المجتمع وأزمات التعليم والصحة عبر ستين عامًا

مقدمة:

في كتابه بعنوان “في أعقاب الثورة المصرية ثورة 1919″[1] الصادر عام 1948؛ أي قبل 23 يوليو 1952 بنحو 4 أعوام فقط، وقبل نحو 8 عقود من الآن؛ تناول المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي الحالة الاجتماعية في مصر خاصة ما يتعلق منها بالتعليم والصحة؛ مشيرًا لأسباب تدهورهما، وإلى القضايا الرئيسية التي تمثل محور النهضة التعليمية والصحية في مصر خلال السنوات اللاحقة، فضلا عن الوقوف على الفاعلين الرئيسيين الذين يقع على عاتقهم عبء تحقيق هذه النهضة.

ومن الضروري الإشارة بشكل موجز لما انتهى إليه الرافعي باعتباره تمهيدًا لتناول سياسات التعليم والصحة في مصر خلال فترة العقود الستة اللاحقة؛ للنظر في الكيفية التي تعامل بها النظام الجديد باختلاف أوجهه مع بعض القضايا ذات الصلة.

بداية؛ اعتبر الرافعي أن الاحتلال الانجليزي قد اعتمد لبسط سيطرته على المقدرات المصرية على نشر الجهل والأمية والأمراض من خلال حرمان المصريين -لاسيما طبقة العمال والفلاحين- من التعليم والتثقيف والتربية الأخلاقية والدينية، فضلا عن الحرمان من الرعاية الصحية المناسبة. ويشترك في المسئولية عن تردي أوضاع التعليم والصحة الحكومات الأهلية المصرية المتعاقبة على الحكم في ظل الاحتلال.

وإدراكًا لهذه الحقيقة كانت النهضة التعليمية والصحية محور اهتمام الحركة الوطنية الساعية إلى الاستقلال فأولت اهتمامًا واسعًا لنشر التعليم وتطوير الأفكار وتوسيع المدارك والعناية بالحالة الصحية للمصريين.

وفي رسمه لملامح النهضة الاجتماعية المنشودة في قطاع التعليم رصد الرافعي مجموعة من القضايا التي ينبغي العمل في إطارها وهي: تعميم التعليم الابتدائي وجعله إجباريًا ومجانيًا لكل المصريين، والعناية بالتعليم بكافة درجاته، و”العناية بالتربية الوطنية والخلقية والدينية والرياضية” وأن يكون الغرض منها تكوين “جيل قوي محصن بالعلم والأخلاق”، والعناية بعلوم الهندسة والزراعة والصناعة والتجارة والمهن؛ لتمكين الخريجين من الاضطلاع بمشروعات الإصلاح المنشودة.

وأشار الرافعي لأهمية ضمان استقلال الجامعات، وتوفير الأساتذة الأكفاء وتوفير الضمانات اللازمة لانشغالهم بعملية التعليم وعدم الانغماس في الوظائف المدنية في الوزارات الأخرى.

وعلى المستوى الصحي أشار الرافعي لمجموعة من القضايا أبرزها الاهتمام بالمستوى الوقائي من خلال المساكن الصحية وتوصيل المياه الصالحة للشرب لكافة المناطق، والإكثار من المستشفيات وزيادة عدد الأطباء، والتوزيع العادل للمستشفيات على السكان “بحيث لا يقل عددها عن مستشفى كبير لكل مركز من مراكز القطر وكل بندر من بنادره وكل قسم من أقسام العواصم، ومستشفى قروي لكل خمس قرى على الأكثر، عدا المستشفيات المخصصة لعلاج أمراض معينة والمستوصفات” والتوزيع العادل والإلزامي للأطباء على السكان، والتوسع في إنشاء كليات الطب ومعاهد الأبحاث الطبية والتمريض والمعامل، وتوفير الأجهزة اللازمة للعلاج بكافة المديريات والمحافظات، ورعاية الطفولة والأمومة بتعاون الحكومة والأفراد والجمعيات، والعناية بالتربية الرياضية[2].

واستفادةً من القضايا الرئيسية التي أشار إليها الرافعي ضمن هذا الاقتباس الموجز؛ تحاول الورقة إلقاء نظرة سريعة على بعض القضايا المتعلقة بالتعليم والصحة لدراسة كيفية تعامل نظام ما بعد 23 يوليو 1952 مع مسألة النهضة التعليمية والصحية، على أن يكون الخط العام للورقة المقارنة بين الوضع الذي آل إليه حال هذين القطاعين بين عامي 1952 و2010، مع الإشارة للمحطات الرئيسية ضمن هذه التحولات كلمًا كان ذلك ضروريًا ومتاحًا على نحو يوضح التحولات التي تمت في العهود الثلاثة الممتدة بين 1952 و2010. وعلى هذا تنقسم الورقة لمحورين رئيسيين أولهما عن التعليم وثانيهما عن الصحة؛ لتنتهي بخاتمة حول أبرز النتائج التي كشفت عنها هذه الدراسة الموجزة.

أولًا- سياسات التعليم: ادعاءات المجانية ومحاولات الانسحاب الحكومي

كان الاهتمام بالتعليم جزءًا من مشروعات بناء الدولة منذ عهد محمد علي من خلال بناء المدارس والمعاهد والكليات وإرسال البعثات إلى الخارج لنقل العلوم والخبرات تزامنًا مع مشروعات نهضوية قامت على حفز الزراعة والصناعة سواء المدنية أو الحربية، كما شغل التعليم حيزًا من مساعي التحرر الوطني والاستقلال عن الاحتلال الإنجليزي لمصر قبل 1952.

لذا أولت السلطات الرسمية خاصة خلال أوقات الاهتمام بالنهضة العسكرية والاقتصادية (كما في عهد محمد علي والخديوي إسماعيل) اهتمامًا كبيرًا بالتعليم اختلفت درجته من حاكم إلى آخر، حسب طموحاته واستقلاليته. ولا ينفي ذلك العديد من السلبيات التي طبعت الجهود الرسمية المتعلقة بالنهضة التعليمية ومنها محاولات التغريب عبر سلخ المجتمع عن هويته الإسلامية سواء من خلال إيجاد نوع من التعليم المنفصل عن التعليم الديني الذي كان ذائعًا قبل تولي الأسرة العلوية حكم مصر وبدايات عهدها، أو عن طريق عدم الاهتمام بتطوير التعليم الديني ومحاولات السيطرة على التعليم الأزهري بمختلف مؤسساته كجزء من تعميق استبداد السلطة[3].

بالتزامن مع الاهتمام الرسمي (المتقطع) بالتعليم فقد أبدى المجتمع الأهلي حرصًا مشابهًا؛ خاصة في الأوقات التي كانت تتخلف فيها الجهود الرسمية لاسيما في ظل الاحتلال؛ للنهوض بالتعليم والفكر والثقافة؛ باعتبار التعليم أداة التحرر الوطني وقاطرة الترقي الاجتماعي والطبقي فضلا عن تحصيل النفوذ في دوائر الحكم. ولعل أبرز الإنجازات التي يمكن الإشارة إليها في هذا الصدد مشروع الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن) والتي نشأت كمؤسسة أهلية عام 1908 ثم تحولت لاحقًا لجامعة حكومية[4].

ويلخص د.حسان عبد الله أستاذ أصول التربية حالة التعليم في مصر خلال الفترة السابقة على 1952 بأن الاحتلال ركَّز على نشر التعليم الحديث وإهمال التعليم الديني وربط التعليم بالوظيفة من خلال تخريج موظفين للعمل لدى الحكومة؛ انتهاءً بالازدواجية التعليمية والثقافية عبر إرساء العلمانية واللغة الإنجليزية وإبعاد الإسلام واللغة العربية عن العملية التعليمية، فضلا عن إضعاف الشعور الوطني بإهمال دراسة التاريخ؛ معتمدًا في ذلك على نشاط الإرساليات والمدارس الأجنبية وفي مقدمتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى جانب تحجيم دور مؤسسة الأزهر التي حاولت التشبه بمؤسسات التعليم الحديث ما أدى لتقليص دورها الحضاري. ومن أهم القواعد التي أرساها الاحتلال لإدارة العملية التعليمية: التمييز الطبقي في فرص الحصول على التعليم من خلال إلغاء مجانية التعليم وإهمال الريف وقصر الالتحاق بالجامعة على طبقات معينة.

غير أن الحكومات التي وصلت للسلطة بعد 1923 أدخلت عدة تعديلات انتهت بضمان مجانية كافة أنواع التعليم دون الجامعي (حتى الثانوية) ما ترتب عليه زيادة في أعداد الطلاب الملتحقين وتوسعًا في إنشاء المدارس[5]، فماذا أنجز نظام ما بعد 1952 في ملف التعليم على صعيد إتاحته لعامة الشعب؟ وكيف حاولت بعض الحكومات التهرب من التزامها الدستوري بمجانية التعليم؟

يمكن الإجابة عن هذا التساؤل من خلال العناصر التالية:

أ‌) مد مظلة التعليم المجاني للجامعات بعد 10 سنوات (1952-1971):

كما سبقت الإشارة عمل الاحتلال الانجليزي على تقليص فرص الالتحاق بالتعليم إيمانًا بأنه وسيلة لتقديم جيل لديه وعي بحقوقه، وتخوفًا من إفراز قيادات متعلمة يلتف حولها الشعب للمطالبة بحقوقه كما حدث إبان ثورة 1919.

ومن ثم فقد وُلد نظام يوليو 1952 في مناخ اتسم بتخلف العملية التعليمية التي كانت تواجهها في ذلك الوقت العديد من التحديات لعل أبرزها عدم المساواة طبقيًا في فرص التعليم؛ باستثناء ما أحدثته تحولات ما قبل الثورة من ضمان مجانية التعليم حتى المرحلة الثانوية، ليظل التعليم الجامعي محرمًا على غير القادرين ماليًا.

ورغم أن هذا النظام رفع شعارات المساواة والعدالة وغيرها في مقدمة أولوياته الاجتماعية؛ فإنه لم يقر مجانية التعليم الجامعي إلا بعد مرور 10 سنوات من قيام الثورة؛ أي عام 1962؛ لذا جاء دستور 1956 الذي وُضع بعد الثورة بنحو أربعة أعوام خاليًا من الإشارة لمجانية التعليم الجامعي. ونصت المادة 49 من هذا الدستور على أن “التعليم حق للمصريين جميعًا تكفله الدولة بإنشاء مختلف أنواع المدارس والمؤسسات الثقافية والتربوية والتوسع فيها تدريجيًا. وتهتم الدولة خاصة بنمو الشباب المدني والعقلي والخلقي” وجاء في المادة 50 “تشرف الدولة على التعليم العام، وينظم القانون شئونه. وهو في مراحله المختلفة بمدارس الدولة بالمجان في الحدود التي ينظمها القانون”، كما نصت المادة 51 على أن “التعليم في مرحلته الأولى إجباري وبالمجان في مدارس الدولة”[6].

وتم تدارك هذا الخلل عام 1962 بموجب قانون نص على مجانية التعليم الجامعي ليتم النص عليها لاحقًا في دستور 1964 والذي جاء في مادته 38 أن “التعليم حق للمصريين جميعًا، تكفله الدولة بإنشاء مختلف أنواع المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والتربوية والتوسع فيها” وأضافت المادة 39 “تشرف الدولة علي التعليم العام، وينظم القانون شئونه، وهو في مراحله المختلفة في مدارس الدولة وجامعاتها بالمجان”[7].

وقد أسهمت مجانية التعليم الجامعي في زيادة أعداد الطلاب الملتحقين به من نحو 20 ألفًا عام 1952 إلى 87 ألفًا عام 1960/ 1961، لتقفز إلى 152 ألفًا عام 1963/ 1964.

واستمر ضمان المجانية في كافة مراحل التعليم العام بموجب دستور 1971 الذي ظل حاكمًا الحياة السياسية في مصر حتى ثورة 2011 وقد نص على 4 مواد تتعلق بحق المواطنين في التعليم. جاء في المادة 18 أن “التعليم حق تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية، وتعمل الدولة على مد الإلزام إلى مراحل أخرى. وتشرف على التعليم كله، وتكفل استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي، وذلك كله بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والإنتاج”. ونصت المادة 19 أن “التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام”. وجاء في المادة 20 أن “التعليم في مؤسسات الدولة التعليمية مجاني في مراحله المختلفة”. وأضافت المادة 21 أن “محو الأمية واجب وطني تجند كل طاقات الشعب من أجل تحقيقه”[8]. ويرتبط ذلك بالتطورات في إنشاء البنية التحتية للعملية التعليمية خلال السنوات الأولى من عمر ثورة 1952، وهو ما يشير إليه التقرير في العنصر التالي.

ب‌) ثورة 1952 وتوسعات البنية التحتية:

في كتابه “ثورة 23 يولية سنة 1952: تاريخنا القومي في سبع سنوات 1952- 1959” أشار المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي إلى ما أنجزته ثورة 1952 في مجال التعليم فيقول “تقدم التعليم في عهد الثورة تقدمًا عظيمًا”. وأجرى الرافعي مقارنة موجزة بين أوضاع التعليم عام 1951 وأوضاعه بعد 5 أعوام من الثورة؛ فقد شهد العام السابق عليها بناء 3 مدارس جديدة فقط مقابل 1235 مدرسة خلال 5 أعوام بعد الثورة؛ أي بمعدل 248 مدرسة سنويًا.

وتشير الإحصاءات إلى أن العدد الإجمالي للمدارس قفز في مصر من نحو 5 آلاف مدرسة عام 1952 إلى نحو 18 الف مدرسة بحلول عام 1970؛ أي مع قرب نهاية عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وهو ما توازى معه زيادة عدد المدرسين إلى 250 ألف مدرس مقابل 40 ألف قبل الثورة، وارتفع عدد الطلاب إلى 5.5 مليون طالب مقابل نحو 850 ألف. ومع ذلك اتسمت هذه الفترة بارتفاع نسبة التسرب من التعليم في مختلف المناطق؛ لكنها كانت في الريف أعلى من المدن وبين الإناث أكثر من الذكور[9].

وتدعيمًا لتلك التحولات تبنى نظام ما بعد 23 يوليو سياسة تحويل جزء من القصور التي تمت مصادرتها من الأجانب وكبار الملاك وأفراد الأسرة الحاكمة إلى أبنية تعليمية، وقد بلغ عدد المدارس التي أُنشئت بهذا النظام نحو 3 آلاف مدرسة[10].

وأشار عبد الرحمن الرافعي إلى أن النهضة التعليمية لم تقتصر على التوسعات في إنشاء المدارس فقد أنشأت الدولة أيضًا المجالس المتخصصة كالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والمجلس الأعلى للعلوم والمجلس الأعلى لرعاية الشباب المختص بنشر الوعي بين الشباب عام 1956؛ فضلا عن تأسيس لجنة الطاقة الذرية للأغراض السلمية إلى جانب المركز القومي للبحوث. إلى جانب ذلك سعت مصر بعد الثورة لنشر تلك الرؤية التعليمية والتثقيفية بالدول الأفريقية والآسيوية ليصل عدد المدرسين المصريين بهذه الدول إلى 3 آلاف بحلول عام 1959 مقابل 458 مدرسًا فقط عام 1951؛ فضلا عن إنشاء المراكز الثقافية والمدارس بالعديد من الدول[11].

يضاف إلى ذلك الاهتمام بالتعليم الفني عبر إنشاء مدارس إعدادية فنية زراعية وصناعية وتجارية إلى جانب المدارس العامة، هذا مع الاهتمام بنوعية التعليم من خلال فرض مادة التربية العسكرية والقومية بالمدارس الثانوية وما في مستواها. وعلى صعيد التعليم الجامعي، كان إنشاء جامعة أسيوط عام 1957 وكلية البنات بجامعة عين شمس. كما توسعت جامعة القاهرة بفرع لها في الخرطوم[12].

وبالتوازي مع ذلك عزز النظام الجديد مخصصات التعليم ضمن الموازنة العامة لترتفع من 29 مليون جنيه خلال العام 1952/ 1953 بما يعادل 13.9% من مصروفات الموازنة العامة للدولة إلى 45 مليون جنيه سنة 1957، ثم إلى 71.1 مليون جنيه خلال العام 1960/ 1961 بما يعادل 19.2% من المصروفات العامة[13].

وبشكل مجمل ارتفع عدد العاملين في قطاع التعليم بمصر سواء المدرسين أو الإداريين إلى 1.9 مليون بحلول عام 2008 مقابل 45 ألفًا عام 1952، وارتفع عدد المدارس الحكومية إلى نحو 35 ألف مدرسة نهاية 2006، فيما وصل عدد الجامعات الحكومية إلى 16 مقابل 3 فقط عام 1952[14].

ج) التقشف الحكومي في نفقات التعليم والتلاعب بمبدأ المجانية (1967-1992):

وتمتد هذه المرحلة من بعد هزيمة 5 يونيو 1967 بعد تحول الاهتمام المصري نحو التجهيزات الحربية على حساب القطاعات الخدمية، لتستمر في ظل حكم السادات الذي تبنى سياسات الانفتاح والسوق الحر وهو ما تمت ترجمته في انسحاب حكومي من القطاعات الخدمية، وهو الأمر الذي استمرت وتيرته خلال العقد الأول من حكم مبارك.

يشير د.عبد الخالق فاروق إلى أن الفترة الممتدة بين 1967 وبداية التسعينيات؛ قد شهدت انخفاض مخصصات التعليم في الموازنة العامة للدولة ما أدى إلى تدهور البنية الأساسية المتعلقة بالمباني والتجهيزات والمعامل وغيرها، وارتفاع كثافة الفصل داخل المدارس الحكومية، وزيادة اعتماد المصريين على الدروس الخصوصية[15].

توازى ذلك مع محاولات حكومية للتهرب من مبدأ مجانية التعليم والذي نصت عليه الدساتير المصرية من خلال عدة إجراءات أبرزها: التوسع في المدارس التجريبية منذ 1979 وهي بمصروفات عالية مقارنة بالمدارس الحكومية (عربي) ولا يمكن دخولها لكافة الطلاب حتى لو كانت تتوافر فيهم الشروط؛ فضلا عن إجبار الطلاب وأولياء أمورهم على دفع تبرعات بشكل عيني أو نقدي للحصول على خدمات مثل النقل من مدرسة إلى أخرى وغيره[16].

وعلى المستوى الجامعي؛ توسعت الجامعات الحكومية وكلياتها في تدريس المقررات باللغات الأجنبية مقابل مصروفات عالية؛ بشكل يعيد إلى الأذهان النظام التعليمي الجامعي في عهد الاحتلال وكذلك خلال السنوات العشر الأولى من عمر ثورة 1952 ومن بين هذه الكليات (الاقتصاد والعلوم السياسية، والتجارة، والحقوق وغيرها). وقد عمقت هذه الظاهرة ما يعرف بازدواجية النظام التعليمي المصري[17].

جاءت هذه الإجراءات في إطار العديد من الشعارات التي رُفعت خلال عهد السادات واستمرت مع مبارك لتقليص نطاق مجانية التعليم وأبرزها مقولات “المجانية المسئولة” و”ترشيد المجانية”، وهو ما توازى مع رفع الحد الأدنى للقبول فيما يُسمى كليات القمة لتقليص فرص اللحاق بها ليبحث الراغبون في ذلك والذين لم يحققوا رغبتهم عن فرص بمصروفات باهظة في القطاع الخاص، وذلك بالتزامن مع هجوم مسئولي كليات القمة مثل الطب على سياسة مجانية وسهولة القبول في هذه الكليات مطالبين بتقليص العدد.

ولاقت هذه السياسة غطاءً تشريعيًا في إطار تحول الدولة المصرية من الاشتراكية إلى السوق الحر؛ فسمح قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981 بالتوسع في إنشاء المدارس التجريبية للغات بمصروفات –السابق الإشارة إليها- ورغم تأكيد هذا القانون على مبدأ مجانية التعليم فإنه نص على جواز تحصيل مقابل خدمات إضافية تؤدى للتلاميذ كما فتح الباب لابتزاز أولياء الأمور بالنص على إمكانية “الإفادة من الجهود الذاتية للمواطنين” للحصول على التبرعات الإجبارية، ونص القانون على فرض رسوم يقدرها وزير التعليم مقابل إعادة قيد الطالب[18].

وكان من أهم تبعات إهمال التطوير نتيجة التقشف الحكومي تعرض البنية التحتية للعملية التعليمية لأضرار بالغة خاصة من زالزال 1992؛ الأمر الذي عبر عنه وزير التربية والتعليم حينها د.حسين كامل بهاء الدين بالقول إن نصف المدارس (12 ألف مدرسة تقريبًا) غير صالحة للاستخدام الإنساني[19]. وفي هذا الإطار شهدت فترة التسعينيات زيادة نسبية في الإنفاق الحكومي على التعليم ومن ثم التوسع في أعمال البناء والصيانة للمنشآت التعليمية الحكومية، لترتفع بذلك نسب الالتحاق بالمدارس ولتنخفض بنسبة قليلة معدلات الأمية، لكن لم يكن ذلك استراتيجية وإنما كان الهدف من هذه الزيادة مجرد التعامل مع تبعات زلزال 1992 على البنية التحتية للعملية التعليمية[20].

د) غزو القطاع الخاص والأجنبي للعملية التعليمية (1992- 2010):

عزز تقليص الدولة لنفقات التعليم وزيادة الرسوم على الطلاب في ظل تدني العملية التعليمية من عزوف كثير من المصريين عن التعليم الحكومي لصالح التعليم الخاص بحثًا عن فرص تعليمية أفضل تقابل المصروفات التي يدفعونها؛ حتى ولو كانت أعلى من تلك التي يتم تحصيلها في المدارس الحكومية خاصة التجريبية.

علمًا أنه في مرحلة سابقة كان دور القطاع الخاص التعليمي مكملا لدور الدولة وليس بديلا عنها تحديدًا خلال الفترة من 1952 وحتى 1974؛ فبحلول عام 1974/ 1975 كان عدد المدارس الحكومية 12.8 ألف مدرسة تضم نحو 6.7 مليون طالب بخلاف طلاب المعاهد الأزهرية؛ في حين كان عدد المدارس الخاصة نحو 678 مدرسة تضم نحو 150 ألف طالب فقط؛ بما يوازي نحو 2% من إجمالي الطلاب.

لكن الأمر تغير لاحقًا بسبب اتجاه الدولة لتخفيف العبء عن الموازنة العامة من خلال الانسحاب من بعض القطاعات الاجتماعية أو تقليص الإنفاق الحكومي عليها مثلما جرى في قطاعي التعليم والصحة ما أدى لإهمال حكومي لتطوير البنية التحتية ومن ثم زيادة كثافة الفصول، وبحث كثير من المصريين عن فرص أفضل داخل المدارس الخاصة؛ مستفيدين في ذلك من الثروات المالية التي كونوها إثر الهجرات المصرية لدول الخليج وغيرها من الدول النفطية؛ ليبدأ بذلك القطاع الخاص لعب دور البديل عن القطاع التعليمي الحكومي[21].

أدى ذلك إلى انتشار ظاهرة المدارس الخاصة ليصل عددها بحلول عام 2008 إلى نحو 1926 مدرسة خاصة لغات بها نحو 603 آلاف طالب، و2534 مدرسة خاصة عربي بها نحو 538 ألف طالب، وارتفع العدد الإجمالي لكافة المدارس الخاصة لنحو 5600 مدرسة تضم نحو 1.7 مليون طالب بحلول عام 2015، وكذلك حال الجامعات الخاصة الهادفة للربح بعد التصريح بإقامة الجامعات الخاصة والأجنبية بموجب القانون 101 لسنة 1992، ليصل عدد المعاهد العليا (بمصروفات باهظة) إلى 114 معهدًا عام 2006 فضلا عن إنشاء نحو 16 جامعة بها نحو 95 كلية تضم نحو 95 ألف طالب حتى عام 2008 وارتفع العدد إلى نحو 23 جامعة بها نحو 150 ألف طالب بحلول عام 2015 بعد أن كانت في مصر جامعة واحدة خاصة وتحديدًا أجنبية وهي الجامعة الأمريكية؛ ليتقلص دور التعليم العام لصالح التعليم الخاص[22].

علمًا أنه قد عزز من فرص الالتحاق بالجامعات الخاصة أيضًا مبدأ التوزيع الإقليمي ورفع الحد الأدنى للقبول ببعض الكليات خاصة كليات القمة. وقد كان لهذه السياسة تبعات سلبية على مستوى الخريجين خاصة في التخصصات العملية مثل الطب والهندسة والصيدلة.. إلخ[23].

وقُدرت إجمالي نفقات الأسرة المصرية لتعليم أبنائها بهذه الجامعات بنحو 1.5 مليار جنيه على الأقل سنويًا عام 2004/2005؛ بمتوسط تكلفة للطالب تصل لنحو 16 الف جنيه سنويًا، ثم ارتفعت هذه التكاليف بحلول 2015 لنحو 4 مليارات سنويًا؛ فيما بلغت التكاليف الإجمالية للالتحاق بالتعليم الخاص الجامعي وقبل الجامعي عام 2004/2005 نحو 15.6 مليار جنيه ثم ارتفعت بحلول عام 2015 لنحو 30 مليار[24].

والخلاصة فيما يتعلق بسياسات التعليم في مصر منذ 1952 حتى 2010، أن الدولة توسعت في تقديم الخدمة للمواطنين في إطار تبني نظام الحكم للاشتراكية؛ بغض النظر عن تطبيقاتها؛ واستمر هذا النهج حتى منتصف السبعينيات مع توجه النظام الحاكم لاقتصاد السوق الحر، ومن ثم تقليص النفقات على التعليم والتوسع في السماح للاستثمارات الخاصة بالدخول إلى هذا المجال، الأمر الذي توازى مع تدني مستويات التعليم بالقطاع الحكومي وزيادة نسب التسرب والاعتماد على الدروس الخصوصية، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على السياسات الصحية ويكاد تكون التحولات التي شهدتها بنفس التدرج الزمني وذلك على النحو الذي تتناوله الدراسة في محورها التالي.

ثانيًا- السياسات الصحية: أنماط توزيع الأعباء وأوجه التمييز

شهدت مصر تطورًا ملحوظًا في تقديم الخدمات الصحية بعد ثورة 1952 في المجالين الوقائي والعلاجي؛ فعلى مستوى البنية التحتية بلغ عدد المستشفيات 104 مستشفى بحلول عام 1960 وبلغ عدد الوحدات الصحية 600 وحدة بالقرى، وكما حدث بالتعليم اتجهت الدولة لنزع ملكية العديد من المستشفيات الخاصة وتحويلها للخدمة العامة[25].

وبالتوازي مع ذلك اتجهت الدولة لضمان التغطية الدستورية والقانونية لتقديم الخدمات الصحية للمواطنين بعد 1952؛ فقد نصت المادة 56 من دستور 1956 على أن “الرعاية الصحية حق للمصريين جميعًا، تكفله الدولة بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية والتوسع فيها تدريجيًا، وهو نفسه النص الذي تضمنته مادة 42 من دستور 1964، مع حذف لفظ “تدريجيًا” بنهاية النص. أما دستور 1971 فقد نصت المادة 16 منه على كفالة “الدولة الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية، وتعمل بوجه خاص على توفيرها للقرية في يسر وانتظام رفعًا لمستواها” كما نصت المادة 17 على أن الدولة تكفل “خدمات التأمين الاجتماعي والصحي، ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعًا، وذلك وفقًا للقانون”[26].

وكذلك صدرت مجموعة من القوانين المنظمة والضامنة لتقديم الخدمات الصحية للمواطنين مثل قانون رقم 490 لسنة 1955 لتنظيم وإدارة المؤسسات العلاجية، وقانون 75 لسنة 1964 لإنشاء هيئة التأمين الصحي الاجتماعي، وقرار رئيس الجمهورية رقم 135 لسنة 1964 لتنظيم المؤسسات العلاجية[27].

كان وضع نظام التأمين الصحي منتصف الستينيات السبيل لتقديم الخدمات الصحية بشكل عادل لكافة فئات المجتمع؛ لكن قطاع الرعاية الصحية شهد العديد من التحولات التي أدت إلى عدم الكفاءة في توزيع الخدمة فضلا عن تدني مستوى الخدمة ذاته وتحمل المواطنين خاصة الفقراء مزيدًا من الأعباء للحصول على الرعاية الصحية إلى جانب تمييز بعض الفئات فيما يتعلق بفرص وتكاليف العلاج[28]. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى العناصر الرئيسية التالية بشكل موجز.

1) التأمين الصحي: مجانية الخدمات مقابل اشتراكات ثابتة (1952- منتصف السبعينيات):

شهدت الفترة السابقة على ثورة 23 يوليو صدور عدة قوانين تنظم حق الحصول على الرعاية الصحية منها قانون 64 لسنة 1936 والذي حدد مسئولية صاحب العمل تجاه العاملين فيما يتعلق بإصابات العمل في قطاعي الصناعة والتجارة دون المجالات الأخرى، ثم قانون 86 لسنة 1942 والذي ألزم صاحب العمل بالتأمين الإجباري على العمال ضد إصابات العمل لدى شركات التأمين التجارية. وشهد عام 1950 صدور القانون 117 الخاص بالتأمين ضد أمراض المهنة من خلال تعويض صاحب العمل للعامل في حالة الإصابة ببعض الأمراض المهنية.

وبعد الثورة؛ حاولت السلطات نقل مسئولية التأمين إلى القطاع العام فصدر القانون رقم 202 لسنة 1958 الخاص بالتأمين والتعويضات ضد إصابات العمل، وبموجبه نُقلت مسئولية التمويل والالتزامات الناتجة عن إصابات العمل إلى مؤسسة عامة، حيث أُنشئ الصندوق القومي لإصابات العمل لتجاوز أخطاء شركات التأمين التجارية في حق العمال المصابين.

وألزم قانون العمل الموحد 91 لسنة 1959 الشركات والمصانع بإنشاء أقسام وإدارات طبية بها أو التعاقد مع شركات تأمين تجارية بعقود تأمين جماعية للعمال أو التعاقد مع المؤسسة الصحية العمالية والتي نشأت بقرار رئيس الجمهورية رقم 571 لسنة 1961 -لتصبح نواة الهيئة العامة للتأمين الصحي التي نشأت عام 1964- لتطبيق التأمين الصحي على موظفي الحكومة والهيئات والمؤسسات العامة ووحدات الإدارة المحلية؛ بالإضافة لضم العاملين بالقطاعين العام والخاص الخاضعين لقانون التأمين الاجتماعي. وبموجب هذا النظام كان المواطنون الذين يتمتعون به يحصلون على الخدمات الصحية مقابل اشتراكات ثابتة[29].

2) نقل أعباء الخدمات الصحية إلى المواطنين (منتصف السبعينيات- 1992):

تلاعبت السلطات المصرية منذ منتصف السبعينيات بمبدأ مجانية الحصول على الخدمات الصحية من خلال توظيف بعض المصطلحات والمقولات مثل “التمويل الذاتي أو المشاركة الشعبية في تحمل الأعباء”، ومن ثم التوسع في إنشاء أقسام العلاج بالأجر وزيادة عدد الأسرة بها، ومن ثم نقل أعباء الحصول على الخدمات الصحية للمواطنين مثل: شراء الأدوية والمستلزمات الطبية فضلا عن إجراء التحاليل والأشعة الطبية[30].

وفيما يتعلق بالتأمين الصحي؛ تلاعبت السلطة بمبدأ المجانية من خلال خفض الاشتراكات الثابتة المقررة على المشتركين بواقع 50% لكن ذلك كان مقابل رسوم يدفعها المرضى عند الحصول على الخدمة بموجب القانون رقم 32 لسنة 1975[31].

نتج عن ذلك وصول عدد الأسرة المخصصة لأقسام العلاج بالأجر داخل المستشفيات التابعة لوزارة الصحة إلى 35 ألف سرير عام 1985 مقابل 5253 سريرًا فقط عام 1971 لتمثل نحو 30% من إجمالي الأسرة الموجودة بهذه المستشفيات بنسبة لم تكن تتجاوز سنة 1971 نحو 7.7% من إجمالي عدد الأسرة بمستشفيات الصحة[32].

3) الخصخصة وانسحاب الدولة من تقديم الخدمات الصحية (1992- 2010):

سعت الحكومة المصرية منذ بداية التسعينيات للانسحاب من مجال تقديم الخدمة الصحية ونقل ملكية وتبعية القطاع الصحي العام للقطاع الخاص لرفع أعباء التمويل عنها، وتعزز هذا المسعى عام 1997؛ بالإعلان عن برنامج الإصلاح الصحي في مصر بالتعاون مع المانحين الدوليين خاصة البنك الدولي، فتم تضمين إقامة المستشفيات العامة بمشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

وكان أخطر القرارات الحكومية في هذا الصدد قرار رئيس مجلس الوزراء سابقًا أحمد نظيف؛ إبان حكم مبارك عام 2007 والذي أبطله القضاء الإداري بتحويل الهيئة العامة للتأمين الصحي إلى شركة قابضة. واستند الحكم الصادر من المنصة القضائية أن “كفالة الدولة للرعاية الصحية تحول دون أن يكون الحق في الصحة محلا للاستثمار أو المساومة والاحتكار”[33].

وتشير البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى زيادة عدد مستشفيات القطاع الخاص وعدد الأسرة المتاحة بها بشكل كبير مقابل نمو محدود في المستشفيات الحكومية والتراجع الكبير بسعتها السريرية، وهو الأمر الذي استمرت وتيرته لاحقًا بالإعلان عن طرح مستشفيات التكامل للقطاع الخاص للاستثمار فيها ثم تجميد الملف[34].

4) من ريادة القطاع العام إلى الهيمنة الأجنبية والخاصة على قطاع الأدوية:

كان للشركات العامة الريادة في صناعة الأدوية خلال العقود الأولى من النصف الثاني من القرن العشرين؛ لكنها تراجعت بشكل كبير في ظل سياسات الانفتاح لصالح القطاع الخاص المصري والأجنبي الذي تحتل بعض شركاته المراكز العشرة الأولى بقائمة أكبر شركات الأدوية؛ بواقع 6 مراكز للشركات الأجنبية و4 للقطاع الخاص المصري دون أن يكون ضمن هذه المراكز العشرة شركة واحدة تابعة لقطاع الأعمال العام.

ويرجع هذا الضعف إلى برامج الخصخصة التي تبنتها الدولة خلال التسعينيات للتخلص من القطاع العام وفي إطاره شركات الأدوية الحكومية لتتراجع حصة هذه الشركات من سوق الأدوية من 74% منتصف السبعينيات[35] لنحو 2,6% فقط حاليًا وفق تقديرات وزير الصحة السابق أحمد عماد الدين، وذلك بالتوازي مع الإهمال الحكومي لهذه الشركات حيث الإحجام عن ضخ استثمارات للتطوير سواء لخطوط الإنتاج أو للمعدات أو للبحوث والتطوير، ذلك في الوقت الذي تخصص فيه الشركات الأجنبية والخاصة موازنات ضخمة لأبحاث التطوير، كما أن القطاع الخاص والأجنبي تمكن من جذب الكفاءات الفنية والإدارية من شركات القطاع العام عبر توفير تمويلات ورواتب مغرية أسهمت في انتقالهم إليه على حساب الشركات الحكومية[36]، فضلا عن تدني أسعار الأدوية التي تنتجها الشركات العامة لأنها تتأخر في تسجيل الأدوية المثيلة في حين ترتفع أسعار منتجات الشركات العالمية لأنها أصلية[37].

وتؤدي هذه الأوضاع لاختلالات كبيرة في توفير الأدوية اللازمة للمرضى في مصر، حيث تخضع في كثير من الأحيان أدوية مهمة لاحتكارات الشركات الأجنبية في ظل ضعف الأذرع الحكومية القادرة عن تعويض النقص.

5) التمييز في فرص الحصول على الخدمات الصحية:

كانت هناك مساواة في الحصول على الخدمات الصحية بين كافة فئات المجتمع عبر نظام التأمين الصحي، لكن الأمر اختلف لاحقًا من خلال تمييز بعض فئات المجتمع بمستشفيات وخدمات معينة أو عبر مزايا تمويلية لا تتوافر لغيرهم على نحو يعمق أوجه غياب العدالة الاجتماعية في الحصول على الخدمات الصحية، خاصة أن هذه المزايا تتوجه للوظائف العليا في حين يبقى البسطاء والفقراء في حاجة للمستشفيات العامة التي تضاعفت رسومها بشكلٍ كبير.

من بين أوجه التمييز التي شهدتها تحولات هذه الفترة أنه خلال عصر السادات تم تمييز القضاة بإنشاء صندوق للخدمات الصحية والاجتماعية خاص بهم؛ والذي تمت زيادة موازنته بشكل كبير في عهد مبارك عبر رسوم تفرض على المواطنين المتقاضين أمام المحاكم، وذلك بعد ان كانوا خاضعين كغيرهم لنظام التأمين الصحي[38]. يضاف إلى ذلك مجموعة المستشفيات العسكرية التي تقدم خدماتها لأفراد القوات المسلحة بشكل مجاني مقابل رسوم باهظة تفرض على المدنيين الراغبين في العلاج بهذه المستشفيات.

6) مفهوم المواطن العبء.. من نجيب إلى مبارك:

يقول اللواء محمد نجيب الرئيس المصري الأول بعد 23 يوليو “عندما قررنا تحديد النسل أو ضبطه واقتحام المشكلة السكانية قال شيخ الأزهر في سبتمبر 1952: “الدعوة لتحديد النسل هدم لكيان الأمة وجريمة في حقها”، وتبعه بطريرك الأقباط قائلا: “تحديد النسل جريمة لا تستند إلى حقيقة الدين واعتراض على مشيئة الخالق”. ويعلق نجيب على هذين القولين: “ولم أقتنع بهذا الكلام وأنا رجل مؤمن وأعرف ديني جيدًا وأعرف حقيقة جوهره، فأحسست أن ذلك تخلف عن طبيعة العصر وأحسست أنه من الضروري أن يرتبط رجل الدين بروح العصر واقترحت ضرورة أن يدرس الأزهر علوم الحياة بجانب علوم الدين”[39].

في وقتٍ لاحق تحدث الرئيس الثاني بعد الثورة جمال عبد الناصر عن الزيادة السكانية وأنها تخلق لنا المشكلات، معتبرًا أن لها حل وحيد وهو العمل. أما الرئيس محمد أنور السادات فقال في أحد خطاباته عن القضية “زيادة السكان عندنا مازالت تسجل معدلا شديد الارتفاع، وحين نقول إننا نستقبل كل سنة مليون نسمة زيادة، فإننا نستقبل تلك الزيادة بالطبع في استخدام المرافق، وفي مصاريف الدراسة، وفي تشغيل الخريجين من المدارس والمعاهد والجامعات”.

وقال آخر رؤساء حقبة ما بين ثورتي 23 يوليو 1952 و25 يناير 2011 محمد حسني مبارك في أحد خطاباته “الزيادة السكانية موجودة منذ الستينيات، عندما حذر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من انعكاساتها، ووجه إلي إنشاء المجلس الأعلي لتنظيم الأسرة”[40].

يتبين من هذه التصريحات والكتابات عمق النظرة المأزومة للسكان في مصر من جانب الحكومات المتعاقبة على أنهم أعباء أو كما يعبر عنها د.سيف الدين عبد الفتاح بمقولة “المواطن العبء”[41] على الدولة، وكأن 6 عقود مضت على حكم نظام 23 يوليو لم تكن كافية للتخلص من هذه النظرة ولإحداث التنمية المنشودة لضمان الرفاه للمصريين ولضمان خلق فرص العمل وفتح المجالات لإقامة المشروعات للاستفادة من هذه الطاقات البشرية الهائلة التي تعاني نقصها العديد من الدول الأوربية.

خاتمة:

إن أهم ما يمكن استخلاصه فيما يتعلق بملفي التعليم والصحة أن الاهتمام بهما منذ عهد محمد علي باشا وحتى الآن ارتبط بشكل أساسي بقوة الدولة وبحثها عن الاستقلال في كافة المجالات[42] بحيث كانت السلطة تتجه إلى تعليم الناس ونشر الوعي والمعارف بينهم؛ ابتغاء تعزيز الإرادة الوطنية والاستفادة من غرس هذه العلوم والمعارف في تعزيز بناء الدولة عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.. إلخ، إضافة إلى التوسع في بناء المستشفيات وتقديم خدمات الرعاية الصحية، وهو ما تدل عليه مؤشرات عدة في عصور النهضة أو محاولات الاستنهاض في ظل حكم محمد على والخديوي إسماعيل وجمال عبد الناصر، وإن كانت هذه التجارب ارتبطت بسلبيات عدة في الوقت نفسه.

وقد لعب المجتمع الأهلي على الدوام دورًا مهمًا في تعزيز العملية التعليمية وتقديم الخدمة الصحية ولو بأشكال بسيطة؛ خاصة في أوقات غياب الدولة عن أداء مهامها؛ سواء عبر مبادرات فردية أو جماعية، وأسهم فيها نظام الوقف بدور كبير، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك الجهود الوطنية الأهلية لإنشاء الجامعة المصرية (جامعة القاهرة) عام 1908[43] فضلا عن المستشفيات الخيرية التي تقدم خدماتها للفقراء.

ومن أبرز السلبيات التي تواجه المواطن في الحصول على هذه الخدمات هو غياب العدالة الاجتماعية بسبب ارتفاع المصروفات اللازمة للحصول على خدمة ذات جودة مناسبة سواء في الصحة أو التعليم، وهي قطاعات ينبغي أن تضمنها الدولة لمواطنيها دون أن تتبنى في علاقتها بالمجتمع منطق الربح، فالدولة لا تربح من المواطن خاصة إذا كانت تسيطر على معظم أدوات الإنتاج.

وفيما يتعلق بحديث إعلاميين وسياسيين عن ربط التعليم باحتياجات سوق العمل؛ من المهم الإشارة أن هذا لا ينطبق فقط على مجرد التعليم الفني؛ لكنه يشمل أيضًا تعليم ونقل التكنولوجيا في مختلف المجالات لربط الخريج بسوق العمل بالفعل وليس مجرد مراكمة فنيين دون فرص عمل متاحة لهم أيضًا؛ خاصة في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يعد أيضًا جزءً من تطورات سوق العمل.

ومن أبرز السلبيات التي تعرض لها قطاع التعليم في مصر نسف مبدأ استقلال الجامعات والمؤسسات التعليمية خاصة الأزهر، رغم أن هذا الاستقلال ضمانة لحصانة المجتمع والدولة ضد الاستبداد والاحتلال، فضلا عن استمرار انفصال النظام التعليمي بشكل كبير عن هوية الأمة وتراثها وتاريخها الوطني بفعل التوسع في انتشار الجامعات والمدارس الدولية والأجنبية والخاصة.

وقد كان الفشل في إدارة ملفي التعليم والصحة من بين الأسباب الرئيسية التي اندلعت على إثرها ثورة 25 يناير مطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، والتي غابت بشكل كبير عن عملية تقديم الخدمات في هذين القطاعين قبل الثورة ضمن إجراءات التقشف التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة من خلال تقليل الإنفاق والخصخصة وتوسع القطاع الخاص والأجنبي على حساب الطبقات الفقيرة وجودة الخدمات المقدمة لهم[44].

*****

الهوامش:

(*) باحث في العلوم السياسية.

[1] انظر: عبد الرحمن الرافعي، في أعقاب الثورة المصرية ثورة 1919، (القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1408هـ- 1988م)، الجزء الثاني.

[2] المصدر السابق، ص ص 260- 262.

[3] المصدر السابق، ص ص 260- 262.

[4] حسان عبد الله، تطور التعليم في مصر تحت الاستقلال المنقوص (1919-1952) الفلسفة والمضامين، قضايا ونظرات (مصر منذ ثورة 1919: مائة عام من التحولات الاستراتيجية (2))، العدد 13، أبريل 2019، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/yT93d

[5] المصدر السابق، ص ص 145- 150.

[6] دستور مصر 1956، الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان،19 فبراير 2009، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/2LtjM

[7] دستور مصر 1964، موقع طيبة نيوز، 2 يونيو 2005، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/wquuZ

[8] دستور مصر 1971، الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، 20 نوفمبر 2010، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/C4Ixw

[9] عبد الخالق فاروق، كم ينفق المصريون على التعليم، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2016)، ص ص 40- 41.

[10] عبد الخالق فاروق، مأزق التعليم في مصر..بين النشأة والفرز الاجتماعي (3-4)، مصراوي، 19 أبريل 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/baVTr

[11] عبد الرحمن الرافعي، ثورة 23 يولية سنة 1952: تاريخنا القومي في سبع سنوات 1952- 1959، (القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثانية، 1409هـ- 1989م)، ص ص 513- 515.

[12] المصدر السابق، ص ص 513- 515.

[13] المصدر السابق، ص ص 513- 515.

وعبد الخالق فاروق، مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي(3-4)، مصدر سابق.

[14] المصدر السابق.

[15] عبد الخالق فاروق، كم ينفق المصريون على التعليم، مصدر سابق، ص 41.

[16] عبد الخالق فاروق، مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي (3-4)، مصدر سابق.

[17] عبد الخالق فاروق، كم ينفق المصريون على التعليم، مصدر سابق، ص 41.

[18] عبد الخالق فاروق، مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي (4)، مصراوي، 26 أبريل 2018، ، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/pShIY

[19] عبد الخالق فاروق، مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي (3-4)، مصدر سابق.

[20] عبد الخالق فاروق، كم ينفق المصريون على التعليم، مصدر سابق، ص 41.

[21] المصدر السابق.

[22] عبد الخالق فاروق، مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي (3-4)، مصدر سابق.

[23] المصدر السابق.

[24] المصدر السابق.

[25] سالي محمد فريد، الاستراتيجيات والسياسات الصحية في مصر في ضوء الخبرة الدولية، أحوال مصرية، العدد 62، السنة 14، خريف 2016، ص 14.

[26] انظر دساتير مصر: 1956، 1964، و1971، مصدر سابق.

[27] سالي محمد فريد، مصدر سابق.

[28] المصدر السابق.

[29] للتفاصيل انظر: نبذة عن التأمين الصحي، الهيئة العامة للتأمين الصحي، الإطلاع بتاريخ 8 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/hEoFY

[30] سالي محمد فريد، مصدر سابق.

[31] نبذة عن التأمين الصحي، مصدر سابق.

[32] سالي محمد فريد، مصدر سابق.

[33] أحمد عابدين، خصخصة القطاع الصحي في مصر.. السيسي على خطى مبارك، العربي الجديد،11 فبراير 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Ry2e7

[34] قُدر عدد مستشفيات القطاع الحكومي بواقع 660 مستشفى حتى عام 2015 مقابل 659 مستشفى خلال 2014 بزيادة مستشفى واحد بنسبة نمو لم تتجاوز 0.2%. وبلغ عدد المستشفيات الجامعية 85 مستشفى مقابل 82 بزيادة 3.7% بواقع 3 مستشفيات فقط. ووصل إجمالي عدد الأسرة في هذه المستشفيات 93.3 ألف مقابل 97.8 ألف؛ بانخفاض 4.7% خلال عام واحد؛ فيما بلغ إجمالي عدد المستشفيات 1002 مستشفى مقابل 941 بزيادة 51 مستشفى خلال عام واحد بنسبة نمو 6.5%. ووصل عدد الأسرة إلى 31094 سرير مقابل 24647 بزيادة 6447 سرير؛ بنسبة نمو 26.2%؛ خلال عام واحد.

[35] الشركة القابضة لتجارة الأدوية، التعريف بالشركة، الإطلاع بتاريخ 8 أكتوبر، متاح على: https://cutt.us/m4wZC

[36] صالح إبراهيم وأيمن صالح، دراسة تكشف: 10 شركات عالمية خاصة تستحوذ على مبيعات الأدوية في مصر، الوطن، 8 يناير 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/uuBRu

[37] رشا حافظ، روشتة إنقاذ مستقبل قطاع الدواء فى مصر، مجلة الإذاعة والتليفزيون،31 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://cutt.us/TR1WI

[38] علاء عريبي، ثلاثة قوانين لعلاج القضاة على نفقة المواطنين، مصر العربية، 4 أبريل 2015، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/Z5Woj

[39] محمد نجيب، مذكرات محمد نجيب: كنت رئيسًا لمصر، (القاهرة: المكتب المصري الحديث، الطبعة الثامنة، يونيو 2003)، ص 343.

[40] محمد كامل، الحكومة تستعين بخطب «عبد الناصر» و«السادات» و«مبارك» لمواجهة الزيادة السكانية، المصري اليوم، 30 ديسمبر 2009، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/LzM0s

[41] سيف الدين عبد الفتاح، الزحف غير المقدس: زحف الدولة على الدين: قراءة في دفاتر المواطنة المصرية، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2005).

[42] عبد الخالق فاروق، مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي(2-4)، موقع مصراوي، 12 أبريل 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/0GgSb

[43] المصدر السابق.

[44] شريف اللبان ودعاء محمود، دليل نواب البرلمان: القضايا الاقتصادية والاجتماعية الشائكة في مصر قبل ثورة يناير وبعدها، المركز العربي للبحوث والدراسات، 17 يناير 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/DVHTU

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى