع الزراعي التركي، حيث يميل الشباب إلى الأعمال الخدمية والصناعات الأكثر ربحية وأقل جهدًا بالمدينة. وتتعدد برامج الدعم على النحو الذي بيناه، لكنها لا تزال تتطلب المزيد من الرقابة على عمل الشركات التي تعمل بنظام الزراعة التعاقدية أو حتى على سلاسل الإمداد والتوزيع الزراعي الطويلة نسبيًا التي لا تزال تجعل هناك فجوة بين المنتجين والمستهلكين، وهي تصب لصالح كبار التجار وأصحاب السلاسل الغذائية الذين يُحققون أرباحًا خيالية بذريعة التضخم أو الرفع الدوري للحد الأدنى للأجور.

كما ينبغي الانتباه إلى أن استمرار الهجرة من الريف إلى المدينة يُشكل خطرًا كبيرًا على استدامة النمو في القطاع الزراعي وعلى برامج التنمية الريفية، لا ينبغي أن تستمر النظرة إلى الانتقال من الريف إلى المدينة باعتبارها خطوة نحو مستوى أفضل، وبخاصة أن سياسة الحد الأدنى للأجور تُطبق في كل القطاعات وأن الأجور في القطاع الزراعي التركي تعد ضمن الأعلى. وبالتالي، فلا معنى للهجرة للمدينة إذا لم يكن لتحسين الدخل والوضع الاجتماعي والنفاذ للخدمات.

على جانبٍ آخر، برغم توفر مؤشرات الاستدامة والإرادة السياسية والبرامج الداعمة للزراعة، تبدو الحاجة ماسة لتقليل معدلات هدر الطعام، واستدامة برامج الدعم وبرامج التقليل من المخاطر البيئية، سواء التكيف أو تقليل الأضرار ومواجهة آثار التغيرات المناخية المرتبطة بتأثيراتٍ كبيرة على مخزونات المياه والزراعة.

——————————————-

الهوامش:

[1] وكالة الأناضول للأنباء، الرئيس أردوغان: تركيا اليوم الأولى أوروبيا في الإنتاج الزراعي كلمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال مأدبة إفطار رمضاني للمزارعين في المجمع الرئاسي بأنقرة، بتاريخ ١٩/٣/٢٠٢٥، متاح عبر الرايط التالي: https://bit.ly/45Q2UQC

[2] US Department of Commerce, Official Website of the International Trade Administration, Turkey Country Commercial Guide, Agriculture, 2024-01-06, available at: https://bit.ly/45LB5ZH

[3] Statista, Turkey: Share of economic sectors in gross domestic product (GDP) from 2013 to 2023, Published by Aaron O’Neill, Jan 30, 2025, available at: https://bit.ly/3ZW3qsC

[4] زيد سليم، مخاوف بشأن مستقبل القطاع الزراعي في تركيا بسبب نقص العمالة، الجزيرة نت، بتاريخ ١٥/٧/٢٠٢٤، https://bit.ly/3I8EZSD

[5] TÜİK, Hayvansal Üretim İstatistikleri, 2024, 10 Şubat 2025, available at: https://2h.ae/xzZQ

[6] Kurtuluş MERDAN, Turkey’s Agricultural Sector: Past, Present and Future of Agriculture, Bingol University, Journal of Economics and Administrative Science, 2024, PP. 47-70, available at:  https://2h.ae/EEhU

[7] Caglar Erdogan and Michael Francom, Retail Foods in Turkey, U.S Department of Agriculture, Foreign Agriculture Service, July 11, 2023, available at: https://bit.ly/3TEzo9f

[8] وزارة التجارة التركية، تقرير صادر عن الإدارة العامة للصادرات حول وضع قطاع الزراعة في تركيا والعالم، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/GqrsGB

[9] لمزيد من التفاصيل حول متاجر تعاونيات الائتمان الزراعي يمكن زيارة موقع أوراق، تحت عنوان تعاونيات الائتمان الزراعي في تركيا.. ما الهدف منها؟، بتاريخ ١١/١١/٢٠٢٢، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4lyxRgA

[10] T.C. TARIM VE ORMAN BAKANLIĞI,TARIM REFORMU GENEL MÜDÜRLÜĞÜ, İSTATİSTİK BÜLTENİ, Tarımsal Destek Ödemesi, IV. Çeyrek ve Yıllık: Ekim-Aralık, 2024, 23/1/2025,  available at: https://2h.ae/mPRO

[11] BigPara, MAZOT VE GÜBRE DESTEĞİ 2025 ÖDEME TARİHİ VE GÜNÜ SON DAKİKA || Bakan Yumaklı’dan beklenen açıklama geldi! Mazot gübre desteği ne zaman ödenecek 2025, yattı mı, bugün mü verilecek? Çiftçi destek ödemesi e-devlet sorgulama!, 4/4/2025, https://bit.ly/4eqQ7Gi

[12] لمزيد من التفاصيل حول قيمة الدعم المقدم للفئات المختلفة من الانتاج الزراعي للأعوام ٢٠٢٥-٢٠٢٧، يمكن مراجعة موقع وزارة الزراعة والغابات، تحت عنوان:

 2025-2027 YILLARI BİTKİSEL ÜRETİM DESTEKLEME BİRİM FİYATLARI, https://bit.ly/3TXpvTT

[13] وزارة التجارة التركية، تقرير صادر عن الإدارة العامة للصادرات حول وضع قطاع الزراعة في تركيا والعالم، ص٢.

[14] Agro TV, Çaydan Günde 5 Bin 500 TL Kazanıyor! Senegalli İşçiler Çay Hasadında / AGRO TV HABER, available at: https://bit.ly/3I5RaQ9

[15] Global Hunger Index, Türkiye,  available at: https://2h.ae/Cjbv

[16] زيد سليم، مخاوف بشأن مستقبل القطاع الزراعي في تركيا بسبب نقص العمالة، الجزيرة نت، بتاريخ ١٥/٧/٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3I8EZSD

[17] İsmet ÖZKUL, Tarımda işletme ve mülkiyet yapısı nasıl değişiyor?, 1/5/2018,  available at: https://bit.ly/44HBbAp

[18] Ibid.

[19] زيد سليم، تداعيات حظر تركيا استيراد القمح.. الرابحون والخاسرون، الجزيرة نت، 12/6/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/WH7Jzx

[20] UN Environment Programme, Food Waste Index Report 2024. Think Eat Save: Tracking Progress to Halve Global Food Waste, pp 168, 172,  available at: https://2h.ae/FJpt

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى