أزمات وتهديدات عالمية: ومواجهات واجبة من منظور حضاري مقارن

مراجعة أ. د. نادية محمود مصطفى

مركز الحضارة للدراسات والبحوث

تتراصُّ في الميدان العالمي مجموعات من أزمات كبرى ممتدة وتهديدات نوعية خطيرة، تنذر بتراجع الحضارة، واختلال نظام الكوكب، وعناء البشرية جملة واحدة. لقد عاش العالم لمدة عامين تقريبًا 20-2021 حالة من رعب وفوضى وتردٍّ في معظم المجالات الحياتية إن لم يكن كلها، ليس أثرًا عن فيروس دقيق تحول إلى جائحة عالمية وحسب، وإنما –وهذا هو الأهم- بفعل سياسات عالمية فعلية خائبة، وسياسات أخرى (لافعلية) غائبة. يجب أن نعترف أننا –نحن سكان هذا الكوكب- لم ننجح في مواجهة تلك الأزمة حتى تحولت إلى “جائحة شاملة” لا يقف أمامها شيء. قد يركز البعض على أننا في النهاية –أو بعضًا من دول عالمنا- قد نجحنا في الوصول إلى لقاح واقٍ من كوفيد 19، واتخذنا من الإجراءات الوقائية والمحاولات العلاجية ما يحسب في كفة تقدمنا، لكن الحقيقة أننا أحرزنا نجاحا ضئيلاً وسط خسارات فادحة، لا تزال آثارها تتداعى لعام آخر بعد هدوء العاصفة.

فلماذا، ومن أين، جاءت هذه الجائحة؟ وكيف ولماذا لم نحسن التعاون لمواجهتها في مهدها؟ وإلى أي مدى اضطربت صفوفنا –غير المصطفة من قبل- وخطانا –غير المشتركة من قبل- أثناء مواجهة الكارثة؟ وكيف تسبب ذلك في كوارث تابعة في الأرواح البشرية والأموال والنظم المعيشية عبر العالم لا سيما في جزئه السفلي الأكبر عددًا والأكثر معاناةً؟ وكيف بدت صورة العالم حين تباهت الدول النشطة والشركات الكبرى بتنافسها وتفردها –لا بتعاونها وتشاركها- من أجل الوصول إلى اللقاح المضاد للفيروس؛ ما يمكن أن يكون –أو غالبا- قد تسبب في تأخير الوصول إليه لا لشيء إلا من أجل النجاح المتفرد والاستحواذ على عوائد مالية ذاتية؟ حتى الآن لا يملك أحد جوابا مقنعا، أو شجاعة كافية للإعلان عن هذا الجواب والشهادة به أمام العالم، في عصر عنوانه: ثورة المعلومات والمعرفة!

إن خضوع البشرية لمنظورات الصراع والتنافس والتباعد التي فرضتها الحضارة الغربية في الميادين المختلفة، يلقي بظلال قاتمة على سياسات المستقبل وعلى مستقبل السياسات المتعلقة بالكوكب والقطاعات الأوسع من البشرية. هذه المنظورات الجاثمة على الرؤوس والماثلة أمام الأنظار تحول دون رؤية فرص بديلة كثيرة، ولا يصح الاستمرار في ذلك. يجب أن تتحرك الأنظار بعيدًا عن الغرب الذي يبدو أنه استفرغ طاقته الفكرية، فلم يعد قادرًا على أن يرى سوى ذاته. إن منظورًا عالميًّا حقّ عالميٍّ يستعصي على أن يخرج من الغرب اليوم، خاصةً في وقت يبدو كأن الولايات المتحدة تقوده إلى حرب عالمية أخرى –باردة أو ساخنة- في الشرق الأقصى، وتقوده إسرائيل في الشرق الأوسط لحروب دوليه وأهلية، وتسعِّر فيه فرنسا -بسند من الاتحاد الأوروبي- حربًا إعلامية سياسية، وقانونية اجتماعية على الإسلام ورسوله والمسلمين!!!

رغم تلك الجائحة وما يحيط بها من كوارث بيئية واقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية وثقافية، فقد أضحى الغرب يكرر نفسه ويبدو عاجزًا عن كسر شرنقة الإيمان بذاته وحدها لا شريك لها. لكن هذه المخاطر لَمْ –ولا، ولنْ- تصيب الغرب وحده، ولا يصح لـ”البقية” –كما يسمينا غربيون- أن تنتظر فعل الغرب لتتبعه، أو تقف تشاهد ولا تفعل شيئًا.

الكوكب برمِّته عُرضة لمخاطر جسيمة: الدول هشة في الساحة العالمية أمام صراعات النظم والحكومات والمجتمعات التي دخل عدد منها في حروب أهلية طويلة الأمد، الهجرة واللجوء في أعلى معدلاتهما ما يُنذر بتخلخل أوطان، وضغوط على أخرى تحت أقدام اللاجئين، خطر السلاح النووي يطل برأسه من جديد وينذر بصراعات قديمة متجددة، الديمقراطية في ورطات عديدة عبر العالم بما فيه الدول التي لطالما اعتزت بها، نماذج التنمية –بل ونماذج النمو- مضطربة بصورة غير مسبوقة، مخاوف الاقتصاديين عبر العالم تطمس آمالهم، المجتمع السيبراني العالمي يحيل الفرص إلى تهديدات وحروب إلكترونية وإرهاب سيبراني واختراقات وعمليات تخريب؛ حروب خفيفة في تكلفة شنها وممارستها، لكنها ثقيلة في تكلفة آثارها وعواقبها، وسائل التواصل والإعلام الجديدة تتحول إلى ساحات حروب فكرية وثقافية ساخنة، الصناعات المتطورة جدًّا تصارع الضوابط الأخلاقية في الاستنساخ والتحكم بالأجنّة، وتحويل الجنس، ومخاوف تطورات الذكاء الصناعي…إلخ هذه السلسلة المكرورة من الشكاوي والهواجس من “ثمن التقدم”.

هذا العالم تبدو فيه كل فرصة تقدم وقد حملت تهديدا مساوقا لها وممتزجا بها، وتبدو كل بُشرى تقدم وقد دقت جرس إنذار بخطر مُحدِّق. يبدو العالم اليوم وكأنه بحاجة إلى نبوة جديدة (ولا نبي بعد النبي الخاتم) أو على الأقل تجديد لرسالة عليا، تنزع الإنسان والأرض من القاع الآسن الذي سقطا فيه.

الأمر جد جدير بالالتفات: فسفينة الأرض المبحرة في الفضاء الواسع يغرقها خرق صغير يصيبها في أي موضع منها ويحيلها إلى قبر كبير، فكيف بتلك الخروق الواسعة الكثيرة؟ والجسد العالمي لا يتكامل ولا تتجمع أعضاؤه حتى يحل التعارف والتعاطف على مصلحة عالمية عليا بينهم محل التنافر والتناحر؛ بحيث تتداعى الأمم لرعاية من يصاب منها؛ وليس تتداعى عليه كما تفعل ضباع الغابة الضارية.

هذا ليس بحديث وعظ بالأخلاق، رغم أن الأحداث أثبتت أن عالما بلا أخلاق لا يستمر ولا يتقدم على الإطلاق، وأن سياسات مادية محضة مهما بدت في مطالعها مبشرة ومبهرة هي -بحكم السنن- في مآلاتها قصيرة العمر ضئيلة وربما ضارة الأثر، مهما تخيل الماديون غير ذلك، وهذا حديث السنن التي لا تتبدل ولا تتحول.

سنن التدافع تفرض دفع كل هذه المخاطر بما يكافئها من حلول عملية (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)-[الآية 251 من سورة البقرة]، وسنة التداول والتبادل تنبه إلى أن القيم الإنسانية والأخلاق الجامعة (أخلاق المعروف العالمي في مقابل أخلاق المنكر) أبقى من القوة المادية وأحفظ من التراكم الرأسمالي الشره. وسنن الاستدراج تنبه إلى عامل الزمن الذي لا يُقدر عادة باليوم والسَّنة؛ إنما بالأجيال والقرون، وأن سياساتٍ جائرةً اليوم لا بد –ولزامًا- ستعقبها عواقب وخيمة في المستقبل؛ بغير ما حاجة إلى عناء توقع أو معاناة تنبؤ، ما لم تتداركها إصلاحات قبل فوات الأوان. والسنن يحتفي بها منظور مختلف عن منظور السببية المادية الغربي، وكذا المقاصد والقيم.

مقاصد الكوكب يجب أن تتقدم التفكير في السياسات العالمية الراهنة؛ وهي تفرض كوكبية/عالمية النظر الدولي وتعلُّق المحلي به. فحفظ النظام العالمي العادل أولوية، تجر وراءها أولويات حفظ النفس البشرية (الناس جميعا) وإيقاف عمليات إزهاق الأرواح عبر بقاع الكوكب والتفرج عليها وعدم التدخل بحجج واهية، وأولويات حفظ الأعراض والكرامات وكيانات الأسر والمجتمعات؛ وتحصينها ضد عمليات التدمير الشهوانية التي يروج لها عالميا بينما آثارها لا تتأخر وتنذر باستبقاء أفراد بلا مجتمعات؛ في اتجاه عناء الأفراد وتفكك المجتمعات. ومن وراء ذلك تفرض المقاصد مواجهة عمليات التلاعب بالعقول التي تديرها قوى استغلال للشعوب تأكل أموالها بالباطل. كل هذا يتصل بأولوية حفظ مقدرات الكوكب المشتركة، ومبدأ احترام مقدرات الأمم التي تختص بها.

وكذا تفرض قيم التغيير والإصلاح العالمي على الجميع –الضعفاء مثل الأقوياء- النهي عن تلك “المنكرات العالمية” المتفق على كونها منكرات وتنكرها الفِطَر السليمة. إن حق التقدم لا يبرر الإضرار بالآخرين، وموازين المصالح والمفاسد العالمية لا تقبل بإهلاك الكوكب للتهافت على سلع غير ضرورية أو التسابق على زيادة أرباح خيالية للشركات العملاقة أو لتكديس أسلحة تعرض الأمم للمَحق عند النزاع!! قيم سفينة الأرض تفرض التشارك وتوزيع المزايا والأعباء بالقسط، والتنبه لعمليات الإفساد والاجتماع على إيقافها والأخذ على يد خارقي السفينة (فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا)-[الحديث رواه البخاري].

في عصر سيبراني يتيح نشر الكلمة في الآفاق، يجب على أهل الذكر والفكر والكلمة في الشئون العالمية، وأهل العلم والعمل، أن يرفعوا أصواتهم، لا بالشعارات المكرورة، ولا بالنداءات المعتادة، ويوجهوها إلى من يعنيه الأمر، وإلى من لا يعيه. إن مخاطبة الشعوب والهيئات الأجدر بالخطاب، وتزويدها بتوجيهات أيسر عملا وأقرب أثرا.. هو التحدي الماثل أمام الفكر العالمي وأهله، في عصر سيبراني متطور كل يوم.

وبعد، فإن منظورًا حضاريًّا يؤمن بإنسانية الإنسان، وأن البشرية أبناء أب واحد وأم واحدة، لا تفاضل بينهم بسبب قومية أو جنسية أو لغة أو ثروة أو قوة أو شيء آخر سوى ما يعتنقونه من مبادئ عليا وما يلتزمونه من قيم حاكمة وما يستقيمون عليه من عمل صالح… منظورًا يؤمن بالقوة وسيلة لتحقيق المقاصد والمصالح العامة، وبالعدل قيمة حاكمة حاسمة يخضع لها الجميع: الأنا قبل الآخر، القوي قبل الضعيف، الغني قبل الفقير، منظورًا يؤمن بأن مقاومة العدوان واجب إنسانيّ لا جدال فيه، ويؤمن بالأرض موردًا مشتركًا للبشر جميعًا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)-[الآية 168 من سورة البقرة]… إن منظورا كهذا يجب أن يتقدم الساحة العالمية؛ ليعيد صياغة سؤال “حالة العالم” من جهة، ويجتهد -من خلال مقتربات مقاصدية وقيمية وسننية، وعِبرٍ تاريخية قديمة وحديثة- لكي يطرح إجابات ممكنة التنفيذ، وممكّنة لإنسانية الإنسان؛ إجابات يتوفر لها من الصحة والصلاحية الجانب الأوفر.

وفي هذا المضمار، يأتي المنظور الحضاري النابع من المصادر المعرفية العليا للحضارة الإسلامية، ومن عصارة خبرة تاريخية خصبة وثرية، ومن موقع حضاري راهن واعد –رغم كل العقبات الماثلة والمعترف بها- لكي يقدم نموذجًا لما يجب على بقية الأمم أن تتبارى فيه: إعادة النظر في الواقع العالمي وبالأخص قضاياه الكبرى؛ من أجل توزيع المسئولية على الجميع، والدعوة إلى تكتلات إنسانية حضارية لمواجهة المخاطر التي تهدد الكوكب والبشرية من غير تمييز، وفتح ميدان البحث عن الحلول العملية الواجبة لمواجهة ذلك.

وحول هذه الفريضة تدور حوارات المدرسة الحضارية الراهنة في إطار ثنائية (الخطر والمواجهة) الأشبه بثنائية توينبي (التحدي والاستجابة)، ولكنها تقوم على سُنّة إلهية أعمق وأشمل قوامها (الابتلاء والعمل): (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)-[الآية 2 من سورة الملك]، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)-[ الآية 7 من سورة الكهف]. وهذه السُّنة تؤسس لمنطق دائم في التعامل مع الحياة مفاده: أن الحياة الخاصة والعامة، المحلية والعالمية، عبارة عن “ابتلاء”؛ أي “اختبار”؛ له سؤال رئيس هو: أي نوعي الأعمال سنعمل: الحسنات أم السيئات، العمل الصالح أم الفاسد، الاستقامة على قيم العدل والإحسان أم على قيم المنكر والبغي؟! وهذا السؤال الابتلائي الأخلاقي يطرح اليوم على حالة العالم ومواقف سكان الأرض خيارين: إما إصرار واستكبار على سياسات التدمير (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)- [الآية 7 من سورة نوح]، وإما صحوة ضمير ومسار إصلاح وتغيير: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)-[الآية 70 من سورة الفرقان]؟! ويجب أن تكون الرسالة واضحة وجامعة لعناصر: البيان، البلاغ، الشهادة، البشارة، النذارة، والدعوة والإنارة: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ {11/116} وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)-[الآيتان 116 و117 من سورة هود].

وفي هذا الإطار، تأتي باقة من القضايا الأجدر بالاهتمام:

  • ينشغل الفكر العالمي اليوم بقضايا تدور حول “عالمية العالم” وعالمية سياساته وتفاعلاته؛ أين العالمي في حالة العالم؟ وأين “اللاعالمي” وما مؤشراته؟ وأين الخصوصيات؟ وأين مناطق التقاطع والتداخل؟ وكيف يمكن لمنظور حضاري قيمي واقعي أن يقدم معايير لهذا التصنيف المؤسس لعالمية؛ معايير عملية لا نظرية فقط؟ إن جملة القضايا التي تشغل العقل العالمي اليوم تأخذ من كل مساحة من العالمية والخصوصية والمشترك قدرًا ينبغي تمييزه؛ توضيحًا للصلاحيات والمسئوليات والحدود التدخلية. لقد عمل الفقه القانوني الدولي في تحديد هذه الحدود كثيرًا لكن مدخله الغالب كان الدولة القومية التي تتعرض اليوم لتحولات كبيرة؛ ما يفتح المجال أمام إسهامات مختلفة لا تتقيد بشكلية القانون ولا تقف عن الحدود السياسية للدول، ولكن تتنبه جيدًا لخصوصيات الأمم ومميزات الحضارات. من هذا التأسيس يمكن فتح المجال أمام إسهامات غير غربية في رسم صورة العالم وأولوياته ووجهته، تنطلق من موقع المسئولية أولا، والحق في المشاركة في تحديد مصير الكوكب الجامع للبشرية ثانيا، والحق في الاختلاف الفكري والعملي ثالثا (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)-[من الآية 143 من سورة البقرة].

يقدم بعض مفكري الإسلام المعاصرين رؤى مهمة في هذا الصدد (على سبيل المثال: حامد ربيع في استعراض إمكانيات الإسلام كقوة دولية، ومنى أبو الفضل في توضيح محالّ التقاء الشرق والغرب، بيجوفيتش في تقرير قوة الرؤية الإسلامية لما بين الشرق والغرب، المسيري في نقد العالم من منظور غربي أو الغرب من منظور إنساني، إسماعيل الفاروقي في نقد سياسات القرن العشرين من منظور حضاري، طلال أسد في تفكيكه للعلمانية قبالة الدين من مدخل إبستمولوجي وأنثروبولوجي، سيد حسين نصر في استعراضه لقيم الإسلام الخالدة من منظور عالمي حديث، نادية مصطفى في استقراء سياسات الغرب في عالم المسلمين لا سيما منذ مطلع القرن الجديد وصولا إلى البحث عن عدالة عالمية وتغيير عالمي، سيف عبد الفتاح في المقارنة بين عولمة الغرب وعالمية الإسلام، وصولاً إلى طه عبدالرحمن وطرحه عن الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري والمساهمة الإسلامية في تقديم نقد/طرح أخلاقي عالمي، وغيرهم كثيرون).

  • نحتاج إلى طرح مخصوص من منظور حضاري مقارن عن “إمكانات ومعوقات دور أمة الإسلام في المشاركة في إنقاذ العالم”. فهذا السؤال يتجاوز اللغط الفكري والسياسي حول أزمات الأمة إلى ما يناط بها منذ نشأتها وإلى نهايتها من دور رسالي كفاحي ينفع الناس ويمكث في الأرض (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)-[من الآية 110 من سورة آل عمران]. إن خارطة الإمكانات الفكرية والمعنوية والبشرية والمادية للأمة ينبغي أن تستكمل (تعد موسوعة الأمة في قرن -لا سيما كتابها الأول- نموذجا مهمًّا في هذا الصدد). وبالرغم من عدم تعامل المسلمين مع أمتهم بوصفها “أمة واحدة” فإن عاملين مقابلين يفرضان هذا التعامل: أحدهما- تعامل العالم غير الإسلامي مع المسلمين بوصفهم أمة واحدة أو بينهم ما يجمعهم، وثانيهما- طبيعة الأزمة العالمية والحاجة إلى تكتلات للخروج منها؛ وليس أيسر عمليا وأفضل مصلحيا من تكتل الأقطار والشعوب الإسلامية تحت راية الأمة؛ ما لم تكن ثمة حواجز نفسية أو فكرية من رواسب التبعية للآخر. لا شك أن معوقات تجميع الأمة على أمرٍ ما ماثلة وشديدة الوضوح، لكنها ليست نهائية ولا حتمية، متى واجهناها بالإمكانيات متنوعة المضمون والقوى. وبناء عليه يفترض في المنظور الحضاري الإسلامي أن يتقدم للإجابة عن سؤال: الإسهام الإسلامي في المشاركة العالمية الواجبة لإنقاذ الكوكب ومستقبله: ماذا وكيف؟
  • الطبيعة الأرضية في خطر وتدمير متعمِّد بلغ درجات مخيفة، ما يفرض ضرورة الأخذ بسياسة توسيع التعاون في الإصلاح، وسياسة عدم التهاون في الإضرار: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (من الآية 2 من سورة المائدة). يمكن –وينبغي- أن نضع نصب أعيننا أوجه الخطر الطبيعي المحدق بالكوكب الأرضي؛ بدءا من التلوث الخانق المتلف المدمر بصورِه المتكاثرة، فاحترار الكوكب نتيجة الانبعاثات الغازية الحارة، وتوالي العواصف والأعاصير وحرائق الغابات وتآكلها وتنامي ظاهرة التصحر والجفاف، وتآكل السواحل لصالح ارتفاع مستويات البحار والمحيطات ونذر تكرار ظاهرة التسونامي،… إلخ هذه السلسلة المكرورة في الكتابات الراهنة للعلاقات الدولية ودراسات حالة العالم. لكن وراء هذه الكوارث صنفين من السياسات: صنف منتجٌ للكوارث متسببٌ فيها، والآخر متقاعس عن مواجهتها أو متهرب من مسئولياتها لصالح شواغل أدنى خطرا وأقل نفعا. إن مقتربًا مقاصديًّا قيميا في هذا الصدد ضروري لتجديد الوعي بموازين التهديد والخطر، وتفعيل فقه الضرورات وفقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه المآلات قبل أن تستفحل هذه المضرات ويصعب أو يستحيل تداركها. وفي هذا الصدد، يقع على المؤسسات المتخصصة مسئوليات خاصة وذات أولوية.
  • الأوبئة تجدد بين تصنيعها ضمن المنطق الصراعي، وبين الفشل في مواجهتها بتعاون عالمي أو إغفال وإهمال لها خاصة بعد تراجع شدتها. إن عامي جائحة كورونا قد علَّمانا أنه يجب التوجه نحو سياسة مواجهة مستديمة وتحصين عالمي. لقد تألم العالم من كورونا وسمع الجميع صرخة الألم العالمية؛ لأنها أصابت أصحاب الصوت الأعلى؛ وتفشت في البقاع الغنية والقوية؛ فصارت بذلك عالمية المظهر، فيما ترزخ أقاليم في الجنوب في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تحت حصار أوبئة مميتة ولكن لا تجد لآلامها هذه الضجة. هذا من حيث العدالة.

لكن الفعالية العالمية التي كشفت عن أزمتها سياسات التنافس على تصنيع اللقاح تكشف عن عالم أقل ذكاء وتتراجع رشادته إلى حدود مفاهيم التنافس القومية؛ حتى إن التعاون داخل الحضارة الواحدة لم يحدث أن لاحظه أحد. ماذا لو اجتمعت المؤسسات البحثية الصحية والتصنيعية للتصنيع المشترك للقاح؟ ألم يكن ممكنا جدًّا أن نصل إليه أسرع ويكون أنجع؟ كذا الأمر في الأمراض المتوطنة وفي عامة البحث العلمي العالمي، فضلا عن صلتها بسياسات التصنيع والتجارة وبأبعاد سياسية أخرى؟ أين المؤسسات العلمية عبر العالم؟ من منظور حضاري يمكن طرح وصفة بديلة لهذا المسار. ويقع على المؤسسات المتخصصة مسئوليات خاصة في هذا الصدد.

  • التجارة الدولية وتكريس المظالم والاستغلال وضرورة مقاومتها من الطرف المهدور: إن مؤشرات التفقير وتصدير الفقر والاستهانة بمعايش البشرية فيما تتصارع الأفيال والحيتان على احتكار الأسواق وتعظيم الأرباح الخاصة، يوجب بيانا وإنذارا بعواقب الجور وكذا عواقب القابلية لها والقبول به. إن تجارات المنتجات الزراعية والصناعات الغذائية والأدوية ومواد البناء ومواد الطاقة لا يصح أن توزن بموازين تجارات الكماليات والتجميليات؛ ومن ثم لا يصح أن تترك أسعارها لقوانين الأسواق والقوة دون ضوابط من مصالح عالمية تراعي الأكثرية والأشد حاجة من البشرية. ترتبط هذه الأمور بطبيعة المجال بالسياسات الدولية والسياسات الداخلية، لكن دورًا فكريًّا عابرًا للحدود يظل له أهميته ودواعيه. نفتقد منظورَ اقتصادٍ سياسيٍّ عالميا حضاريا للنظر فيما يعانيه العالم من أزمات اقتصادية ممتدة وللبحث عن مخارج منها.
  • قضية الفقر ونوعية الحياة تتصل بما سبق، غير أنها تستفحل حتى يصح أن يقال إن العالم البشري المعاصر أضحى بجملته فقيرًا جدا، وإن كانت تغلفه قشرة رقيقة من مظاهر الغنى والترف يتم ترويجها ببرود أخلاقي غير موزون. فثمة قارات ودول تحتفظ بأغلبيات فقيرة جدّا ولا تزيدها السياسات المحلية والدولية إلا فقرًا. غير أن الإشكال الأكبر الذي يتعلق بالفقر لا يقف عند حدود السلامة الجسدية والغذاء والمسكن والدواء وقيم الدخول والتفاوت الطبقي، بل يتصل أيضًا بما تم تسويقه من قبل باسم “نوعِ الحياةِ” ترويجا للنيوليبرالية؛ وهذا –بالرغم من ذلك- مفهوم غاية في الأهمية، ومن منظور مقاصديّ يبدو مناسبًا لمناقشة قضية الفقر وبيان أبعادِها المختلفة لا سيما تلك التي يتعامَى عنها مروِّجو المؤشرات الماديّة والرقميّة المَحْضة. نعم؛ تمَّت ترجمة مفهوم “نوع الحياة” في كثيرٍ من التقارير الدولية من منظورات قاصرة ومغايرة لما يستشعره فقراء الجنوب والشرق. إن أثر الفقر –على سبيل المثال- على العلاقات الاجتماعية وتماسك المجتمعات هو الدرس الأكبر للثورات الطبقية التي شهدها الشرق، فيما ارتبط في الغرب بالعلاقات الاقتصادية بين قيمتي رأس المال والعمل.
  • لماذا وكيف تفشل نماذج التنمية ومحاولات الانعتاق من التخلف؟ ولماذا يكون فشلها فادحًا وكارثيًّا؟ ولماذا يتداخل فيه الخارج والداخل؟ ولماذا تعوق السياسة الدولية للدول الكبرى سياسات التنمية في بعض البقاع وتتوجس منها خيفة؟ أليس ذلك –في أحد أهم التعليلات- بفعل ارتكان تلك النماذج -والنماذج المقابلة لها- على أيديولوجيات صراعية من داخل نموذج معرفي مادي غير حضاري؟ لقد شهدت العقود الثلاثة الماضية محاولة كبرى لتعميم النموذج الليبرالي الرأسمالي عالميا؛ باسم العولمة، وضمن سياسات نيوليبرالية مبتوتة الصلة عن الأوضاع الحضارية للمجتمعات المختلفة. يرتبط ذلك بالنماذج المطروحة لعلاقات المجتمع والدولة، ما بين قوة كل منهما وضعفهما، وأولوية كل منهما في تقرير السياسات العامة. السؤال الذي يُطرح يتعلق بالثقة المفقودة في مشروعات التنمية وقواها الداخلية والخارجية، وكيف تتحقق عبر آليات حوار ومعايير حوكمة مسبقة؟
  • مخاطر السيبرانية ومواجهتها بفرصها ومزاياها وإمكانياتها، تدعو إلى أن تتقدم مبادرات شبابية وخبيرة عالمية؛ لإعادة إدارة المسار السيبراني وفق مقاصد وقيم وسُنن عمرانية لا طُغيانية ولا شهْوانية. أليس من أوجب الواجبات وأيسرها تحقيق نوع من التلاقي العالمي داخل هذا العالم الجديد (السيبراني، الافتراضي) ومبادرة القادرين علميًّا لتعليم غير القادرين، وتوجيه المؤسسين قيميا لمن فاتَـهم حظوظ التربية والتنشئة القيمية الجيدة؟ إن تدافعًا عالميًّا عابرًا للحدود حول –وداخل- هذا العالم الجديد أضحى من الأهمية بمكان. إن واحدًا من مؤشرات القوة الدولية اليوم يتعلق بالصوت: الصوتِ الأعلى يصل ويغلب ويؤثِّر ويغيِّر، والأصوات الخفيضة الخافتة تضيع في الفضاء الوسيع سُدى. إنّ المخاوف المُطلقة من التنافس في مجال الذكاء الاصطناعي وصناعة الروبوت واتساع دور التقنية في الهندسة الوراثية ونقل الأعضاء وغيرها، يفرض اهتمامًا خاصًّا متصلاً بهذا المجال.
  • الحروب الدولية والأهلية وفشل سياسات السلام في مكافحتها وكبح جماحها: استمرار انعدام الثقة في عالم السياسة يستحق وقفة أمام مفاهيم: السياسي، والأمني، والديمقراطية، والحكم الراشد، والفساد… ولماذا فشلت الدعوة القيمية الصادرة من علماء السياسة وخبرائها في إقناع النخب عبر العالم بمسالك بعيدة عن الحروب وسفك الدماء؟! ولماذا تتوحش الحروب المعاصرة؟! وكيف تنتصر الوسائل السِّلمية عبر الفكر والكلمة والاصطفاف والمواجهة العاقلة؟! وكيف تساعد “مفاعلات المقاصد” على اختيار طرق غير الحرب لحسم النزاعات، ولو بالرضا المؤقت بالمضارّ الأخفّ من الحرب بعيدًا عن شعاراتٍ جوفاء لا تُوقِـف النزيف؟! هل انتهى دور المنظمات الدولية والإقليمية فيما يتعلق بتحقيق السلام العالمي وتوقف عند حدود المتابعة بالإدانات والمطالبات؟! أليس من المصلحة العالمية قيادة مبادرات عملية للإصلاح المؤسسي تتضافر له قوى متعدّدة، ولو لم تكن هي القوى الكبرى؟!
  • وأخيرا وليس آخرا: قبل أن تندلع حربٌ باردةٌ أو ساخنةٌ كبرى، هل سنقف صامتين على التحول الأمريكي باتجاه الشرق الأقصى، أم إنَّ علينا البيانَ وعلينا البلاغ، وعلينا الحضور في الساحة العالمية إدلاءً بالشهادة الواجبة على تلك القوى العمياء التي لا ترى إلا ذواتها؟ نشهد بأيّها ظالم وأيّها مظلوم؟ وأيّ سلوكياتها يهدد العالم وأيها يحافظ على سلامه وأمنه؟ هل يصح لأهل الذِّكْر الدولي والعالمي أن يقفوا متفرجين على العمليات التمهيدية لحرب عالمية تجرُّ العالم وراءها؟ وكذا مواطن العدوان والصراع الإقليمية في آسيا وأفريقيا والمنطقة العربية التي يبدو أنها أضحت من طبائع النظام الدولي الراهن؛ بحيث تشتعل ذاتيا وتخمد ذاتيا، أو لا تخمد وكأنها في كوكب آخر. إن كوارث اليمن وسوريا وليبيا ولبنان، فضلا عن الكارثة الفلسطينية المستديمة لفوق قرن من الزمان، تؤكد هذا الملحظ. وما يجري للمسلمين في الشرق والغرب يجب ألا يتم تطبيعه أو التعايش معه، ويجب أن تعلو الأصوات بأن أمةً بكاملها تتعرض لظلم عالمي مهين، ويجب أن يرفع هذا الظلم، وأن ما يدعى أنه إرهاب إسلامي لا ينفصل عن عدوانٍ أكبر تمارسه قوى دولية وإقليمية على مقدَّسات وأرواحٍ ومقدرات أبناء هذه الأمة. في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر كتب هنتنجتون في “النيوزويك” عما أسماه “عصر حروب المسلمين” وراح يعدد عشرات الحروب الجارية على الأراضي الإسلامية أو ضد أطراف إسلامية، وتناسى ساعتها -بل لعلّه تعمَّد التمويه- أنها “حروب على المسلمين” لا منهم.

هكذا تتراصُّ في الميدان العالمي مجموعات من أزمات كبرى ممتدة وتهديدات نوعية خطيرة، تجتمع في قائمة من الأولويات العالمية التي تدور حولها نقاشات عديدة متنوعة المنظورات والاهتمامات والنتائج، لكن الحاضر الغائب في هذا هو منظور حضاريّ عالمي غير غربيّ، يمكنه أن يستوعب النقاشات الراهنة ويتجاوزها إلى أصول العمران العالميّ: مقاصده، قيمه، سُننه، مفاهيمه، وتطبيقاته في قضايا هذا العمران وترتيباته؛ بحثا عن مخرج جماعي من المأزق العالمي الراهن.

والله أعلى وأعلم.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى