مُعضلة بِناء الأمَّة ودَور التَّكوينات السياسيَّة في السودان

مقدمة:

إنَّ بناءَ الأمةِ وتحقيق الوحدةِ الوطنية غايةٌ عُليا وهدفٌ سامٍ تسعى جميعُ النُّظم والشعوبِ وترنو لتحقيقه، وفي ذاتِ الوقتِ تُعاني بعض الدول، خاصةً في عالمنا العربي والإسلامي من أزماتٍ متعددةٍ تحول دون ذلك. السودان -مثل غيره من الدُّول- يتطلَّعُ لكل ما يحقِّق جامعية أبنائه، ولكن منذ ميلاد دولته المستقلة في 1956م ظل يُعاني من تحدياتٍ مركبةٍ ومعقدةٍ متعددةِ الأبعاد والمستويات، تمثلت في تفوق الولاءات الثانوية (القبليةِ والجهوية والعِرقية والحزبية والمصلحية) على الولاءات الوطنية والانتماءات القومية، هذا التَّفوق تجسَّد في الصراعات والمنافسة السياسية والخلافات الحادة بين مكوناته المجتمعية، التي عبَّرت عن حدَّتها بلُغة السلاح، كما ساهمت في تنامي وتوسُّع دائرة النزاعات الداخلية والعداءات الخارجية، مع تنامي التجاذبات الأيديولوجية والسياسية؛ مما أدَّى إلى انعدام الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، كما أسهم في تقديم أرضية خصبة للتدخلات الخارجية. إضافة لذلك، فإنَّ هنالك العديد من الأسباب التي ساهمت في إضعاف شبكة العلاقات الاجتماعية؛ مما نتج عنه تهديدٌ لبقاء السودان موحدًا. تراكم هذه الأزمات والتحديات وعدم توفير الحلول الناجعة لها أدَّى إلى بروز معضلة بناء أمة سودانية موحَّدة، تُشير بدَورها إلى وجود أزمات أخرى واضحة وكامنة، انفجرت في الآونة الأخيرة وبلغت ذروتها في حرب أبريل 2023م، التي لا زالت مُستعرةً حتى كتابة هذه السطور، تلك الحرب -التي شرَّدت الأُسر (نزوحًا ولجوءًا، وقتلت الأبرياء وانتهكت فيها الحرمات وقضت على الأخضر واليابس، وعطَّلت مقدَّرات البلاد وأهدرت ثرواته)- تمثل نتيجة طبيعية وحتمية لتراكم الأزمات السابقة، وتعكس مقدار الإخفاق في تحقيق الوحدة الوطنية، وهي امتداد لسلسة من الأزمات والاحتقانات التي مثَّلت أزمة دارفور وانفصال الجنوب أحد أبرز تجلياتها. لا شكَّ أن هذا الوضع المأزوم لم ينجم من فراغ، وإنما هنالك مسببات قوية ساهمت في استفحاله حتى يصل لهذا المستوى، وبات يهدِّد السِّلم والأمن، ليس في السودان فحسب، وإنما آثاره امتدَّت لتطال دول الجوار والمحيط الإقليمي.

جملة تلك الإشكالات تتقاسم مسؤوليتها أجهزة الدولة والمجتمع بكل مكوناته والنُّخب المستنيرة؛ عليه لا يمكن أن يكون التقييم منصفًا لمعضلة بناء الأمة في السودان دون الوقوف على الجذور التاريخية للأزمة، ودون النظر لكلِّ أبعادها مجتمعة. ولأغراض هذه الدراسة سوف يتم تناول دَور الكيانات السياسية في مُعضلة بناء الأمة في السودان، مع الوعي التام بمدى تأثير العوامل الأخرى الداخلية والخارجية. إنَّ السياق الداخلي والخارجي للسودان عقَّد من إمكانية بناء أمة سودانية موحَّدة. فما دَور الكيانات السياسية تجاه قضية بناء الأمة السودانية؟

أولًا- متطلبات بناء الأمة السودانية

تظلُّ قضية بناء الأمة -التي تعني في هذا المقام إيجاد إطار اجتماعي يؤسِّس للعيش المشترك، وينمِّي المشتركات بين أبناء الوطن داخل حدود الدولة على أساسٍ من العدالة والمساواة، ويضمن تحقيق الوفاق الوطني. ويخلق ولاءً أسمى لجميع الأفراد في المجتمع، ويصهر جميع الولاءات الفرعية الأولية في بوتقة واحدة”[1]– أملًا يُراود الشعوبَ؛ رغبةً وطمعًا في مكاسبها، وخوفًا من آثارها الكارثية إذا لم تتحقق. ولكن عملية البناء لا تتأتى بالأماني والأحلام، كما لا تتأتى بالشعارات، وإنما لها متطلبات وشروط يجب تحقُّقها حتى يُشيَّدَ البناءُ على أُسس متينة. أبرز تلك المتطلبات التي تجعل بناء الأمة أمرًا قابلًا للتحقق[2]، ما يلي:

  • إقرار الوحدة غير النافية للتعدُّد والتنوُّع.
  • تخطِّي الولاءات الضيقة وغرس الشعور بالولاء والانتماء للدولة ومؤسساتها.
  • الإدارة الراشدة للتعددية المجتمعية كوعاء له القدرة على جمع واستقطاب ودمج الكيانات والأفراد.
  • التضامن والاتفاق حول الغايات الكبرى.
  • الاعتراف بالروابط الثانوية، مثل: القبيلة والقومية والشعوبية، وتوظيفها واستيعابها لصالح روابط الأمة وليس العكس، وعدم اعتبارها أساسًا للتفرقة بين أبناء الوطن[3].
  • قَبول الآخر ونفي التعصُّب والتحيُّز بشتى أنواعه.
  • حفظ الأمن القومي.
  • إقرار المواطنة على أساس الحقوق والواجبات[4].
  • استحضار قيم الوحدة والعدل والمشاركة بوصفها قيمًا أصيلة، والإعلاء من شأن القواسم المشتركة[5].

عليه، فإن بناء الأمة لن يتحقَّق إلا عبر استيفاء هذه المتطلبات، حتى يُشيَّد البناءُ على أُسس متينة قوامها تقوية دَور المجتمع والاعتراف بالتنوع كسُنَّة كونية وحقيقة مَعيشة، واحترامه، والعمل بمبدأ المسئولية التشاركية والجماعية، وإقرار المواطنة على أساس الحقوق والواجبات[6]، والالتزام بالشرعية، وتقوية الكيانات المجتمعية، وإعطاء الأولوية لما يحقِّق الأمن القومي. فهل استطاعت الكيانات السياسية أن تراعي هذه المتطلبات؟ هذا ما سوف تكشف عنه هذه الدراسة التي تتناول دَور الكيانات السياسية السودانية في بناء الأمة، لا سيَّما في الآونة الأخيرة التي تَشهد فيها البلاد حربًا أفرزت تحولاتٍ اجتماعيةً واقتصاديةً وسياسيةً داخليةً محليةً وإقليمية؛ مما يجعلها مؤثرة بصورة أساسية في قضية بناء الأمة. وترتَّب عليها الكثير من التحديات، تسلِّط الدراسةُ الضوءَ على أبرز العوامل المؤثرة في بناء الأمة في السودان قبل الولوج لدَور الكيانات السياسية التي تشكِّل أحد العوامل الداخلية المؤثرة في قضية بناء الأمة[7].

ثانيًا- العوامل المؤثرة في معضلة بناء الأمة السودانية:

تمثل الحرب التي دارت رحاها في السودان منذ أبريل 2023م، والحروب التي سبقتها في جنوب السودان ودارفور، بجانب الصراعات وعدم الاستقرار السياسي؛ أبلغ المظاهر التي تعبِّر عن تغلغل معضلة بناء الأمة والاندماج القومي التي يعيشها السودان منذ أكثر من أربعين عامًا، والتي أقعدته عن التقدم والتطور فترةً طويلة من الزمن. أمَّا جذور الأزمة فيرجع تاريخها لفترة ما قبل الاستقلال، ولقد تضافرت العديد من العوامل التي ساهمت في تعميقها ووجودها، يمكن حصرها في العوامل التالية:

أ) العوامل والمؤثرات الداخلية، وتشمل:

1- الإمكانات والموارد الطبيعية:

يحتلُّ السودان موقعًا جغرافيًّا متميزًا في الجزء الشمالي الشرقي من القارة الأفريقية، وسط منطقة حوض النيل، ويتميز بقُربه من مداخل القارة الأفريقية، خاصةً قناة السويس، وباب المندب، والبحر الأحمر، بجانب مجاورته لمنطقة القرن الأفريقي؛ مما جعله منطقة جذبٍ للعناصر البشرية المختلفة، بجانب الثروات الحيوانية والمائية والمعادن، والمساحات الشاسعة التي تفصل بين أقاليمه وحدوده المتاخمة لعدد غير قليل من الدول، وموقعه الاستراتيجي؛ الأمر الذي يجعله بصفة مستمرة هدفًا للتدخلات والأطماع الخارجية. وعليه، فقد أثَّر التباين في التضاريس وتعدُّد المناخ وتنوُّعه من مكان إلى آخر على أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية في السودان، كما لعب دورًا أساسيًّا في تشجيع الهجرات الوافدة إليه؛ ممَّا أثَّر تأثيرًا كبيرًا في تكويناته القبلية وتجانسه الداخلي وأنماط ثقافته[8].

2- المحددات الاجتماعية والحضارية:

تقف المحددات الاجتماعية والحضارية كإحدى الدعامات الهامة التي تؤثر في مسيرة بناء السودان ومستقبله[9]. وتكمن أهميتها في تداخل العوامل الاجتماعية التي ترمز للتعدديات الإثنية واللُّغوية والدينية التي تتعلق بالجوانب الثقافية، وللمضامين التي يحملها عُنْصُرَا اللغة والدين. ولقد كان لتفاعل تلك العوامل دور بارز في تشكيل الوجدان السوداني وتوظيف ولاءاته إيجابًا وسلبًا وَفْقًا لتوجهات أنظمة الحكم والكيانات السياسية.

3- العوامل السياسية:

السودان -مثلُه مثل غيره من الدول الأفريقية- يعاني من العديد من القضايا ذات الأبعاد السياسية، تتمحور تلك القضايا في: حداثة البنية القومية؛ الأمر الذي كان له مردوده السلبي على تحديد النموذج السياسي الأنسب لحكم الدولة السودانية، وتعدُّد خريطة الكيانات السياسية وتنوعها. بيد أنَّ أزمة النظم السياسية ممتدة، حيث أخفقت الحكومات المتعاقبة على السودان في إيجاد حلول للقضايا التي تهدد وحدة البلد وأَمْنِه، مثل قضية جنوب السودان؛ تلك المشكلة التي انتهت بتقسيم السودان، كما عجزت عن تحقيق التنمية، وتوفير استراتيجيات وخطط فعالة لإدارة الأزمات. وانتشر الفساد بمظاهره العديدة، ولم تستطع الحكومات تحقيق متطلبات مرحلة ما بعد الاستقلال، بل نشأت مشكلات حديثة نتج عنها تفاقم المشكلات الموروثة[10]. بالإضافة إلى أن معظم النُّظُم الحاكمة اتَّبعت منهج الفوضى، الناجمة عادةً عن طريق أو من خلال انقلابات عسكرية، أو الوصول إلى السلطة عن طريق حركات التحرير المسلحة أو عن طريق اتباع أيديولوجيات متطرفة.

ب) المؤثرات الخارجية: السياسات الاستعمارية

إنَّ الدول المستعمرة في سياستها وسباقها المحموم من أجل الاستفادة من ثروات البلاد وتعظيم مصالحها وتوسيع نفوذها وزيادة رقعة تمددها، لم تكن تهدُف إلى تنمية هذه المجتمعات وانتشالها من الواقع المليء بالجهل والأمراض والفقر، وإنما كان الحافز هو منعَ الدول المنافسة لها من السيطرة عليها، وكذلك من أجل تحجيم ذلك المد الديني القادم من السودان، حتى لا يصبح قوةً مؤثرة تمتدُّ منه لداخل القارة. وتعدُّ السياسات التي اتَّبعتها تلك الدول المستعمرة، ليس في السودان فحسب، وإنما على مستوى القارة الأفريقية ككل، بمنزلة البذرة الأولى التي تعوق بناء الأمة. ولقد كان نصيب السودان وافرًا منذ أن وطئ الاستعمار أرضَه في المرة الأولى في 1882م، وكذلك في المرة الثانية تحت مظلة الحكم الإنجليزي المصري.

تهدُف سياسة المستعمر في السودان إلى تحقيق الغايات التالية: محاربة مظاهر العروبة والإسلام، وخاصة في الجنوب- إحداث تنمية غير متوازنة بين أقاليمه المختلفة – تعميق النزعة القبلية والشعور بالخصوصيات[11].

ولتحقيق هذه الغايات اتُّخذت العديد من السياسات التي تمَّ توظيفها عبر آليات عديدة لتجعل الدول الأفريقية والسودان تابعة للاستعمار حتى بعد رحيله، حيث وضع الاستعمار حدودًا مصطنعة لا تتناسب مع الظروف الطبيعية والتكوينات الاجتماعية للمنطقة، ولكنها تخدم مصالحه؛ مِمَّا أفرز العديد من القبائل والديانات واللـغات التي جعلت من الصعوبة بمكان تحقيق اندماج بين هذه التكوينات المختلفة، الأمر الذي ساعد لاحقًا على تأجيج الحروب بينها[12]، وشجَّع على إذكاء الاختلافات، وساعد على العنف والصراع بين الجماعات الإثنية، التطور غير المتساوي الذي تركه الاستعمار على السودان؛ إذ يلاحظ أنَّ الاستعمار قد نمَّى المناطق التي تخدم أغراضه وبتكلفة قليلة، وترك المناطق غير الجاذبة بلا تنمية.

ومن جانب آخر، أثار الاستعمار الروح القبلية بين أبناء البلاد، واشترط كتابة اسم القبيلة في المستندات والأوراق الرسمية وقانون الإدارة الأهلية سنة 1906م؛ لتقطيع أوصال البلاد، ووضع حدود لكلِّ إدارة في الخرائط على أساس قبلي في محاولة لطَمْسِ الجنسية السودانية والقضاء عليها، وبذلك تتعدد الجنسيات بتعدد القبائل. وفي سنة 1937 أصدر المستعمر البريطاني قانون الحكومة المحلية على أُسس قبلية، باستثناء بعض المجالس البلدية الأفريقية، كما اتَّبع سياسة المناطق المقفولة التي تسبَّبت في تأخر جنوب السودان عن رَكْبِ التنمية[13]، وسعى إلى تنمية المجتمع في الجنوب على أُسس تختلف عن الشمال، بحيث يكون التوجُّه للجنوب باتجاه أفريقيا مع الإبقاء على واقع التخلُّف وتشجيع النعرات الانفصالية والعداء للشمال، وتحميل العرب من أهل الشمال وزر تجارة الرقيق ومساوئها في الجنوب. كما شجَّع اللغات واللهجات المحلية، ثمَّ شجَّع البعثات التبشيرية للعمل في الجنوب، وبث عناصر الفُرْقَة بين الشمال والجنوب. بالإضافة إلى إصدار الحاكم العام للسودان قانونًا بتشكيل مجلس استشاري لشمال السودان في 29 أغسطس عام 1943، وكان عدم اشتراك أبناء الجنوب خطوة أخرى في ترسيخ الهُوَّة بين الشمال والجنوب[14].

وتمثل هذه العوامل الخلفية والركيزة المعطوبة التي انطلق منها بناء الأمة في السودان. وبعد الحصول على الاستقلال، ورثت أنظمةُ الحكم في السودان ثقافةَ المستعمر وتَرِكَتَه المثقلةَ بالإشكالات، التي تركت آثارًا واضحةً على قضية بناء الأمة وتعقُّد المشهد بتعدُّد وتنوع الكيانات الفاعلة والمؤثرة في الحياة السياسية.

ثالثًا- خارطة الكيانات السياسية في السودان:

تشهد الساحة السياسية السودانية منذ تشكُّل الحركة الوطنية تنوعًا كثيفًا في الكيانات السياسية متمثلةً في الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني. وداخل هذين النوعين تموج الكثير من التيارات الثابتة والمتغيرة، إلا أنَّ الظروف التي نشأت في ظلها تلك الأحزاب وارتباطها بحركات التحرر الوطني، بجانب سياسة التحالفات التي عُرفت بها الكيانات السياسية، بالإضافة لروح التسييس العالية بين أفراد الشعب السوداني مقارنةً بغيره من الدول[15]، دفعت غالبية أفراد الشعب للانخراط عبر مؤسساتهم النقابية أو المؤسسات التعليمية أو البرلمانية في الكيانات السياسية والطائفية المختلفة، كما ساهمت هذه العوامل، بالإضافة لعوامل أخرى، في امتهان العمل السياسي من قِبل المؤسسة العسكرية ممثلة في (القوات المسلحة السودانية). كما ولجت القبيلة وبقوة في عالم السياسة، وأصبحت عاملًا مؤثرًا في مستقبل العملية السياسية. وعليه، فإن الخريطة السياسية السودانية متعددة وديناميكية، وتظهر الجديد والعديد من القوى السياسية والمجموعات التقليدية والحديثة، ويمكن تصنيفها كالتالي: الأحزاب السياسية، المؤسسة العسكرية، الحركات المسلحة، القبيلة والنقابات المهنية، ساهم كلٌّ منها بصورة أو بأخرى في العملية السياسية. كما كان لها دَور في قضية بناء الأمة في السودان. ولعلَّ أبرز الفواعل في القضية موضع الدراسة هي: الأحزاب السياسية، والمؤسَّسة العسكرية، والقبيلة؛ لأدوارها المتعاظمة الأثر. بينما برزت الحركات المسلَّحة كنتاج للأزمات التي نجمت عن سوء إدارة الأحزاب أنظمةً لنُظم الحكم، كما وُظِّفت النقابات المهنية كأدوات لحشد التأييد من قِبل تلك الأنظمة، خاصة الأنظمة الحزبية.

كما هو معلوم، فإنَّ الكيانات السياسية تعدُّ عناصر حيوية في الساحة السياسية، خاصة الأحزاب السياسية التي ترتبط نشأتها بالغايات العظمى المنوط بها تحقيقها، وللدَّور الكبير الذي تساهم به في التنشئة السياسية وتشكيل الرأي العام، وتعزيز قيم الديمقراطية وتجسيد مبادئ الحكم الرشيد، كل ذلك يشكِّل الأساس الضامن لبناء مجتمعات مستقرة؛ ومن ثم يؤدي إلى بناء أمة سليمة. فما حقيقة الأدوار التي تؤديها الكيانات السياسية السودانية تجاه معضلة بناء الأمة في السودان؟

رابعًا- الكيانات السياسية وبناء الأمة:

1- الأحزاب السياسية ودَورها في معضلة بناء الأمة:

تمثَّلت الغاية من نشأة الأحزاب السياسية في المساهمة في الحركة الوطنية والقضاء على الاستعمار، وذلك بعد زوال دولة المهدية في السودان 1898م وظهور عهد الحكم الثنائي. وخلال تلك الفترة شهد السودان قيام بعض حركات المقاومة، ساهمت فيها كيانات دينية وقبلية عسكرية وسياسية ومجتمعية، وذلك عبر إنشاء جمعيات لمناهضة المستعمر وإحياء الروح القومية منذ 1909- 1938م، وأخيرًا انتظمت الأحزاب السياسية في عام 1945م، عبر تكويناتها المختلفة لتُسهم في التحرر الوطني للبلاد متأثرةً بحركات التحرر الوطني الأفريقية[16]، وبما أفرزته الحرب العالمية الثانية من زيادة في الوعي بالحقوق، خاصة فيما يتعلَّق بحق الشعوب في تقرير مصيرها.

وعليه، فإن نشأة الأحزاب السياسية في هذا السياق الثقافي والتاريخي جعل وعيها متناميًا ومبكِّرًا حيال قضية بناء الأمة. ورغم تعدد توجهاتها وتنوعها، فإنها عملت مجتمعةً من أجل تحقيق الاستقلال، وحيث لا يسمح المجال بتفصيل دَور كلٍّ منها على حِدَةٍ في عملية البناء، يمكن الإشارة لأنماط الأحزاب السياسية في السودان واتجاهاتها ثَمَّ، ومواقفها من قضية بناء الأمة، وذلك عبر الوقوف على أبرز المحطات المؤثرة في القضية موضع الدراسة، والتي تعطي مؤشرات لدَور الأحزاب السياسية، سواء أكانت في سدَّة الحكم أو في خانة المعارضة. وقد تشكَّلت خارطة الأحزاب السياسية بصفة عامة على النحو التالي:

أ) الأحزاب الطائفية: أكبر طائفتين كان لهما دور بارز في الحياة السياسية في السودان هما: طائفة الختمية والأنصار، ومن خلال الطائفة يتم تفويض الحزب في رَسم شؤون البلاد الاقتصادية والسياسية وإدارتها؛ تحقيقًا لمصالح الطائفة، وأبرز تلك الأحزاب الطائفية هي: الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الأمة[17].

ب) الأحزاب العقائدية: وتنقسم إلى تجمعات يسارية (الحزب الشيوعي السوداني)، أو جمهورية، أو إسلامية (جماعة الإخوان المسلمين بتطوراتها المختلفة). كما توجد كيانات إسلامية أخرى ذات أثر في الساحة السياسية السودانية، ولكنها لا تقع في إطار الأحزاب أو الكيانات السياسية، (مثل جماعة أنصار السُّنة المحمدية والطرق الصوفية، وإن مارست في الآونة الأخيرة بعض الأدوار السياسية). أبرز تلك الأحزاب: الإخوان المسلمون، والحزب الجمهوري، والحزب الشيوعي[18].

ج) الأحزاب العِرْقية والجهوية والإقليمية: ظهرت في الآونة الأخيرة العديد من التكوينات الصغيرة التي اتَّخذت من المنطقة أو الإثنية أساسًا لقيام تحالفات سياسية، الهدف منها خدمة مصالح تلك المناطق أو العشيرة فقط، وإن ادَّعت بعض الأحزاب تبنِّيها لأهداف قومية، ولكن في الأصل بدأت بمفاهيم عشائرية، وتعبِّر عن حالة من عدم الرضا من سياسات الأنظمة والأحزاب الوطنية، وهي عديدة؛ مثل: جبهة استقلال شرق السودان، وحركة تحرير شرق السودان، وحركة كوش، وجبهة الشرق، وجبهة الإنقاذ، ومؤتمر البجا، وكتلة جبال النوبة، وجبهة تطوير دارفور.

د) الأحزاب المرحلية: تشكَّلت كَرَدِّ فِعلٍ لقيام كيانات يَرى فيها بعضُ الساسة تهديدًا، كما قام بعضها بإيعاز من قوى خارجية لحفظ توازنات سياسية على الواقع السوداني، أو نتيجة لتحالفات أَمْلَتْهَا المصالح السياسية.

ه) القوى الحديثة: تشمل منظمات المجتمع المدني، ومنها: المنظمة السودانية للحقوق والتنمية المعاصرة، والحزب القومي السوداني المتحد، وحركة القوى الجديدة الديمقراطية “حق”. لاحقًا برزت كيانات حديثة طالبت بتنحِّي الرئيس البشير عن الحكم، ممثلةً في أحزاب الحرية والتغيير، وضمَّت بداخلها ما عُرف بتجمُّع المهنيين، ومجموعات شبابية ذات مشارب فكرية وانتماءات سياسية متعددة؛ إذ تضم في عضويتها المستقلين الذين يُعَدُّون سوادها الأعظم، والمنتمين إلى أحزاب سياسية، مثل: المؤتمر السوداني، والحزب الشيوعي، والبعث والأمة، والاتحاديين المعارضين، والمؤتمر الشعبي.

وبالنسبة إلى موقف الأحزاب من قضية بناء الأمة، من خلال رصد سياساتها، سواء كانت في سدَّة الحكم أو في موقع المعارضة، يتَّضح الآتي:

تأسست الكثير من الأحزاب على أُسس جهوية أو قبلية وطائفية، ولم تعبِّر عن التعددية التي تَتَّسم بها البلد؛ الأمر الذي أدَّى إلى طغيان المصالح الحزبية الضيقة على حساب المصلحة القومية، كما اعتبرت مدخلًا إلى تأجيج وتقوية دواعي الفرقة والتعصب وإضعاف النسيج القومي. وأخفقت جُلُّ الأحزاب في بلورة رؤية مشتركة وواضحة لنظام الحكم في البلاد وحول القضايا الوطنية الكبرى؛ مِمَّا جعلها تتخبَّط في اختيار النماذج الفكرية المُثْلَى لممارسة الديمقراطية. وعجزت عن تلبية تطلُّعات الشعب وإدارة الشؤون العامة بشكل فعَّال. وعانت من ضعف الإرادة السياسية وهشاشة البنية التنظيمية، وهذه الهشاشة تعزَّزت بفعل عدم وجود مؤسسات ديمقراطية قوية ومستقرة[19].

واتَّسمت الأحزاب السودانية بضعف المؤسسية، حيث ظلَّ كثير منها لا يمارس الديمقراطية في محيطه الداخلي، كما انتهجت نهج سياسة توريث قيادة الحزب من أجل السيطرة على الحزب في مخالفة صريحة للمبادئ الديمقراطية؛ مِمَّا أدَّى إلى تمركز العضوية وعزوف المواطنين عن الانتماء إليها، خاصة مع زيادة الوعي والتعليم، كما لم تَعُدْ تلك البيوتات الطائفية مصدرًا للسلطة والمال؛ وذلك بظهور مراكز سلطوية لا تنتمي لهذه الأحزاب، بل تقصدها الأحزاب طلبًا للدعم والسند.

وتعرضت جُلُّ الأحزاب للانشقاقات والتشظِّي، بسبب ضَعْفِ المؤسسات وغياب الديمقراطية وعجزها عن حلِّ النزاعات الداخلية، الأمر الذي ترتَّب عليه خروج بعض الجماعات لتأسيس تنظيمات جديدة، أو الانضمام لأحزاب أخرى. ولم تَسْلَمْ من ذلك الداءِ الأحزابُ الطائفية أو العقائدية؛ مما يجعلها سِمَةً بارزة للأحزاب السودانية، فعلى سبيل المثال لا الحصر: انشقَّ حزب الأمة عام 1966 بسبب خلاف بين رئيس الوزراء والهيئة البرلمانية للحزب. كما شهد عدَّة انشقاقات أخرى على مرِّ السنوات، ومن ذلك تأسيس حزب “الأمة الإصلاح والتجديد” عام 2002، حيث وصلت الانقسامات داخل الحزب إلى تشكُّل ستَّة كيانات، منها “حزب الأمة الفيدرالي”، كما طالت الانشقاقات الأحزاب الاتحادية والأحزاب الإسلامية.

غياب الرؤى والاستراتيجيات: حيث افتقر الكثير من الأحزاب السياسية إلى الرؤى الواضحة والبرامج المدروسة التي تُسْهِمُ في البناء الوطني، وتعالج القضايا الملحَّة، وأعطت أولويةً قصوى للعمل السياسي والصراعات السياسية، بدلًا من الاهتمام بالتنمية؛ مِمَّا قاد البلاد إلى أزمات سياسية طاحنة وهدَّد الاستقرار السياسي في السودان. وعجزت الأحزاب عن التراضي حول دستور متَّفق عليه؛ ممَّا أثَّر سلبًا على الممارسة الحزبية وتحقيق الاستقرار السياسي وتلبية مطالب الشعب.

لكلِّ ذلك عجزت الأحزاب عن الحصول على تفويض شعبي؛ ممَّا قادها لانتهاج سياسة الائتلاف مع الكيانات الأخرى، وأدى إلى عجزها عن الاستمرار في الحكم. وعلى الرغم من اتهام المؤسسة العسكرية بأنها أسهمت في تقويض الديمقراطية في السودان وأضعفت الممارسة الديمقراطية، فإن الشواهد تؤكِّد أن النُّظُم الديمقراطية نفسها التي تمثلها الأحزاب تلجأ للمؤسسة العسكرية ممثلةً في الجيش[20]؛ إمَّا طلبًا لاستلام السلطة بصورة صريحة، كما في حكومة عبود، أو عبر الأحزاب السياسية التي تعارض جهرًا الأنظمة العسكرية وتتحالف معها سرًّا، مثل تحالف الأحزاب اليسارية مع الحكم العسكري الثاني (المشير نميري في مايو 1969)، والأحزاب الإسلامية التي وصلت للحكم عبر التحالف مع المؤسسة العسكرية بانقلابٍ قَادَه المشير البشير في يونيو 1989م، وإمَّا عبر التوافق بين المؤسسة العسكرية والأحزاب السياسية لإسقاط حكومة البشير في ديسمبر 2018، ثم عقد شراكة مع الجيش لحكم المرحلة الانتقالية في أبريل 2019.

إذن، فالأحزاب السياسية، عبر عجزها عن إدارة شؤون البلاد السياسية والاقتصادية والأمنية، وعدم تحقيق وفاق وطني وانشغالها بالتنافس والصراعات من أجل الحصول على أعلى نسبة في السلطة، قدَّمت حججًا ومسوغات كافية تُغْرِي النُّظُم العسكرية للقيام بأدوار سياسية واعتلاء سدَّة الحكم.

تركَّز دَور بعض الأحزاب السياسية ما بعد ثورة ديسمبر 2018م في التماهي مع الأجندة الخارجية بصورة أكثر وضوحًا، بدليل حرصها على إدارة الحوار عبر أطراف خارجية، والاستعانة بالمجتمع الدولي لمواجهة الفرقاء، ومارست نوعًا من الإقصاء للمكونات السياسية الأخرى. كما دخلت في معارك ثانوية وأجَّلت معركة البناء والتعمير والتوافق الوطني، وزادت من الاصطفاف والاصطفاف المضاد.

ونتيجة لكلِّ ما تقدم، زادت رقعة الانشقاقات الداخلية داخل الأحزاب والقوى السياسية، وعلى مستوى المجتمع تهتَّك النسيج الاجتماعي. أما على المستوى السياسي[21] فدخلت البلاد في دائرة من الفوضى السياسية، وتمدَّد الصراع وانتقل لمرحلة المواجهة عبر الحروب وشق الصف الوطني، وفتحَ البابُ واسعًا للتدخلات الدولية. في المقابل زاد الوعي لدى الشعب بعجز الأحزاب السياسية عن إحداث تحوُّل ديمقراطي حقيقي، وأن ما تدعيه من رغبتها وسعيها للحصول على الديمقراطية والانتقال لحكم مدني ما هو إلا كلمة حق أُريد بها باطل. ومما سبق يتَّضح أن تأثير الأحزاب السياسية في التجربة السودانية يصبُّ في خانة التأثير السلبي المهدِّد للوحدة الوطنية والمعمِّق لمعضلة بناء الأمة السودانية.

2- الدَّور السياسي للمؤسسة العسكرية في معضلة بناء الأمة في السودان:

تهدُف المؤسسة العسكرية بناءً على القوانين التي تنظِّم عملها إلى حماية الدولة ووحدة أراضيها؛ الأمر الذي يفرض عليها تخطِّي حاجز الولاءات القبلية والجهوية وعدم امتهان العمل السياسي. لكن الواقع في السودان يعكس دَورًا متعاظمًا للجيش في الحياة السودانية، فما حقيقة هذا الدور؟ وما تأثيره على معضلة بناء الأمة في السودان؟

يمثِّل الجيش السوداني إحدى أبرز مؤسسات الحداثة التي وضع الاحتلال البريطاني لَبِنَاتِهَا قبل خروجه؛ فقد تأسَّست قوة دفاع السودان تحت القيادة الإنجليزية المباشرة في 25 مايو 1925م، ثم تمَّت سودنتها في الرابع من أغسطس 1954م. ولقد حاول المستعمر تأسيسه على غرار النظريات العسكرية الغربية القائمة على الانفصال عن المجتمع، والابتعاد عن السياسة. وقد استفاد الجيش من التطور المهني والحداثي للتجربة البريطانية، لكنه لم يستطع الانفصالَ عن بيئته الاجتماعية، ومارس العمل السياسي على نحو واسع، وتؤكد ذلك المحطات التالية من تاريخه:

 أ) مرحلة ما قبل الاستقلال: انحازت المؤسسة العسكرية للحركة الوطنية الداعية لاستقلال البلاد عن المستعمر منذ 1924 م، وفي ظل قيادة البريطانيين للجيش؛ الأمر الذي أثار حفيظة المستعمر آنذاك. تأثر الجيل الأول من الضباط بالحركة الوطنية في مصر، وبالتيار اليساري، ونتج عن ذلك نشأة تنظيم الضباط الأحرار في الجيش السوداني.

ب) دعم الجيش للانتفاضات الشعبية: حيث انحازَ الجيشُ للانتفاضات الشعبية الثلاث التي حدثت في 1964، 1985، 2019م، وبذا مثَّل الجيش العاملَ الحاسم في التغيير، وعادة ما يكون احتفاء المدنيين بالعسكريين كبيرًا بعد النصر وتغيير النظام.

ج) انقلاب الجيش على الحكومات المنتخبة: فتعاقبت ثلاثة أنظمة عسكرية على حكم السودان، وهذا النوع من الحكم هو الأطول عمرًا في السلطة؛ إذ امتدَّ حكم الرئيس الفريق إبراهيم عبود زهاء ست سنوات (58-1964م)، بينما حَكَمَ المشيرُ جعفر محمد نميري من مايو (1969-1985). ويشكِّل النظام العسكريُّ الحالي أطولَ فترة حكم شهدتها البلاد؛ حيث استولت حكومة الإنقاذ على السلطة منذ يونيو 1989، واستمرت حتى ديسمبر 2018م[22]. وقد كان السبب الأساسي في سقوط حكومة الإنقاذ فقدها لمقومات البقاء والتماسك الداخلي، بجانب قوة المعارضة وتماسكها. كما أسهمت كيانات إسلامية في إسقاط الحكومة، فتجمَّعت التيارات التي كانت تعمل للتغيير، وتلاحمت بمختلف أسمائها ودوافعها حتى أسقطت حكومة الإنقاذ في أبريل 2019م، بالخروج الشعبي الواسع الذي شارك فيه شباب السودان بكافة انتماءاتهم، وكان السهم الأكبر فيه للقوى المعارضة التي انتظمت في تحالف الحرية والتغيير. ولم يطوِّر هذا التحالف برنامجًا واضحًا وتصورًا لما بعد سقوط الإنقاذ، بل اكتفى بالمبادئ العامة التي تتحدَّث عن قيم الحرية والعدالة والسلام، وانصبَّ جُلُّ تركيزهم على إسقاط الإنقاذ[23].

انصاع الجيش مرةً أخرى لرغبة الشعب، وسانده في الإجهاز على ثورة الإنقاذ، وعقد شراكة مع قوى إعلان الحرية والتغيير بغرض إدارة المرحلة الانتقالية، تبلورت فيما بعدُ باسم الوثيقة الدستورية، وصادفت قبل أن يجفَّ مِدادها اعتراضات من قِبل بعض القوى التي شككت في جدواها.

إلَّا أنَّ الجيش فضَّ هذه الشراكة نتيجةً لانعدام الثقة بين الطرفين فأحدث ما يسمَّى بالإجراءات التصحيحية نتيجة للاختلافات التي نشبت بين الطرفين، ونتيجة للتفاعلات بعد الثورة، وخاصة فيما يتعلَّق بالوثيقة الدستورية والاتِّفاق الإطاري. وأثناء الفترة الانتقالية[24] يمكن القول إنَّ القوى التي تبنَّت الثورة حملت بذور فنائها بنفسها؛ وذلك بسبب عدم وضوح رؤيتها، وغياب الانسجام والوحدة بين مكوناتها، وانعدام الثقة بين الفصائل السياسية المختلفة، واستبعادها لشريحة الشباب التي كانت من أكثر الشرائح تفاعلًا في ثورة ديسمبر، بجانب تماهي بعضها مع الأجندات والارتباطات الخارجية، والتراجع والتدهور العام الذي استمرَّ في المرحلة الانتقالية في كلِّ المجالات، كل ذلك حفَّز عددًا من المكونات الداعمة للثورة إلى إعادة النظر بهذا الخصوص، وأدَّى إلى فضِّ الشراكة بين المكون العسكري والمدني، وترتَّب عليه إعادة تشكيل خريطة التحالفات المؤثرة في الساحة، حيث أصبح عدوُّ الأمس صديقَ اليوم، وفي المقابل عدوُّ الأمس صديقَ اليوم، خاصة بعد حرب أبريل 2023م.

بناءً على ما تقدم، تُلاحَظ العَلاقة التفاعلية والتبادلية بين الأحزاب السياسية والعسكريين، على عكس ما يُشاع من أنَّ إخفاق نُظُم الحكم الديمقراطية تتحمل مسئوليته الأنظمة العسكرية؛ الأمر الذي يتَّضح من خلال النقاط التالية:

  • الانقلابات العسكرية في السودان هي صناعة حزبية بامتياز، حيث تقف الأحزاب السياسية من خلفها وتدعمها. وكما هو معلوم، فإنَّ انقلاب الفريق عبود في 1964م كان من صناعة حزب الأمة، وانقلاب المشير نميري في مايو 1969م كان صناعة يسارية، وانقلاب المشير عمر حسن البشير في 30 يونيو 1989كان صناعة الأحزاب الإسلامية.
  • نجاح الأحزاب في استقطاب المؤسسة العسكرية للقيام بالتغيير، حيث عملت على استقطابهم بطرق مختلفة مباشرة وغير مباشرة.
  • الانقلابات الناجحة قُوبلت بالتأييد من قِبل القواعد العسكرية، أمَّا المحاولات الانقلابية التي لم يُكتَب لها النجاح فهي عديدة، وتشير أيضًا إلى عمق ثقافة العمل السياسي بين العسكريين؛ إما استجابةً لأحزابهم السياسية أو لدوافعهم الذاتية التي توافقت مع رغبات الأحزاب.

العوامل الداعمة للدَّور السياسي للمؤسسة العسكرية: وعلى الرغم من أن استيلاء المؤسسة العسكرية على نظام الحكم أمر مرفوض ولا تؤيده القوة الوطنية والدولية الرامية للتحول الديمقراطي، ومن أجله قامت ثورات الربيع العربي في العديد من الدول، فإنه في الحالة السودانية يتضافر عدد من العوامل لتشكل عناصر فاعلة وباعثة ومشجعة للانقلابات العسكرية، تتمحور حول عوامل تتعلَّق ببنية الأنظمة الديمقراطية والمدنية من جهة، وأخرى تتعلَّق بالجيش السوداني كمؤسسة عسكرية، وثالثة مردها للمجتمع وثقافته وتفضيلاته.

أما العوامل التي تتعلق ببنية الأنظمة الديمقراطية، فقد سبقت الإشارة إليها في الجزء الخاص بالأحزاب السياسية. وأمَّا العوامل التي تتعلق بالمؤسسات العسكرية ودَورها في التنمية، فقد شهدت الحقب العسكرية الثلاث التي مرَّ بها السودان توسعًا في إنشاء المشاريع الخدمية التي تتعلق بالمجالات الحيوية (التعليم والصحة والأمن)؛ ممَّا ساهم في تحقيق الاستقرار والتنمية وجذب الاستثمارات الأجنبية، وشهدت كذلك توسعًا في المشاريع التي تُسهم في الاقتصاد القومي، كل ذلك في مقابل ضعف أداء النُّظم الحزبية وعدم وضعها التنمية في سلَّم أولوياتها، وعجزها عن تلبية الاحتياجات الأساسية؛ الأمر الذي زاد من تأثير المؤسسة العسكرية في الحياة اليومية للمواطنين، وعزَّز من موقفهم في الحياة السياسية، لا سيَّما بعد التغيير الكبير الذي طال فلسفة العمل العسكري والأمني والتواصل مع قطاعات المجتمع المختلفة خلال فترة الحرب. إضافةً لذلك، فقد اتَّسع أُفُق العسكريين وتفاعلهم مع القضايا العامة في الدولة والمجتمع؛ نتيجة لارتفاع المستوى التعليمي لضباط القوات المسلحة[25].

وبالنسبة للعوامل التي تتعلَّق بالسياق والبيئة الداخلية في السودان، والتي أثَّرت على العلاقات المدنية-العسكرية وتتمثل في: الخصائص الاجتماعية لأهل السودان القائمة على التواصل والتفاعل بين المجتمع وبين الصفوة العسكرية، وعدم وضع حواجز اجتماعية تماشيًا مع متطلبات العمل العسكري؛ مما جعل منتسبي المؤسسة العسكرية مندمجين في الأنشطة المجتمعية، كما زاد التقارب بين المكونات العسكرية والمدنية لتنامي الوعي بحقيقة دَور المؤسسة العسكرية في حِفظ أمن البلاد، وبحجم المهددات الخارجية. وزاد هذا الأمر تأكيدًا الحروب التي يخوضها السودان.

نخلص من ذلك إلى أنَّ المؤسسة العسكرية استطاعت أن تؤدي دَوْرًا كبيرًا في زرع الولاء القومي وتعزيزه، سواء عبر هدفها الأسمى؛ وهو المحافظة على وَحدة البلاد وصيانة أراضيه، أو عبر التربية العسكرية التي تهدُف إلى تعزيز الانضباط والولاء للدولة وليس للقبيلة، بجانب أن المنتسبين إليها من جميع أطياف المجتمع السوداني؛ لذلك هي مؤسسة قومية، وتضطلع بمهام ذات بُعد قومي وليس جهويًّا أو قبليًّا؛ مما جعلها مؤسسة حيوية للحفاظ على الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي. بجانب أنَّ الأنظمة العسكرية استطاعت أن تُحدِثَ اختراقًا في عدَّة مجالات، أبرزها الأمن والتنمية، وذلك بفضل ما توفر لديها من إمكانات بجانب آليات الضبط والربط المؤسسي[26].

حاولت الأحزاب السياسية أن تستقطب القيادات العسكرية وتنفذ عبرها مصالحها الحزبية. ولا نستطيع أن نستثني الأنظمة العسكرية التي سيطرت على حكم البلاد وتربَّعت على عرش السلطة ردحًا طويلًا من عُمر الدولة السودانية من تعقيد قضايا السودان، ولن تتغير هذه الصورة إلَّا باتباع منهج الحوار وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، وإن لم تخلُ محاولات الأنظمة العسكرية من إتاحة مساحة للحوار مع المعارضة، وإعلان العفو العام؛ وذلك من أجل وحدة الصف الوطني، ومنعًا لما يترتب على الصراع من مآلات لا تُحمَد عقباها، سواء كان في حقبة الإنقاذ أم في المرحلة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018م.

تعرَّضت المؤسسة العسكرية لتحولات واستقطابات حادة في الآونة الأخيرة[27]، واتهامات بأنها تعبِّر عن اتجاهات محددة، وتعالت الأصوات التي تنادي بإصلاحها، وهو سلاح ذو حدين، ويمكن أن يُسْتغَلَّ لتصفية الخصوم، كما يمكن أن يوظَّف لإضعاف المؤسسة العسكرية.

لا شكَّ أن للمؤسسة العسكرية دَورًا كبيرًا في المشهد السياسي وفي تحديد مستقبل البلاد، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ المجتمع يفضِّل الحلول الديمقراطية عبر الانتخابات بدلًا من الانقلابات العسكرية، ولا سبيلَ لاستقرار إلا عبر حكم مدني تتراضى عليه جميع الأطراف، ولا تستثني أحدًا عبر توافق تام.

3- الدَّور السياسي للحركات المسلحة في معضلة بناء الأمة:

هي حركات مطلبية انتظمت في الأقاليم الطرفية من البلاد في غرب السودان وشرقه، في الجنوب قبل الانفصال، أبرزها: الحركة الشعبية شمال جناح مالك عقار، وحركة جيش تحرير السودان جناح أركي مناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، إضافة إلى مجموعات غير مسلحة تشمل مسارات الوسط والشرق والشمال، وهي حركات مطلبية قامت نتيجة لعوامل تتمثل في:

  • الغبن الاجتماعي والإحساس بالتهميش: تعتقد الحركات المسلحة أنها تعاني من تهميش متعمَّد من أنظمة الحكم في السودان بشقيها العسكري والمدني. وبالفعل زكَّى ذلك الاتجاه الاستعمار؛ وذلك حينما قَصَرَ التعليم على فئة محددة بغرض الاستفادة منها، بما يحقق مصالحه، وهذه الفئة المتعلمة كانت لها الحظوة في المناصب والتعيينات، كما اعتمد في إدارة الأقاليم البعيدة على شيوخ القبائل والإدارات المحلية، بينما كانت السلطة قابضة في المركز. ساعد على تزكية ذلك الشعور المساحاتُ الشاسعة للسودان، وضعفُ السلطة المركزية. وقد سارت الأنظمة المتعاقبة على ذات النهج، واتَّجه نظام مايو بقيادة النميري إلى إعطاء الأقاليم بعض السلطات. كما اعتمدت حكومة الإنقاذ الفيدرالية على إتاحة قَدْرٍ أكبر من السلطات للأقاليم[28].
  • التنمية غير المتوازنة: كان ذلك أيضًا دافعًا وراء قيام العديد من الحركات المسلحة التي رأت أنه لا سبيل لتحقيق المطالب إلا عبر السلاح. وعليه، فقد ظهرت حركة سوني في دارفور تطالب بحقها، وظهر فليب عباس غبوش في جبال النوبة، وظهر مؤتمر البجة في الشرق.
  • تسبَّبت لجنة السودنة أيضًا في تعميق الشعور بالفوارق والشعور بالغبن، وكانت سببًا مباشرًا لقيام التمرد في 1956م، حيث لم تراعِ تمثيلَ كل المناطق والأقاليم في المنطقة، وهكذا استمرَّ التمرد حتى انفصل الجنوب.
  • تعرضت الحركات المسلحة للاستقطاب من قِبل الأحزاب السياسية، وتحالفت معها، ومن ذلك تحالف الحركات المسلحة مع الكيانات التي نشأت من أجل إسقاط حكومة الإنقاذ. ولكن هذه العلاقات تعرضت للشد والجذب كثيرًا، فتم الاتفاق على عزل النظام، وعدم الاعتراف بالمجلس العسكري الذي شُكِّل في أبريل 2019م، ثم اختلفوا في تشكيل المجلس الثاني، ثم احتجوا على الاتفاقات التي تمَّت بين المجلس العسكري وقوة الحرية والتغيير، والتي لا تحمل همومهم ولا تعبِّر عن قضاياهم، واستمرت الاختلافات إلى أن وصلت لمرحلة الحرب.

شكَّل السلامُ الموقَّعُ في جوبا (3 أكتوبر 2020) في عهد الحكومة الانتقالية فرصةً سانحة لنزع فتيل السلاح بين الحركات المسلحة والمؤسسة العسكرية، حيث طوى صفحة من النزاعات والعداءات، ولقد استجاب عدد من الحركات له، أبرزها: الحركة الشعبية شمال جناح مالك عقار، وحركة جيش تحرير السودان جناح أركي مناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، إضافةً إلى مجموعات غير مسلحة تشمل مسارات الوسط والشرق والشمال[29]، بينما لم توقِّع الحركة الشعبية جناح عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان (عبد الواحد محمد نور) مشترطة الاستجابة لمطالبها المتعلقة بتمثيلها في الحكم، بجانب الموافقة على علمانية الدولة، وإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية.

تسبَّب وجود الحركات في تفاقم الأزمات، وأصبح التعبير عن المطالب بِلُغة السلاح، وسادت مصطلحات الهامش، وتأثرت بهذه النزعة حتى الأحزاب العقائدية والطائفية، حيث يرى البعض أنَّ الذين يمثلون الهامش هم الذين أيَّدوا الدكتور حسن الترابي[30]، بينما أهل شريط النيل هم مَن نالوا حظوة السلطة في حكومة المؤتمر الوطني، ولا شكَّ أنَّ ذلك تحول كبير في أُسس الانتماء الذي كان يتسامى على الروابط القبلية والجهوية إلى روابط وطنية وعقدية أسمى وأعمق، وأدَّى وجود الحركات لانتشار الأسلحة، وصارت تشكِّل مهددًا أمنيًّا. كما استقطبت العداءات المسلحة تجارَ الأزمات وأمراء الحرب وأصحاب الأجندات والمصالح الخارجية. والشاهد على ذلك وجود عناصر من دول أجنبية مختلفة تقاتل ضد الجيش القومي، لا لعداء مع المواطن السوداني وإنما من أجل أهداف ودوافع أخرى ذاتية ومحلية وإقليمية. ودفع الإحساسُ بالتهميش لاحقًا البعضَ لخيار الحرب كوسيلة لأخذ فرصة في الحكم والسلطة وانتزاعها تحت دعوى جلب الديمقراطية. والخلاصة أنَّ أزمة نُظُم الحكم والكيانات السياسية كانت سببًا وراء نشوء هذه الحركات المسلحة، التي ارتبطت أيضًا بتاريخ تكوين الدولة الحديثة في السودان، وساهمت الحركات مثل غيرها في تعميق أزمة بناء الأمة التي لن تحل تحت نيران المدافع والبنادق.

4- الدَّور السياسي للقبيلة في معضلة بناء الأمة:

كما سبق القول، فإن الأمة السودانية قائمة على التنوع، وتعدُّ القبيلة من أهم التكوينات الاجتماعية في السودان؛ حيث لا تنفصل عن البيئة، بل هي نتاج لهذه البيئة الاجتماعية التي تسودها علاقات متماسكة[31]. أما أهم التكوينات القبلية فهي: المجموعة النوبية، المجموعة البجاوية، المجموعة العربية، المجموعة الزنجية، وبداخل كل نوع من هذه المجموعات العِرقية الكبيرة يوجد عدد لا حصر له من القبائل والعشائر، موزعة بين أقاليم السودان. وعلى الرغم من أنَّ القبيلة مكون اجتماعي، فإنها في السودان تعدُّ من أهم التكوينات السياسية بالنسبة للأدوار والتأثيرات والتحولات التي أحدثتها في مسار الحياة السياسية بصفة عامة، وفي تأثيرها على التوافق الوطني وبناء الأمة على وجه الخصوص. وللوقوف على أثر القبيلة في قضية بناء الأمة، لا بدَّ من الأخذ في الاعتبار النقاط التالية:

  • للمكونات الطبيعية والجغرافية تأثير في تركيبة مفهوم القبيلة، ومن الصعوبة بمكان إيجاد قَدْرٍ مشترك من الصفات أو الخصائص البشرية التي تضمُّ ذلك الزخم من العِرْقيات في إطار واحد. وعليه، فإنَّ عدم وجود مصالح مباشرة أو صلات حضارية (دينية أو لُغوية) تجمع بين القبائل أمر يُنْذر بصعوبة الانسجام فيما بينهم[32].

رغم ذلك، فقد عرف السودان منذ قرون عديدة نوعًا من التعايش بين الأعراق المختلفة، وتستقبل جميع أقاليمه العناصر العِرقية المختلفة، فلا يوجد إقليم محتكر من قِبل عنصر أو فئة عِرقية واحدة، ولكن هذا لم يمنع من حدوث بعض الصراعات بين القبائل التي تمثل مؤشرًا هامًّا في رسم هيكل العلاقات القبلية في السودان.

فتاريخيًّا استطاعت القبيلة أن تُحدث تأثيرًا كبيرًا على كلِّ الكيانات السياسية، كما مثَّلت عاملًا إيجابيًّا تجاه قضايا البناء الوطني في الدولة السودانية الوليدة، وفي حقبة ما قبل الاستعمار، عبر دَورها في إقامة الممالك أو مقاومة الاستعمار الأوربي. لكن بعد الاستقلال، شهدت هذه القبائل تحوُّلًا من الولاء القبلي إلى الولاءات الأقل وطنية[33]؛ ممَّا أدى إلى تشتُّت الولاءات وعدم تكامل الهُويَّة الوطنية؛ ولكن دَورها تغيَّر فأصبحت معول هدم بدلًا من دَورها كرافعة للبناء. وكما سبقت الإشارة إلى استغلال ذلك العامل من قِبل المستعمر بالتفصيل في القسم الثاني من الدراسة، الذي تسبَّب على نحو كبير في تعميق مفهوم العنصرية العِرقية، عبر سياساته التفكيكية، حيث استفحلت قوة العصبيات ذات الأُسس القبلية والعشائرية والطائفية، وسيطرت على بعض النُّخب السياسية في السودان، واعتبرت القبيلة معيارًا لتولِّي الوظائف العامة بدلًا من الأخذ بمعيار المؤهلات والكفاءة. وترتَّب على ذلك الكثير من الفساد والضرر الذي لحق بالخدمة المدنية والمؤسسات الحساسة؛ الأمر الذي تسبَّب في أضرار بالغة، بل اعتبر البعض أنَّ ممارسة التمييز وعدم تقبُّل المختلف في العِرق والدين والطائفة أداة من أدوات التهجير القسري تُرتكَب في حق الشعب السوداني. إذن، لعبت القبيلة دَورًا متناميًا في الحياة السياسية من خلال تأثيرها في جميع الكيانات السياسية التي وظَّفتها لتحقيق مصالحها، وذلك على النحو التالي:

أ) تأثير القبيلة على الأحزاب السياسية: بالنسبة للأحزاب السياسية نجدها تماهت مع التوجهات الطائفية منذ تكوينها، لا سيَّما الأحزاب التقليدية التي تأثرت بشخصية زعيم الطائفة ورئيس القبيلة؛ إذ إنَّ معظم الأحزاب السياسية التقليدية آثرت التحالف مع الطائفية[34]، فقَوِيَ تحالف حزب الأمة بالأنصار، واستمدَّ الحزب الاتحادي شرعيته من جماعة الختمية. هذه الممارسات الطائفية أدَّت إلى تشجيع النعرة العِرقية، كما أثرت على عمليات الترشيح والقرارات السياسية. وتحوَّلت الأحزاب من تنظيمات سياسية حديثة إلى كيانات تخدم مصالح القبيلة بدلًا من المصلحة الوطنية. ومن ثَمَّ أصبحت الأحزاب السياسية أداةً لتحقيق مصالح القبائل بدلًا من تمثيل الصالح العام؛ مِمَّا أفقدها دَورها الأساسي في تنظيم الحياة السياسية والديمقراطية.

ب) تأثير القبيلة على النسيج الاجتماعي: شهد السودان، وخاصة في إقليم دارفور، العديدَ من الصراعات التي قامت على أُسس قبلية، بجانب الصراع حول الموارد، وشكَّلت عائقًا رئيسيًّا أمام تحقيق التجانس الاجتماعي والاستقرار السياسي والاقتصادي، وحالت دون بناء أمة موحدة تتجاوز الانتماءات القبلية، كما فاقمت من الانقسامات الاجتماعية، وزادت من الإحساس بالظلم والغبن بين مكونات المجتمع. كذلك عكست حرب أبريل 2023م بشدة استقطابًا حادًّا للقبيلة، حيث تجرَّدت عدة قيادات سياسية وحزبية من انتماءاتها السابقة، وتماهت مع انتمائها القبلي، بجانب كثير من المظاهر والأحداث الجارية على ساحة المعركة، التي عبَّرت عن الاحتقان والغبن الاجتماعي بين القبائل.

ج) تأثير القبيلة على المؤسسات السياسية: تسلُّل الولاءات القبلية والجهوية إلى المؤسسات الرسمية، مثل الخدمة المدنية والجيش، يؤدي إلى غلبة المصالح الثانوية على المصالح القومية وضياع المصالح العليا، كما يقنِّن الفساد السياسي الذي ينشأ ويُشجع عليه بواسطة الولاءات القبلية؛ مما يزيد من التعقيدات ويعمق الانقسامات داخل الدولة.

د) التأثير على الولاء القومي: تَعوق هذه الوضعية إمكانية بناء الولاء القومي وتعزيزه. فالولاء القبلي يتسلَّل إلى مؤسسات الدولة، ويعمل على تفكيك الهُويَّة الوطنية الموحَّدة التي يجب أن تكون الأساس للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كما يرسِّخ الإحساس بأنَّ السلطة لا تعمل للصالح العام، وإنما للمصالح الخاصة والقبلية. لذلك تكررت محاولات الإطاحة بالأنظمة في الحالة السودانية، إذ تُحاول فئة الإطاحة بالنظام وتنجح، ثم تأتي فئة أخرى… وهكذا تضيع المصالح الوطنية العليا، وتستمر دورات الحكم الخبيثة في التعاقب والتوالي حتى ينهك الجسد السوداني.

نخلص إلى أنَّ دَور القبيلة في السودان لم يقتصر على الأبعاد الاجتماعية والسياسية فحسب، بل شمل أيضًا الأبعاد الثقافية والدينية التي ساهمت في تشكيل هُويَّة وولاء الأفراد والمؤسسات. تشير العديد من المعطيات إلى أنَّ توظيف القبيلة في المجال السياسي أسهم سالبًا في قضية بناء الأمة في السودان.

خاتمة:

تظلُّ قضية بناء الأمة في السودان التحدي الأكبر والمعضلة التي تحتاج إلى تضافر الحادبين على مصلحة الوطن من أبنائه لحلها. فتاريخيًّا نجح العديد من المؤسسات والكيانات السياسية في تعميق الولاء القومي وبناء أمة موحدة في السودان، بجانب الكيانات السياسية الوارد ذِكرها في الدراسة، ومنها: الطرق الصوفية التي زادت من التقارب بين القبائل المختلفة في السودان، وكان لها دَور بارز في جمع القبائل تحت راية دينية مشتركة، وتعزيز الولاء الديني فوق الانتماءات القبلية التقليدية. بجانب النظام التعليمي الذي أسهم في تعزيز الولاء القومي بين الدارسين بمختلف انتماءاتهم القبلية؛ مِمَّا ساهم في رفع مستوى الانتماء العام والتفكير الوطني بين الشباب السوداني.

أيضًا كان للنقابات ومنظمات المجتمع المدني في السودان دور حيوي في تعزيز الولاء العام منذ أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، ورغم طابعها الخدمي فإنها كانت تجمع بين أفراد من قبائل مختلفة؛ مِمَّا ساهم في تعزيز التعايش السلمي والاندماج بين أفراد متنوعين من القبائل في النشاطات الاجتماعية والسياسية. كذلك أسهمت الروابط الثقافية في إحداث نوع من الاندماج الفكري والمجتمعي الذي يتجاوز الحواجز القبلية والجغرافية والانتماءات التقليدية، وعزَّز من الانتماء العام، حيث جمعت الأندية الثقافية بين أفراد من أصول مختلفة. ومن أكبر المكاسب التي حقَّقتها منظمات المجتمع المدني تلك هو إقرار دساتير وقوانين منظِّمة لعملها بدلًا من الانحياز للتقاليد القبلية.

لعبت المكونات السياسية المتمثلة في الأحزاب السياسية والمؤسسة العسكرية والقبيلة دورًا إيجابيًّا تجاه قضايا التوافق الوطني وبناء الأمة، خاصة في فترة التحرُّر من الاستعمار، مدفوعةً برغبة عارمة في محاربة المستعمر. وعليه، فإنَّ تعزيز الولاء القومي كان أحد التحديات التي واجهت السودان، والتي حاولت المؤسسات التعليمية والعسكرية تحقيقها لتعزيز الوحدة والتعايش السلمي بين كافة أبناء السودان.

وبمرور الوقت، أثَّرت معايير الانتماء للقبيلة والولاء للطائفة على السياسة السودانية، وأضعفت ولاء المواطنين للدولة. كذلك كان للأحزاب السياسية، سواء أكانت طائفية أم عقدية، دور مهم في تقسيم الناس إلى فئات من خلال استحواذها على عواطف الناس وتوجيهها الاتجاه الذي يخدم مصالحها، ومن ثَمَّ عملت على توجيه الرأي العام والحدِّ من القدرات الحرة المستقلة، كما أثرت في الكيانات السياسية الأخرى (المؤسسة العسكرية).

ويكمن حلُّ معضلة بناء الأمة في توفُّر إرادة وطنية صادقة، وإحلال لغة الحوار بكل أشكاله كبديل للغة الصراع؛ لأنه يقضي على العصبيات وكل مظاهر التَّفرقة من منطلق الوطنية والإنسانية المشتركة، والرغبة في العيش الآمن المستقر. وعليه، وبالرغم من الإشكالات المعضلة التي يتعرض لها السودان، فإنَّ أمامه فرصة تاريخية لتجاوزها وإعادة بنائه على أُسس جديدة، قوامها العدل وتصحيح أخطاء الماضي وإعادة صياغة الشخصية السودانية. هذا الادِّعاء تدعمه الفُرص التي أفرزتها الحرب الحالية، والتي وحَّدت وجدان غالبية أبناء الشعب، وزادت من الولاء الوطني، فانتظمت قطاعات كبيرة منه تدافع عن ترابه ومكتسباته، وزادت الوعي بالمخاطر التي تحيق به، وصحَّحت الكثير من المفاهيم، وأيقظت قِيَم التكافل. ولأول مرة تحارب الحركات المسلحة التي تمرَّدت على الدولة جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة، كما تفاعلت كافة قطاعات الشعب مع قضاياه. ومن ثَمَّ قدمت الحرب بانتقالها للمركز والوسط وتمددها دروسًا بالغة الأهمية، يمكن استثمارها لصالح بناء أمة سودانية موحَّدة في حال تصحيح أخطاء الماضي، وحدوث نهضة تُعيد القبيلة لمحضنها الاجتماعي الطبيعي بعيدًا عن الممارسات السياسية، وتُعيد الأحزاب لرُشدها حتى تؤدي وظائفها المتَّفق عليها، وتجعل المؤسسة العسكرية صمام أمان يعمل على حفظ وحدة البلاد، ويصون أمنها القومي، وهو أمر رهين بالتوافق بينها وبين القوى المدنية، وهو متطلَّب أساسي من متطلبات بناء الأمة السودانية.

________

هوامش

[1] حمدي عبد الرحمن، “العسكريون والحكم في أفريقيا: دراسة في طبيعة العلاقات المدنية العسكرية”، مركز دراسات المستقبل الأفريقي، ص104.

[2] لمزيد من التفاصيل حول متطلبات بناء الأمة، انظر: رحاب عبد الرحمن الشريف، إشكالية بناء الدولة بين الرؤية الإسلامية والخبرة الواقعية: قراءة في التجربة السودانية، مؤتمر تحديات تطبيق الشريعة وإقامة الدين في المجتمعات المعاصرة، جامعة الجزيرة، معهد إسلام المعرفة، القاعة الكبرى للمؤتمرات، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الخرطوم: 18-20، مايو 2016م.

[3] إكرام بدر الدين، “أزمة التكامل والتنمية الدولية”، (القاهرة: مؤسسة الأهرام، ع58، 1981)، ص47.

[4] المرجع السابق، ص233-236.

[5] سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم المفردات والمنظومة، مجلة المسلم المعاصر، 1999، ص26-31.

[6] سمير مرقس، “المواطنة والتغير دراسة أولية حول تأصيل المفهوم وتفعيل الممارسة”، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م، ص8.

[7] رحاب عبد الرحمن الشريف، أزمة بناء الأمة في السودان 1989-2004م، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2009م.

[8] عمر حاج، التآكل وعوامل الاستمرارية في ملامح الثقافة الأفريقية السودانية لمنطقة وادي النيل الأوسط، مجلة دراسات أفريقية، مركز البحوث والدراسات الأفريقية، جامعة أفريقيا العالمية، ع23، يونيو 2000، ص58.

[9] حول هذا الموضوع انظر: مجموعة من الباحثين، الفساد السياسي ومشكلات التنمية في أفريقيا، مختارات المجلة الأفريقية للعلوم السياسية، 2003 م، ص15.

 [10] محمد حسن محمد محسن عبد المجيد، التنمية والتكامل القومي في السودان، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1982، ص19.

[11] حول تلك السياسات انظر: صلاح محمد إبراهيم، “أزمة الوفاق وقائع الديمقراطية الثالثة في السودان”، الخرطوم: بدون ناشر، 1994م، ص22.

[12] أحمد الزروق محمد، “مشكلة الاندماج الوطني في أوغندا”، المكتب العربي للمعارف، 2015م، ص10.

[13] د. محمد عاشور مهدي، دليل الدول الأفريقية، القاهرة: جامعة القاهرة، معهد البحوث والدراسات الأفريقية، 2007م، ص67، 159.

 [14] مزيد من التفاصيل حول المجلس الاستشاري وأهدافه انظر: الفاتح الشيخ يوسف، المؤسسات الدستورية لحكومة السودان (1944-1952م) وأثرها في مستقبل السودان السياسي، السودان: جامعة الجزيرة، 2011م، ص19-24.

[15] وانظر في هذا الخصوص: رحاب عبد الرحمن، إشكالية بناء الأمة في السودان في الفترة من 89-2004م، رسالة دكتوراه غير منشورة، القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، يوليو 2009م.

[16] شيماء حسين أحمد حسين، دَور الأحزاب السياسية السودانية في عملية التحرير الوطني في الفترة من 1943 إلى 1953 م، المجلة العلمية لجامعة الإمام المهدي، ع9، يوليو 2017م.

[17]عبد الوهاب الأفندي، “الثورة والإصلاح السياسي”، منتدى الدراسات الاستراتيجية،1990م، ص85-94.

[18] فتح الرحمن الطاهر، الجذور التاريخية لنشأة الأحزاب السياسية السودانية، مجلة جامعة أم درمان الإسلامية، مج 17، العدد الأول، 2021م، ص113- 128.

[19] د. أبو الحسن فرح، “الأحزاب السودانية واقع ومستقبل، مساهمات في الإصلاح الحزبي في السودان”، القاهرة: مركز الدراسات السودانية، يناير 2001م، ص104.

[20] مقابلة أجرتها الباحثة مع مدير الإدارة السياسية بالمجلس السيادي الانتقالي، تاريخ المقابلة 11/7/2024م.

1 عبد العزيز المهنا، قراءة صحفية ميدانية لموقف الحكومة السودانية من المشكلات الداخلية والأزمات السياسية والإقليمية والدولية (1989-1994م)، الكتاب العالمي، ط1، 1994م، صص20-21.

[22] محروس أحمد حسن، المؤسسة العسكرية وظاهرة عدم الاستقرار السياسي في السودان في الفترة من 1956-1985، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1994، ص126.

[23] عمر عبد العزيز علي، العلاقات العسكرية السودانية، الخرطوم، دار سنان، 2021.

[24] اتفاق المرحلة الانتقالية في السودان فرص النجاح والعقبات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أغسطس 2019م.

[25] عمر عبد العزيز، مرجع سبق ذكره، ص64.

[26] لمزيد من التفاصيل انظر: أحمد المجذوب أحمد، الاقتصاد السوداني بين المتطلبات العلمية والاختيارات السياسية: دراسة في أداء الاقتصاد السوداني خلال 2000-2001م، الخرطوم: هيئة الأعمال الفكرية، ط1، 2013م.

 [27] ثورة ديسمبر: السياقات والفاعلون وتحديات الانتقال الديمقراطي في السودان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة تقارير، يونيو 2020.

[28] الهادي عبد الصمد، الحكم اللامركزي في السودان الخصائص الرئيسية وموجبات الإصلاح، الخرطوم: المؤتمر العلمي السنوي السادس لقضايا الإصلاح في السودان، الجمعية السودانية للعلوم السياسية، 2014م.

[29] مزدلفة عثمان، ما مصير اتفاق جوبا للسلام بعد التسوية السياسية بالسودان، الجزيرة نت، 10 ديسمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/IkiEuzyf

[30] مقابلة أجرتها الباحثة مع الأمين العام للمؤتمر الشعبي بتاريخ 12/7/2024م.

[31] بدر الدين عبد الله الإمام موسى، الصراعات القبلية في السودان الجذور والأبعاد، الخرطوم: زمام للطباعة والخدمات الإعلامية، يوليو 2004م، ص6.

[32] المرجع السابق، ص142 -143.

[33] حسن علي الساعوري، القبيلة والسياسة السودانية دراسة حالة جبهة الشرق، مؤتمر النزاعات القبلية ومستقبل السلام في السودان، الخرطوم: جامعة أم درمان الإسلامية، مركز تحليل النزاعات، ص4.

[34] حول تأثير الطائفية على الأحزاب السياسية والمؤسسة العسكرية، انظر: حسن علي الساعوري، ديمقراطية السودان الثالثة، الخرطوم: مطبعة جامعة النيلين 2000، ص156 وما بعدها. وانظر حسن علي الساعوري، عسكريون وساسة… نظرية التحول الذاتي للحكم المدني، الخرطوم، مطابع العملة، 2000م.

 

  • نشر التقرير في: فصلية قضايا ونظرات- العدد الرابع والثلاثون- يوليو2024.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى