حقيقة ودلالة الصراع السياسي الداخلي في إسرائيل

مقدمة:
في الرابع عشر من مايو 1948، أي اليوم نفسه الذي أنهت فيه بريطانيا انتدابها على فلسطين، وقف المستعمر اليهودي البولندي ديفيد بن جوريون -مدير الوكالة اليهودية- في مؤتمر إعلان قيام دولة إسرائيل، ومن خلفه علمين للدولة الاستيطانية الناشئة، يتوسطهما صورة كبيرة لتيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية، أمسك بن جوريون الوثيقة -وثيقة الاستقلال- ورفع صوته وقرأ “على هذه الأرض نشأ الشعب اليهودي وتبلورت هويته الروحية والدينية والسياسية، ..، وبعد أن نُفي الشعب قسرًا من أرضه، ظلّ وفيًا لها طوال شتاته، وسعى اليهود في كل جيل متعاقب إلى إعادة تأسيس وجودهم في وطنهم القديم، وفي العقود الأخيرة، عادوا بأعدادٍ كبيرة، روادًا مهاجرين قدموا إلى أرض إسرائيل متحدّين التشريعات التقييدية، … ويُعلن فيه الموقعون على الوثيقة، وبناءً على صفتهم التمثيلية، إقامة الدولة اليهودية في “أرض إسرائيل”، ويدعون إلى إقامة سلطات الدولة طبقًا للدستور الذي يتوجب على مجلس تأسيسي منتخب أن يضعه في موعد أقصاه أكتوبر 1948”[1]، لكن الدستور حتى الآن لم يُكتب.
وضع يهود أوروبا “الأشكناز” إذن لبنات المشروع الصهيوني عبر عمليات التطهير والتدمير المنظم للوجود الفلسطيني حتى عام 1948، ثم وعبر هذه الوثيقة التأسيسية، أُعلن الانتقال من عصر العصابات لعصر المشروع الاستيطاني الدولتي المنظم، وعلى أساس نتائج النكبة ومنع عودة اللاجئين أقاموا البنية التحتية القانونية للدولة بوصفها “يهودية ديمقراطية”، وبيتًا وملجًا آمنًا ليهود العالم أجمع، وجلبوا اليهود الشرقيين بعدها لملء الفراغ الديموغرافي بعد تعثر الهجرات من أوروبا، وتزايد الهجرات المعاكسة لصعوبة التأقلم، واستقطب بن جوريون اليهود الحريديم المتدينين عبر عقد اتفاق مع زعماء الطائفة الحريدية لإعفاء أولئك الذين انقطعوا لدراسة التوراة بدوامٍ كامل من الخدمة العسكرية الإلزامية، فيما عُرف باسم “توراتو أومانوتو”، أي “التوراة مهنته”، ولم يتم تنفيذ هذا الاتفاق من خلال التشريع، بل من خلال لائحة وزارة الدفاع. وتسمح هذه الآلية لرجال الحريديم بتأجيل خدمتهم في جيش الدفاع الإسرائيلي من خلال الدراسة في المدرسة الدينية من سن 18 عامًا حتى بلوغهم سنًا محددًا لا ينطبق فيه التجنيد عليهم، ومن ثم لا مشاركة لهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
منحت سابقة التأسيس والتفوق الديموغرافي وسرقة أملاك الفلسطينيين آنذاك الأشكناز المؤسسين هيمنة على رأس المال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وشكلوا النخب في مؤسسات الدولة كافة، وعلى الرغم من أن هجرة الشرقيين قلبت الميزان الديموغرافي، والتجانس الإثني والأيديولوجي للمجتمع، لكنهم لم يُعاملوا كالأشكناز بالطبع، وأُرسلوا بعيدًا عن تل أبيب إلى المناطق الحدودية والأحياء والبلدات الفقيرة، التي أُفرغت من سكانها الفلسطينيين عام ١٩٤٨، ولم يحوزا تعليمًا ونفوذًا كالأشكناز، فاستقروا في مرتبة دنيا على السلم الهرمي الاجتماعي، واعتمدوا على مخصصات وخدمات الدولة لهم دون وجود فرصة للترقي اقتصاديًا وجغرافيًا، ولم يُترجم تفوقهم الديموغرافي لنفوذٍ سياسي حقيقي وبقوا تابعين للنخب الأشكنازية، وبنوك أصوات انتخابية حتى حرب 1967[2].
فتحت هذه الحرب مساراتٍ جديدة في المجتمع الصهيوني؛ فمن جهة عزز الدور المحوري الذي لعبه الشرقيون في الحرب مكانتهم داخل الجماعة اليهودية، وأكسبت الجغرافيات الجديدة التي احتلتها إسرائيل خصوصًا الضفة الغربية المشروع الاستيطاني بعدًا دينيًا وبات مشروع “أرض إسرائيل” قابل للتحقق، وبدأت تحالفات جديدة تتشكل بين المهمشين؛ الشرقيين والحريديم والليكود لاحقًا، وبعد أن كان اليمين مستبعدًا من اللعبة، نجح في الانضمام للحكومة، ثم الفوز بالانتخابات عام 1977 وإقصاء اليسار على خلفية حرب 1973 والمراجعات المجتمعية التي أدت لصعود اليمين، ونشوء نخبة جديدة من اليهود الشرقيين، وتصاعدت سيطرتهم في المؤسسات التمثيلية والتنفيذية[3].
لكن بقاء سيطرة الأشكناز على المراكز العليا حال دون ترجمة القاعدة الشعبية الأغلبية لليمين الجديد الصاعد إلى تأثيرٍ جوهري في اتخاذ القرار، أو صبغ المشروع الصهيوني بصبغتهم، لذا فالصدع السياسي الإسرائيلي بين المستعمرين المؤسسين والجدد، بات ينخر في بنية المجتمع، ويتخذ أشكالًا واصطفافات مختلفة بحكم طبيعة اللحظة التاريخية والمجال محل الصراع، حتى بلغ ذروته في يناير 2023 على أثر مشروع الإصلاحات القضائية الذي تقدمت به الحكومة للسيطرة على محكمة العدل العليا في إسرائيل، التي تحل محل الدستور الذي لم يُكتب، و”مركز ثقل” التيار الأشكنازي اليساري، وأصبحت الدولة على شفا حرب أهلية، حتى كان طوفان السابع من أكتوبر 2023، فصفع المجتمع وقيادته وحاولوا توحيد الجبهات تحت شعار معًا ننتصر، لكن مع طول مدة الحرب ودخولها عامها الثاني، سرعان ما تجدد الصراع مرةً أخرى، وعاد الاستقطاب وإن كان حول قضايا تتعلق بالحرب.
نحاول في هذه الورقة معرفة حقيقة الصراع السياسي الداخلي في إسرائيل خلال العام الثاني من الحرب على غزة، والإجابة عن سؤال: هل تختلف رؤية اليمين عن اليسار الإسرائيلي تجاه القضية الفلسطينية؟ ونجادل تاريخيًا أن الصراع السياسي الإسرائيلي يحدث على أرضية صهيونية، وأنه لا خلاف حقيقي بينهما في رؤيتهم للقضية الفلسطينية.
أولا- من مخاطر حرب أهلية إلى مسار السابع من أكتوبر
في خطابٍ شهير عام 2015، وصف الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين إسرائيل بأنها “دولة مقسمة إلى أربع قبائل: القبائل العلمانية، والدينية، والحريدية (جميعها يهودية)، والقبيلة العربية”، لكن عمليًا، تتضاعف هذه القبائل، والأحزاب الممثلة لها، وتنتظم حاليًا في كتلتين رئيسيتين، هما كتلة نتنياهو وكتلة أي أحدٍ سواه، تضم كتلة نتنياهو اليمين المتطرف الخالص الحريديم، والصهيونية الدينية، والليكود، بينما تضم الكتلة الثانية ثلاث مجموعات تقريبًا: اليمين المناهض لنتنياهو، الوسط واليسار العلماني، هذه الكتل غير متماسكة أيديولوجيًا، لكنها تشكلت رغم اختلافاتها الجوهرية بفعل تحويل الأمر إلى صراعٍ هوياتي أولي، ليصبح الكتلة المُلتزمة باليهودية، مقابل الكتلة المُلتزمة بالديمقراطية الليبرالية[4].
تصاعد هذا الاستقطاب في السنوات الخمس الأخيرة، إذ شهدت إسرائيل أزمة سياسية حادة وصلت لحد تهديد وحدة الدولة، وتجلّت هذه الأزمة في خمس حملات انتخابية بين عامي 2019 و2022، وبلغت ذروتها عندما أطلقت الحكومة في يناير ٢٠٢٣ مبادرتها لإصلاح النظام القضائي، من خلال معالجة توازن القوى بين السلطتين التنفيذية والتشريعية (الأغلبية السياسية) والسلطة القضائية[5].
“المحكمة الإسرائيلية العليا؛ تيار يساري لنخبةٍ ضئيلة من حي رحافيا الأشكنازي، تتبنى جدول أعمال ما بعد صهيوني”، هكذا صرح ياريف ليفين؛ وزير العدل الحالي، والذي يقود مبادرة الإصلاحات القضائية، تُلخص تصريحات ياريف حقيقة الأمر، حيث يُدرك الطرفان أن أزمة الإصلاحات القضائية هي تجل لأزمة تأسيسية أعمق عمرها من عمر الدولة، لتحديد هويتها ومسار المشروع الصهيوني مستقبلًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًّا[6].
شغلت هذه الأزمة مراكز الفكر وصناعة القرار في إسرائيل، وقدمت هذه المراكز العديد من المبادرات لتحول دون انزلاق الصراع لمسار العنف والحرب الأهلية، خصوصًا في ظل تفاقم معدلات الجريمة خلال السنوات الأخيرة، ورصدت تأثيرات هذه الأزمة على المرونة المجتمعية وقدرة الجبهة الداخلية على التضامن ومواجهة الطوارئ، بالإضافة لتأثيرها على الأداء المؤسسي والاقتصادي للدولة ما يضر بأمنها القومي، وعلى الصعيد الإقليمي كان للأزمة تأثيرها على تآكل قوة الردع الإسرائيلية[7]. وفي ظل الوضع المعقد والمنعطف الخطير للدولة، تعددت السيناريوهات المطروحة للخروج من المأزق، كان أحد هذه السيناريوهات مواجهة عسكرية واسعة النطاق على جبهاتٍ متعددة تُخفف من حدة الاستقطاب والصراع الداخلي، وتُوحّد الصفوف، وتُجبر الإسرائيليين على الالتفاف حول دولتهم[8].
إذن، بعد السابع من أكتوبر 2023، على الرغم من أن صفعة الطوفان قد أحدثت بالفعل حالة تضامن مجتمعي مؤقت بدافع الخوف الوجودي، وتوحد المجتمع مع الدولة تحت شعار “معًا ننتصر”، لكنها لم تكن لترأب صدعٍ متجذر في بنية المجتمع، لذا سرعان ما بدأت هذه الحالة تتآكل مع دخول الحرب عامها الثاني، وهو ما يعني تأجج الصراع السياسي القديم، واستحداث خطوط استقطاب جديدة. ويمكن تتبع الأمر من خلال تناول القضايا الآتية:
- قضية الأسرى
في أغسطس 2025 نظمت عائلات الأسرى الإسرائيليين ما أسمته “يوم الاحتجاج”، أغلق فيه المتظاهرون شوارع ومفترقات طرق في عموم الأراضي المحتلة، مطالبين بعقد صفقة تُعيد الأسرى المحتجزين في قطاع غزة، حتى لو على حساب وقف الحرب، أتت التظاهرات استباقًا لاجتماع وزاري مصغر (الكابينت)، بعد موافقة حماس على مقترح قدمه الوسطاء بالتزامن مع مناقشة المجلس خطة إعادة احتلال غزة، ما رآه المتظاهرون عملية نسف متعمدة لاتفاق إعادة الأسرى، واستمرار حرب بلا هدف سوى بقاء حكومة نتنياهو وتهربه من المساءلة. وبصفةٍ عامة، ففي الشهور الأخيرة من الحرب تصاعدت وتيرة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية المطالبة بإنهاء الحرب، وبالمقابل ارتفعت حالات القمع الشرطي لها والاعتقالات في صفوف المتظاهرين.
أجج تعامل الحكومة الإسرائيلية مع قضية الأسرى الصراع السياسي الداخلي مرة أخرى، حيث إن جزء من دعم الكتلة اليمينية لاستمرارية الحرب عائد لحقيقة أن غالب الأسرى لدى فصائل المقاومة من سكان الكيبوتس العلمانيين[9]، ما زعزع حالة التضامن الاجتماعي في بداية الحرب، ففي دراسة أجراها مجموعة باحثين حول الحصانة الوطنية والتكيف خلال الحرب، معتمدين على استطلاعات رأي مستمرة منذ بداية الحرب وحتى أغسطس 2025، توصلت إلى أن شعور التضامن الاجتماعي يتراجع، وانعكس هذا التراجع في انخفاض نسبة الثقة في كافة مؤسسات الدولة خصوصًا الحكومة والكنيست، مع بقاء الثقة بالجيش مرتفعة لكنها تنخفض بمرور الوقت وفشل تحقيق الأهداف.
وقد أضفت قضية الأسرى على الصراع الداخلي أبعادًا جديدة تتعلق بمعنى الدولة نفسها: فهناك من يرى أن الأولوية هي للحفاظ على الأرض، وهو ما يتبناه معسكر اليمين الجديد الذي يرفع شعارات مثل الاستيطان أولا وأرض إسرائيل الكاملة، والقضاء على حماس والتهجير. هذا في مقابل، من يرى أن الإنسان اليهودي يأتي قبل أرض إسرائيل، ويُنادي بالحفاظ على قيم الديمقراطية “الصهيونية” والمؤسساتية الدولاتية، ويُنادي بـإعادة المخطوفين أولا والحفاظ على سمعة إسرائيل عالميًّا[10].
- صراع النخب
بالتزامن مع مماطلة نتنياهو في عقد صفقة تبادل شاملة وإنهاء الحرب حرصًا على مستقبله السياسي، وتهربًا من المساءلة عن هجوم السابع من أكتوبر، تمضي الحكومة قدمًا في خطة الإصلاحات القضائية ولكن هذه المرة بشكلٍ غير معلن، فإقالة نتنياهو وزير الدفاع جالانت في نوفمبر 2024 وبعدها إقالة رئيس جهاز الشاباك رونين بار في مارس 2025، والعزم على إقالة المستشارة القضائية غالي بهراف- ميارا، وإعادة هيكلة لجنة اختيار القضاة، هي محاولة انقلاب قضائي، رأته المعارضة يُهدد الديمقراطية الإسرائيلية وسمت الدولة الحداثي الغربي، ما دفع لاشتعال حالة الصراع أكثر مما كانت عليه قبل الحرب وعمت الاحتجاجات الشوارع.
رد بنيامين نتنياهو على ما أسماه ترهيب المعارضة في 26 مارس 2025، وهو يضرب بقبضته على المنصة أمام نواب المعارضة خلال نقاش برلماني: “أن إسرائيل كانت وستبقى دائمًا ديمقراطية”، وأضاف “الديمقراطية ليست في خطر، بل سلطة البيروقراطيين هي التي في خطر؛ إن الدولة العميقة هي التي في خطر”، وأصرّ على أن “الشعب في الديمقراطية هو صاحب السيادة”[11]، بعدها بيومٍ واحد أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا يعزز نفوذ السلطة السياسية في تعيين القضاة، بأغلبية 67 صوتًا مقابل صوت واحد، وذلك بعد أن قاطعت أحزاب المعارضة التصويت.
وصل الصراع في قضية الإصلاحات القضائية لمستوياتٍ هزلية، ففي سبتمبر 2025 ذكرت صحيفة هآرتس أن وزير العدل غير أقفال مكتب المستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية، غالي بهراف- ميارا، في مبنى وزارة العدل، لمنعها من دخول المكتب ومزاولة عملها، وقُدّمت شكوى للشرطة ضد الوزير ليفين في أعقاب هذه الإجراءات، في حين رد ليفين أن المكتب هو مكتب الوزير، وليس مكتب بهراف- ميارا. ومحاولتها استخدام مكتب الوزير من دون تصريح هو مثال آخر لسلوكٍ غريب من جانب شخصٍ أُقيل من منصبه، وهي خطوة أخرى من الحكومة في طريقها لسيطرة اليمين على مناصب الدولة العليا[12].
بالإضافة لذلك يشتعل الخلاف منذ بداية الحرب بين الحكومة والجيش على إدارة وسير العمليات، الأمر الذي تسبب في إقالة يوآف جالانت من وزارة الحرب، وتعيين يسرائيل كاتس بدلًا منه، وهو سياسي لا يتمتع بأي خبرة عسكرية، لكنه يُنفذ كل ما يطلبه منه نتنياهو، كما تسبب في قيام رئيس هيئة الأركان السابق هرتسي هاليفي، مع عدد من الضباط الكبار، بتقديم استقالاتهم.
وفي مارس 2025، نشب خلاف حول توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، وآلية إدخال المساعدات الإنسانية وتوزيعها، وخطط توسيع العمليات العسكرية في القطاع، وفي افتتاحية جريدة هآرتس أغسطس 2025 تحدثت عن تحوّل رئيس الأركان من مقرّب من اليمين إلى متهم بالتمرّد ومحاولة انقلاب عسكري، وما هي جريمة إيال زامير؟ إنه عرض على الحكومة الواقع مثلما هو، وتجرأ على التحذير من أن يؤدي احتلال غزة إلى مقتل الأسرى، ومقتل جنود الجيش الإسرائيلي، وأنه سيُغرق إسرائيل في مستنقع أعوامًا، ولهذا، فإن كل مَن يجرؤ على التشكيك في أهداف الحملة ويضع صورة الواقع أمام أعين الجمهور، يهدَّد بالإبعاد[13].
- الخدمة العسكرية: بين الحريديم والتجنيد الإجباري
في يوليو 2025 قدم وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، مشروع قانون جديد يهدف لتجنيد الحريديم، مع ضمان احترام نمط حياتهم الديني، رفضت المعارضة القانون ورأته خدعة لاستمرار تهرب الحريديم من التجنيد، ورفضته كذلك الأحزاب الحريدية حيث أعلن حزب “يهدوت هتوراه”، استقالته من الحكومة، ومن الائتلاف، احتجاجًا على عدم الدفع قدمًا بقانون يُعفي تلاميذ المدارس الدينية من الخدمة العسكرية الإلزامية[14].
ويمتد تاريخ أزمة تجنيد الحريديم للحظة تأسيس الدولة، واتفاق الإعفاء من التجنيد الذي وقعه بن جوريون، بدافع قلة عددهم، والرهان على أنصهارهم في المجتمع، وهو ما لم يحدث، فالحريديم اليوم يمثلون أكثر من 17.5% من المجتمع الإسرائيلي، ونسبة زيادة طبيعية 4% سنويًا، مع عبء اقتصادي وأمني وثقل سياسي يجعلهم مؤثرين في القرار السياسي. لذا تصر أحزاب المعارضة والأصوات العلمانية على ضرورة مشاركة جميع الفئات، بمن في ذلك الحريدين في تحمل أعباء الأمن والدفاع، وبعد الطوفان زادت المطالب بدمجهم في الجيش لمواجهة العجز في القوى البشرية.
في هذا السياق، تُظهر استطلاعات الرأي حدة الانقسام بين المجتمع الإسرائيلي الذي يتجند والحريديين، فبينما يعتبر معظم الإسرائيليين أن إعفاء هؤلاء من الخدمة العسكرية يُشكل عبئًا غير عادل، فإن 80% من الحريديين لم يُغيروا موقفهم الرافض للتجنيد حتى بعد الحرب، و94% يعارضون تجنيد طلاب المدارس الدينية، ومن ثم تحول الحريديم إلى أزمة أمنية.
تفاقمت الأزمة مع طول مدة الحرب وفشل الجيش الإسرائيلي في سد العجز البشري، ما دفعه إلى تحديد هدف جديد بتجنيد ٤٨٠٠ حريدي في عام 2026، ومع ذلك، لا تزال هناك عقبات قانونية وسياسية تمنع تنفيذ هذا الهدف على نطاقٍ واسع، خاصةً في ظل رفض الحاخامات وتردد الأحزاب الحريدية في دعم أي تسويات تتعلق بالتجنيد[15]، وهو ما دفع للحديث عن عقوبات شخصية على الحريديم الهاربين من التجنيد بالمنع من السفر، وقد أجرى معهد الديمقراطية الإسرائيلي دراسة نشرت في سبتمبر 2025 لمعرفة مدى جدوى هذه العقوبة، كشف من خلالها أن ربع الطلاب الحريديم متهربين من المدارس الدينية ولا يبقون فيها حتى سن السادسة والعشرين، كما أن التسجيل كطالب لا يعني الانتظام في المدرسة، ما يجعل مجرد التسجيل ذريعة للتهرب من التجنيد، ويدعم مقترح فرض العقوبات الشخصية[16].
بالتزامن مع تصاعد أزمة الحريديم، تواجه قيادة جيش الاحتلال احتجاجات متزايدة من جنود الاحتياط وطلبات بإنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاقٍ سياسي، يضمن تحرير الأسرى لدى حركة حماس، علمًا أن قوات الاحتياط يبلغ عددها نحو 350 ألف جندي. وقد انطلقت حركة الاحتجاج هذه برسالة نشرتها الصحف الإسرائيلية في التاسع من أبريل 2025، وقّع عليها حوالي 1000 جندي احتياط في الخدمة الفعلية ومتقاعدين، حثوا فيها الحكومة “على إعطاء الأولوية لإطلاق سراح الأسرى على حساب استمرار الحرب في غزة، التي تخدم الآن المصالح السياسية والشخصية”.
وعلى الرغم من قرار قيادة الجيش تسريح جميع جنود الاحتياط في الخدمة الفعلية الذين وقعوا على الرسالة، استمرت الاحتجاجات، وبحسب الصحفي والكاتب الإسرائيلي ميرون رابوبورت فإن “أغلبية من يتحدون أوامر التجنيد هم من الأشخاص الذين ليس لديهم اعتراض أيديولوجي حقيقي على الحرب، ولكنهم محبطون أو متعبون أو ضجرون من استمرارها لفترة طويلة، وإلى جانبهم هناك أقلية صغيرة من جنود الاحتياط الذين يرفضون التجنيد لأسبابٍ أخلاقية”[17]، مثل هذه الرسائل بها تعبير واضح عن فقدان الثقة الكلي في رئيس الحكومة والحرب السياسيّة التي يُديرها في غزة، وأن هدفها الحقيقي المحافظة على الائتلاف الحكومي، وبالتالي، فإنها ليست حربًا شرعية[18].
ومع تعدد أسباب رفض الخدمة العسكرية سواء لأسباب دينية كما هو حال الحريديم، أو أسباب اجتماعية واقتصادية أو حتى صحية ونفسية وهو أمر انتشر في الآونة الأخيرة، لجأ الجيش الإسرائيلي إلى التجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نشر مئات الإعلانات يوميًا على فيسبوك وتليجرام لاستقطاب المتطوعين بسرعة، مع تخفيف الفحوصات الأمنية حتى في الوظائف الحساسة، كما خفّف شروط القبول من خلال تقديم دورات تدريبية سريعة لمهام مثل تشغيل الطائرات المسيرة، مما أثار مخاوف أمنية. إلى جانب ذلك، قدم الجيش تحفيزات مالية بلغت 9 مليارات شيكل، فيما عدّل أنظمة الخدمة باعتماد نظام 4-8 (أربعة أيام في القاعدة وثمانية في المنزل)، واقترح إنشاء وحدات نظامية جديدة لتخفيف الضغط على الاحتياط[19].
- سماء إسرائيل الاقتصادية قاتمة
يقول المحلل أدريان بايلوت، في مقالٍ له في صحيفة كالكاليست التابعة لصحيفة يديعوت أحرونوت، “تزداد السماء الاقتصادية قتامةً، وخلافًا لادعاء الحكومة ليس من المتوقع أن تصفو تلقائيًا وبسرعة، حتى لو تحقق النصر المؤزر الذي يتوقون إليه ووعدونا به”، فالطوفان أرخى بظلاله على الاقتصاد الإسرائيلي أيضًا، فمنذ أكتوبر 2023 وإسرائيل تتكبد خسائر ضخمة، سواء تكاليف مباشرة أو غير مباشرة في الجبهة الداخلية، بالإضافة لتأثر كل القطاعات والأنشطة الاقتصادية والاستثمارات الأجنبية. ويُقدّر بنك إسرائيل ووزارة المالية تكلفة الحرب على غزة، حتى مايو 2024، بـ 250 مليار شيكل، وصلت بعد امتدادها إلى لبنان 300 مليار شيكل.
ومع دخول الحرب عامها الثاني تراجع النمو الاقتصادي إلى 1% عام 2024 مقارنةً بـ 1.8% لعام 2023، و6.3% لعام 2022، هذا النمو مقارنةً بنسبة التكاثر الطبيعي للسكان 2%، يعني انكماشًا ضمنيًا، على أساس قاعدة أن كل نمو يقل عن نسبة التكاثر السكاني هو انكماش[20]، وإذا ما تجاهلنا مشاركة الحكومة، التي ضخت مبالغ كبيرة إلى الاقتصاد كجزء من المساعدات المدنية والأمنية، فسنجد أن الانكماش كان أكثر حدة، وهو ما يعكس تراجع الرفاهية الاقتصادية لسكان البلاد، وبحسب تحليل يونتان كاتس، خبير الاقتصاد الكلي في مركز الاستثمارات ليدر، فإن المقارنة الصحيحة هي نسبة النمو إلى إمكانات النمو في تلك الفترة، وهناك يتبين أن الانخفاض يصل بالفعل إلى نحو 5%[21].
مع تراجع النمو الاقتصادي انخفض نصيب دخل الفرد حوالي 3%، مقابل زيادة في معدلات التضخم وغلاء المعيشة وصلت حوالي 3.2%، وفي يناير 2025 زاد التضخم بنسبة 0.6%[22]، بحسب ما أعلنه مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، بالإضافة لذلك أعلنت وزارة المالية الإسرائيلية أن شهر يناير سجل ذروة غير مسبوقة إطلاقًا، في حجم جباية الضرائب في شهرٍ واحد، بواقع 62 مليار شيكل (17.2 مليار دولار)، ومن ضمن مسببات هذا الارتفاع تطبيق الحكومة سلسلة من الضرائب المتنوعة على المواطنين والاقتصاد ككل، جراء ذلك شهدت الطبقة الوسطى في إسرائيل انهيارًا اقتصاديًا واضحًا، وزادت نسبة طلبات الإعانة الاجتماعية بنسبة 23% خلال عام 2024[23].
وأشار تقرير الفقر متعدد الأبعاد الصادر عن جمعية لاتيت لعام ٢٠٢٤ أن الحرب المستمرة منذ 7 أكتوبر ۲۰۲۳ أدت إلى أضرارٍ اقتصادية جسيمة، حيث تسبب التضخم المالي وارتفاع أسعار الفائدة والسلع الأساسية في تفاقم الأزمة. ووفقًا لمؤشر الفقر متعدد الأبعاد الذي تعتمده الجمعية، فإن حوالي 32% من المجتمع الإسرائيلي يعاني الفقر، الأكثر تأثرًا هم العرب بنسبة تصل42.4%، يليهم اليهود الحريديم 22.5%، واليهود غير الحريديم 14%، وأشار التقرير أن هذه النسبة قابلة للزيادة في ظل استمرار الحرب وزيادة التضخم، وانخفاض الدعم الحكومي، في حين تضرر حوالي 65% من الإسرائيليين ماليًا، مما يُنذر بانهيار الصمود والتضامن الاجتماعي[24].
رغم هذه المؤشرات وتأثيرات الحرب الكارثية على الاقتصاد الإسرائيلي ووصول عجز الموازنة حوالي 6.9% بنهاية 2024، وتوقع ارتفاع نسبة الدين الحكومي إلى الدين العام إلى 70% من الناتج المحلي، فإن حكومة نتنياهو أعدت ميزانية هي الأضخم في تاريخ إسرائيل، ففي 25 مارس 2025 حالت أغلبية الائتلاف الحاكم في الكنيست الإسرائيلي دون انهيار حكومة نتنياهو بتصديقها على الموازنة العامة للدولة، وبلغت الموازنة العامة إجمالي غير مسبوق وصل 756 مليار شيكل -مستمرة بالزيادة- منها حوالي 136 مليار لخدمة الديون، فيما استحوذت وزارة الدفاع على النسبة الأكبر من الموازنة حوالي 109.8 مليار شيكل، وبلغت حصة وزارة التعليم حوالي 90 مليار شيكل، ووزارة الصحة حوالي 59 مليار شيكل، التأمين الوطني 61 مليار شيكل، بالإضافة لباقي بنود الإنفاق، وعجز مالي مبدئي بلغ حوالي 4.2% ارتفع بعد ذلك.
وبالنظر لنسبة الإنفاق العسكري، فإن الموازنة تدلل على توجه السياسة الإسرائيلية المستقبلي باستمرار العمليات العسكرية في المنطقة، والاستثمارات الدفاعية والأمنية على المدى البعيد، وعلى الرغم من هذه الزيادة فقد اعترضت عليها وزارة الدفاع لأنها أقل من تقديراتها الأولية لتكاليف استمرار العمليات العسكرية بعشرات ملايين الشيكلات.
جاءت جلسة التصويت على الموازنة عاصفة، احتجاجات ضخمة تغلق مداخل الكنيست، وخلافات محتدمة بالداخل بين الأجنحة المختلفة، فبينما يرى الائتلاف الحاكم أنها “ميزانية حرب وستكون ميزانية نصر” على حد تعبير بتسئليل سموتريتش وزير المالية، عارضتها أحزاب المعارضة؛ لأنها تُسرق من الطبقة الوسطى، بالتضخم والضرائب، أو بخفض الإنفاق الحكومي في القطاعات المدنية والخدمية وتقلص الاستثمار في البنى التحتية ومن ثم انخفاض المستوى المعيشي للمجتمع. حيث قال زعيم المعارضة، النائب لبيد: “ما وُضع هنا اليوم ليس ميزانية، بل سرقة. هذه أكبر سرقة في تاريخ الدولة. أنتم تسرقون أموال ومستقبل الطبقة المتوسطة الإسرائيلية” رد عليه رئيس لجنة المالية، عضو الكنيست موشيه غافني (حزب يهدوت هتوراة): “الميزانيات التي يتلقاها الحريديم مُخصصة لنفس الأغراض التي يتلقاها جميع مواطني إسرائيل. أليس من حق الطفل الحريدي الحصول على نظام تعليمي، ورعاية اجتماعية، ورعاية صحية، وبنية تحتية؟”[25].
لكن هذا الخلاف يتعلق أيضًا بالقبيلة اليهودية، فلم يكن محل الرفض من قبل أحزاب المعارضة هو أن زيادة الإنفاق العسكري يعني استمرار آلة الحرب في المضي قدمًا، وإنما لأنه يعني استمرار حكومة نتنياهو، وإضرار بالاقتصاد الإسرائيلي الآن ومستقبلًا، بالإضافة لنسبة الأموال المخصصة للائتلاف الحاكم من جهة، والأموال التي يتلقاها الحريديم من جهةٍ أخرى. ولم تعترض هذه الأحزاب مثلًا على خفض مخصصات التنمية الاجتماعية الموجهة لفلسطيني 48 رغم أنهم الفئة الأكثر فقرًا مجتمعيًا، وفق مركز مساواة فإن الحكومة خفضت المخصصات بنسبة تصل لـ 15% منذ 2024[26]، كما هاجم يائير لابيد الأموال التي خصصتها وزارة المالية الإسرائيلية للمساعدات الإنسانية داخل غزة تحايلًا، قائلًا إن “وزارة المالية ترسل بأموالنا للشفاء بينما أبناؤنا يعانون في سوروكا”.
انعكست هذه التداعيات الاجتماعية والاقتصادية على التأييد المجتمعي للحرب حتى داخل معسكر أنصار الحزب الحاكم، فهناك خوف عام بشأن مستقبل الأمن والدفاع، بالإضافة لقدرة المجتمع على تحمل أعباء قتال مطول فبينما كان 40% من اليهود في مارس 2024 يرون أن المجتمع قادر على تحمل عبء الحرب، انخفضت النسبة إلى حوالي 28% وفق آخر استطلاع للرأي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي في سبتمبر 2025، وأيدت نسبة 62% إبرام صفقة وعودة المختطفين، وقد ارتفعت نسبة التأييد بين مختلفي مؤيدي الطيف السياسي، ماعدا الصهيونية الدينية[27].
يتضح مما سبق إذن، مدى حدة الصراع السياسي الداخلي في إسرائيل وتعدد أزماته، لكنه يبقى صراعًا داخليًا يرتبط بقضايا القبيلة اليهودية فقط، حتى أن المؤسسات الأكاديمية والجامعية ومراكز الأبحاث التي قدمت مبادرات ومقترحات -أثناء الحرب- لحل الأزمة، وضمان الحفاظ على الدولة، تجاهلت القضية الفلسطينية بالكلية، ليس عرب الداخل كمكون مجتمعي، وإنما القضية كلها، وإن كان هذا اختزالًا مقصودًا لطبيعة الأزمة، ومحاولة تصويرها كأزمة داخلية يمكن حلها بمعزل عن التبعات البنيوية للاحتلال، كمنظومة كولونيالية استيطانية. هذا التجاهل يعكس حقيقة أنه قبل أو بعد السابع من أكتوبر لا صراع حقيقي على الرؤى فيما يخص القضية الفلسطينية، وإنما من الممكن الاختلاف في الأدوات[28].
ثانيًا- اليمين واليسار: عصابة صهيونية واحدة
ندلل فيما تبقى من الدراسة تاريخيًا على فرضية أنه لا خلاف حقيقي بين اليمين واليسار الإسرائيلي من حيث التعامل مع القضية الفلسطينية، قد يختلف الإطار العام الذي تنتظم فيه الممارسات، وآليات التنفيذ، لكنها تبقى واحدة، ونتتبع هذه الفرضية من خلال ثلاث قضايا محورية في تاريخ الصراع استهدفت فيها حكومات الاحتلال يمينًا ويسارًا إما الفلسطينيين كبشر بشكلٍ مباشر؛ أو الحيز الجغرافي الموجودين عليه، ما يقوض أي زعم لحل الدولتين. وهو ما يتضح عبر القضايا الآتية:
- تهجير الفلسطينيِّين
لطالما زعم اليسار الإسرائيلي دعمه لحل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة، لكن في فبراير 2025، وبعد إعلان الرئيس الأمريكي ترامب أثناء اجتماعه مع بنيامين نتنياهو عن مقترحه بالتهجير، احتفى اليمين الإسرائيلي ورئيس الوزراء نتنياهو خصوصًا بتصريحات ترامب، معتبرين إياها تحولًا تاريخيًا في السياسات الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن قبول الخطة لم يقتصر على التيارات والأحزاب اليمينية المتطرفة فقط، بل امتد إلى المعارضة، التي تضم أحزابًا تُعرّف نفسها بأنها تيارات الوسط واليسار العلماني، حيث رحّب بيني جانتس، زعيم حزب “معسكر الدولة”، بمشروع ترامب بشأن غزة، قائلًا إنه يُقدّم “تفكيرًا إبداعيًا وأصيلًا ومثيرًا للاهتمام، يجب دراسته بالتزامن مع تحقيق أهداف الحرب، وإعطاء الأولوية لإعادة جميع المختطفين”. كما أعرب زعيم المعارضة يائير لابيد عن دعمه للخطة، قائلًا إن المؤتمر الصحفي المشترك بين ترامب ونتنياهو “كان مفيدًا لدولة إسرائيل”، وفي حين أعلن الحزب الديمقراطي اليساري تخوفه من الخطة، جاء التخوف متعلقًا بجدوى الخطة لا أخلاقيتها أو يسارية الحزب، حيث قال رئيس الحزب “تصريحات ترامب جيدة لعناوين الصحف، لكنها غير عملية على أرض الواقع”[29].
وفي استطلاعٍ للرأي أجراه “معهد سياسة الشعب اليهودي” عقب اللقاء في فبراير 2025، أيد حوالي سبعة من كل عشرة إسرائيليين هذا الخيار، ويُظهر الاستطلاع أن أغلبية من اليهود افترضت أن هذه “خطة عملية ينبغي السعي لتحقيقها”، حتى قبل اجتماع واشنطن بين ترامب ونتنياهو، وقد أظهر استطلاع آخر أن من بين جميع اليهود في إسرائيل، تعتقد ذلك أغلبية ضئيلة بلغت 52%. وأجاب 30% آخرون من اليهود بأن الخطة “غير عملية، لكنني أتمنى لو كانت كذلك”. بمعنى آخر، يؤيدونها لكنهم لا يعتقدون أن لديها فرصة حقيقية للتنفيذ.
وذكر تقرير المعهد أن الاقتراح يتضمن نقلًا كبيرًا للسكان الفلسطينيين من قطاع غزة، والذي كان يُعتبر سابقًا غير شرعي من قِبل العديد من الإسرائيليين، لكنه حظي الآن بدعمٍ واسعٍ بين اليهود، وإذا لم يُؤيَّدوه، فعادةً ما يكون السبب عمليًا وليس مبدئيًّا[30].
ومما تجدر الإشارة إليه أنه بعد مرور أقل من أسبوع على بدء حرب الإبادة الإسرائيلية، وضعت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية وثيقة رسمية دعت فيها إلى تهجير سكان القطاع إلى سيناء، ورأت أنه ينبغي للحكومة الإسرائيلية أن تحدد الهدف السياسي للحرب الذي تسعى لتحقيقه بخصوص المدنيين، وذلك إلى جانب تحقيق هدف الحرب العسكري المتمثل في القضاء على حكم حماس وقوتها العسكرية في القطاع. ورأت الوثيقة أن على إسرائيل دعوة السكان المدنيين إلى الهجرة إلى جنوب القطاع في رفح تمهيدًا لتهجيرهم إلى سيناء، وأن على إسرائيل إبقاء المحاور المرورية في اتجاه الجنوب مفتوحة عند قصفها القطاع، لإتاحة الفرصة لتهجير المدنيين إلى رفح[31].
وفيما يُجادل البعض بأن ارتفاع النسب الحالية المؤيدة للتهجير يرتبط بصدمة السابع من أكتوبر، أو أن النسب القديمة ترتبط بصعود الليكود واليمين الإسرائيلي بعد ١٩٧٧، لكن الحقيقة أن فكرة طرد الشعب الفلسطيني من أرضه في صلب أدبيات الحركة الصهيونية، ورافقت تطور المشروع الصهيوني في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم، ولا يكاد يوجد قائد صهيوني لم يُناد بطرد الفلسطينيين من وطنهم، كما أن تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين ارتبط أصلًا بطرد الفلسطينيين منها[32].
على سبيل المثال بعد حرب 1967، أجمعت الحكومة الإسرائيلية “حكومة حزب العمل اليساري” على أن إسرائيل لن تنسحب من القطاع في أي حل مع الدول العربية، وستضمه رسميًا إليها بعد أن تطرد سكانه، أو أغلبيتهم منه، وترددت في ضمه مباشرةً عقب الحرب، لوجود أكثر من 400 ألف فلسطيني فيه حينئذ، كان نحو 75 في المئة منهم من اللاجئين الذين هجرتهم إسرائيل من ديارهم إليه في حرب 1948 وكان ضمهم مع ضم القدس الشرقية، إضافة إلى الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، يُشكل خطرًا ديموغرافيًا على إسرائيل.
وجاء في عددٍ من الوثائق الإسرائيلية -المكشوف عنها قريبًا- لمحاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية عقب حرب 1967، أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء أو إلى الأردن كان أولوية الحكومة. وقد شُكلت اللجان لهذا الأمر، وخُصصت لها الميزانيات، وفي مايو 1969، اتفق جهاز الموساد مع حكومة البارجواي على أن تقبل هجرة 60 ألف فلسطيني من قطاع غزة إليها خلال أربع سنوات، وأن تمنحهم تأشيرة دخول للعمل فيها، ما يمكّنهم من الحصول على المواطنة فيها خلال خمس سنوات[33].
- التجويع الممنهج
على الرغم من البيانات الرسمية والتقارير الإعلامية التي تحذر من المجاعة في غزة منذ مطلع عام 2024، فإن الإعلان الرسمي الدولي لم يصدر إلا في أغسطس 2025، حيث أصدرت منظمة الصحة العالمية، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، وبرنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) بيانًا مشتركًا بجنيف أكدت فيه أن أكثر من نصف مليون شخص في غزة عالقون في مجاعة[34].
وعلى الرغم من إحصاءات القتل تجويعًا، والصور المروعة لأجساد الصغار والكبار، والتضامن العالمي الواسع والمدين لسياسة إسرائيل التجويعية الممنهجة، التزم قادة اليسار والوسط العلمانيون الصمت التام تجاه الأمر. وعلى المستوى الشعبي، يُشير استطلاع للرأي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي في يوليو 2025 أن 70% من الجمهور اليهودي يصدق تقارير جيش الدفاع عن حجم الضحايا المدنيين في غزة، بينما ترتفع النسبة في جمهور اليمين فقط لـ 74%، وأن أكثر من ثلاثة أرباع الإسرائيليين اليهود79% “غير منزعجين على الإطلاق” من التقارير التي تتحدث عن التجويع الإسرائيلي لسكان غزة[35].
وفيما يُجادل البعض بأن مرد هذه النسب إلى التعتيم الإعلامي شبه التام على أخبار التجويع في القطاع، لكن الحقيقة أن التماهي مع الوحشية هو ديدن المجتمع الإسرائيلي منذ نشأته، أو الإنكار مدعيين أخلاقيتهم وأخلاقية جيش الدفاع، وهي حالة إنكار ممتدة منذ ما قبل 1948، في مقاله بجريدة هآرتس يوليو 2025، تحدث الكاتب جدعون ليفي عن حالة الإنكار التي يعيشها المجتمع، ويقول “لا يوجد مجتمع يعيش حالة إنكار لحقيقته وذاته كإسرائيل، من إنكار أحداث النكبة والإبادة الجماعية في غزة، وحتى التجويع”، ويتساءل “ما الفارق بين هذا الإنكار، وبين روبرت فوريسون الأكاديمي الفرنسي حين أنكر الهولوكوست استنادًا إلى حجم غرف الغاز”[36].
استخدام إسرائيل لسياسة التجويع في حربها الأخيرة على غزة ليست المرة الأولى، بل إن استخدامها الغذاء كسلاح هي استراتيجية تتجذر في تاريخها، وعمرها من عمر قيام دولتهم، وهذه الاستراتيجية منحها لهم -تآمرًا- النظام الدولي بتقسيمه التعسفي لفلسطين، وهم بنوا عليها وطوروها على مدى تاريخهم. ففي عام 1947، اعتمدت الجمعية العامة القرار 181 وأوصت بتقسيم أراضي فلسطين إلى “دولة يهودية” و”دولة عربية”، مع وضع القدس تحت الإدارة الدولية، أعطى التقسيم 55.5% من إجمالي مساحة فلسطين إلى اليهود (معظمهم كانوا مهاجرين جدد) الذين كانوا يُشكلون أقل من ثلث السكان ويمتلكون أقل من 7% من الأراضي. وما جعل اقتراح الأمم المتحدة أكثر ظلمًا، واعتداءً على حق الفلسطينيين في الغذاء وتمهيدًا لتجويعهم المستقبلي، هو حقيقة مفادها أن 84% من الأراضي الزراعية كانت من المفترض أن تذهب إلى الدولة اليهودية، في حين لم يتبق للدولة العربية سوى 16% فقط[37].
كما أنه لا اختلاف بين موقف اليمين واليسار في تجويع الفلسطينيين، فهي سياسة ترتبط بالمعركة الوجودية التي يخوضها المشروع منذ نشأته إما نحن أو هم، وفي كتابه الصادر حديثًا “مئة عام من الجوع”، يتحدث مارك ويندل عن حملة ظلم وتجويع ممنهجة للقطاع منذ 1948، فبعد حرب 1967 فُرضت قيود على إمدادات المياه للقطاع، في خطوة متعمدة لطرد السكان[38]. كما أنه بعد حصار غزة المفروض منذ 2005 سلبت الرقابة الشاملة من قبل الاحتلال على فلسطيني غزة سيادتهم على طعامهم وحرمانهم أمنهم الغذائي، وتعليقًا على الأوضاع صرح دوف فايسجلاس، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت زعيم حزب كاديما المنتمي للوسط، أن “الفكرة هي وضع الفلسطينيين على نظام غذائي، ولكن ليس جعلهم يموتون من الجوع”، بمعنى السماح فقط بكمية كافية من البضائع للدخول إلى غزة بحيث تجعل الناس يشعرون بالجوع ولكن دون تجاوز “الخط الأحمر”، حتى إن وزارة الصحة الإسرائيلية وضعت نظام حسابي لتقدير السعرات الحرارية اللازمة لمختلف الفئات العمرية وللجنسين في غزة، ثم استخدمت هذه البيانات لتحديد كمية المواد الغذائية الأساسية التي تسمح بدخولها إلى القطاع كل يوم، واستمرت سياسة التجويع والاستيلاء على الأرض ورشها بالمواد السامة والتضييق على الصيادين بشكلٍ ممنهج، بغض النظر عن انتماء وتوجه الحكومات الإسرائيلية[39].
- استيطان الضفة
في مطلع 2025 أعلن وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش أن هذا العام سيكون عام الضفة الغربية في إشارة لضمها، وأصدر تعليماته لإدارة الاستيطان للبدء بعملٍ جماعي من أجل إعداد البنية التحتية اللازمة لعملية الضم. تزامن ذلك مع بداية جيش الاحتلال الإسرائيلي ما أسماه عملية السور الحديدي التي تستهدف مخيمات شمالي الضفة الغربية، حيث بدأت باقتحام مخيم جنين ثم مخيم طولكرم ونور الشمس، تلتها اقتحامات لبلدة طمون ومخيم الفارعة بمحافظة طوباس، وتنفيذ لأكثر من 25 ضربة جوية، ما أدى لتهجير 40 ألفًا من سكان المخيمات، وتدمير الكثير من الوحدات السكنية[40].
هذا في حين أعلن المركز الفلسطيني للإحصاء أن عدد شهداء الضفة منذ بداية الأحداث تجاوز 1032 شهيدًا، وفي يوليو 2025 صوت الكنيست الإسرائيلي بالأغلبية على إعلان يدعو الحكومة إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة، في تحولٍ ذي دلالات سياسية عميقة، يعني إلغاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وجاء في مقدمة الإعلان الذي صوت عليه الكنيست “أن يهودا والسامرا وغور الأردن هي أجزاء لا تتجزأ من أرض إسرائيل، ومن الوطن التاريخي والثقافي والروحي للشعب اليهودي”، سبق هذا تصويت آخر في يوليو 2024 برفض إقامة دولة فلسطينية[41].
في سياقٍ متصل جدد سموتريتش دعوته لفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على 82% من الضفة الغربية، وبدء العمل في المشروع الاستيطاني E1، الذي سيربط القدس الشرقية بمستوطنة معاليه أدوميم، لكنه سيقسم الضفة الغربية إلى نصفين بفصلها عن القدس الشرقية ويقضي على حل الدولتين بالكلية، ومن ثم تُمحى فلسطين من على الطاولة بالأفعال لا الشعارات على حد تعبير سموتريتش[42].
وفي حين يسعى اليمين الإسرائيلي قدمًا لضم الأراضي والقضاء على الوجود الفلسطيني بالكلية، صوتت بعض أحزاب المعارضة لصالح الضم، في حين التزمت أحزاب الوسط واليسار الصمت، وفي مقاله بيديعوت آحرونوت انتقد الأكاديمي الإسرائيلي آسف ميداني موقف اليسار قائلًا “يسود صمت تام، لا صوت واضح من اليسار، ولا صرخات “احتلال”، لا مظاهرات، ولا حتى تغريدة من كبار مسؤولي الوسط -يسار، ..، هل خشية خسارة الناخبين، لكن من المحتمل أن يكون هناك شيء أعمق -ما يُسمّى في علم السياسة بـ “نفاقٍ منظم”، وهو ليس مجرد تناقض عفوي، بل هو استراتيجية، تتعامل من خلالها المؤسسات والأحزاب مع التناقض بين المبادئ والقرارات الفعلية، ..، لأن حتى الأيديولوجيا لها حدود، فاليسار يتحدث ضد الاستيطان، لكنه فعليًا يستفيد من الهدوء النسبي الذي توفّره المستوطنات على الضفة”.
بحلول عام 2025، بلغ عدد المستوطنات نحو 350 مستوطنة، من بينها نحو 200 تُصنَّف كبؤر استيطانية لم تُشرعنها الحكومة الإسرائيلية رسميًا بعد، الأغلب تستولي عليه جماعة شبيبة التلال أو جماعات الاستيطان الرعوي، كما تضم الضفة الغربية حوالي 35 منطقة صناعية، وشبكة طرق استيطانية حديثة، ومئات آلاف الدونمات المصنفة كأراضٍ عسكرية مغلقة لدواع أمنية، بالإضافة إلى نحو 540 ألف مستوطن (لا يشمل القدس)، تاريخيًّا بدأ الاستيطان للضفة في ظل حكومة ماباي اليسارية عقب حرب 1967، ليفي أشكول، رئيس الحكومة آنذاك، وعبّر بوضوح عن الموقف الإسرائيلي حين قال: “نريد العروس بدون المهر”، في إشارة إلى الرغبة في الأرض من دون سكانها الفلسطينيين، هذا التوجه عكس نية إسرائيلية مبكرة لضم الضفة الغربية من دون منح الفلسطينيين حقوقًا متساوية.
في عام 1968، غُيّر الاسم الرسمي للضفة إلى “يهودا والسامرة”، كجزء من تأطير رمزي لتبعيتها التاريخية المفترضة لإسرائيل، في عام 1979، صرح مناحيم بيجن بأن لإسرائيل “الحق الطبيعي والتاريخي” في السيادة على كل المناطق المحتلة. وفي 1980 و1981، جاء ضم القدس الشرقية والجولان كمحطات قانونية رسمية، واقترح نفتالي بينيت في عام 2012 ضم مناطق “ج”، التي تُشكل 60% من الضفة. وفي 2019، أعلن نتنياهو نيته ضم الأغوار، بدعمٍ من إدارة ترامب. اليوم، بعد تصويت الكنيست في 2025، تتجلى سياسة الضم كمسار مستمر ومتصاعد، بدأ منذ نشأة الدولة ويتجه نحو استكمال فرض السيادة الكاملة على الضفة، لا فرق في هذا المسار بين يمينٍ ويسار، لأن الاستيطان باختلاف أشكاله سواء بؤر عشوائية أو مستوطنات رسمية، وتعدد أدواته ودوافعه هو قربان كل الانتماءات السياسية لناخبيها، وعصب المشروع الصهيوني الذي يتجاوز حدود الأيديولوجيا[43].
خاتمة: هل هناك يمين ويسار إسرائيلي؟
بعد التتبع التاريخي لبعضٍ من سياسات اليمين واليسار تجاه فلسطين أرضًا وشعبًا، تبقى الإجابة عن سؤال: هل هناك يمين ويسار إسرائيلي؟ حقيقة، لا تعد الأيديولوجيات السياسية انتماءات أولية للإنسان، بل لا بد دائمًا من مستوى يسبقها يمكن تسميته “ما وراء الأيديولوجيا”، وهو بناء من القواعد يمثل الأرضية التي يدور عليها الجدل السياسي والأيديولوجي. لذا؛ فإن الصراع السياسي في إسرائيل أيًّا كانت مسميات أطرافه يحدث على أرضية الصهيونية وتحت مظلتها كانتماءٍ أولي ومشروعٍ جامع، قد يختلف التياران ربما في هوية الدولة ليس في جوهر يهوديتها، وإنما في تمظهرات اليهودية في الواقع، لكن كل هذا داخل القبيلة اليهودية وتحت مظلة الصهيونية، أما عندما يكون جوهر القضية يتعلق بفلسطين والفلسطينيين تنكص كل التيارات، والشعب -من قبلها- على أعقابها إلى سيرتها الأولى، كمشروعٍ كولونيالي استيطاني إحلالي.
بنى المشروع الصهيوني الدولة على افتراضين رئيسيين: أولًا، المؤقتية الدائمة، بمعنى أن أي تسوية هي ليست نهائية، وأي حدود هي ليست دائمة. ثانيًا، أن الصراع مع الفلسطينيين هو صراع وجودي صفري، ومن ثم هيكل الدولة منذ النشأة قائم على فكرة “الحرب الدائمة”، وبناء “الجدار الحديدي”. هذا بمعنى السحق المستمر للفلسطيني حتى يفقد الأمل بالقدرة على هزيمة الصهيونية، وبقاؤها مرتبط باستراتيجية “الأمن الدائم” أي السعي المستمر لضمان أمنها بشكلٍ مطلق عبر التخلص من جميع التهديدات المحتملة والمتصورة وإقامة معادلة ردع تحفظ على إسرائيل استعارتها المجازية المؤسسة كبيت آمن لكل يهودي، ومن هنا نفهم أن السابع من أكتوبر أصاب المشروع في مقتله، فنقض أسس المشروع الصهيوني كبيتٍ آمن ركنيه الردع والتفوق العسكري والتقني إذ هدم الجدار.
ومن ثم، ندرك بمقدار التوحش والإبادة الصهيونية في غزة، إنها هذه المرة حقيقة تخوض حرب الوجود والبقاء، ليس بمعنى التفكك والفناء الآني للمشروع، وإنما بمعنى أن مستقبل وجود المشروع على شفا جرف هار، يستدعي تغيير وجه المنطقة بالكلية.
وبغض النظر عن اتجاه الحكومة يمين أو يسار، لم يمر عقد منذ 1948 دون حرب؛ سواء حروب نظامية ضد دول كما في عقود التأسيس الأولى، أو ضد حركات المقاومة، ودون استيطان وضم للأراضي حتى وقت كتابة هذا التقرير، ومن ثم فالصراع السياسي الداخلي يمكن فهمه بأنه صراع بين المستعمرين الجدد والمؤسسين، للسيطرة على موارد وقوى الدولة التي تجمع وتراكم عبر عملية سطو استعمارية أيضًا، واستخدامها في تشكيل المشروع الصهيوني وفق رؤيتهم، فمن جهة الأشكناز الذين بنوا الدولة وحولوا الصهيونية المؤسسية من سلوك استعماري عصابي همجي قبل عام ١٩٤٨ إلى سلوك استعماري دولتي يُركز على المؤسسية والبيروقراطية والديمقراطية الليبرالية، ويحاول الفصل بين الصراع الخارجي والداخلي، أي أن تكون إسرائيل إسبرطة خارجيًا وأثينا داخليًا، واستخدام أدوات الدولة المؤسسية والقانونية تدريجيًا لتحقيق مشروعهم، ومن جهة أخرى، الصهيونية الجديدة مزيجًا يمينيًا قوميًا متطرفًا يسعى لإنجاز المشروع الاستيطاني بوتيرةٍ جنونية جذرية أكثر تطرفًا ووضوحًا يشبه أسلوب عصابات الأشكناز قبل التأسيس.
هذا الصراع الداخلي الممتد، والذي وصل لشفا حرب أهلية على طريقة إنجاز المشروع الصهيوني وهويته، هو المضخة المحركة لحرب الإبادة في غزة الآن، لأن نتيجة هذه الحرب وطريقة حسمها، وجدل المسؤولية عنها والتضحية فيها، هي التي ستحدد من سيد البيت، وأيًا كان السيد وتياره السياسي فإنه يؤمن باستحالة حل الصراع، لا يرغب بالوجود الفلسطيني، كما أن النمط الإبادي وفائض العنف المستخدم في غزة، وفقدان القوات المقاتلة التي تمثل الصهيونية الدينية عصبها لانضباطها العسكري، واهتزاز العلاقة مع قادة الجيش، والانقسام على أهمية عودة الأسرى بسبب انتمائهم السياسي، يهدد بارتداد الإبادة والعنف كوسيلة لحسم الصراع الداخلي، في ظل انسداد أفق الحل سياسيًّا[44].
ماذا يُخبئ المستقبل؟
إن مستقبل الصراع السياسي في إسرائيل يرتبط بنتائج الحرب الدائرة الآن، واليوم التالي لها، وما إذا كانت النخبة السياسية قادرة على الوصول لمسارٍ سياسي يتفادى ارتداد فائض العنف المستخدم في غزة والضفة أثناء الحرب، أم أن وحدات الجيش وميليشيات المستوطنين المسلحين ستكون وجهة معركتهم القادمة شوارع تل أبيب.
وتزامنًا مع الانقلاب القضائي الذي تنفذه الحكومة، يتحدث إيهود أولمرت عما ينتظر إسرائيل في المستقبل “لكننا لا نزال في المرحلة الأولى -الانقلاب القضائي- وفي المرحلة الثانية من عمل آلة السموم التابعة لنتنياهو، سيستولي البلطجية على ستديوهات الأخبار والقنوات التليفزيونية، مثلما هددوا عمليًا، محكمة العدل العليا. ويستولون على الميكروفونات. مَن يوقفهم؟ شرطة بن غفير؟.. أكتب هذه الأمور بقلقٍ كبير لأنني أشعر، مثل كثيرين من أمثالي، بأننا نقترب أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، ليس من ثورة مدنية كان يجب أن نقوم بها منذ زمنٍ طويل، بل من حرب أهلية، بعدها، ستأتي المرحلة الأخيرة. تخيّل أن الزعران، الذين زودتهم جهة مخولة في السلطة بالسلاح، يقررون اقتحام الكنيست، ولا يكون هناك مَن يمنعهم. وربما يفتح الذين يملكون الصلاحيات الأبواب لهم، يقتحم هؤلاء القاعة العامة للكنيست، ويرمون مقاعد أعضاء الكنيست من المعارضة، ويهاجمونهم، ويسمحون لأعضاء الحكومة باتخاذ أيّ قرار، أو تشريع يخطر في بالهم.. لا يمكن القول إننا لم نحذّر. في الحقيقة، إسرائيل على وشك الدخول في حرب أهلية عنيفة ودموية ومفككة ومدمِّرة[45]“.
أما مستقبل القضية الفلسطينية، فإذا كان لا خلاف بين سياسات اليمين واليسار بالنسبة لها -وإن اختلفت الوتيرة والأدوات أحيانًا- لكن مستقبلها بعد الطوفان مرتبط بمدى استيعاب محيطها العربي والإسلامي للتغير الذي أحدثه الطوفان في المشروع الصهيوني وسياسته تجاه محيطه الإقليمي، فإذا لم يدعم المحيط العربي والإسلامي الوجود الفلسطيني، ويخلق معادلة ردع جديدة تقف في وجه المشروع الصهيوني ورؤيته الجديدة للشرق الأوسط، فلا عاصم لأحدٍ من لوثة الكيان لا معاهدات سلام، ولا اتفاقات إبراهام.
————————–
الهوامش:
⁕ باحثة في العلوم السياسية.
[1] وثيقة إعلان إقامة دولة إسرائيل، 14 أيار/مايو 1948.” PalQuest. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تاريخ الاطلاع: في 5 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/QDnmK4
[2] هنيدة غانم، أقصى اليمين الجديد في إسرائيل، في: انطوان شلحت وآخرون، اليمين الجديد في إسرائيل مشروع الهيمنة الشاملة، رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، 2023، ص85-144.
[3] Fisher, N., & Shilon, A.Integrating non-Jewish immigrants and the formation of Israel’s ethnic-civic nationhood: from Ben Gurion to the present. Middle Eastern Studies2016, 53(2), 166-182.
[4] Rivlin, R. (2015, June). H.E. Reuven Rivlin, President of the State of Israel at the 15th Annual Herzliya Conference [Video] YouTube, available at: https://2u.pw/KBj60g
[5] Elran, Meir, and Kobi Michael. The Formative Socio-Political Crisis in Israel: Implications for National Security. Institute for National Security Studies (INSS), Sept. 2023, available at: https://2u.pw/iLoIhQ
[6] عبد القادر بدوي: إسرائيل بين التفكيك والحرب الأهلية، مدار: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، أوراق إسرائيلية، العدد 84، سبتمبر 2023، تاريخ الاطلاع 12 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/EOJK8R
[7] Elran, Meir, and Kobi Michael. Op. cit.
[8] عبد القادر بدوي: إسرائيل بين التفكيك والحرب الأهلية، مرجع سابق.
[9] عبد القادر بدوي (إعداد وترجمة)، في سيرورة إسرائيل الراهنة، سلسلة أوراق إسرائيلية (84)، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 2025، ص13-30.
[10] Idit Shafran Gittleman, et al. “Swords of Iron Survey Results – August 2025.” Institute for National Security Studies (INSS), August 27, 2025, available at: https://2u.pw/UerE0W
[11] Benjamin Netanyahu. “Democracy Isn’t in Danger, Netanyahu Tells Knesset in Tirade Against Deep State.” The Times of Israel, March 26, 2025, available at: https://2u.pw/A8ZyU5
[12] Israel News. “Justice Minister Levin Locks Attorney General Out of Office Despite Court Freezing Her Ousting.” Haaretz, August 12, 2025. Available at: https://2u.pw/LuXu2i
[13] العدو الجديد: إيال زامير، مختارات من الصحف العبرية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، العدد 4702، 6 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Y1GSmv
[14] Eliav Breuer and Jerusalem Post Staff. “Degel HaTorah and Agudat Yisrael Factions Announce Resignation from Netanyahu’s Government over Haredi Conscription Law.” The Jerusalem Post, July 14, 2025, available at: https://2u.pw/0Fjhpp
[15] ريموندا منصور وعرين هواري، “تقرير مدار 2025: المشهد الاجتماعي: استقطاب داخلي في إسرائيل وتراجع الحصانة الوطنية”، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/H9Hrwc
[16] Gabriel Gordon and Eliyahu Berkovits, “Leaving the Country among Yeshiva Students of Draft Age.” Israel Democracy Institute, 7 September 2025 Available at: https://2u.pw/suYZWw
[17] Meron Rapoport.”The Israeli Army Is Facing Its Biggest Refusal Crisis in Decades.” +972 Magazine, April 11, 2025. Available at: https://2u.pw/gZYgpt
[18] يسرائيل زيف، “أبعد ما يكون عن ‘رفض الخدمة العسكرية’: الحقيقة وراء عرائض جنود الاحتياط”، مؤسسة الدراسات الفلسطينية (ترجمة)، العدد 4611 ،15 أبريل 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/KsILZ7
[19] ياسر مناع، “تراجع استجابة جنود الاحتياط للخدمة العسكرية: هل يواجه الجيش الإسرائيلي أزمة بنيوية؟” المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية: مدار، 17 مارس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Lye74zO0
[20] “Israeli Economy Grew 1% as Spending on War Effort Rose, Exports and Investment Fell,” The Times of Israel, accessed: 20 September 2025, available at: https://2u.pw/MfgabB
[21] برهوم جرايسي، قلق إسرائيلي من المؤشرات الاقتصادية السلبية وخاصة تراجع مستوى المعيشة والصادرات، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، 2 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 20 سبتمبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/yZ5bj4
[22] برهوم جرايسي، الاقتصاد الإسرائيلي افتتح العام 2025 بموجة غلاء وأعباء ضريبية رفعت نسبة التضخم، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، 17 فبراير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/i95mBW
[23] المرجع السابق
[24] The Anatomy of Poverty 2024, report Poverty in Israel, accessed at 22 September 2025, available at: https://2u.pw/OM8eVF
[25]جدل في الكنيست حول ميزانية الحرب ووزير الاقتصاد يحذر من تسببها بانهيار الاقتصاد في إسرائيل، i24NEW، 5 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://h1.nu/1gUCx
[26] The Task Force on Arab Citizens of Israel, “2025 Israel State Budget Cuts and Arab Society,” ACITaskForce, April 9, 2025, accessed at: September 20, 2025, available at: https://h1.nu/1gUDp
[27] Lior Yohanani and et al., “Even on the Right, Largest Share of Israelis Support Hostage Deal That Includes Full Withdrawal from Gaza.” Israel Democracy Institute. September 3, 2025, available at: https://h1.nu/1cdzK
[28]Jon Alterman and Tamar Hermann. “Israel’s Rightward Shift.” Center for Strategic and International Studies (CSIS). November 29, 2022, available at: https://h1.nu/1gUGc
[29] امطانس شحادة، دعم أحزاب الوسط -اليمين و”اليسار” في إسرائيل لمشروع تهجير سكان غزة…لاجديد، مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، مارس 2025، تاريخ الاطلاع 28يوليو2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/sB81x1
[30] Jewish People Policy Institute. “Majority of Israelis Support Trump’s Proposal to Relocate Gaza’s Population to Other Countries”, JPPI, February, Vol. 3, 2025.
[31] محمود محارب، الحرب وتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 19 مارس 2024، تاريخ الاطلاع: 26 يوليو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://h1.nu/1gUOS
[32] المرجع السابق.
[33] أشرف بدر، قطاع غزة بين التهجير الطوعي والقسري 1967-2024، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 142، ربيع 2025، ص274-298.
[34] Famine in Gaza: ‘A Failure of Humanity Itself’, Says UN Chief, UN News, August 22, 2025, available at: https://2u.pw/Vvz7Dr
[35] Lior Yohanani and et al., Large Majority of Jewish Israelis: Israel Making Substantial Efforts to Avoid Palestinian Suffering; Majority of Arab Israelis Disagree. Israel Democracy Institute, 5 August 2025, available at: https://2u.pw/YsIXmd
[36] Gideon Levy, “It’s Not Just War. It’s Genocide – and It’s Being Done in Our Name, Haaretz, July 30, 2025, accessed at: 20 August 2025, available at: https://2u.pw/IaGjOy
[37] وليد الخالدي، عودة إلى قرار التقسيم١٩٤٧، مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد ٩، العدد ٣٣، شتاء ١٩٩٨، ص٣-٢٢، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/VE1QgKFx
[38] E. Mark Windle, the Hundred Year Hunger: A Timeline of Food Insecurity and Malnutrition in Gaza, New york: A Nickel And A Nail Books, 2025, p.36
[39] وثيقة “الخطوط الحمراء”: تفاصيل جديدة حول سياسة الاغلاق السابقة بينما السياسات الحالية لا تزال ضبابية، منظمة چیشاه-مسلك، ١٧أكتوبر٢٠١٢، تاريخ الاطلاع: ١٧ فبراير ٢٠٢٥، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/ohLIZoSr
[40] تهجير قسري واسع النطاق في الضفة الغربية يؤثر على 40 ألف شخص، وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، 10 فبراير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/VMd78O
[41] وليد حباس، الكنيست يدعو الحكومة الإسرائيلية إلى ضمِّ الضفة الغربية: قراءة تحليلية بطريقة سؤال وجواب، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 28 يوليو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/shWnk
[42] Sokol Sam, Smotrich Proposes Annexing 82% of West Bank in Bid to Prevent Palestinian State, The Times of Israel, September 3, 2025, accessed at: 5 September 2005, available at: https://2u.pw/DAIlNU
[43] وليد حباس، الكنيست يدعو الحكومة الإسرائيلية إلى ضمِّ الضفة الغربية: قراءة تحليلية بطريقة سؤال وجواب، مرجع سابق.
[44] هنيدة غانم، الأزمة العضوية للمشروع الصهيوني.. بين الحرب الأهلية والعنف الإبادي، قضايا إسرائيلية، العدد 96، 20 فبراير 2025، تاريخ الاطلاع: 2 سبتمبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://h1.nu/1cdX3
[45] Ehud Olmert, Israel Is Closer to a Civil War Than Ever Before, Haaretz, 11 April 2025, available at: https://2u.pw/bwm3RG
نشر في العدد 39 من فصلية قضايا ونظرات – أكتوبر 2025




