الهجمات على الأمة وأنماط المقاومة الحضارية

بين الذاكرة التاريخية والجديد منذ الثورات العربية

مقدمة**:

تعرضت الأمة العربية الإسلامية على مدى تاريخها لهجمات خارجية، سواء في مراحل القوة والفتوح والوحدة أو مراحل الضعف والتراجع والتجزئة. وفي حين نجحت الأمة في استيعاب الهجمات العسكرية الخارجية والتصدي لها في مراحل متقدمة، فلقد واجهت الفشل في التصدي في مراحل أخرى لاحقة حتى اكتمل الهجوم والاستقطاع والاحتلال.
ولم يكن البُعد الداخلي في أوطان الأمة وكياناتها وكذلك البينيّ – أي فيما بين هذه الأوطان – بعيدًا عن هذا الخارجيّ؛ سواء في انكساره أولًا أو تغلبه عسكريًا لاحقًا.
كذلك، وهو الأهم، لم يكن تصدي الأمة للهجوم العسكري أو الهزيمة أمامه بمعزل عن باقي عناصر القوة والفعل أو عناصر الضعف والتخاذل: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية–القيمية. والأكثر أهمية هو أن مقاومة الأمة للتهديد من الخارج ومن الداخل أيضًا ظلت سمة مستمرة وإن تنوعت درجاتها وطبيعتها ومستوياتها داخليًا وخارجيًا.
ومن ثم فإن إعادة قراءة تاريخ الأمة، في مراحله المتعاقبة وفي تفاعله مع تواريخ الأمم الأخرى، يجب ألا تكون قراءة اختزالية جزئية، عسكرية أو سياسية، داخلية أو خارجية؛ ولكن يجب أن تكون قراءة حضارية كلية شاملة. فالهجمات والتحديات والتهديدات كانت حضارية شاملة وليست عسكرية فقط أو خارجية فقط، والاستجابات والمقاومات كانت أيضًا حضارية سواء الداخلية منها أو الخارجية، كما لم تنقطع على مدار هذا التاريخ وبأشكال وأنماط متنوعة، وفقًا للسياقات الوطنية والإقليمية والعالمية المتغيرة.
إن الذاكرة الباقية والممتدة عن تاريخ الأمة تنضح باستمرار الرسالة والدعوة والجهاد والإصلاح والمقاومة في إطار الأمة والحضارة وفقًا للقيم والمقاصد والسنن وانطلاقًا من العقيدة والشريعة[1]، ويقدم فقه هذه الذاكرة دلالات مهمة للراهن سواء عن حالة الهجمات (تحديًا أو تهديدًا) أو عن حالة المقاومة الحضارية سواء في ظل القوة أو الاستضعاف.
وبناء عليه، فإن فهم “الواقع الراهن” للأمة لا يستقيم بدون استدعاء الذاكرة الحضارية للأمة، هكذا تعلمنا من أعلام المنظور الحضاري[2]، ولذا فإن حالة الثورات المعاصرة العربية والثورات المضادة لها، حالة تختبر هذه الذاكرة وتكشف عن سُننها، سواء فيما يتصل بالجديد في الهجمة الحضارية أو الجديد في جانب المقاومة الحضارية أيضًا لهذه الهجمة.
وإذا كان تراث فكرنا الحضاري الحديث والمعاصر ممتلئًا بنماذج تحليل هذه الثنائية (الهجمة- المقاومة)، فإن حُسْن التصدي للهجمة الراهنة يقتضي تحديد ما الجديد فيها، على ضوء ثراء دلالات الذاكرة التاريخية وما تقدمه من العبر.
ونجد هنا مقولة أساسية مفادها الآتي: أن الثورات المسلحة المضادة للثورات الشعبية السلمية منذ 2011 ليست مجرد هجمة عسكرية من النظم المتكلسة المتهاوية والقوى الخارجية المساندة لها، بل هي موجة من الهجمة الحضارية المعاصرة التي تواجهها الأمة العربية والإسلامية منذ 1991 (نهاية الحرب الباردة والقطبية الثنائية والصراع الأيديولوجي التقليدي)، والتي ينضفر فيها الداخلي والخارجي بقوة وكذلك السياسي-العسكري والديني الثقافي بدرجة أقوى، ويتعرض خلالها المشروع الحضاري الإسلامي، وكذلك كل مشروعات الاستقلال والتحرر الوطني والقومي لتحدٍّ جديد، وتمثِّل هذه الموجة في مجموعها مفصلًا من مفاصل تطور وضع الأمة العالمي ومن تطور المشروع الحضاري الإسلامي عبر تاريخ الأمة.
ولقد واجهت الثورات الشعبية السلمية منذ 2011 هجمةً لاحتوائها وإجهاضها؛ هي حلقة من مسلسل معاصر من الهجمات، دشنته نهايات القرن الـ20م (14هـ) وبدايات القرن الـ21 (15هـ)، في إطار عملية إعادة تشكيل توازنات القوى العالمية والإقليمية في ظل العولمة والهيمنة الأمريكية. وحلقات المسلسل المتوالية منذ 1991 أفرزت وطأة التدخل الخارجي في الأمة بالتعاون مع حلفائه من الداخل العربي والإسلامي. كما أبرزت صعودًا متكررًا للعلاقة بين الديني-الثقافي وبين السياسي، سواء في الهجمة أو المقاومة وصولًا إلى تحدي “المشهد الراهن” أي مشهد الصدام بين قوى الثورات وقوى الثورات المضادة وفي قلبه التحدي – بل التهديد – الذي يواجه المشروع الحضاري الإسلامي للأمة بصفة خاصة.
ولذا فالسؤال الذي يفرض نفسه بقوة على أصحاب “المشروع الحضاري الإسلامي”، باعتبارهم رافدًا من روافد الثورة الشعبية السلمية، فكرًا وحركة، التي تتصدى للاستبداد والظلم الذي يواجهها أكثر من غيرها من روافد الثورة، مأزقًا معاصرًا، وهو سؤال مزدوج عن جديد الهجمة والمقاومة ما الجديد في هذه الهجمة منذ اندلاع الثورات وخاصة مع صعود الثورات المضادة؟ وما الجديد في أنماط المقاومة؟ وما درجة فعاليتها؟
أي بعبارة أخرى، ما الجديد في هذه المرحلة من مراحل “الأزمة الحديثة” التي تواجهها الأمة منذ أكثر من قرن منذ أن وصل تداعيها وانحدارها الحضاري ذروته وإن لم تنقطع خلالها أنماط المقاومة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال لا تتحقق بفقه الواقع الراهن فقط ولكن تتطلب استدعاء ركائز وحلقات الذاكرة الحضارية التاريخية وما تقدمه من دروس وخبرات. لما لهذه الذاكرة من أهمية في تقدير وتقييم طبيعة الراهن من حيث طبيعة ودرجة كل من التهديد والاستجابة المطلوبة. فالعلاقة بين التاريخي والراهن علاقة عضوية بقدر العلاقة بين الداخلي والخارجي، والمادي والقيمي.
فأهمية الذاكرة الحضارية التاريخية تأتي من خلال تقديم رؤية كلية شاملة (من واقع الذاكرة التاريخية) لتحديد ما الجديد في الخطر، وفي المقاومة خلال هذه الأعوام الخمسة الفائتة (2011 – 2016) سعيًا نحو رؤية استراتيجية عن كيفية استمرار المقاومة خدمةً لأهداف الثورات وتصديًا للثورات المضادة التي تتدثر بها الهجمات الخارجية في طورها الراهن، وهو ما سيتم تفصيله كما يلي:
في أهمية الذاكرة التاريخية الحضارية للأمة: نحو تجديد الوعي الجماعي الحضاري ونحو الجديد في فقه الواقع
يستدعي مفهوم الذاكرة التاريخية الحضارية وتوظيفها في التحليل السياسي منظومة من المفاهيم المتشابكة: الزمان والمكان في تطورهما المتفاعل وأهمية النظر والتدبر في التاريخ، نهايات القرون وبدايات القرون ومفاصل الانتقال والتغيير في التواريخ الحضارية للأمم، تغير مسائل القضايا بتغير المساحات الزمانية والمكانية وتغير الأسباب، الرؤية الكلية المنظومية متجاوزة التفاصيل نحو الخصائص والأنماط الكبرى، مفهوم الأنماط، ومفهوم النماذج التاريخية الدالة على التغيير في التفاعلات، أزواج مفاهيم التحديات/ الاستجابات، الهجمات/ المقاومات، التهديدات/ التصدي، مفهوم الحضاري الجامع الشامل المنظومي بين ثنائيات وثلاثيات متكاملة: الداخل/ الخارج (الوطن – الأمة – العالم) العسكري/ السياسي والاقتصادي، السياسي/ الديني والثقافي؛ وأخيرًا التحليل الحضاري الدولي وأنماط التفاعلات الحضارية: التفوق الحضاري، القوة الحضارية، الاستيعاب الحضاري، الخلل الحضاري، الانحدار الحضاري، الانهيار الحضاري.
ويغلف مجموعات هذه المفاهيم وغيرها ويختبرها إشكالية العلاقة بين الفكر والممارسة، على صعيد فقه التاريخ وصولًا إلى فقه الواقع الراهن. وينبثق عن هذه المجموعات من المفاهيم المتراكمة، إطار نظريّ مركب عن “الذاكرة الحضارية للأمة”، يمكن أن تستند إليه دراسة العديد من التحولات المعاصرة وقضاياها وعلى رأسها “الثورات والثورات المضادة في المنطقة العربية”.
إن الذاكرة التاريخية الحضارية عن الهجمات على الأمة من الخارج ومن الداخل تقدم الكثير من الخبرات والنماذج والمفاصل التي تستدعي ضرورة الانتباه إلى ما يلي:
1- التشابك بين ثلاث منظومات من المفاهيم المتحاضنة والمتكاملة وهي: (1) منظومة حالات الفعل الحضاري للأمة: تدافعًا أم صراعًا أم تعاونًا بأدوات الحرب أو السلم. (2) منظومة وسائط وسبل الفعل الحضاري: الجهاد، التجديد، الإصلاح، التغيير، الثورة، الحوار. (3) منظومة مخرجات الفعل الحضاري: القوة الحضارية، الشهود الحضاري، الهيمنة الحضارية، العالمية الحضارية، الجمود الحضاري، التراجع الحضاري، الاستلاب الحضاري، التشوه الحضاري، الاختلال الحضاري والانحدار الحضاري ثم السقوط الحضاري، التداول الحضاري، النهوض الحضاري.
والعلاقات داخل كل منظومة وفيما بين المنظومات الثلاث علاقة وشيجة وشرطية وليست حتمية خطية صاعدة أو هابطة. تجسدت هذه العلاقات عبر تاريخ الأمة باختلاف الزمان والمكان في مصفوفات مركبة (يحتاج اكتشافها إلى دراسات مقارنة عديدة) تختبر مقولة أو سُنّة أن المقاومة الحضارية عملية مستمرة في تاريخ الأمة، ليس في مواجهة “الخارج” فقط ولكن داخليًا أيضًا، فالإصلاح والتجديد أو الثورة ليست داخلية بالأساس ولكن تتجه للخارج.
2- الهجمات قد تكون مجرد تحدٍّ للأمة يتطلب استجابة تقدر عليها الأمة أو قد تصل لدرجة التهديد حين يشتد التحدي ولا تصبح الأمة قادرة على التصدي له؛ وهو الأمر الذي يتطلب حينئذ شحذ المقاومة باختلاف أنماطها حتى لا ينقلب الخلل في الموازين الحضارية إلى استيعاب واستلاب كامل وليس مجرد هزيمة عسكرية.
ذلك أن الهجوم العسكري، انتصارًا أو هزيمة، ليس هو المحكّ الأساس في الهزيمة الحضارية أو السقوط الحضاري أو الاستبدال الحضاري؛ ومن ثم فإن مفاصل المسار التاريخي للعلاقات الخارجية للأمة تكشف عن تواريخ هزائم عسكرية تم استيعابها وتجاوزها والتغلُّب عليها، والعكس صحيح. والمحكّ كان القدرة الحضارية الذاتية في الاستجابة والمقاومة أو الخلل والعجز الحضاري؛ والمحك الثاني الأكثر أهمية هو ماهية التدخل الخارجي ودرجته وطبيعته وقدرته على “تقسيم صف الأمة” واختراقها من الداخل بأدوات أخرى غير الأداة العسكرية، وخاصة الأداتيْن الاقتصادية والثقافية. وتتغيّر أساليب وأدوات وأنماط هذا التدخل عبر المسار التاريخي وفق محددات عدة؛ من أهمها طبيعة النظام الدولي-العالمي القائم. فلا يمكن فهم الذاكرة التاريخية للأمة دونما القيام بأمرين: من ناحية أولى: فهم الارتباط بين ماهية طبيعة النظام العالمي القائم في كل مرحلة وبين الأبعاد الداخلية وبين الأبعاد البينية لمكونات الأمة؛ أي ضرورة الربط بين ثلاثية: حالة القوة أو الضعف، حالة الوحدة أو التجزئة وحالة الشهود أو التراجع أمام الهجمات الخارجية. ومن ناحية أخرى: الرؤية من خلال منظور حضاري للظواهر يجمع – كما سبق القول – بين أبعاد الداخل والخارج وبين القيمي والمادي، وبين الرسمي وغير الرسمي، وبين الفكري والحركي. فالهجمات الحضارية ليست عسكرية فقط وليست من الخارج فقط، وليست تستهدف عناصر القوة المادية فقط.
3- وتتعدد رؤى أعلام فكر الأمة الحضاري حول أهمية وضرورة استدعاء الذاكرة التاريخية وفهم دلالاتها المعاصرة شحذًا للوعي الجمعي للأمة نحو “فقه المقاومة الحضارية” انطلاقًا من أصول الفقه الحضاري.
فإذا كان حامد ربيع اعتبر التاريخ معمل الباحث السياسي، فإن التاريخ الإسلامي لديه هو تاريخ التراث الإسلامي: فكرًا ومؤسساتٍ وخبراتٍ متميزة تمثل مصدرًا أصيلًا للتنظير السياسي من منظور إسلامي؛ أي لبناء قواعد وأسس جديدة للتنظير السياسي من مصادر إسلامية وليس مصادر غربية فقط[3].
والتاريخ لدى طارق البِشريّ[4] هو تاريخ الأمة الذي يبين لماذا نحن أمة؛ أي يثبت وجود الأمة وانتماءنا إليها، وهو الذي يكشف أنماط العلاقة مع الآخر مستعمِرًا ومحتلًا وفارضًا للتبعية ومستهدِفًا الاستبدال الحضاري، وهو الذي يعرض خبرات وتجارب الإصلاح والتجدد المستمرة في الأمة في مواجهة العدوان الحضاري عليها من الخارج، إنه التاريخ الذي ينعش الإدراك بالوجود الإسلامي الجمعي وبالذات الحضارية ولإدراك المميز الثقافي وإثرائه له بالتنوع، إنه تاريخنا وليس تاريخهم الذي يجب أن ننطلق منه مدركين أنه بقدر ما لا يوجد تاريخ عالمي واحد (هو تاريخ الغرب من مركزية غربية) بقدر أن تعدد التواريخ القطرية والجزئية في عالمنا الإسلامي أشد خطورة على الرؤية الكلية عن تاريخ الأمة من فكرة التاريخ العالمي، إنه التاريخ الذي يبرز كيف أن التجدد في التيارات الفكرية الإسلامية ومدارسها هو قرين التغير في الأحداث الكبرى التي تطغى على الأمة وخاصة في مراحل الخلل والانحدار الحضاري واشتداد الهجمة الخارجية[5].
وينبه د. المهدي المنجرة – المفكر المغربي -[6] إلى أنه ليس هناك أمة بدون ذاكرة حضارية جماعية. فمن الضروري فهم دور وفعالية التاريخ الحضاري؛ لأن التقدم كله مبنيّ على الذاكرة، والذاكرة أمر أساس وأصل كلمتها من القرآن وكذلك المقابل لها أي النسيان.
ويرى د. المنجرة أن من أهم ذاكرات الأمة التي لا يجوز نسيانها، ذاكرة الهجمات الخارجية والاستعمارية. ويتخذ مثالًا لذلك مرحلة التسعينيات من القرن العشرين، وهو يكتب عن العدوان على العراق 1991 بعد عدوانها على الكويت، فُيذَكِّر بمغزى ضرب بغداد 1991. والذاكرة التي يستدعيها المنجرة ليست ذاكرة الهجوم على الأمة بالقوة العسكرية ولأهداف سياسية واقتصادية فقط، ولكن يُذَكر بالأساليب الثقافية العلمية المستخدمة لمحاربة الإسلام وقيمه في إطار مخطط ما بين قوى الاستعمار الجديد وعملائه في المنطقة؛ مخطط من أجل هيمنة حضارية ومحاربة القيم المحلية العربية الإسلامية، وإنشاء ذاكرة ممسوخة، والشعوب أساسًا هي القادرة على المواجهة و”بالذاكرة الشعبية يكتب التاريخ ويتمهد المستقبل”. بعبارة أخرى المهم، لدى المنجرة، عند رصد الذاكرة الحضارية هو الانتباه لتطور نمط الهجوم وأدواته وتطور أنماط المقاومة المطلوبة.
4- أن الاقتراب من “الذاكرة الحضارية” متعدد الطرائق والمداخل؛ ومن بينها مدخل الجمع في التحليل النظمي للعلاقات الدولية بين تاريخ الأمة والتاريخ الدولي وبين أبعاد الفكر والممارسة، في نطاق بناء منظور إسلامي للعلاقات الدولية وتفعيله وتشغيله ضمن نطاق البحث والتفكير في أوضاع الأمة المعاصرة[7]. والتاريخ المستهدف هو الحضاري الشامل، ليس العسكري أو السياسي فقط ولكن الفكري أيضًا بأبعاده الخارجية والداخلية، ناهيك عن أنماط التفاعلات الإسلامية الدولية الممتدة. ويقع التاريخ الإسلامي في قلب هذا الاهتمام لأكثر من هدف ولأكثر من غاية؛ من أهمها: استخلاص أنماط ونماذج تاريخية عن ثلاثة مجالات محورية: حالة القوة أو الضعف في الداخل الحضاري، حالة الوحدة أو التجزئة بين مكوناته، إدارة العلاقة حربًا أو سلمًا مع بقية العالم؛ ومن ناحية ثانية استكشاف قواعد صعود وانحدار الأمة دوليًا، وتطور حالة إدراك علماء الأمة لحالها وحال علاقاتها الخارجية ومواضع الهجوم عليها، تطور حالة التفكير في كيفية الإصلاح والنهوض من جديد.
ولم تكن غايات هذه الجهود العلمية نظرية أو فكرية فقط، ولكن غاياتها النهائية خدمة الحركة والممارسة بإعادة الاعتبار للذاكرة الحضارية عن تاريخ أمتنا بحثًا في حالة “المقاومة الحضارية” بصفة عامة، كعملية مستمرة تقوم بها الأمة بأشكال عدة.
فمع توالي وتراكم مشاركاتي العلمية الجماعية أو المنفردة في مجال القضايا الدولية المعاصرة وفي قلبها قضايا العالم الإسلامي، تأكد لي ما مفاده[8]: أن الذاكرة التاريخية الواهية أو المشوَّهة هي آفة خطيرة لا تقل خطورة عن آفات أخرى تعاني منها شعوبنا العربية الإسلامية. ويتم توظيف هذه الذاكرة الواهية أو المشوهة لإحكام الاستبداد السياسي والتبعية الاقتصادية والاستلاب الحضاري.
ولا يصدُق هذا الوضع على المساحات الوطنية فقط، ولكن يصدق أيضًا على مساحات العلاقات بين مكونات الأمة من الشعوب والحكومات، وكذلك مساحات العلاقات مع بقية “العالم”.
ولهذا، لم يكن الكفاح النظري باستدعاء التاريخ الإسلامي، إلى جانب التواريخ الحضارية للآخرين في عملية التنظير الدولي الحضاري المقارن، هو الكفاح الوحيد المطلوب، فلقد كان مطلوبًا أيضًا الاستدعاء المنظَّم للذاكرة التاريخية للحركات الوطنية، أو الصراعات أو تجارب التعاون أو…، فالسياسة ليست إلا التاريخ “الراهن” الذي لا ينفصل عن التاريخ “السابق”. ومن ثم، فإن تعميق فهم الأوضاع الراهنة للعالم الإسلامي، في مجملها وفي تفاصيلها، يتطلب استدعاء خبرة التاريخ للتدبر في ماهية التحديات والمخاطر والتهديدات الراهنة وسبل الخروج منها.
إن تراثنا هو تاريخ الفكر والمؤسسات والرموز والتفاعلات؛ أي تاريخ تطبيق الشريعة؛ ومن ثم تاريخ تطور العلاقة بين الأصل الثابت وبين المتغير فقهًا وممارسة. ومن ثم فإن العبرة من استدعاء التاريخ الإسلامي (للتنظير أو للتدبر) تتجاوز العبرة من استدعاء تواريخ حضارية أخرى لا تنطلق أو لا تقوم على مثل “ثابتنا” وأصلنا؛ أي: القرآن والسُّنة أو على مثل أصول المنهاجية الإسلامية.
فالتغيير المستمر بلا ميزان هو سمت أو صبغة دراستهم لتاريخهم، أما صبغة تاريخنا فهي التغير وفق ميزانٍ قِسْط قربًا أو بعدًا عنه، رشادةً أو ضلالًا، والميزان هو الأصل والثابت. ومن هنا أهمية الرؤية المقارنة بين مدارس تفسير التاريخ الإسلامية وغيرها من ناحية، وكذلك أهمية الرؤية المقارنة عن وضع وأهمية ومنهاجية توظيف التاريخ في الدراسات الدولية المقارنة (النظرية منها أو التطبيقية) من ناحية أخرى.
إن التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارتنا، وتاريخ تطور نظم الحكم الإسلامية وتطور العلاقات الدولية وتطور التاريخ الاجتماعي والاقتصادي. إن التاريخ الإسلامي ليس تاريخ الأُسر والملوك والخلفاء فقط ولكنه تاريخ الأمة، إنه ليس التواريخ الجزئية القُطرية فقط (التي سادت وانتشرت في ظل تشرذم الخلافة وبعد سقوطها)، ولكنه التاريخ الشامل للأمة الذي هو جزء حيّ من التاريخ العالمي. فالأخير ليس تاريخ المركزية الأوروبية المدّعية للعالمية، كما أنه ليس تاريخًا واحدًا للعالم ولكنه تاريخ كافة الدوائر الحضارية في تفاعلاتها الكبرى وخلال صعود أو هبوط كل منها.
إن التاريخ الإسلامي ليس تاريخ الحروب والمعاهدات فقط، ولكنه أيضًا تاريخ التفاعلات السلمية بين الشعوب والدول الإسلامية وغيرها من شعوب ودول العالم سواء في دورات القوة أو الصعود أو دورات الضعف والخبو.
إن التاريخ الإسلامي ليس تاريخ تطور هياكل توزيع القوة العالمية بين المسلمين وغيرهم فقط، ولكنه تاريخ التفاعلات الحضارية في منظومة متكاملة من الهياكل والمؤسسات ومنظومات القيم والأفكار.
إن للتاريخ الإسلامي قراءات تختلف باختلاف المنظورات: الماركسية، القومية، الليبرالية، الإسلامية. ومن ثم تفسير التاريخ الإسلامي، سواء في مفاصل تطوره الكبرى، أو أحداثه الجزئية، ليس تفسيرًا واحدًا، ولكنه متعدد الجوانب. ويتم توظيف كل تفسير توظيفًا سياسيًا في الصراعات السياسية الوطنية أو الإقليمية. ورغم ذلك يظل لدور التاريخ، في النظرية أو الحركة الدولية ضرورته وأهميته؛ وهو الأمر الذي يتطلب منهاجية حضارية في استدعاء التاريخ بحثًا في ركائز الذاكرة التاريخية وخاصة الحضارية الكلية.
5- وإذا كانت مداخل علماء الأمة – السابقة الإشارة إليها – إلى التاريخ قد تنوعت، إلا أنها أجمعت على أهمية التاريخ؛ ومن ثم أهمية دور الذاكرة الحضارية[9]. فنحن لا نتذكر الماضي لذاته فقط ولكن دائمًا لسبب أو لاستراتيجية معينة، وتتعدد النماذج الفكرية التي تعكس “الرؤية الإسلامية للزمن والتاريخ وللذاكرة المقرونة بالشريعة والأمة والحضارة”. فهذه العناصر هي ميزان استدعاء التاريخ لعرض الحاضر عليه أو للتدبر فيه خدمة لحاضر الشريعة والأمة والحضارة، مستفيدين بذلك من سنن الله التي انطبقت على مسار التاريخ وتشرح لنا كيف نفهم تطوره[10] خدمة للحاضر والواقع والمستقبل.
وفي هذا تتقابل أو تتضاد أو تتقاطع أحيانًا هذه الرؤية مع رؤى ذات جذور حضارية غربية منبثقة عن تقاليد يهودية مسيحية أو علمانية، عن “الذاكرة الحضارية”[11]. وهي في مجموعها رؤى من واقع تقاليد حضارات عدة؛ ما عدا الحضارة الإسلامية. ومن ثم فيغلب عليها المدخل الأسطوري، الماضوي، الشعبوي، الطقوسي، الفردي-الجماعي، المتغير والمتأرجح (الدوراني أو الخطي) بلا ميزان ثابت مثل الشريعة ومصدريها القرآن والسُّنة. فمعنى الزمان ومعنى التاريخ وفق هذه المصادر الغربية وما يتفرع عنها لابد أن يقود إلى معنى مغاير للرؤية الإسلامية عن “الذاكرة الحضارية” ووظائفها وأدوارها: مفاده “استرجاع الماضي المتأصل والمتعمق في الذات الحضارية” لتكون بمثابة انطلاقة التطور في الحضارة أو تكون مجرد الأساس والقاعدة للاستمرارية الحضارية، أو مجرد تحويل الماضي إلى أسطورة، أو مجرد ذكرى مؤصلة تضع الزمن الحاضر على أنه امتداد طبيعي للماضي، أو مجرد ذاكرة مضادة للحاضر تساعد على إدراك أوجه النقص في الزمن الحاضر مقارنة بزمن ماضٍ كان يحمل سمات عصر بطولي وعلى نحو يبرز القطيعة بين ما كان موجودًا وما هو موجود الآن، وصولًا إلى تأصيل الزمن الحاضر كما هو وقبوله أو التساؤل حوله والمناداة بالتغيير والانقلاب عليه وجذوره التاريخية أيضًا.
ومن ناحية أخرى، قد تتقاطع الرؤية الإسلامية عن الذاكرة الحضارية مع رؤى “حضارية غربية” في أن استدعاء الذاكرة هو أحيانًا نوعٌ من المقاومة[12]. فالمقاومة وفق الذاكرة الحضارية الإسلامية قائمة دائمًا في تاريخ الأمة، وتتعدد أدوارها بتعدد التهديد ويظل ميزانها واحدًا: “الحفاظ على الشريعة والأمة والحضارة”، فهي الأمة “الدائمة” – في أشكال متعددة – بدوام مصدرها؛ وهو “القرآن”، والرسالة للعالمين في كل زمان ومكان.
ولهذا، فبقدر ما تعددت أشكال وطبائع الهجوم عليها على مر تاريخها وأحوالها قوة ووحدة وفتحًا وشهودًا أو ضعفًا وتفككًا وتراجعًا ومشهودية، بقدر ما لم تنقطع أشكال المقاومة الحضارية قوة أو ضعفًا.
فما الذي تقدمه الذاكرة التاريخية من خبرات المراحل المتتالية؟ وأين موقع الحاضر القائم من هذه المراحل؟ وما الجديد في التهديد والمقاومة في مرحلة ما بعد الثورات؟
وأخيرًا، فإن التقديم الموجز السابق عن مفهوم الذاكرة التاريخية ومقتضيات دراستها وأهميتها يستدعي لنا مفهوم “مفاصل ونقاط التحول الكبرى في الهجمات الحضارية على العالم الإسلامي”، سواء من حيث حالة الأمة والنظام العالمي برمته من ناحية، وماهية هذه الهجمات ودرجة ما تمثله من تحدٍّ أو تهديد من ناحية أخرى، وأنماط المقاومة المتتالية المتغيرة ولكن الدائمة والمستمرة من ناحية ثالثة.
وهذا المفهوم يرتبط بمفهوم نهايات وبدايات القرون ودلالاتها استنادًا في جانب منه إلى الحديث الشريف: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدد لها دينها”. حيث يتضح من التحليل النظمي الدولي للتاريخ الإسلامي[13] أنه يمكن التمييز بين مفاصل تاريخية مهمة امتدت من نهايات قرن إلى بداية القرن التالي وشهدت تحولات مهمة سواء على صعيد الداخل الإسلامي (تعاقب سقوط وصعود الخلافات أو الدول الإسلامية الكبرى مثلًا) أو مستوى البيني من مكونات الأمة (الوحدة أو التفكك أو التقسيم أو التجزئة) أو على مستوى علاقات الأمة بالخارج (الحملات العسكرية، النفوذ والسيطرة، الاحتلال، التبعية الاقتصادية والثقافية…).
وجميعها كانت مفاصل في التحديات الهيكلية للأعمدة الفقرية وأعصاب الأمة المادية منها وغير المادية: الأرض، النظم، الثروة، العقول والقلوب، والأهم: “العقيدة”.
وبالنظر إلى القرون الخمسة الأخيرة، منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، القرن التاسع هجريًّا، على سبيل المثال، وهي المعروفة بقرون “الأزمة” (بدايةً وتناميًا وذروةً…)، يمكن التمييز بين عدد من المفاصل في تطور التوازنات العالمية بين مراكز القوة الإسلامية ومراكز القوة الغربية وجميعها اقترنت بنهايات قرن وبدايات قرن؟ وجميعها اقترنت بأحداث ووقائع شديدة الدلالة بالنسبة لهذه التوازنات وفي التحولات، وفي الهجمات مع صعود منحنى القوة الحضارية الغربية، وبداية منحنى انحدار القوة الحضارية الإسلامية بعد وصولها إلى الذروة وصولًا لذروة الأزمة مع نهاية القرن الثالث عشر هجريًا والتاسع عشر ميلاديًا وبداية القرن الرابع عشر هجريًا والقرن العشرين ميلاديًا.
وهذه المفاصل التاريخية هي[14]:
1- (1492-1517): بداية بالكشوف الجغرافية وسقوط غرناطة (استكمالًا لسقوط الأندلس التدريجي) واستنزاف التحرك العثماني غربًا في أوروبا وتحوله نحو الجنوب وضم مصر والشام والصدام مع الصفويين.
2- (1570- 1606): اشتداد الصدام العسكري العثماني-الأوروبي وبدايات جمود الفتوح العثمانية بل وتراجعها من معركة ليبانت 1570 إلى معاهدة زيتفاتوروك 1606.
3- (1699- 1715): الهزائم العسكرية العثمانية وأول استقطاع للأراضي في معاهدة كيتشوك كينارجا إلى بداية إدخال الإصلاحات في المركز العثماني نقلًا عن الغرب.
4- (1789- 1815): اندلاع الثورة الفرنسية وتغير التوازنات الأوروبية وامتداد التنافسات الأوروبية إلى قلب العالم الإسلامي واقتطاع جديد من الإمبراطورية العثمانية وتوازن أوروبي جديد وفق مؤتمر فيينا.
5- (1884- 1914): التنافسات الاستعمارية وعواقب الثورة الصناعية على موجة الاستعمار الثانية، وانهيار توازن القوى المتعددة واندلاع الحرب العالمية الأولى بعد فشل تسويات مؤتمر برلين 1884.
6- (1991-….): موجات ثلاث من الحروب الحضارية (1991-2001)، (2001-2011)، (2011-….) عبر أرجاء الأمة في ظل تداعيات نهاية الحرب الباردة، وعواقب هجمات2001 واندلاع ما يسمى الحرب العالمية على الإرهاب “الإسلامي”.
ويتضح من توالي هذه المفاصل الخمسة الأولى التحول التدريجي في مركز القوة العالمية والحضارية من المراكز الإسلامية، وخاصة العثمانية، إلى المراكز الأوروبية الغربية. فبعد الصمود العثماني في المرحلتين الأوليين تغلب الهجوم الأوروبي في المرحلتين التاليتين، وكانت الخامسة إيذانًا بميلاد نظام دولي مختلف الهيكل والحالة والقيم. وخلال هذه المراحل وتعاقبها انضفرت الأبعاد العسكرية بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فلم تكن الهزائم العسكرية العثمانية إلا بداية للاتجاه للغرب للنقل عنه حضاريًا وليس عسكريًا فقط، ولم يكن الاحتلال العسكري المتوالي لأرجاء العالم الإسلامي إلا تجسيدًا للضعف الحضاري الذاتي ومن ثم بداية للخلل الحضاري في الداخل والناجم عن الفرض القسري “للغربي” من أعلى في ظل الاحتلال. ولم يكن الاحتلال والتغريب إلا وجهين في عملية ثلاثية الأبعاد حيث كان الوجه الثالث هو التقسيم والتجزئة. ولكن لم تكفَّ المقاومة بأشكال مختلفة في مواجهة هذا الانحدار الحضاري الثلاثي الأبعاد في محاولة للإصلاح والتجديد والنهوض والشهود من جديد؛ ولم يكن ما بعد المفصل الخامس (القرن الخامس عشر هجريًا والقرن الحادي والعشرين ميلاديًا) الأشد قسوة ولكن الأكثر تعرضًا للمقاومة. فلقد اتخذ الانحدار، بعد سقوط الخلافة العثمانية واستكمال احتلال العالم الإسلامي وتقسيمه في تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى وبداية عصر الدول القومية المستعمَرة ثم المستقلة، ملمحين أساسيين لتلك المرحلة هما: المقاومة للاستعمار والتجزئة والتغريب من ناحية، وظهور الحركات والتنظيمات والتيارات الإسلامية وقيامها بأدوار أساسية في هذه المقاومة عسكريًا واجتماعيًا وفكريًا في تنافس بل وتصارع مع الحركات الوطنية الأخرى التي ارتدَتْ أردية أيديولوجية تعكس الصراع العالمي الجديد بين الشرق والغرب؛ أي الصراع الأيديولوجي الماركسي- الرأسمالي بعد أن خرجت الإسلامية – مؤقتًا – من دائرة ضوء هذا الصراع بعد سقوط الخلافة العثمانية، وحتى اكتسب دورها أبعادًا جديدة أي وضع القوى المعارضة أو المحظورة في إطار الدول القومية بعد الاستقلال خلال القرن العشرين من ناحية أخرى.
ومن ثم كان المفصل السادس (1991-2016) شديد الدلالة من حيث تنامي الانحدار الحضاري؛ حيث شهد ثلاث جولات من الحروب الحضارية على الأمة مع استمرار أنماط المقاومة المشوهة أو الرشيدة على حد سواء والتي توجتها الثورات العربية 2011 التي استفزت – بدورها – حربًا حضارية راهنة على “الإسلام والمسلمين” تستهدف بدرجة أساسية المشروع الحضاري الإسلامي والحركات الإسلامية بصفة خاصة.
إن كل مفصل من هذه المفاصل دشن جديدًا سواء في طبيعة الهجمة أو طبيعة المقاومة ضدها. فما الجديد في الهجمة على الثورات العربية وفي أنماط المقاومة من جانبها؛ وذلك على ضوء القواعد والأسس العامة التي يمكن استخلاصها من هذه الخبرة الممتدة من الفعل الحضاري الإسلامي؟
ومن ثم فإن الحديث عن أزمة الثورات العربية بعد ست سنوات من اندلاعها كجزء من الهجمة الحضارية المعاصرة على الأمة لا ينفصل عن الحديث عن أزمة المشروع الحضاري الإسلامي، طوال القرن العشرين، وبقدر ما لم ينفصل الحديث عن اندلاع الثورات 2011 عن الحديث عما سمي “الصعود الإسلامي” أو “الحقبة الإسلامية”[15]، وكلا الأمرين حلقة من حلقات تطور وضع الأمة في النظام الدولي، ولم يشغلني حينئذ مستقبل الصعود الإسلامي الذي ركز عليه العلمانيون والغرب بقدر ما شغلني منذ بداية اندلاع الثورات مستقبلها في ظل هذا “الصعود الإسلامي”[16]، وفي ظل طبيعة النظام الدولي القائم وموقفه من الثورات (على ضوء خبرة التاريخ الحديث والمعاصر)[17]، لأن القضية الوطنية الأساسية هي الحرية والاستقلال والعدالة للشعوب أيًّا كانت المرجعية التي تحكم طالما ستخدم التعددية والتداول وفق إرادة الشعب الحرة.
ومن أهم الأسئلة التي طرحتها على نفسي حينئذ؛ أي في 2011: من ناحية: هل طبيعة الثورة المصرية كنموذج حضاري للثورات (تعاوني، تسامحي، تكاملي، توافقي، عمراني، إيماني، سلمي) ستقود إلى تغيير حضاري يشارك فيه الإسلاميون إلى جانب الروافد الوطنية الأخرى للثورة؟ وما موقف السياقات الإقليمية والعالمية من هذه الثورات ترصدًا وترقبًا ومتى وكيف سيحدث التدخل الخارجي السافر لإجهاض الثورات؟ وهل ستستسلم النظم العميقة المتكلسة الفاسدة التابعة للنظام الدولي المهيمن؟ وكيف سيحل الخارج معضلة التناقض بين المبادئ والقيم التي يتخذها شعارًا له وبين الصعود الإسلامي ومسار التغيير في المنطقة العربية الذي قد يصبح مدخلًا لتغيير عالمي إذا تحققت أهداف الثورات الشعبية؟ وأخيرًا: كيف يمكن أن تحمي هذه الثورات نفسها؟ وكيف يمكن أن تقاوم الشعوب الثورات المضادة داخليًا وخارجيًا؟
وبعد ست سنوات من المتابعة الحية لما يواجه الأمة –في قلبها العربي- من تحديات وتهديدات حضارية، فإنه يمكن تخليصها في العناوين التالية: العدو المـُلتبس على الجميع، الصبغة الطائفية الفجة والمعلنة بدون حياء، الصعود الإسلامي في الثورات: من المشاركة إلى الاستهداف وأزمة المشروع الإسلامي، انكشاف تحالف العلمانيين والنظم العسكرية من جديد، تحول النظام العربي إلى نظام شرق أوسطي، النظام الغربي العالمي وأزمات الهيمنة وبداية الانحدار.
كما يمكن من ناحية أخرى القول أن أنماط المقاومة الحضارية لم تنقطع، قوية كانت أو واهية، ظاهرة أم باطنة، فكرية أو حركية، سلمية أو عنيفة،… وجميعها أنماط تستدعي النظر والتدبر والبحث في المآلات وفق قواعد أصول الفقه الحضاري.
إن فقه الواقع لا ينفصل عن فقه التاريخ، وفقه المنظور الحضاري. إن تحديد طبيعة اللقطة الراهنة (عبر ستة أعوام منصرمة) من مشهد ما زال يتشكل، أي فقه وحالة ما يسمى الثورات والثورات المضادة وحالة المشروع الإسلامي، لا ينفصل عن فقه الذاكرة التاريخية، فلابد من تسكين مشاهد هذه اللقطة في سياق تاريخي ممتد تعاقبت عليه مراحل من تطور وضع الأمة في النظام الدولي في تفاعلها مع تواريخ الأمم الأخرى في إطار سياقات عالمية متغيرة وحالات متغيرة من القوة وأنماط التفاعل المتبادلة.
إن أصول الفقه الحضاري، وفق د. سيف الدين عبد الفتاح، تعني كيفية مواجهة النوازل على الأمة من خلال الربط بين فقه النص، وفقه التاريخ، وفقه الواقع وصولًا إلى فقه التنزيل اجتهادًا حول سبل وأدوات مقاومة هذه النوازل حماية لوجود الأمة المادي والمعنوي. وهو الأمر الذي يعني استمرار التجديد في “مشروع حضاري إسلامي” يُتَرجم هذا الفقه الحضاري من مجرد رؤية إلى حركة وفعل بين مشروعات أخرى تداعت على الأمة منذ بداية انحدارها. فمتى يحتاج التجديد والإصلاح إلى ثورة لإحداث تغيير إذا ما تداعت العوائق لإجهاض مشروعات الإصلاح؟ سؤال قدمت السنوات الست الماضية إجابات متعددة عليه؛ ولكن والأهم أنه في وسط اشتداد أعراض الهجمة وعواقبها، من بين ظهرانينا وبأيدينا، تبرز أيضًا أشكال من المقاومة الحضارية، وهي قد تبدو خافته ومنتشرة بحيث لا تجذب الانظار بدرجة كافية تجدد الآمال في القلوب بأن الشعوب يمكن أن تحقق انتصارها بعد أن دفعت من دماءها وأرواجها الكثير.
ومن هنا فإن ملف هذا العدد من “قضايا ونظرات” تحت عنوان “تعاضد أنماط المقاومة الحضارية”، يقدم نموذجًا على ما يجب أن تعتاده عقولنا وقلوبنا من استخلاص للحالات التي تحقق مقاومة فريدة في مواجهة أقصى التحديات، قد لا تتضح آثارها المباشرة بسرعة ولكنها تحمل بصمات “حقيقة هذه الأمة” وهي: إنها لا تتوقف عن المقاومة وبكافة الأدوات وعبر مختلف أرجاءها. والفحص المستمر والعميق والمدقق بين ثنايا مشاهد”الاقتتال” والتحالفات والتحالفات المضادة وتدخلات الخارج السافرة وغير الظاهرة، يكشف حالات باهرة من “المقاومة” ذات الدلالات الممتدة والمتراكمة، لأنها مقاومة تنطلق من ثوابت هذه الأمة وتسعى لحمايتها، إنها أنماط من المقاومة الحضارية بكل ما تعنيه تلك الصفة من دلالات، لأنها تتصدى وبواسطة “الناس” لكل السلبيات التي تعكسها مشاهد التهديد، تتصدى للطائفية والمذهبية والقومية المتعصبة، لتجديد التعددية والقوة التوحيدية الكامنة في هذه الأمة، القوة المتجاوزة للثنائيات المتصارعة البغيضة.
*****

الهوامش:

* أستاذ العلاقات الدولية المتفرغ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسة، جامعة القاهرة، ومدير مركز الحضارة للدراسات السياسية.
** أ. د. نادية محمود مصطفى، مقدمة “الهجمات الحضارية على الأمة وأنماط المقاومة: بين الذاكرة التاريخية والجديد منذ الثورات العربية، (في) د.نادية مصطفى، د.سيف الدين عبد الفتاح، (إشراف عام)، حولية أمتي في العالم (العدد الثالث عشر) المشروع الحضاري الإسلامي: الأزمة والمخرج، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، تحت الطبع).
[1] انظر سباعية القيم التي نظمها أ. د. سيف عبد الفتاح تأسيسًا لرؤية إسلامية حضارية عن العلاقات الدولية في: د. سيف عبد الفتاح: “مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام” (في): نادية مصطفى (إشراف)، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، الجزء الثاني، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).
[2] حول قراءات في نماذج من الفكر الحضاري المقاوم، لأمثال: مالك بن نبي، د. حامد ربيع، د. منى أبو الفضل، المستشار طارق البشري، د. محمد عمارة، علي شريعتي، انظر على سبيل المثال: د. نادية محمود مصطفى (محرر)، في تجديد العلوم الاجتماعية: بناء منظور حضاري مقارن الفكرة والخبرة، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار البشير للثقافة والعلوم، 2016) الجزء الثالث، الحضاري: المفهوم والمنظور في العلوم الاجتماعية ولدى نماذج فكرية معاصرة.
[3] انظر الآتي:
– د. نادية محمود مصطفى: قراءة في أعمال د. حامد ربيع عن العلاقات الدولية والسياسية الخارجية، (في): د. حسن نافعة ود. عمرو حمزاوي (محرران)، أعمال ندوة قراءة في تراث حامد ربيع، (جامعة القاهرة: قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2004).
– أحمد ابن أبي الربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، حامد ربيع (تحقيق وتعليق وترجمة)، (القاهرة: دار الشعب، 1983).
– د. حامد ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، د. سيف الدين عبد الفتاح (مراجعة وتحقيق)، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2007).
[4] انظر في أعمال البشري على سبيل المثال:
– طارق البشري، سلسلة المسألة الإسلامية المعاصرة، (القاهرة: دار الشروق) سبعة أجزاء، صدرت على التوالي، وهي:
1- الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر (1996).
2- الحوار الإسلامي العلماني (1996).
3- الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي (1996).
4- بين الإسلام والعروبة (1998).
5- بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي (1998).
6- منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي (2005).
7- ماهية المعاصرة (2005).
– طارق البشري، التجدد الحضاري: دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيات الموروثة، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2015).
– طارق البشري، مقدمات الحكيم البشري: أمتي في العالم، سلسلة الوعي الحضاري (7)، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار البشير للعلوم والثقافة، 2014).
[5] إن البشري، الحكيم القاضي تبرز إسهاماته الفكرية المتتالية في سياقها التاريخي مستدعية لطبيعة كل مرحلة تاريخية وتحدياتها، فالعملية التاريخية الممتدة للأمة هي حاضنة فكر البشري الاجتماعي والثقافي والسياسي بل والقضائي.
انظر قراءتي لموضع التاريخ من البناء الفكري للبشري في: د. نادية محمود مصطفى، قراءة في البناء الفكري لطارق البشري، (في): إبراهيم البيومي (محرر)، أعمال ندوة الاحتفاء بطارق البشري يوليو (1998)، (القاهرة: دار الشروق، 2000).
[6] د. المهدي المنجرة، الحرب الحضارية الأولى، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الخامسة، 1995)، ص ص 109- 111، ص ص 123-124.
[7] انظر في ذلك:
– د. نادية محمود مصطفى، العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي: منظور حضاري مقارن، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار البشير للثفافة والعلوم، 2015)، الجزء الأول.
– د. نادية محمود مصطفى، العلاقات الدولية في الفكر السياسي الإسلامي: الإشكاليات المنهاجية وخريطة النماذج الفكرية ومنظومة المفاهيم، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2013).
[8] د. نادية محمود مصطفى، العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي: منظور حضاري مقارن، مرجع سبق ذكره، ص ص 19-23.
[9] انظر أيضًا على سبيل المثال:
– أنتوني بلاك، الغرب والإسلام: الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي، د. فؤاد عبد المطلب (ترجمة)، سلسلة عالم المعرفة (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 394، نوفمبر 2012) تقديم المترجم ص ص 7-41.
– د. جاسم سلطان، الفكر الاستراتيجي في فهم التاريخ (أداة فلسفة التاريخ)، سلسلة أدوات القادة (3) (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2015).
– د. مسفر بن علي القحطاني، الوعي الحضاري: مقاربات مقاصدية لفقه العمران الإسلامي، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة 2، 2013).
[10] انظر هذه الرؤية للزمن والتاريخ في سياق مدارس التفسير الإسلامي للتاريخ في:
– د. عماد الدين خليل، التفسير الإسلامي للتاريخ، (بيروت: دار العلم للملايين، 1981).
– د. عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003).
[11] حول هذه الرؤى الغربية ذات الأصول اليهودية المسيحية وعن أنواع الذاكرة الحضارية ووظائفها، انظر على سبيل المثال: بان أسمن، الذاكرة الحضارية: الكتابة والذكرى والهوية السياسية في الحضارات الكبرى الأولى، عبد الحليم عبد الغني رجب (ترجمة ومراجعة)، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012)، ص ص 100-143.
[12] المرجع السابق، ص ص 144-149.
[13] كما قدمته أعمال: د. نادية محمود مصطفى (إشراف)، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، (القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، اثنا عشر جزءًا، 1996).
سواء ما يتصل بالإطار النظري لهذا التحليل في الجزء السابع (مدخل منهاجي لدراسة التطور في وضع ودور العالم الإسلامي في النظام الدولي) أو التطبيق على العصور الإسلامية المتتالية:
– الجزء الثامن (الدولة الأموية.. دولة الفتوحات).
– الجزء التاسع (الدولة العباسية: من التخلي عن سياسات الفتح إلى السقوط).
– الجزء العاشر (العصر المملوكي: من تصفية الوجود الصليبي إلى بداية الهجمة الأوروبية الثانية).
– الجزء الحادي عشر (العصر العثماني: من القوة والهيمنة إلى بداية المسألة الشرقية).
– الجزء الثاني عشر (وضع الدولة الإسلامية في النظام الدولي في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية).
[14] انظر التفاصيل في:
– د. نادية محمود مصطفى، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، مرجع سبق ذكره، الأجزاء:
1- الجزء العاشر (العصر المملوكي: من تصفية الوجود الصليبي إلى بداية الهجمة الأوروبية الثانية).
2- الجزء الحادي عشر (العصر العثماني: من القوة والهيمنة إلى بداية المسألة الشرقية).
3- الجزء الثاني عشر (وضع الدولة الإسلامية في النظام الدولي في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية).
– وانظر خلاصة تحليل هذه المفاصل في:
– د. نادية محمود مصطفى، العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي: منظور حضاري مقارن، مرجع سبق ذكره، ص ص37-417.
انظر أيضًا:
– د. نادية محمود مصطفى، العصر المملوكي من تصفية الوجود الصليبي حتى بداية الهجمة الأوروبية الثانية، والعصر العثماني من القوة والهيمنة إلى بداية المسألة الشرقية، في: مجموعة مؤلفين، د. سمير سليمان (إشراف)، موسوعة تاريخ العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، (طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، إيران، ط1، 2010) ص ص(191-256)، ص ص(257-369).
[15] د. نادية محمود مصطفى: الحقبة الإسلامية.. من فقه الواقع وفقه التاريخ: حالة الصعود الإسلامي في ظل الثورات العربية، ملحق مجلة السياسة الدولية “تحولات استراتيجية على خريطة السياسة الدولية”، (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 188، عدد أبريل 2012).
[16] المرجع السابق.
[17] انظر الآتي:
– د. نادية محمود مصطفى: الثورات العربية والنظام الدولي.. خريطة الملامح والإشكاليات والمآلات، مجلة الغدير اللبنانية، يونيو 2011.
– د. نادية محمود مصطفى: السياسة الخارجية للثورة المصرية بين الأبعاد الداخلية والخارجية، في: عبد الإله بلقزيز (محرر)، الربيع العربي.. إلى أين؟: أفق جديد للتغيير الديمقراطي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012.
– د. نادية محمود مصطفى، الثورات العربية في النظام الدولي: خريطة الملامح والإشكاليات والمآلات، (العدد الحادي عشر من حولية أمتي في العالم) “الثورة المصرية والتغيير الحضاري والمجتمعي”، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2012).
– د. نادية محمود مصطفى، الثورات العربية في النظام الدولي، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار البشير للثقافة والعلوم، 2014).
– د. نادية محمود مصطفى، العدالة والديمقراطية: التغيير العالمي من منظور نقدي حضاري إسلامي، (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2015).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى