المقاومة المدنية في الضفة الغربية في مواجهة الاستيطان الإسرائيلي

المقدمة:

يتصور البعض أن الشعب الفلسطيني لم يعرف سوى الكفاح المسلح، سعياً لاسترداد حقه في أرض فلسطين، وهذا تصور ينافي الواقع، فالفلسطينيون منذ تأسيس أول مستوطنة صهيونية على أرض فلسطين عام 1881 وحتى وقتا هذا، أي خلال 137 سنة، لم يكفوا عن المقاومة بكافة أشكالها المدنية والمسلحة. وهم لهم باع طويل في المقاومة المدنية مثلما أن لهم باع طويل في المقاومة المسلحة.
والشعب الفلسطيني، وهو الذي ابتلي بعدو لم تبتل أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب بعدو مثله ولا بمثل مواصفاته، لم يأت من كوكب آخر حتى يبتدع طرقاً غير مألوفة في مقاومة المحتل المغتصب للأرض، لكنه شأنه شأن كل الشعوب التي ابتليت باستعمار على مر التاريخ فقد جمع بين الأسلوبين المدني والمسلح وفقاً لمقتضيات الحاجة والواقع.
الشائع عن تجربتي الهند وجنوب إفريقيا أنهما تجربتي لاعنف، والشائع عن تجربتي الجزائر وفيتنام أنهما تجربتي عنف، لكن الصحيح أن هذه التجارب وتجارب أخرى في العالم، زاوجت بين الأسلوبين، لكن نجاحها في المرحلة النهائية ربما ارتبط بأحد الأسلوبين، واشتهار هذا الأسلوب أو ذاك عنها ربما له صلة باعتبارات أخرى قد تكون مرتبطة بمصالح القوة الاستعمارية أو القوى المهيمنة على العالم.
ولأن صور المقاومة الأخرى قد تم تغطيتها في دراسة سابقة، فالهدف هنا هو التركيز على المقاومة المدنية. وقد تم اختيار الضفة الغربية كحالة للتطبيق- وذلك لا ينفي حاجة الشعب الفلسطيني في كل مكان، في فلسطين المحتلة عام 1948 وفي الشتات وفي قطاع غزة المحاصر، إلى مثل هذا النوع من المقاومة أيضاً- لأنها المستهدفة بقوة من جانب الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإحلالي، وقد زاد الأمر حدة مع بناء جدار الفصل العنصري الذي يسميه الإسرائيليون الحاجز الأمني، وهو مسار متعرج بطول 402 كم حتى نهاية 2006، وسينتهي بناؤه عند 703 كم، يحيط معظم أراضي الضفة الغربية، وهو محاولة إسرائيلية لإعاقة حياة السكان الفلسطينيين وضم أراض من الضفة الغربية إلى إسرائيل، فهو جدار ضم وتوسع وقضم ومصادرة، ، لذلك تطرأ تعديلات عليه وعلى مساره [1].
لكن تبقى المعضلة في استهداف الضفة الغربية وكل فلسطين بالاستيطان والمستوطنات والمستوطنين. ففي أوائل 2016، يوجد في الضفة الغربية 121 مستوطنة رسمية و136 موقع استيطاني عشوائي آخر، ويعيش 407 ألف مستوطن في الضفة الغربية و375 ألفا في القدس الشرقية. ولا تزال تعمل إسرائيل على توسيعها وإنشاء مستوطنات جديدة رغم إدانة غالبية المجتمع الدولي الذي يعتبره خرقا للقانون الدولي، وتؤيد الأمم المتحدة أن بناء إسرائيل للمستوطنات يشكل انتهاكا للفقرة الـ 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، في حين أصدر مجلس الأمن القرار 448 في مارس عام 1979 الذي يعتبرها غير قانونية، وصرحت محكمة العدل الدولية بأن هذه المستوطنات غير شرعية في رأي استشاري لها عام 2004. وفي أبريل 2012 أكد بان كي مون السكرتير العام للأمم المتحدة أن كل النشاط الاستيطاني غير شرعي، ويتعارض مع التزامات إسرائيل تجاه خارطة الطريق ودعوات اللجنة الرباعية المتكررة للأطراف بالامتناع عن الاستفزازات[2].
ورغم أن التطبيق على حالة الضفة الغربية هو الهدف، لكن ذلك لا يمنع من السعي للتنظير، بما يحفظ للمقاومة المدنية الفلسطينية خصوصيتها في الإطارين العربي والإنساني، مثلما أن الظاهرة الانتفاضية الفلسطينية هي ظاهرة لها خصوصيتها كظاهرة انتفاضية عربية إسلامية في إطار في المجتمع الإنساني[3]. والتنظير المقصود هنا هو الذي يهدف تقديم التصور الأمثل للممارسة الواقعية وفي الوقت نفسه توفير أدوات التحليل لدراسة ظاهرة المقاومة المدنية في إطارها الإنساني بشكل عام وفي إطارها الفلسطيني بشكل خاص.
ضمن هذا السياق، تتناول الدراسة ماهية المقاومة المدنية والمفاهيم المرتبطة بها، وتتعرف على سمات المقاومة المدنية، وأهميتها، وأهدافها، وسبل إحيائها، وإشكالية العلاقة بينها وبين المقاومة المسلحة، وموقعها بين تيارين متناقضين على الساحة السياسية الفلسطينية، ومكانتها ضمن الاستراتيجية الوطنية للصراع. ثم تستعرض الدراسة عملية المقاومة المدنية في الضفة الغربية من خلال التعرف على القائم بالمقاومة المدنية والأطراف المضادة له، وأساليب المقاومة المدنية وبعض نماذجها.

1- ماهية المقاومة المدنية والمفاهيم المرتبطة به:

لتحديد ماهية المقاومة المدنية لا بد من الرجوع إلى مفهوم الانتفاضة في سياقه العربي، فالانتفاضة: “مقاومة شعبية مستمرة ومواجهة حضارية شاملة، بكافة الوسائل المدنية والعنيفة”[4]، وهذا يعني أن المقاومة المدنية بالنسبة للانتفاضة بمثابة الجزء من الكل. لذلك إذا سلمنا بالتعريف السابق للانتفاضة لا ينبغي الاختلاف فكراً وممارسة حول قبول أو رفض المقاومة المدنية. وهناك منظومة من المفاهيم الكفاحية تتمحور حول مفهوم الانتفاضة العربي، يأتي في طليعتها مفاهيم: المقاومة المدنية، المقاومة الشعبية، المقاومة السلمية، المقاومة المسلحة، والمقاومة الشاملة، حتى مفهوم الثورة نفسه. ومن ثم لا ينبغي النظر لمفهوم المقاومة المدنية بشكل منعزل عن المفهوم المركزي الأم.
وهنا ينبغي التأكيد على أن المقاومة المدنية في إطارها الانتفاضي العربي ليست استسلاماً ولكنها تكتيك فعال[5]، أداته الرئيسة مقاومة المحتل بالجماهير[6]. والمقاومة المدنية أعمال تحد منظم يسبقه تخطيط وتحضير يستند الى تحليل واقعي للأوضاع السائدة في المجتمع وميدان القوى والاتجاهات المحتملة لتطوره[7]، وإذا تعاملنا معها بمرونة، اقتداءً بالفيتناميين الذين اتصفوا باستخدامهم التكتيك والاستراتيجية بطريقة مرنة وبناءة دون أن يتخلوا عن أهدافهم[8]، يمكن أن نعتبرها تارة تكتيك وتارة استراتيجية وتارة عنصراً من عناصر الاستراتيجية الوطنية للصراع[9].
مفهوم المقاومة الشعبية ومفهوم المقاومة الشاملة هما الأقرب لمفهوم الانتفاضة من غيرهما، كلاهما أيضاً يمكن أن يكون مدنياً أو مسلحاً، لكن تبقى الإشكالية فيمن يقبل المقاومة المدنية باعتبارها الشكل الوحيد للمقاومة، ومن يقبل المقاومة المسلحة باعتبارها الشكل الوحيد للمقاومة، هنا يحصل التناقض غير المقبول.

2- سمات المقاومة المدنية:

المقاومة المدنية المقصودة لها عدة سمات: فهي مقاومة شعبية لا تستخدم المقاومة المسلحة لكنها لا ترفضها إذا ما جاءت ضمن القرار الوطني، ومن ثم فهي لا تمثل ترسيخا لعقلية الاستسلام للأمر الواقع ولقبول تسوية تفتقر إلى أدنى حدود العدالة[10]، ولا تعني إطلاقا الدعوة إلى الانهزام، بل هي الطريق الأمثل لتعميق أزمة الاحتلال الأخلاقية وتفجير صراع نفسي داخل المجتمع الصهيوني[11]، وهي دعامة رئيسة من دعامات العمل الانتفاضي والمقاومة الشعبية الشاملة. المقاومة المدنية المطلوبة من سماتها أنها ترفض التفاوض اللانهائي دون تحقيق أي أهداف، وترفض مشاريع التسوية التي لا تجد نفعاً بل تستخدم كوسيلة لكسب الوقت في بناء مزيد من المستوطنات.
من سمات المقاومة المدنية أيضاً أنها مقاومة قديمة قدم نشوء أول مستوطنة صهيونية على أرض فلسطين، ومن ثم فهي ليست ظاهرة جديدة كما يصور البعض ممن يحلوا لهم وصف الفلسطينيين بالإرهاب[12]. فبعض الأجانب يركزون على أنها جديدة وكأن الفلسطينيين طوال عمرهم عنيفون وإرهابيون، وفي ذلك إساءة لتاريخ المقاومة الشعبية في فلسطين[13].
من سماتها أيضاً التنوع[14]، فحتى تنجح المقاومة الشعبية يجب أن تتنوع من مقاطعة البضائع الإسرائيلية إلى المظاهرات والمسيرات إلى الإضراب العام والعصيان المدني إلى الأنشطة السياسية إلى كل الأشكال الأخرى[15]. والمقاومة المدنية القوية والناجحة لا بد أن يقوم بها مجتمع موحد ومتماسك قيادة وشعباً في كل مراحلها، فمصدر قوة أي حركة من حركات المقاومة المدنية تكمن في هذه السمة، وبدون هذه الوحدة لا تستمر[16]. وأن تحظ بدعم وتأييد حركة تضامن دولية وحركة مقاطعة شاملة ومتنوعة في الداخل والخارج ويفرض عليها عقوبات دولية[17]. كما أن عنصر المبادرة[18] سمة ضرورية من سمات بدء المقاومة المدنية الشاملة، وفي المقابل فإن المقاومة المدنية تخلق روح المبادرة والإيجابية في نفوس عامة الشعب[19]. والمبادرة ضرورية أيضاً لاستمرار نشاط المقاومة المدنية وتوسيع إطار جمهورها. كما يشكل تحديد الظرف التاريخي الملائم لاندلاعها أحد المفاتيح الرئيسية لنجاحها، فكما أن التعجل في إعلان المبادرة قاتل لاحتمالات نجاح المقاومة المدنية فإن التلكؤ في إعلانها قاتل أيضا[20].

3- أهداف المقاومة المدنية:

للمقاومة المدنية في الضفة الغربية أهداف عديدة، يأتي في طليعتها إعادة بعث روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني وإعادة توعيته وتنظيمه لتعرضه منذ اتفاقات أوسلو وحتى الآن إلى عملية تفكيك روح المقاومة وهذا واقع لا يمكن نفيه[21]. فدفع كل فئات المجتمع الفلسطيني إلى المشاركة في المقاومة أمر ضروري للوقوف في وجه المخططات الاستيطانية ومقاومة جدار الفصل العنصري[22]، ومواجهة تهويد القدس وتهويد الأقصى[23].
ويأتي في المقام الثاني مواجهة الاحتلال وكشف جرائمه[24]، كالدور الذي قامت به بلدات وقرى بلعين ونعلين والمعصرة وبورين[25]، حيث تم تشويه صورة إسرائيل في العالم[26].
وما من شك أن الهدف الأكبر هو تغيير التوازن الدولي لصالح القضية الفلسطينية، بتوفير دعم دولي مضاد للدعم الدولي الذي تتلقاه إسرائيل، مما يؤدي إلى تغيير ميزان القوى على الأرض وخلخلة المشروع الصهيوني من الداخل[27].

4- إشكالية العلاقة بين المقاومة المدنية والمقاومة المسلحة:

من المنظور الانتفاضي، وهو إطار تنظيري عام يحكم قواعد الحركة والتفاعل في النظام الانتفاضي[28]، فإن المقاومة المدنية رغم أهميتها لا تعد بديلاً أو نقيضاً للمقاومة المسلحة، فكلاهما مكمل للآخر، لكن على مستوى الممارسة السياسية في الواقع الفلسطيني يوجد من يؤمن بالمقاومة المدنية ويرفض الكفاح المسلح ويوجد من يؤمن بالكفاح المسلح ويرفض المقاومة المدنية.
ومن دلالات هذا التكامل أن المقاومة المسلحة نطاقها الزمني والجغرافي والسكاني ذات نطاق محدود، وهذا أمر طبيعي، لكن المقاومة المدنية نطاقها أكبر، إذ تشمل الشعب كله دون التقيد بزمن أو نطاق جغرافي، لذلك فكلاهما مكمل الأخر، وربما يتناوبان الصعود والخبو في بعض الأحيان. في الوقت نفسه، المقاومة المدنية تنظيمها أصعب كثيراً من المقاومة المسلحة، لأن المقاومة المسلحة تقتصر على تنظيم وأداء عدد محدود من الناس، بينما المقاومة الشعبية حتى تكون ناجحة ومؤثرة فهي تتطلب تجنيد الآلاف، وبالتالي هي أصعب، وإن كانت أكثر تأثيراً أحياناً[29].
وضمن هذا السياق تعتبر المقاومة المدنية خطة طويلة الأجل تركز على حياة الناس اليومية، فتشد من أزرهم وتقوي قدرتهم على التشبث بأرضهم وتخلق لهم أملاً قوياً بالمستقبل وتمكن كل من يهدم بيته من إعادة بنائه، وتؤسس هيئات فاعلة للمدافعة عن الأسرى، وتنشئ مؤسسات تشغيل لصد موجات الهجرة إلى الخارج، وتنظم اعتصامات وتظاهرات وحملات مناصرة دولية[30].

5- المقاومة المدنية بين تيارين متناقضين:

رغم أن الصراع في الساحة السياسية الفلسطينية الآن ليس بين مقاومة مدنية ومقاومة مسلحة[31]، إلا أن مشكلة المقاومة المدنية أنها أسيرة بين تيارين متناقضين هما تيار التفاوض والتسوية السلمية وتيار المقاومة المسلحة[32].
التيار الأول، يريد أن يطوع المقاومة المدنية لخدمة توجهاته ويعزلها بشكل كامل عن أشكال المقاومة العنيفة ويجعلها أداة ضغط يستخدمها لتحقيق أهدافه التفاوضية، ومن ثم يتحكم في الإرادة الشعبية، وهذا مناف لمنطق الواقع، ففي التجارب العالمية كانت دائمة القوى السياسية تأتمر بأمر الإرادة الشعبية وليس العكس.
أما التيار الثاني، فإنه قد ينظر للمقاومة المدنية نظرة استخفاف، لأنه لا يعتبرها مقاومة فعلية كما هو الحال بالنسبة لنظرته للمقاومة المسلحة، لذلك فهو لا يهتم بها ولا يطورها ولا يعمل من أجلها، وربما يسعى إلي تقليصها لأنه يعتبرها علامة ضعف. وهنا فإن عدم الوعي بأهمية المقاومة المدنية، التي ينبغي العمل على تطويرها لتأخذ طابعاً شعبياً شاملاً ونمط حياة دائم[33]، فإنه يسهم في غياب الإجماع الوطني على مثل هذا النوع من المقاومة الذي أثبت نجاحه في تجارب عالمية.

6- أهمية المقاومة المدنية:

تكمن أهمية المقاومة المدنية كعمل شعبي في أنها تمثل أولاً مخرجاً لمأزق الانقسام السياسي. ففي ظل حالة التناقض بين التيارين، ولأن المبدأ الجوهري هنا هو المقاومة أو عدم المقاومة[34]، فإنه من الممكن للمقاومة المدنية إذا ما تم التحضير والتخطيط لها جيداً وتم تفعيلها بقوة بحيث تأخذ نطاقاً أوسع وبشكل تدريجي، أن تكون استراتيجية مستقبلية تمنح المقاومة مشروعية واسعة، وتمثل في الوقت نفسه مخرجاً من مأزق الانقسام الذي شوه المقاومة المدنية والمقاومة الشعبية في ظل ثنائية المقاومة المسلحة في مواجهة المقاومة المدنية[35].
وتكمن أهمية المقاومة المدنية أيضاً في إحياء القضية الفلسطينية محلياً وإقليمياً ودولياً بعد أن كادت تنسى من قبل الكثيرين، وفي زرع الخوف لدى المحتل من اليقظة الشاملة للشعب الفلسطيني بكل فئاته، بما فيهم أبناء فلسطين المحتلة عام 1948 الذين يعيشون في أحشاء الكيان الصهيوني[36].
كما تكمن أهمية المقاومة المدنية في اعتبارها وسيلة جيدة لسد ذرائع الاحتلال في بطشه وتدميره للبشر والشجر والحجر، يساعدها التوقف الفلسطيني التام عن القيام بأعمال تستغلها إسرائيل في دعايتها، وإلى درجة عالية من ضبط النفس[37]. وفي المقابل تثمر المقاومة المدنية في إظهار البعد العدواني العنصري للجيش الإسرائيلي[38].

7- سبل إحياء المقاومة المدنية:

ما من شك أن استعادة الوحدة الوطنية هي السبيل الأول لإحياء مقاومة مدنية قوية وفاعلة، فبدون الإجماع الوطني يصعب تحقيق ذلك، لأن الإجماع سيدفع إلى وضع استراتيجية وطنية شاملة يسير عليها الجميع، يتم من خلالها تفعيل دور السلطة الوطنية ومؤسساتها ودور الفصائل والقوى السياسية بما يدعم التوجهات الشعبية ودور مؤسسات المجتمع المدني ودور مؤسسات الأمة في المواجهة.
ويعتبر بث الوعي بالمقاومة المدنية وأهمية إحيائها وإحياء ثقافتها أمر مهم، كما أن المقاومة المدنية نفسها تساهم في ارتقاء مستوى الوعي[39]. وما من شك في أن إمعان النظر في التجارب العالمية وسبل الاستفادة منها[40] يمكن أن يكون مفيداً للغاية. فتعميم تجربة ناجحة أو جانباً من جوانبها كتجربة غاندي في الهند، أو تجربة فيتنام، أو تجربة جنوب إفريقيا وهي الأقرب لحالة فلسطين يمكن أن يكون عاملاً مساعداً.

8- الاستراتيجية الوطنية للصراع ومكانة المقاومة المدنية:

الاستراتيجية الوطنية المطلوبة للصراع هدفها الرئيس هو تغيير التوازن الدولي لصالح القضية الفلسطينية[41]، وأساسها أن تأخذ في الاعتبار المقاومة بكافة أشكالها، وتدعم المقاومة من خلال تدشين تيار شعبي يظهرها على أنها مشروع شعب وليس مشروع فصيل[42]. وهي أسوة بالنموذج الجنوب إفريقي، ذات عناصر أربعة: الوحدة الوطنية، المقاومة الشعبية، المقاطعة، وفرض العقوبات[43].
بالنسبة للعنصر الأول، الوحدة الوطنية، فحتى تكون هناك مقاومة مدنية شاملة وقوية يشارك فيها الشعب والفصائل والسلطة ومؤسسات المجتمع المدني، لا بد من تحقيق المصالحة في إطار برنامج وطني يقوم على إيجاد مخرج من مأزق ازدواجية المقاومة والمفاوضات[44]. ولا بد أيضاً من توافق وتناغم المقاومة مع العمل السياسي وفقاً لاستراتيجية ذات أهداف واضحة ومحددة تقوم على تحرير السلطة الوطنية من الارتباط بالمشروع السياسي للتسوية، من خلال إجراء حوار وطني حول برنامج المقاومة من حيث الوسائل والأدوات. وذلك للتوافق على رؤية مشتركة وجامعة[45] تؤدي إلى استعادة الوحدة الوطنية ضمن إطار تتوافر فيه قيادة موحدة واستراتيجية موحدة[46]. وهنا، فإن المقاومة المدنية من المتوقع أن يكون لها دور في التقريب بين التيارين المتناقضين، وإبداعات فعالياتها في جذب كلا التيارين تسهم في ذلك.
وبالنسبة للعنصر الثاني المتمثل في المقاومة الشعبية فالمقصود هنا المقاومة المدنية في المقام الأول والمقاومة المسلحة في المقام الثاني، إذ تبقى المقاومة المسلحة مقارنة بالمقاومة المدنية استثناء ذو طابع محدود النطاق من حيث الزمان والمكان ومن حيث القائمين بها. ولا يعني هذا التقليل من شأن المقاومة المسلحة، ولكن الإشكالية هنا في ضبط العلاقة بينهما. وهنا يمكن الاستفادة من النموذجين الهندي والجنوب إفريقي، بحيث إذا ما استخدمت المقاومة المدنية لا ينبغي استخدام المقاومة المسلحة حتى ولو تعمد الاحتلال الرد على المقاومة المدنية بالعنف والقتل، إذ إن ضبط النفس مطلوب، لأن المحتل يسعى جاهداً إلى جعل المقاومين يتوجهون إلى النهج المسلح، حتى توفر له الذريعة لوصفهم بالإرهاب[47]، وكي يستخدم ضدهم كل إمكانات قوته. وهنا فالذكاء تجنب المواجهات الشاملة معه[48]، ومعرفة كيفية تحييد استخدامه لهذه القوة حتى لا يتعرض الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية إلى ضرر بالغ. لذلك فالمعضلة تكمن في معرفة متى تستخدم المقاومة المدنية ومتى تستخدم المقاومة المسلحة. وهذا كله لا ينفي أهمية بناء القوات المسلحة الفلسطينية، فاستخدامها عند التعرض لعدوان إسرائيلي شامل هو أمر مطلوب. لكن في الوقت نفسه فإن تطوير المقاومة المدنية وبذل الجهد من أجلها والاعتماد على الإبداع العقلي والفكري، بحيث تتحول إلى نمط حياة دائم وشامل للفلسطيني هو أمر مطلوب[49].
وهنا، فإن المقاومة المدنية نفسها بحاجة إلى وضع الخطط اللازمة لرسم ملامح استراتيجية وطنية لها وبمشاركة فئات الشعب كافة[50]، وهذا ما يتطلب جهوداً جدية تقوم بها كل القوى السياسية[51]، بشرط توافر قيادة تعطيها الدعم والثبات السياسي الراسخ على الحق والهدف، ويساعدها درجة عالية من ضبط النفس والتوقف الفلسطيني التام عن القيام بأعمال تستغلها إسرائيل في دعايتها[52]. لقد نظم الفلسطينيون المظاهرات والاحتجاجات، لكنها لم تأت ضمن استراتيجية للمقاومة المدنية متفق عليها كخيار للمرحلة، والفصائل الفلسطينية ومنظمة التحرير لم تتبن حتى الآن المقاومة المدنية بشكل منظم وضمن استراتيجية شاملة، وإنما جاءت المقاومة المدنية في كثير من الأحيان إلى جانب نشاطات المقاومة العسكرية أو كمقدمة لها[53]، رغم أنه من الأسس المهمة في المقاومة المدنية الالتزام بمبدأ عدم المزاوجة بين المقاومة المدنية والعسكرية. فعندما تبدأ آلة القمع الصهيونية بممارسة العنف في مواجهة المقاومة المدنية فإن المطلوب حينها أن تستنفر حركات المقاومة جميع جهودها لمنع حدوث رد عنيف، حتى تتحقق استراتيجية واحدة محكمة[54].
وبالنسبة للعنصر الثالث، المقاطعة، فيمكن التمييز فيها بين المقاطعة الاقتصادية ومقاطعة الإدارة الحكومية، والمقاطعة السياسية، والمقاطعة الثقافية والأكاديمية. وقيمة المقاطعة لا تكون على المستوى الفلسطيني فقط، وإنما على المستوى الإقليمي والدولي. وهنا فإن المقاومة المدنية في جوهرها تمثل الحافز الأكبر في نجاح المقاطعة بأشكالها ومستوياتها المختلفة[55].
أما بالنسبة للعنصر الرابع والأخير، فرض العقوبات على إسرائيل بعد كشف حقيقتها أمام العالم من خلال حملة سياسية وقانونية[56]، فهو من أهم الأسلحة، وقد ظهر في قرار الاتحاد الأوروبي بعزل المستوطنات والقدس عن الاتفاقيات مع إسرائيل، الأمر الذي يضع الصهاينة في حيرة، إما التوقيع على اتفاقات والإقرار بالقانون الدولي بأن هذه أراضٍ محتلة ومن ثم يخسرون 300 مليون دولار من البضائع التي تصدرها المستوطنات، وإما عدم التوقيع وخسارة ما لا يقل عن مليار دولار من الاستثمارات من الاتحاد الأوروبي[57].
من ناحية أخرى، فإن معرفة مواصفات العدو من شروط هذه الاستراتيجية، فهو ليس مجرد قوة احتلال عادية وإنما هو استعمار استيطاني إحلالي يمتلك فلسفة واستراتيجية للمواجهة ويتسلح بخلفية دينية متعصبة وعنصرية، يقوم خلالها تدريجياً باقتلاع شعب من أرضه وإحلاله شعب آخر مكانه، الأمر الذي يجعل منه عدواً غير عادي[58]. لذلك فجزء من الاستراتيجية المطلوب تحقيقها تغيير ميزان القوى على الأرض وإعادة بعث روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني وإعادة تنظيمه وتوعيته لأنه تعرض منذ اتفاقات أوسلو وحتى الآن إلى عملية تفكيك روح المقاومة[59].
كذلك، واقتداءً بالنموذج الفيتنامي في نظرته المرنة للاستراتيجية والتكتيك، واقتداءً بالنماذج المدنية الناجحة في العالم وفي طليعتها نموذج جنوب إفريقيا، يمكن تغيير الاستراتيجية الوطنية بحيث تتحول المقاومة الشعبية المدنية برمتها إلى استراتيجية لا أن تكون جزءً من الاستراتيجية[60].

9- القائم بالمقاومة المدنية:

الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الأول في استخدام كل وسائل المقاومة للدفاع عن حقه[61]، ولذلك فأن أهم العناصر التي أثرت في الحالة الفلسطينية هو عودة الاعتبار إلى مفهوم الشعب والإيمان بقدرة الناس على إنجاز تغيير سياسي.[62]
فهو القائم بالفعل المدني إما بشكل مباشر أو من خلال مؤسساته الأهلية وفي طليعتها مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الأمة. تتبعه الفصائل والقوى السياسية وليس العكس. ومؤسسات السلطة الوطنية وأنصار كلا التيارين المتناقضين يخضعان لإرادته وتوجيهاته، فهو صاحب المبادرة. والشعب الفلسطيني ليس فقط من يعيش في الضفة وغزة والقدس وإنما يشمل أيضاً سكان فلسطين المحتلة سنة 1948 والفلسطينيين الذين يعيشون في الشتات.
مارس الشعب الفلسطيني عبر تاريخه أشكالا متعددة من النضال اتسمت كل مرحلة بتقدم أحد الأشكال على الأخرى. فمنذ العام 1917 وحتى الإضراب الشهير عام 1936 كانت المقاومة الشعبية المدنية غير المسلحة هي الشكل الأبرز. وبين عامي 1988 و1993 كانت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بكل مكوناتها من أساليب المقاومة المدنية هي الشكل الرئيس للمواجهة[63]. وبعد العدوان الأخير على غزة عام 2014 حدث تحول نحو المقاومة المدنية.

10- الأطراف المضادة للمقاومة المدنية:

يواجه الفلسطينيون عدواً ذا خصائص مركبة، فهم يقاومون احتلالاً، من أهم صفاته أنه استعمار استيطاني إحلالي يتبع أسلوب السيطرة على الأرض وضمها تدريجياً، وما يجري في الضفة الغربية أو بيت لحم أو بيت جالا أو بيت ساحور لا يختلف عما جرى في الناصرة وعكا وحيفا، ولا يختلف ما يجري في القدس عما جرى في يافا مثلاً، كلها تمثل استعماراً استيطانياً إحلالياً. ويتعرض الفلسطينيون بسبب هذا الاحتلال إلى عملية تطهير عرقي ترتب عليها نشوء قضية اللاجئين وقضية النازحين ومن ثم توجب عليهم المقاومة من أجل حق العودة[64].
ويخضع الفلسطينيون أيضاً لنظام فصل عنصري يسعى لتحويل إسرائيل إلى دولة يهودية خالصة، لذلك فهو يتحين الفرص لتنفيذ عمليات ترحيل قسري إجباري للفلسطينيين الذين احتلت أرضهم عام 1948. الأمر الذي يعني أنهم يتعرضون لتطهير عرقي منذ بدايات المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، تحول الآن إلى نظام أبارتهايد أو نظام فصل عنصري[65]. ويحرص هذا النظام الإحلالي على منع نمو أي حركة شعبية سلمية بهدف إحباط نهج المقاومة الشعبية. ويقوم تدريجياً بتضييق الخناق على الفلسطينيين لحملهم على الرحيل والهجرة، يحاول ذلك منذ زمن بعيد مع المقدسيين وكل من تضررت قراهم وبيوتهم وممتلكاتهم من الجدار العنصري[66]. رغم ذلك يقاوم الفلسطينيون هذا التمييز والفصل العنصري، ومواجهة القرى الفلسطينية المتضررة من جدار الفصل العنصري إحدى هذه الدلائل. لذلك كتب على الشعب الفلسطيني أن يقاوم هذا كله في آن واحد.

11- أساليب المقاومة المدنية وبعض نماذجها:

أحصى جين شارب أكثر من 170 طريقة للمقاومة المدنية وهناك من أحصى أكثر من مائتي أسلوب. وفي الوقت نفسه يمكن استنباط طرق جديدة باستمرار، والأمر يتوقف على القدرات الإبداعية للمقاومين ومدى تمرسهم ومثابرتهم على أساليب المقاومة المدنية وتجريبها. إنها تتطلب تدريباً شـاقاً لعله أصعب من تدريب الجنود في الثكنات[67]. من هذه الأساليب يوم الأرض، الإضراب العام، العصيان المدني، المسيرات الكبرى، إضرابات الأسرى، كفاح العمال ونقاباتهم ضد إجراءات الاحتلال، حركة معلمي القطاع الحكومي، المدارس الخاصة الطلبة، العمل التطوعي، ذوي الاحتياجات الخاصة، كفاح المرأة.
ويمكن استخدام المقاومة المدنية ضمن ثلاث فئات هي: الاحتجاج والإقناع، اللا تعاون، والتدخل. ومن هذه الفئات يمكن رسم خريطة لوسائل المقاومة المدنية: بالنسبة للنوع الأول وسائل الاحتجاج والإقناع، فإنه يشمل التصريحات الرسمية، ومخاطبة الجماهير العريضة، وتنفيذ احتجاجات جماعية، وأعمال رمزية عامة، وممارسة الضغط على الفرد، واستخدام المسرح والموسيقى، والمواكب، وتكريم الموتى، والتجمعات الشعبية، واستخدام أسلوب الانسحاب والتنصل.
وبالنسبة للنوع الثاني أساليب عدم التعاون، ففيه يميز بين: عدم التعاون الاجتماعي ويشمل نبذ الأشخاص وعدم التعاون مع الأحداث الاجتماعية والانسحاب من النظام الاجتماعي، وعدم التعاون الاقتصادي ويشمل المقاطعات الاقتصادية والإضرابات العمالية، وعدم التعاون السياسي، ويشمل الامتناع عن التعاون مع الحكومة وبدائل الجمهور للطاعة علاوة على أعمال يقوم بها موظفو الحكومة وأخرى تقوم بها الحكومات المحلية وأعمال حكومية دولية، ونبذ السلطة. أما بالنسبة للنوع الثالث فيتمثل في أساليب التدخل المباشر، وتشمل التدخل النفسي والتدخل الاجتماعي والتدخل السياسي والتدخل الجسدي، التدخل الاقتصادي [68].
11/1 – نموذج مقاومة القرى:
لم يقف الفلسطينيون مكتوفي الأيدي في الضفة الغربية، التي يكثر فيها بناء المستوطنات وانتشارها في كل مكان ويحيط بها جدار الفصل العنصري، لكنهم أبدعوا طرقاً في المقاومة المدنية كعادتهم منذ زمن بعيد. ومن النماذج المميزة في ذلك في الضفة الغربية ما تقوم به قرى: بيت أمر، بلعين، نعلين، النبي صالح، وكفر قدوم[69]. ونكتفي في هذا التقرير بتناول النموذج الأبرز وهو تجربة قرية بلعين في المقاومة المدنية.
ونموذج قرية بلعين من النماذج البارزة للمقاومة الشعبية في الضفة الغربية، انتشر في أكثر من نقطة للمواجهة على الأراضي المهددة بالمصادرة[70]. نجحت بلعين في استقطاب المناصرين للقضية الفلسطينية من كافة أنحاء العالم لنهجها المميز والمبتكر في المقاومة المدنية ضد الجدار والاستيطان، ومثلت نموذجاً يحتذى به لعشرات المواقع المهددة من الجدار، وكان لها الفضل في إصدار محكمة العدل الدولية في لاهاي فتوى قانونية سنة 2004 تقضي بعدم شرعية الجدار الفاصل كونه يقام على أرض محتلة وليست متنازعاً عليها، وطالبت المحكمة في حينه بهدم الجدار داعية دول العالم إلى تنفيذ التزاماتها تجاه القانون الدولي[71]. يتظاهر أهالي القرية كل جمعة ضد الجدار العنصري الذي يلتهم أراضيهم مستخدمين وسائل سلمية مجردة برفقة متضامنين أجانب[72]
بدأت قصة بلعين مع تعرض أراضيها للمصادرة وتصدي أهلها لإقامة مستوطنة على أراضي بلعين، ثم تصدوا لبناء الجدار الذي حرم كل القرى القريبة منه من مصادر رزقها وجعل من حياتها أشبه بالكابوس، لكن أهالي تلك القرى رفضوا سياسة الاستيطان والجدار واتخذوا قراراهم بمقاومته والتصدي له وإزالته. شكلوا اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار التي كان لها الدور الأبرز في إطلاق شعلة المقاومة الشعبية، لتمتد بعدها إلى نعلين ثم جيوس والخضر والمعصرة وأم سلمونة وعراق بورين وكفر قدوم وإذنا وبيت أمر وغيرها من قرى المواجهة المهددة أراضيها بالمصادرة.
بدأ التنسيق واللقاء بين اللجان الشعبية، ومع المتضامنين الدوليين، وخصوصا حركة التضامن الدولية ISM، واستعانوا بمحامين وخبراء وطنيين للتعرف إلى طبيعة الوضع القانوني بالنسبة إلى حالة بلعين والآفاق المفتوحة أمامها، وتخللت ذلك زيارات مسؤولين في السلطة الوطنية. وبالفعل بدأ العمل على أرض الواقع، بدأ الفعل سريعا ليسبق عمل الجرافات على الأرض، فكانت الانطلاقة الفعلية مع اليوم الأول لعمل جرافات الاحتلال وهو يوم 20/2/2005.
في البداية كانت التظاهرات الشعبية هي السائدة في فعاليات بلعين، وكانت حينها تجري بصورة يومية، ثم صارت مرتين في الأسبوع، إلى جانب استثمار المناسبات الاجتماعية والأعياد الوطنية، فكانت هناك مسيرة للمرأة في يوم المرأة، وأخرى للأطفال في يوم الطفولة، وثالثة للمعاقين في يوم المعاق. ثم أصبحت الفعاليات أكثر تنظيماً وإبداعاً، فمثلاً باتت فعالية تربيط الزيتون عنواناً للإبداع، والتي عبرت عن التصاق الإنسان الفلسطيني بأرضه وعن مدى عشقه لهذه الشجرة المباركة. ثم توالت الأفكار الخلاقة وتنوعت الأساليب بشكل أذهل الجميع.
منها فعاليات البراميل، والصناديق، والسجن، والمشانق، والتوابيت، وشواهد القبور، والأشرطة اللاصقة، والمرايا، والأفعى، والجسر الحديدي. ومنها فعاليات: الأسطوانة، والقبر الكبير، والعلم الفلسطيني الكبير، والأعلام الصغيرة الكثيرة، والميزان، والزوايا، والرايات السود، والبالونات، والطائرات الورقية، فضلاً عن إقامة المباريات، والحفلات، والأعراس.
وهذه الأساليب المبتكرة تعبر رغم بساطتها عن إرادة الفلسطيني وعزيمته وإصراره على الدفاع عن أرضه. وكان مما أثار قلق إسرائيل أن هذه الأساليب سلمية ولا تنطوي على عنف ولا يمكن وصفها بالإرهاب، وبالتالي فقد حرمت الاحتلال من سلاح خطير طالما استخدمه في معاركه الإعلامية حينما دأب على وصف النضال الفلسطيني بالإرهاب. وقد أدى ذلك إلى استقطاب المتضامنين والمتعاطفين معها من كافة بقاع المعمورة، لعدالتها وشرعية مطالبها.
وبلعين كنموذج للمقاومة الشعبية السلمية ساهمت في تحريك القضية وإثارة الرأي العام العالمي. وقد كان رد بلعين على هؤلاء أن وضع الأهالي بيتا متنقلا في الأراضي المصادرة ليصير مركزًا للنضال المشترك لكل من يناهض الاحتلال من فلسطينيين وأجانب. وقد نجحت هذه الخطوة وبمساعدة المحامين في الحصول على قرار إيقاف العمل والتوسع في مستوطنة ميتاتياهو الشرقية.
ركزت السلطة على تعميم تجربة بلعين على المستوى الوطني، ولوحظ الحضور شبه المنتظم لرموز السلطة والحكومة وقادة وكوادر الفصائل الفلسطينية في مواسم التظاهر والاعتصام الأسبوعية على مقربة من الجدار، ومن خلال أشكال الدعم المادي والمعنوي والإعلامي، وتشجيع هذا النمط من المقاومة. تشارك السلطة الوطنية على المستوى الرسمي والشعبي وبشكل واسع في المؤتمرات الشعبية الدولية السنوية التي تعقدها بلعين للمقاومة الشعبية، وعادة يحضر ممثل عن الرئيس عباس ويحضر رئيس الوزراء سلام فياض بنفسه، وأعضاء من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وأعضاء من المجلس التشريعي، وقادة وممثلو القوى والأحزاب الفلسطينية وقادة العمل الشعبي في الضفة الغربية، إضافة إلى مشاركة وفود دولية من الناشطين من أجل السلام من كل أوروبا وآسيا والولايات المتحدة الأميركية، ونشطاء من حركات السلام الإسرائيلية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي. ولدعم صمودها، تلقت القرية دعما ماديا من قبل مجلس الوزراء قيمته مليون دولار لإعمار القرية وخصوصا مشاريع البنية التحتية، كما حصلت اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار على جائزتين مهمتين على مستوى الوطن هما: جائزة فلسطين الدولية للتميز والإبداع، وجائزة ياسر عرفات للإنجاز وقيمتها 25 ألف دولار.
وقرية بلعين بفضل أسلوبها المميز في النضال أصبحت رمزاً للمقاومة الشعبية وخصوصا في مقاومة الجدار، ليس على المستوى الوطني فحسب بل وعالميا أيضاً، وصارت محط أنظار التضامن الدولي، كما أسهم توحد الأهالي في مقاومة الجدار في تعزيز وحدة القرية وتكافلها وفي تلاشي معظم الخلافات الداخلية. تظاهرات بلعين هزت صورة إسرائيل أمام الرأي العام العالمي.
ونجح أهالي بلعين في استصدار قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية ينص على عدم قانونية الجدار في مساره، وأن المبررات التي قدمها الجيش الإسرائيلي بحجة أنه بُني لأغراض أمنية غير مقنعة؛ لهذا فقد أوصت المحكمة بهدمه وإعادته إلى الخلف بطول 500 متر أي ما يقارب 1100 دونم، ومن خلال ذلك تمكن الأهالي من إعادة نصف ما هو مهدد بالمصادرة. وتمكن أهالي بلعين من هدم بعض البيوت في المستوطنة وإعادة بعض القطع داخل المستوطنة وفي محيطها.[73]
11/2- نموذج القرى الجديدة:
أبدع الفلسطينيون في الضفة الغربية طرقاً جديدة في المقاومة المدنية، منها نموذج إقامة قرى بدائية في مواجهة المخططات الاستيطانية الإسرائيلية[74]. من أشهرها قرى: باب الشمس، الكرامة، والحرية. ونكتفي في هذا المقام بتناول تجربة قرية باب الشمس.
ففي منطقة سيطر عليها الاحتلال لمصلحة مشروع استيطاني يفصل القدس نهائياً عن الضفة الغربية ويقسم الضفة إلى جزأين، أنشأ مجموعة من الشابات والشبان الفلسطينيين هذه القرية في سياق البحث عن أساليب مبتكرة للنضال ضد الاستيطان. لقد كان بيان إقامة باب الشمس واضحاً لا لبس فهو خطاب حقوق الشعب الفلسطيني ومقاومة الاستعمار.
لقد أعادت باب الشمس روح اللحمة والوحدة، وزارها وفوداً من كل مكان، ومشى إليها المئات على الأقدام كيلومترات بعدما منعهم الجيش الإسرائيلي من الوصول بالمركبات ونقل إليها سكان القرى القريبة الطعام مشياً على الأقدام، وأحضر لها العديدون البطانيات والحاجات الأُخرى، ووصلت إليها مئات الرسائل الداعمة، وأعلن فنانون فلسطينيون استعدادهم لتقديم عروض في باب الشمس، ووصلها الدعم من كافة أطياف المجتمع الفلسطيني وفصائله، من غزة إلى الشتات. لم يشهد الفلسطينيون حالة لحمة والتفاف كما شهدوها أيام باب الشمس، وما حدث بعد الإجلاء لا يقل أهمية عما حدث قبله فإن عودة أهالي باب الشمس، ونجاح بعضهم في الوصول إلى أراضي القرية، شكلا تحدياً للاحتلال، وتشديداً على حق الفلسطينيين في العودة إلى قراها وأراضيها[75].
لقد صاغ نموذج باب الشمس إصراراً على عدم الرضوخ. لقد حدثت العودة بعد يومين من الإجلاء، بتاريخ 13 يناير 2013، على شاكلة عرس فلسطيني، إذ قام أهل باب الشمس بتزيين سيارة عرس أقلت العروس بفستانها الأبيض، وهي متضامنة إسبانية والعريس كان فلسطينياً، ونجح المئات من الناشطين في اختراق الحواجز التي وضعها الاحتلال لمنع الوصول إلى باب الشمس، لكن قبل عشرات الأمتار من موقع القرية انتظرتهم قوة عسكرية إسرائيلية منعتهم بالقوة من الوصول إلى القرية وبينما انشغل الجيش بقمع الزفة ومنع الناشطين من الوصول إلى القرية، نجحت مجموعة من 20 من الناشطين في الوصول إلى القرية سيرا عبر الجبال، ورفع العلم الفلسطيني على أرض القرية. لقد ألهمت باب الشمس كثيرين، وبالتالي كسرت حالة الإحباط، إذ أقيمت بعد باب الشمس عدة قرى فلسطينية، مثل قرية باب الكرامة على أراضي قرية بيت إكسا شمالي غربي القدس المهددة بالمصادرة، وقرية كنعان جنوبي الخليل، وقرية الصمود والتحدي في جنين[76].
بصورة عامة وفي جميع الحالات، فقد أربك هذا النوع من النشاط الجيش الإسرائيلي، وفي كل مرة كانت تقام قرية كان يتم قمعها وهدمها وإزالتها خلال ساعات أو أيام. لقد نجحت باب الشمس في احتلال موقع رئيسي في عناوين أهم الصحف العالمية والقنوات الإخبارية، وكان شبان القرية فيها صانعي الخبر، وخرجوا من دائرة ردة الفعل أو الضحية العاجزة إلى دائرة الفعل، بينما خرج الإسرائيليون إلى دائرة ردة الفعل. لقد ساهمت التغطية الواسعة التي حصلت عليها باب الشمس في فضح سياسة الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل[77].
لقد أصبحت باب الشمس رمزاً وتجربة ملهمة حصلت على التفاف شعبي منقطع النظير، وشارك فيها فلسطينيون من كافة المشارب السياسية، وهم مختلفون في الرأي بشأن العديد من القضايا، لكنهم متفقون على لب القضية الحرية والعودة وتقرير المصير. لقد مثلت باب الشمس صورة واقعية للمجتمع الفلسطيني بخلافاته وتناقضاته وميزاته، وشكلت إلهاماً محلياً ودولياً، وأعادت الاعتبار إلى المقاومة الشعبية كواحدة من أشكال المقاومة ذات الجدوى، والأهم أنها أعادت الأمل. وبالتالي فالاستفادة من هذه التجربة لتطويرها من خلال النقد البناء والإيجابي أمر مطلوب[78].
11/3- أسلوب المقاطعة:
المقاطعة دعوة فلسطينية مدعومة عربياً ودولياً تهدف إلى تعزيز تحمل المجتمع المدني العالمي والغربي لمسؤوليته الأخلاقية في مناهضة إسرائيل. وتتجسد أصالة هذا المشروع في تسليط الضوء على حرمان إسرائيل ملايين اللاجئين الفلسطينيين حقهم في العودة والتعويض، وممارستها نظام التفرقة العنصرية ضد فلسطينيي 1948[79]. والمقاطعة بأشكالها المختلفة (اقتصادية، أكاديمية، ثقافية، اجتماعية، سياسية، وإدارة حكومية) سلاح استراتيجي عالمي وعمل شمولي يقوم به الشعب، لذلك شكلت الحملة المتصاعدة لمقاطعة إسرائيل منذ بضعة سنوات محور انتفاضة ثالثة. والمقاطعة معركة لا تستخدم فيها الأسلحة الفتاكة ولا تسيطر على قواعدها آلة الإعلام الصهيوني. وتستلهم حملة المقاطعة تجارب شعوب نجحت في هزيمة أنظمة الاضطهاد العنصري والاستعماري كتجربة النضال الجنوب أفريقي ضد نظام الأبارتهايد، في كسب الرأي العام العالمي وتضامن قوى المجتمع المدني العالمي ورفضها للاضطهاد من خلال حملات مقاطعة فعالة أدت إلى عزل النظام العنصري وأجبرته على الرضوخ للقانون الدولي[80].
وتأتي أساليب المقاومة المدنية التي تركز عليها حركات التضامن والمقاطعة الدولية في إطار الاحتجاج والإقناع والمقاطعة من خلال اللا تعاون. فعلى سبيل المثال، بالنسبة لحملة مقاطعة المستهلكين للمنتجات الإسرائيلية، فقد حققت حركة المقاطعة إنجازات عديدة على مستوى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، حيث أعلنت كل من جنوب إفريقيا والدنمرك في أيار اعتزامها وضع ملصقات تميز منتجات المستوطنات، وأعلنت شبكة ميغروس ثاني أكبر شبكة تجارية في سويسرا نيتها ابتداء من العام 2013 تمييز بضائع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة مع ذكر أنها قادمة من مستوطنات إسرائيلية[81].
11/4- الأسلوب الدستوري والقانوني:
الشائع بهذا الخصوص تناول هذ الموضوع على مستوى المحاكم والقوانين الإسرائيلية، وعلى مستوى المحاكم الدولية وأحكام القانون الدولي، حيث يقوم الفلسطينيون بالمطالبة بحقوقهم والسعي لكسب معركة قانونية ضد إسرائيل.
غير أن هناك مستوى ثالث لا يقل أهمية، وهو المستوى الفلسطيني، وتحديداً على الصعيد الدستوري المرتبط بالميثاق الوطني الفلسطيني وعمليات التغيير القسري التي جرت فيه بضغط من إسرائيل والولايات المتحدة. فالتزاماً منها باتفاقيات قامت السلطة الفلسطينية بتعديل مواد الميثاق التي تتعارض مع الاعتراف بوجود إسرائيل، الأمر الذي انعكس بالسلب على الحق الفلسطيني. وهنا فقد حصل تعد على حقوق دستورية أصيلة للشعب الفلسطيني، وينبغي على هذا الشعب من خلال مقاومته المدنية أن يسعى ويطالب قيادته بإعادة حقه الدستوري الذي تم تغييره بما يعود عليه بالضرر.
فالتغيير في الميثاق الوطني الفلسطيني شمل المواد التسعة الأولى، وأهمية هذه المواد تكمن في تعريفها بثلاثة ثوابت جوهرية هي: القضية الفلسطينية، الشعب الفلسطيني، والجغرافيا الفلسطينية. القضية الفلسطينية، كما يحددها الميثاق، هي قضية صراع بين حركة استعمارية وهي الحركة الصهيونية وبين حركة التحرر الوطني وهي الحركة الوطنية الفلسطينية التي تشكل منها منظمة التحرير الفلسطينية. والفلسطينيون، كما جاء في نص المادتين الخامسة والسادسة من الميثاق، هم كل أهالي فلسطين ما قبل قرار التقسيم ونسلهم فيما بعد، والجغرافيا الفلسطينية هي الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948 ومجازاً تشمل أيضاً الشتات الفلسطيني[82].
إلا أنه مع التحول السياسي الذي حدث منذ مؤتمر مدريد 1990 واتفاقيات أوسلو 1993، اعترفت القيادة الفلسطينية بإسرائيل، معلنة قبول إمكانية تكوين دولة فلسطينية حتى حدود الرابع من حزيران 1967 تضم الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية، الأمر الذي يعني ضمناً التنازل عن 80٪ من أرض فلسطين، ثم التفاوض على الجزء المتبقي منها الذي لم يتبق منه أصلاً بسبب الاستيطان سوى 7٪ تقريباً من مساحة أرض فلسطين.
وهو ما يعني أن الثوابت الفلسطينية قد تحولت إلى قضايا حل نهائي[83]، وأن التعريف بجغرافية فلسطين قد تقلصت إلى مساحة محدودة للغاية هي التي يطالب بها الفلسطينيون، وأن مفهوم الشعب الفلسطيني وفقاً للتعديل القسري لمواد الميثاق أصبح منحصراً في نطاق ضيق، ومن ثم فإن القضية الفلسطينية لم تعد قضية صراع استعماري.
هذه حقوق قانونية دستورية على الفلسطينيين أن يسترجعوها بالمقاومة المدنية الشاملة لا من خلال المقاومة المدنية المحدودة.
وبالنسبة للمقاومة القانونية من خلال المحاكم الإسرائيلية والقوانين الإسرائيلية، فهي أيضاً جبهة مقاومة مدنية تستحق الاهتمام من القيادة الفلسطينية، ومن المقتدرين من أبناء الشعب الفلسطيني، لكنها تتطلب عنصري المبادرة والمثابرة[84]. وكثير من الفلسطينيين، وخاصة المحتلة أرضهم عام 1948، يستخدمون هذا الحق بقوة، وعلى مستوى المؤسسات الدستورية أيضاً، لكن الملاحظة أنه لا يوجد إجماع بين الفلسطينيين على هذه الوسيلة، وخاصة لدى أولئك الذين يؤثرون المقاطعة.
لكن جبهة المقاومة القانونية التي ينبغي أن تحظ بالاهتمام الأكبر هي الجبهة القانونية الدولية، فهي الجبهة الأهم التي بإمكانها مع تطور أدوات القانون الدولي للحفاظ على حقوق الإنسان أن تمثل دعماً. وتحريك المتابعة الدولية القانونية يمثل عامل إزعاج لسياسة الاحتلال. إن حصول فلسطين على مركز صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة قد منحها الشخصية القانونية الممنوحة للدول بمقتضى القانون الدولي العام، وهو ما يعني إمكانية انضمامها للاتفاقيات الدولية على اختلافها. ويمكن استثمار هذا الانضمام في فتح معارك قانونية بمواجهة الممارسات والانتهاكات الإسرائيلية.
من المهم الالتحاق بالعديد من الاتفاقيات التي تمكن من القيام بإجراءات قانونية ضد إسرائيل وتشكيل لجان تقصي حقائق تعزز المقاومة القانونية، إذ يجب عدم تأجيل الالتحاق بها. فهناك كثير من الاتفاقيات الدولية من المهم الالتحاق بها مثل: النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، اتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها، النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات. ومن الضروري الالتحاق باتفاقيات القانون الدولي وأكثرها أهمية للشأن الفلسطيني هي: الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، اتفاقية حقوق الطفل، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والبرتوكولات الملحقة به[85].
وللاستفادة من مداخل النصوص القانونية في تفعيل دور القضاء الدولي في المقاومة المدنية الفلسطينية، يمكن القول بأن القضاء الدولي له وجهين: حل المنازعات الدولية من خلال محكمة العدل الدولية، والمحاكمة الجنائية الدولية من المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الخاصة ذات طبيعة مؤقتة الاختصاص العالمي للقضاء الوطني المحلي في ملاحقة المجرمين. فقد حدد الميثاق الأساسي لكل من المحكمتين آليات تفعيل اختصاصات كل منهما، ولكن الركن الأساسي لتفعيل اختصاص محكمة العدل الدولية، وللمصادقة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، هو صفة الدولة للكيان السياسي الفلسطيني. من جهة أخرى فإن أي توجه وطني جاد للجوء إلى القضاء الدولي يتوجب أن يعي تماماً البعد الاستراتيجي والتكاملي للجهود المبذولة على صعيد تفعيل دوري كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية[86].
فيما يتعلق بموضوع التجربة الفلسطينية في اللجوء إلى القضاء الدولي، فبخصوص محكمة العدل الدولية، ما زال عالقا في الذاكرة الانتصار المعنوي الذي حققته جهود استصدار الفتوى القانونية حول الجدار العازل من محكمة العدل الدولية في عام 2004، حيث كان فحواه الإقرار بصلاحية المحكمة بالنظر في القضية، والتصريح بعدم شرعية الجدار والاستيطان وفقا للقانون الدولي، والمطالبة بإزالتهما والتعويض عن الأضرار الملحقة. أما بخصوص المحكمة الجنائية الدولية فلم تصنف بعد ضمن أرشيف هذه المحكمة أي قضية تتعلق بالجرائم الإسرائيلية الواقعة بحق الشعب الفلسطيني[87].
ومن الضروري التأكيد على أهمية كسب الرأي العام العالمي في جبهة المقاومة القضائية الدولية، من خلال العمل على تطوير دبلوماسية عامة وشعبية، يمكن وصفها بدبلوماسية التظلم والتشهير، من شأنها الكشف عن الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي وإخلالها بالتزاماتها بموجبه، وبالتالي الإلحاح في طلب التدخل الدولي في كف الاعتداءات والتعويض عنها ومحاسبة الجناة[88].

الخاتمة:

هذا هو حال الضفة الغربية في المقاومة المدنية، وهذا هو الإطار التنظيري المقترح لتفعيلها. ومن غير المعقول تعطيل هذ الجانب الذي يمكن أن يشارك فيه الشعب الفلسطيني بكل فئاته، بمن فيهم الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة. تحييد قوة البطش الإسرائيلية وضبط النفس يفوت الفرصة على النوايا والذرائع الإسرائيلية. بناء القوات المسلحة الفلسطينية أمر مطلوب لأغراض الدفاع إذا ما تعرض الفلسطينيون لعدوان إسرائيلي، لكن في إطار عمل شعبي مدني يتسع تدريجياً كي يصبح شاملاً فمن الخطأ أن يتحول إلى مسلح، هكذا تقوم التجارب العالمية، وتوصي بضبط النفس.
*****

الهوامش:

* أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة زايد، أبو ظبي.
[1] “الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية”، الموسوعة الحرة ويكيبيديا، https://ar.wikipedia.org/wiki/ الجدار_الإسرائيلي_في_الضفة_الغربية
[2] “قائمة المستوطنات الإسرائيلية”، الموسوعة الحرة ويكيبيديا، https://ar.wikipedia.org/wiki/ قائمة_المستوطنات_الإسرائيلية
[3] لمزيد من التفصيل، أنظر: د. بشير أبو القرايا، النموذج الانتفاضي الفلسطيني دراسة في الحركة الوطنية والظاهرة الإسلامية، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2014، ط1، ص155-159.
[4] المصدر السابق نفسه، ص138.
[5] خالص جلبي، “جدوى المقاومة المدنية”، الشرق الأوسط، ع8037، 29/11/2000، http://archive.aawsat.com/details.asp?issueno=8059&article=15349#.WOCBh44lFo4
[6] إصلاح جاد، ” المقاومة المدنية واحتمال انتفاضة ثالثة”، فلسطين، مارس آذار 2011، http://palestine.assafir.com/Article.aspx?ArticleID=1832
[7] نعيم ناصر، “المقاومة المدنية: مدارس العمل الجماهيري وأشكاله للدكتور عبد الهادي خلف”، حزب الشعب الفلسطيني، 10/5/2016، www.ppp.ps/ar_page.php?id=11e3026y18755622Y11e3026
[8] د. أحمد فارس عودة وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، شؤون فلسطينية، ع253-254، 15/9/2013، ص216، http://www.shuun.ps/page-357-ar.html
[9] المصدر السابق نفسه، ص217.
[10] إصلاح جاد، “المقاومة المدنية واحتمال انتفاضة ثالثة”، فلسطين، مصدر سابق.
[11] أحمد أبو رتيمة، “خيار المقاومة المدنية في فلسطين”، المركز الفلسطيني للإعلام، 2/11/2009،
https://www.palinfo.com/articles/2009/11/2/خيار-المقاومة-المدنية-في-فلسطين
[12] أكرم مسلم وآخرون، “المقاومة الشعبية السلمية: استيضاح المفهوم البحث في البرامج وسؤال الأدوات (ندوة)”، سياسات، ع20، 2012، ص118.
[13] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص214،
[14] المصدر السابق نفسه، ص217.
[15] السابق نفسه، ص217.
[16] نعيم ناصر، “المقاومة المدنية: مدارس العمل الجماهيري وأشكاله للدكتور عبد الهادي خلف”، حزب الشعب الفلسطيني، مصدر سابق.
[17] عبد الغني سلامة، “المقاومة الشعبية في فلسطين بلعين نموذجا”، سياسات، ع20، 2012، ص73.
[18] مأمون سويدان، “المقاومة الشعبية في برنامج الفصائل الفلسطينية ومواقفها”، سياسات، ع20، 2012، ص85.
[19] أحمد أبو رتيمة، “خيار المقاومة المدنية في فلسطين”، المركز الفلسطيني للإعلام، مصدر سابق.
[20] نعيم ناصر، “المقاومة المدنية: مدارس العمل الجماهيري وأشكاله للدكتور عبد الهادي خلف”، حزب الشعب الفلسطيني، 10/5/2016، www.ppp.ps/ar_page.php?id=11e3026y18755622Y11e3026
[21] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص216،
[22] سميح شبيب، “الحكم الذاتي والمقاومة المدنية”، الأيام، 24/2/2017، http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=11e210e9y300028137Y11e210e9
[23] لمزيد من التفصيل: د. بشير أبو القرايا، “تهديدات تهويد الأقصى وآفاق انتفاضة جديدة”، قضايا ونظرات، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة، ع2، يونيو 2016، ص56-63.
[24] أنظر: رشاد توام، “دبلوماسية التظلم والتشهير: القضاء الدولي في المقاومة السلمية: نحو نموذج فلسطيني”، سياسات، ع20، 2012، ص40. د. أشرف المبيض، “المقاومة الشعبية المدنية في فلسطين في ضوء تجارب الهند والنرويج وجنوب إفريقيا”، سياسات، ع20، 2012، ص12. أحمد أبو رتيمة، “خيار المقاومة المدنية في فلسطين”، المركز الفلسطيني للإعلام، مصدر سابق.
[25] بسام أبو الرب، ” المقاومة الشعبية في فلسطين نموذج سطر التاريخ”، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا، رام الله، 20/4/2011، http://www.wafa.ps/ar_page.aspx?id=03Kq12a574400067054a03Kq12
[26] عبد الغني سلامة، “المقاومة الشعبية في فلسطين بلعين نموذجا”، سياسات، مصدر سابق، ص65-76.
[27] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص216.
[28] د. بشير أبو القرايا، النموذج الانتفاضي الفلسطيني دراسة في الحركة الوطنية والظاهرة الإسلامية، مصدر سابق، ص165-179.
[29] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص214.
[30] “المـقـاومـة المـدنيـة ليـست بـديـلا”، فلسطين، آذار 2011، http://palestine.assafir.com/Article.aspx?ChannelID=152&ArticleID=1839
[31] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص215.
[32] زياد ابحيص، “آفاق المقاومة الشعبية في الضفة الغربية”، التقدير استراتيجي رقم 73، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4/11/2014، https://www.alzaytouna.net/2014/11/18/null-8/
[33] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص218.
[34] المصدر السابق نفسه، ص215.
[35] زياد ابحيص، “آفاق المقاومة الشعبية في الضفة الغربية”، التقدير استراتيجي مصدر سابق.
[36] خالص جلبي، “جدوى المقاومة المدنية”، الشرق الأوسط، مصدر سابق.
[37] سالم أبو هواش، “التجربة الفلسطينية في المقاومة الشعبية المدنية”، جريدة حق العودة، ع21-22، 2014، المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، بديل، http://www.badil.org/ar/publications-ar/periodicals-ar/haqelawda-ar/item/267-article10.html
[38] سميح شبيب، “المقاومة المدنية في فلسطين”، فلسطيننا، 15/1/2014، https://www.falestinona.com/OurPalWebSite/ArticleDetails.aspx?ArticleId=9777
[39] سالم أبو هواش، “التجربة الفلسطينية في المقاومة الشعبية المدنية”، جريدة حق العودة، مصدر سابق.
[40] د. عمار علي حسن، “المقاومة المدنية خيار ضروري”، الاتحاد، 14/8/2009، http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=47305
[41] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص216.
[42] عبد الرحمن فرحانة، “مستقبل المقاوم الفلسطينية في ضوء المصالحة الوطنية”، ورقة عمل قدمت في مؤتمر مستقبل المقاومة الفلسطينية في ضوء الحرب على قطاع غزة في صيف 2014، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، ص15.
[43] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص217. وانظر: عبد الغني سلامة، “المقاومة الشعبية في فلسطين بلعين نموذجا”، سياسات، ع20، 2012، ص72-73.
[44] زياد ابحيص، “آفاق المقاومة الشعبية في الضفة الغربية”، التقدير استراتيجي رقم 73، مصدر سابق.
[45] عبد الرحمن فرحانة، “مستقبل المقاوم الفلسطينية في ضوء المصالحة الوطنية”، مصدر سابق، ص15.
[46] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص217.
[47] عبد الغني سلامة، “المقاومة الشعبية في فلسطين بلعين نموذجا”، سياسات، مصدر سابق، ص68.
[48]بشار حميض، “تحرير فلسطين مدنيا: الدرب الذي لم يسلك بعد”، قديتا، 7/7/2011، http://archive.is/zDV8q#selection-747.0-747.54
[49] أكرم مسلم وآخرون، “المقاومة الشعبية السلمية: استيضاح المفهوم البحث في البرامج وسؤال الأدوات (ندوة)”، سياسات، مصدر سابق، ص115.
[50] سميح شبيب، “الحكم الذاتي والمقاومة المدنية”، الأيام، 24/2/2017، http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=11e210e9y300028137Y11e210e9
[51] سميح شبيب، “المقاومة المدنية في فلسطين”، فلسطيننا، 15/1/2014، https://www.falestinona.com/OurPalWebSite/ArticleDetails.aspx?ArticleId=9777
[52] سالم أبو هواش، “التجربة الفلسطينية في المقاومة الشعبية المدنية”، جريدة حق العودة، مصدر سابق.
[53] بشار حميض، “تحرير فلسطين مدنيا: الدرب الذي لم يسلك بعد”، قديتا، مصدر سابق.
[54] المصدر السابق نفسه.
[55] محمد إبراهيم أبو دقة، “حركة المقاطعة وسحب الاستثمار وفرض العقوبات على إسرائيل”. سياسات، ع20، 2012، ص141-161.
[56] عبد الغني سلامة، “المقاومة الشعبية في فلسطين بلعين نموذجا”، سياسات، مصدر سابق، ص73.
[57] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص217.
[58] لمزيد من التفصيل أنظر: د. بشير أبو القرايا، النموذج الانتفاضي الفلسطيني …، سابق، ص245-252.

[59] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص216.
[60] المصدر السابق نفسه، ص216،
[61] أكرم مسلم وآخرون، “المقاومة الشعبية السلمية: استيضاح المفهوم البحث في البرامج وسؤال الأدوات (ندوة)”، سياسات، مصدر سابق، ص110.
[62] ليندا طبر وعلاء العزة، “المقاومة الشعبية بعد الانتفاضة الثانية”، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع97، شتاء 2014، ص130.
[63] د. أشرف المبيض، “المقاومة الشعبية المدنية في فلسطين في ضوء تجارب الهند والنرويج وجنوب إفريقيا”، سياسات، مصدر سابق، ص9.
[64] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص214.
[65] المصدر السابق نفسه، ص213،
[66] زياد ابحيص، “آفاق المقاومة الشعبية في الضفة الغربية”، التقدير استراتيجي رقم 73، مصدر سابق.
[67] خالص جلبي، “جدوى المقاومة المدنية”، الشرق الأوسط، مصدر سابق.
[68] صلاح مصطفى العويصي، “المقاومة اللاعنفية في فلسطين بعد اتفاق إعلان مبادئ أوسلو: بلعين ونعلين نموذجا”، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية، جامعة الأزهر، غزة، 2013، ص51-54.
[69] عبد الغني سلامة، “المقاومة الشعبية في فلسطين بلعين نموذجا”، سياسات، سابق، ص67.
[70] صدقي موسى، “المقاومة الشعبية في فلسطين هل تسير على خطى غاندي؟”، عربي 21، رام الله، 21 ديسمبر 2014،
https://arabi21.com/story/797413/المقاومة-الشعبية-في-فلسطين-هل-تسير-على-خطى-غاندي
[71] بسام أبو الرب، ” المقاومة الشعبية في فلسطين نموذج سطر التاريخ”، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا، مصدر سابق.
[72] أحمد أبو رتيمة، “خيار المقاومة المدنية في فلسطين”، المركز الفلسطيني للإعلام، مصدر سابق.
[73] عبد الغني سلامة، “المقاومة الشعبية في فلسطين بلعين نموذجا”، سياسات، سابق، ص65-76.
[74] “مركز الأرض والإنسان يصدر دراسة بعنوان: المقاومة المدنية في فلسطين”، وكالة معاَ الإخبارية، القدس، 25/06/2013، http://maannews.net/Content.aspx?id=608353
[75] عبير قبط، “المقاومة الشعبية نجاحات وإخفاقات باب الشمس نموذجا”، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع95، صيف 2013، ص44، ص52.
[76] المصدر السابق نفسه، ص52.
[77] السابق نفسه، ص53.
[78] نفسه، ص55.
[79] إصلاح جاد، “المقاومة المدنية واحتمال انتفاضة ثالثة”، فلسطين، مصدر سابق.
[80] المصدر السابق نفسه.
[81] محمد إبراهيم أبو دقة، “حركة المقاطعة وسحب الاستثمار وفرض العقوبات على إسرائيل”. سياسات، ع20، 2012، ص153.
[82] د. أحمد فارس وآخرون، “المقاومة المدنية في فلسطين- ندوة”، مصدر سابق، ص200-201.
[83] المصدر السابق نفسه، ص201.
[84] السابق نفسه، ص208.
[85] نفسه، ص199.
[86] رشاد توام، “دبلوماسية التظلم والتشهير: القضاء الدولي في المقاومة السلمية: نحو نموذج فلسطيني”، سياسات، مصدر سابق، ص34.
[87] المصدر السابق نفسه، ص40.
[88] السابق نفسه، ص 53.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى