العلاقات السياسية الأمريكية الفنزويلية

مقدمة:

تمثل التجربة الفنزويلية في سعيها للتخلُّص من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية -التي كانت تحت ظلِّها لعقودٍ- إحدى الخبرات والتجارب المهمة لدول أمريكا اللاتينية في قدرتها على التعامل مع العديد من الأزمات المشابهة لأزمات العالم العربي والإسلامي بحثًا عن الاستقلال والتنمية والتقدُّم والديمقراطية، والتي وقعت ضمن جغرافيا لطالما اعتبرتها “واشنطن” حديقة خلفية لها ومنطقة نفوذ، منذ ظهور مبدأ مونرو 1823 الرافض لأيِّ تدخُّل أوروبي في شؤون دول أمريكا اللاتينية، ولم تكن فنزويلا استثناءً من ذلك، وظلَّ حكَّامها من المقرَّبين إلى واشنطن حتى رئاسة “هوجو تشافيز” الممتدَّة من 1998 حتى 2013، فقد توتَّرت العلاقات الأمريكية الفنزويلية منذ أن وصل تشافيز إلى السلطة نظرًا لتوجُّهاته اليسارية، ولتأسيسه نظامًا ثوريًّا يساريًّا ولدولة اشتراكية بوليفارية، وتبنَّى سياسة خارجية معادية للسياسة الخارجية الأمريكية في القارة والعالم، وقد زاد العداء بين البلدين على إثر انقلاب فاشل ضدَّ تشافيز في أبريل 2002، اتُّهمت واشنطن بتدبيره؛ ما وَتَّرَ العلاقات بين البلدين بشدَّة، ولتستمرَّ  عقبه سنوات من التوتر بين البلدين أضرَّت بالعلاقات الثنائية، وبعلاقات واشنطن بالقارة ككل، فقد أثَّر سلوك تشافيز في القارة (كسعيه لتكوين تكتُّلات إقليمية مضادَّة لواشنطن)؛ وخارجها (كرفضه للحرب العالمية على الإرهاب وعلاقاته السياسية والتجارية مع خصوم واشنطن كالصين، وروسيا، وإيران)، على الهيمنة الأمريكية على القارة، والذي تزامنَ مع تنامٍ لحالة رفض للهيمنة الأمريكية امتدَّت لكثيرٍ من دول القارة.

ونظرًا لأهمية التجربة “الفنزويلية التشافيزية” في سعيها للاستقلال والانعتاق من الهيمنة الأمريكية ونموذج الاقتصاد الليبرالي؛ فإنها تأتي ضمن التجارب المهمَّة بأمريكا اللاتينية لمعرفة طبيعة علاقاتهما السياسيَّة وتطوُّراتها، وما يمكن استنتاجه منها، بالإضافة إلى كيفية استفادة المنطقة العربية والإسلامية من دراسة هذه العلاقات المتشابكة مع دولة عظمى مجاورة تحاول الهيمنة على هذه المنطقة ولا تريد منازعًا لها هناك. وذلك من خلال عرض دراسة “العلاقات السياسية الأمريكية الفنزويلية: دراسة للفترة 1997 – 2015[1]، التي قدَّمها محمد شاكر حسين في رسالة ماجستير بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

أولًا- ماهية القضية الأساسية محور الرسالة

تبحث هذه الدراسة العلاقات السياسية الأمريكية الفنزويلية؛ للتعرُّف عليها ومدى تأثيرها في القارة، ومدى تأثير تغيُّر الإدارات الأمريكية عليها، ودور العوامل الشخصية للرؤساء في هذه العلاقات، ودراسة تأثيرات التوجُّهات اليسارية الثورية المقاومة للهيمنة الأمريكية للرئيس السابق “هوجو تشافيز” على تلك العلاقات، في أرجاء القارة، ومدى اختلاف هذه العلاقات بعد وفاة تشافيز، وتحاول أن تكشف سِرَّ معاداة الولايات المتحدة لنظام هوجو تشافيز منذ ولايته الأولى في 1997، وتداعيات الانقلاب الفاشل عليه في أبريل 2002 على تصاعُد العداء بين البلدين، وتغطِّي الدراسة الفترة من عام ١٩٩٧ حتى عام ۲۰۱٥؛ حيث إنها شهدت تعاقُب إدارات أمريكية وفنزويلية مختلفة بما يسْمح بإجراء مقارنات واستخلاص عِبَرٍ ودروسٍ منها.

وتنبع أهمية تلك القضية من كونها تقدِّم تفسيرًا ونموذجًا شارحًا للمنطلقات الفكرية للمدرسة الواقعية ونظرية التبعية معًا في العلاقات بين البلدين؛ حيث إن فنزويلا دولة صغيرة ذات ثروة نفطية هائلة، ثارتْ في عهد تشافيز على الهيمنة الأمريكية، كما أنها مع ثوريَّتها تلعب دورًا إقليميًّا ودوليًّا نشطًا يتحدَّى هيمنة واشنطن داخل القارة وخارجها، وتتعرَّض للضغط من النظام الدولي ومن القوى العظمي وتُظهر مقاومةً لهذا الضغط بنجاح يُغْرِي غيرَها بمقاومة الهيمنة الأمريكية، وهي بذلك تمثِّل نموذجًا لعلاقات دولية صراعية متوتِّرة، وتقدِّم صورةً عن الثبات والتغيير الذي يطْرأ في تلك العلاقات المتوتِّرة مع تغيير الإدارات المتعاقبة في الدولتين. بالإضافة إلى أنها تتشابه في واقع علاقتها ودول أمريكا اللاتينية مع واشنطن، مع واقع علاقات الدول العربية والإسلامية بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى حدٍّ كبير، وذلك التشابه يدفع نحو استقراء تفاعلاتها، وطبيعة العلاقات بين الدول الكبرى المهيمنة في النظام الدولي والدول الصغرى التابعة، ومحاولة التعرُّف على نمطٍ قد يساعد الدول العربية في علاقاتها مع الدول العظمي.

ثانيًا- المدخل التحليلي والنماذج

قدَّمت الدراسةُ مجموعةً من المداخل التحليلية لاستكْشاف تطوُّرات العلاقات السياسية الأمريكية الفنزويلية، فعلى المستوى المفاهيمي والنظري؛ تعرَّضت الدراسة لعدَّة مفاهيم: كالهيمنة، والتبعية، ومناطق النفوذ؛ والدول الثورية، والدول المارقة، والليبرالية الجديدة. ومزج الإطار النظري بين مستوى داخلي ركَّز فيه على دور النظام السياسي في توجيه علاقات الدولة الخارجية، ومستوى خارجي ركَّز على دور مكانة الدولة وقوَّتها داخل النظام الدولي في توجيه علاقاتها الخارجية. كما استخدمت المنهج التاريخي لتتبُّع العلاقات في تطوُّراتها عبر إدارات مختلفة على الجانبيْن، ليتناولَ التحليلُ التطوُّراتِ على المستويات الثلاثة: المحلي، والإقليمي، والدولي سواءً بالنسبة للاستراتيجيَّات والتحرُّكات الأمريكية أو الفنزويلية عبر مسيرة العلاقات في الفصلين الأول والثاني. واستخدم الباحث فيهما أيضًا المنهج المؤسَّسي في إطار “منهج النظم”؛ فكلا النظامين (الأمريكي والفنزويلي) يعمل في إطار بيئة داخلية؛ وإقليمية ودولية. كما أن تشافيز كان محور الدراسة نظرًا لأن عملية صنع القرار في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في فنزويلا، تتمُّ من خلال رئيس الدولة؛ خاصةً بعد تعديلات تشافيز الدستورية التي أطْلقت يدَه في إدارة العلاقات الخارجية للدولة، ثم كان “المنهج المقارن” الذي أفادَ في إجراء مقارنات بين مراحل معيَّنة، وإداراتٍ مختلفة، وقراراتٍ متناظرة، أو رؤساء مختلفين بالنسبة للبلدين، وقد أجْرت الدراسةُ في فصلها الرابع مقارنات بين دور الرؤساء في هذه العلاقات وفي طبيعتها في فترة حكم تشافيز والتي تزامنت مع رئاسة كلينتون وبوش الابن، ثم أوباما ثم مقارنة حكم تشافيز بحكم مادورو.

ثالثًا- المضامين العملية للقضية محل الدراسة

قدَّمت الدراسة عددًا من المضامين العملية والنتائج والمستخلصات في قراءة وتقييم العلاقات السياسية بين البلدين، وتداعيات سياسات واشنطن العدائية مع كاراكاس على العلاقة بينهما وبين باقي دول القارة، ويمكن إجمالها فيما يلي:

أ) سياقات العلاقات السياسية بين واشنطن وكاراكاس: تناولت الدراسة عددًا من السياقات المهمَّة في العلاقات السياسية بين البلدين، منها تاريخ علاقات الولايات المتحدة بأمريكا اللاتينية منذ إقرار مبدأ مونرو، وبدأت بتناول التعريف بأمريكا اللاتينية والسِّمات المشتركة لدولها، والتي منها فشل السياسات النيوليبرالية في تحقيق التنمية، وأنها مخزون استراتيجي للطاقة، والاعتماد المتبادل بين دولها، والتنوُّع الإثني والعرقي بالقارة، والأقل تعرُّضًا للنزاعات الدولية، وجهود التوحُّد الإقليمية، والخضوع للهيمنة الأمريكية لفترة طويلة، وتحدِّي بعض دول القارة لواشنطن، وتأثير قوة واشنطن في علاقتها بالقارة؛ باعتبارها قوة عظمي مهيمنة وعلاقتها غير المتكافئة مع دول القارة. ثم تناول العلاقات الأمريكية بالقارة مع التركيز على علاقة الولايات المتحدة بالنُّظم الثورية في القارة، ومحاولتها استرجاع الهيمنة الأمريكية على القارة، والتوجُّس الأمريكي من النظم الوطنية الثورية خوفًا على مصالحها وهيمنتها، وتنوُّع مواقفها منها بحسب موالاة أو معاداة تلك النظم لها، بالإضافة لظاهرة الانقلابات والدور الأمريكي فيها، وتأثير المعونات الاقتصادية والعسكرية في الهيمنة على دول القارة من خلال جيوشها. ثم تناولت تنوُّع أشكال مقاومة النظم الثورية لهيمنة واشنطن بين المقاومة العنيفة، والاقتصادية، والتعاون مع منافسين دوليِّين لواشنطن. ثم تناولت تاريخ العلاقات الأمريكية الفنزويلية، وعلاقات البلدين قبل مجيء تشافيز، والتي كان يسودُها التعاون مع رؤساء البلديْن والتبعيَّة للقرار الأمريكي، ثم سياقات تدهور العلاقات بينهما عقب وصول تشافيز للسلطة ثم سياقات وتداعيات محاولة الانقلاب عليه.

ب) محددات العلاقات بين البلدين: هناك عدد من المحدِّدات كان لها تأثير على كلا البلديْن وعلى العلاقات بينهما، منها محددات: في الجانب الأمريكي؛ تتمثَّل في قصور الإدراك الأمريكي لتطوُّرات السياسة الداخلية الفنزويلية وبعض دول القارة، حيث وصل إلى السلطة في هذه الدول حكَّام يساريُّون مناهضون للنيوليبرالية، ولم يكونوا يمثِّلون مجرَّد ديماجوجيَّة سياسية مؤقَّتة، بل مثَّلوا اتجاهًا جادًّا ضدَّ هيمنتها، بالإضافة إلى تراجع القوة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية.

أمَّا محددات الجانب الفنزويلي؛ فتتمثَّل في تنامِي الهُوية الاشتراكية الوطنية مع حكم تشافيز، ثم الدور الإقليمي لفنزويلا؛ فعلى الرغم من قدرات واشنطن الهائلة فإن سياسات الدولة الصغيرة “فنزويلا” قيَّدت ورسمت وحدَّدت وأفْشلت سياسة واشنطن في القارة كلها في أمدٍ قصير، بالإضافة لنجاح وطنيِّين آخرين مناهضين لسياسات واشنطن في الوصول للحكم في عديد من دول القارة، واستغلال تشافيز الانقلاب على مانويل زيلايا رئيس هندوراس 2009؛ لحشْد الموقف الإقليمي الرافض لهيمنة واشنطن.

وكذلك تحرُّكات تشافيز الخارجية؛ التي تُعتبر من أهمِّ المحددات التي أثَّرت في علاقات البلدين؛ فقد أدَّت إلى مزيدٍ من التباعد بينهما وربما إلى التآمر ضدَّ شافيز؛ كما أدَّت هذه التحرُّكات إلى سَدِّ خطِّ الرجْعة بالنسبة لفنزويلا، مثل: رفضه الحرب والعدوان الأمريكي على العراق، ورفض السياسات النيوليبرالية ودعوته إلى مناهضتها داخل القارة، وسياساته المعادية للكيان الصهيوني وقطعه العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين؛ ممَّا جَلَبَ عداء اللوبي الصهيوني في واشنطن ضدَّ نظامه.

أمَّا المحددات الدولية، حيث تأثرت العلاقات بين البلدين بعدد من الظروف والمحددات الدولية، منها: حروب واشنطن الخارجية في أفغانستان والعراق، والتي استخدمها تشافيز كدليلٍ بحقيقة الموقف الأمريكي الاستعماري، ومنها ازدياد حركة التجارة بين الدول اللاتينية مع دول آسيا، خاصة مع الصين، ممَّا أضْعف نُفوذ واشنطن الاقتصادي، ومنها أيضًا التغيُّرات في النظام العالمي التي سمحتْ للصين باستغلال قوَّتها الناعمة للتواجُد في أمريكا اللاتينية، وانفتاح فنزويلا على العالم الخارجي خاصة مع دول ليست على وفاق مع واشنطن مثل الصين وروسيا وإيران.

ج) قضايا العلاقات البينيَّة: تدور القضايا التي حدَّدت العلاقات بين واشنطن وكاراكاس حول مفهومي المصلحة والقوة، وامتدَّت هذه القضايا عبر إدارات مختلفة، وهذه القضايا تؤثِّر في علاقة البلديْن وتتعلَّق بالسياستيْن الداخلية والخارجية للبلديْن، وهي قضايا اقتصادية، وسياسية، وعسكرية وأمنية: أولها- القضايا الاقتصادية المتنوِّعة التي كانت دافعًا نحو التصالح أو التنافر بينهما، كارتباط الشركات الأمريكية بالطبقة الغنية في فنزويلا والذي خلق نُخَبًا مواليةً تعتمد عليها واشنطن في تمرير برامجها الاقتصادية والسياسية، لذا خَشِيَتْ واشنطن من تأثير تشافيز وسياساته على هذه الشركات وفقدان الطبقة الموالية لنُفوذها السياسي، وقد صَبَّ تشافيز جام غضبه على هذه الشركات وعلى النخب المرتبطة بها بعد انقلاب أبريل 2002؛ إذ حمَّلها مسؤولية ما حدث بالتواطؤ مع واشنطن. ثم تأتي قضية “الشراكة التجارية”؛ حيث تعتبر فنزويلا الشريك التجاري الأكبر في القارة بالنسبة لواشنطن، ورغم ذلك تضافرتْ عدَّة عوامل جعلت من فنزويلا نقطة تحدٍّ للشركات الأمريكية، منها: التوتُّرات السياسية والاعتبارات الأيديولوجية، وتدخُّلات الدولة في الاقتصاد وقيودها الصارمة على نظام العمالة، والعقوبات الأمريكية على شركات فنزويلية مملوكة للدولة؛ ممَّا أجْبر كثيرًا من الشركات الأمريكية على تخفيض أو إيقاف نشاطها في فنزويلا. وكان الموقف من “النيوليبرالية” أحد عوامل الشدِّ والجذب بين البلدين، فقد كانت سياساتها في فنزويلا أكثر تحيُّزًا ضدَّ الفقراء وأضْعفت الاقتصاد القومي وأحدثت أزمات اقتصادية متعاقبة. ثم قضية “المساعدات الاقتصادية” التي راجعتْها واشنطن منذ 2005 بدعوى أن فنزويلا لم تتعاون معها في مكافحة المخدِّرات والإرهاب، كما أن فنزويلا كانت تحاول تقييد تلقِّي هذه المساعدات عبر صندوق خاص تشرف عليه الحكومة.

ثانيها– القضايا العسكرية والأمنية والثقافية والتي تشْمل: البعثات العسكرية والمعونة العسكرية الأمريكية، وقد لعبت دورًا مهمًّا في التأثير على علاقاتهما، حيث ترى فنزويلا أن المعونات أداة لإحداث انقلابات عسكرية بالسيطرة الناعمة على الجيوش لحماية مصالحها، فقد استخدمتْها أنظمةٌ كثيرةٌ في القارة لدعم مركزها في الحكم بالقوَّات المسلَّحة، وهو ما كان يدْركه تشافيز فعارضَها.

ثالثها- القضايا السياسية؛ حيث تدور القضايا بين البلدين على محاور سياسية تقريبًا، وتتمايز إلى قضايا السياسة الداخلية والمسائل الأيديولوجية كقضية “الهيمنة الأمريكية”؛ ففي بداية حكم المحافظين الجدد المتزامن مع وصول تشافيز للسلطة، كانت واشنطن تريد بَسْطَ هيمنتِها على العالم، لكن تشافيز والقادة الثوريِّين، كانوا يروْن أن الهيمنة الأمريكية يجب مقاومتها وعدم الاستسلام لها، فَسَعَتْ واشنطن لتوطيد هيمنتها على فنزويلا بكلِّ الوسائل الممكنة والمتاحة، ونظرًا لوجود مؤيِّدين لتشافيز في المنطقة؛ انزعجتْ واشنطن من هذا الموقف الفنزويلي المفاجئ الذي ألْحق ضررًا بالمصالح الأمريكية. ثم قضية “الهوية الوطنية”؛ حيث حدَّدت الهوية الوطنية الاشتراكية البوليفارية السلوك الفنزويلي في سياستها الداخلية والخارجية بتمسُّكها بالقيم الاشتراكية فيها. ثم “الموقف من الديمقراطية وحقوق الإنسان” حيث دَأَبَتْ واشنطن على انتقاد حكومة تشافيز ومن بعده مادورو، كثيرًا بحجَّة أنهما لم يطبِّقا الديمقراطية وأنهما انتهكا حقوق الإنسان. وقد تربَّصت واشنطن بكلِّ تصرُّف اتَّخذه تشافيز مع المعارضة ورأتْ فيه اعتداءً على الديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصة عندما حاول تشافيز زيادة سلطاته. ثم قضية “تهريب المخدرات”؛ وكان تشافيز قد أنهى التعاون مع إدارة مكافحة المخدِّرات الأمريكية عام ٢٠٠٥ وسط اتهامات بأن عملاءها يتخابرون وينتهكون السيادة الفنزويلية، وما زالت واشنطن تتَّهم بعض قيادة فنزويلا (مادورو) بنفس التُّهم القديمة التي وَجَّهَتْهَا إلى تشافيز بأنهم حوَّلوا بلدهم إلى ممرٍّ لتهريب الكوكايين وغسيل الأموال. ثم قضية “التأميم والتوجُّه الاشتراكي” حيث كانت سلسلة التأميمات التي قام بها تشافيز محلَّ اعتراض من واشنطن، وتسبَّبت في النهاية في إضعاف الاقتصاد الفنزويلي إلى حَدٍّ كبير، وبدأ تشافيز في أبريل 2008 حملة تأميم في مجال التجارة والصناعات الثقيلة والزراعة والتمويل والنفط والاتصالات والطاقة الكهربائية، ليحكم تشافيز بها قبضته على الاقتصاد في مواجهة خصومه، إلَّا أن ذلك ألحق أضرارًا بالجانبيْن من حيث الإضرار بالاقتصاد القومي الفنزويلي بسبب الفساد وعقوبات واشنطن، وتهديد المصالح الأمريكية من وارداتها من النفط. ثم قضية “التحيز الإعلامي الأمريكي” حيث يتسلَّط الإعلام الأمريكي على فنزويلا ويتناولها بالنقد والتقريع ممَّا يخلق رأيًا عامًّا أمريكيًّا منحازًا ضدَّها وضدَّ كلِّ القادة الثوريِّين في القارة.

د) اتجاهات العلاقات بين البلديْن: أمَّا عن اتجاهات العلاقات الأمريكية الفنزويلية، فقد ركَّزت الدراسة على التحديات التي تواجهها واشنطن في القارة، واتِّباع واشنطن في تعاملها مع فنزويلا سياسات واستراتيجيات؛ أدَّت إلى فشل الجهود الأمريكية في الهيمنة على القارة، والفشل في بناء علاقات طيِّبة مع القارة وفنزويلا وتنامِي رفض بالقارة لتحرُّكات واشنطن، وتفوُّق أيديولوجية تشافيز، وعجز واشنطن عن احتواء تداعياتها حتى الآن، واستمرارها في سياسات العسكرة والتهديد والفشل في إضعاف تأثير نموذج تشافيز على القارة، ورغم ذلك استمرَّ التعاون بين الجانبين ومارسا قدرًا من البرجماتية في تدفُّق العلاقات بينهما في بعض الملفَّات رغم الاتهامات المتبادلة في ملف الطاقة والتجارة الدولية.

هـ) مستقبل العلاقات بين البلدين: على الرغم من أن الدراسة أكَّدت أن كلا الجانبيْن يحتاج كلٌّ منهما الآخر، إلَّا أن ما قدَّمته من مؤشِّرات حول مستقبل العلاقات بينهما يوحِي باستمرار حالة الترصُّد والترقُّب للتحوُّلات المحتمَلة في النظام الفنزويلي من قبل واشنطن، مع استمرار سياسات واشنطن ونخبها الحاكمة التي تدفع نحو مزيدٍ من العقوبات ورفض التطبيع مع نظام مادورو، أملا في أن يدفع الواقع الاقتصادي المتردِّي نحو تغيير نظام الحكم في فنزويلا، مما قد يدفع نظام مادورو إلى الارتماء في أحضان الاشتراكية الراديكالية على الرغم من تفضيل نظام مادورو العمل مع النظم الاشتراكية الديموقراطية، وحتي مع النظم المحافظة.

خاتمة:

تقدِّم التجربة الفنزويلية -في علاقاتها السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تحظى بنفوذٍ كبيرٍ وتدخُّلات واسعة في دول أمريكا اللاتينية، في ظلِّ تحوُّلات العلاقات بينهما من التعاون للصراع، ومن التبعيَّة للبحث عن الاستقلال- عددًا من النتائج المهمَّة والدروس المستفادة للعالمين العربي والإسلامي، خاصة في التعامل مع الدولة العظمى المهيمنة على النظام الدولي وعلى منطقتنا، وكيفية إدارة العلاقات معها في ظلِّ ما لديها من قوةٍ ونفوذ، وكيفية الموازنة بين استقلالية القرار والتعاون مع الدول الكبرى.

ويمكن استخلاص الدروس المستفادة من دارسة العلاقات السياسية الأمريكية الفنزويلية في النقاط التالية:

أن التكاتُف الإقليمي والإجماع العربي والإسلامي يمكن أن يتصدَّى لمشاريع الهيمنة التي تستهدف العالميْن، كما أن المنظمات الإقليمية يمكن أن تشكِّل عنصرًا فعَّالًا في ذلك، وأن الالتصاق بتطلُّعات الشعوب والتمركُز حول قضاياها؛ يمنح قادةَ الدول قوةً في الداخل تنعكس على مواقفهم وسياساتهم في الخارج، وذلك أحد الملامح الجليَّة في تجربة تشافيز والشعب الفنزويلي، وأهمية الموازنة بين التمسُّك بالاستقلال ومجابهة هيمنة الدول الكبرى وتحقيق التنمية الاستراتيجية دون إرهاق الشعوب بتكاليف الصراعات مع الخارج، فيوثِّر ذلك على مواقف الشعوب من قضايا الاستقلال والتوجُّهات الاقتصادية، كما حدث في أواخر عهد تشافيز وامتدَّ لخلفِه مادورو، وهو ما يمكن مقارنتُه بتجارب عربية وإسلامية شبيهة، كتجارب الاشتراكية العربية المناهضة للهيمنة الغربية التي أنتجتْ حالةً من فشل التنمية وتراجُع مؤشِّرات استقلال السيادة الوطنية.

كما أكَّدت تجربة “فنزويلا-تشافيز” أهمية المؤسسية في صنع القرار الاستراتيجي (الداخلي والخارجي)، فبالرغم من تأكيد شافيز وخلفه مادورو على الالتزام بالنهوض بالأهداف الدولية الرئيسية لفنزويلا وتوطيد دورها الجيوسياسي الإقليمي والدولي؛ فإنها لم تنجح في الجمع بين هذه الطموحات الجيوسياسية وتعميق وتقوية الثورة البوليفارية؛ نظرًا لميل تشافيز إلى مركزيَّة صُنْعِ القرار وبلا منازع في السلطة التنفيذية؛ ممَّا قَوَّضَ استدامة الثورة البوليفارية وأضعف استقلالية الحركات الاجتماعية؛ فتباطأ ظهور القيادة الجماعية والتطوير التنظيمي للحزب، وتأثير هذا الضعف المؤسسي والتنظيمي ظهر مع شخصية أقل كاريزمية كمادورو.

وأظهرت هذه التجربة أيضًا أهمية التوازن والتوازي في حلِّ الأزمات الداخلية وتحقيق الاستقلال الوطني بين العوامل المحلية والدولية، فعملية الإصلاح والسياسات المواجهة لأزمات الداخل؛ أصبح أحد محركاتها العامل الخارجي في ظلِّ التداخُل بين الخارجي والداخلي في الواقع السياسي المعاصر، فعلى الرغم من أن الثورة البوليفارية لتشافيز كانت موجَّهة في الغالب نحو إصلاح الشأن الداخلي، فإنها صارتْ مجبرةً على التصدِّي للعوامل الخارجية بهدف الدفاع عن الثورة في فنزويلا، وتعزيز دورٍ قياديٍّ سياديٍّ ومستقلٍّ لها في أمريكا اللاتينية، ومعارضة العولمة والسياسات النيوليبرالية، والعمل من أجل ظهور عالم متعدِّد الأقطاب يتم فيه كبح الهيمنة الأمريكية.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

______________________

الهوامش

[1] محمد شاكر حسين، العلاقات السياسية الأمريكية الفنزويلية: دراسة للفترة 1997-2015، رسالة ماجيستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، القاهرة، 2016.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى