جولة بوش الأفريقية: المحاور والأهداف

مقدمة:

أثناء حملته الانتخابية عام 2000، صرَّح الرئيس الأمريكي جورج بوش بقوله: “إن إفريقيا على أهميتها لا تدخل ضمن المصالح الوطنية الاستراتيجية للولايات المتحدة حسبما أتصورها”[1].
وهو أمر لم يكن يقتصر في هذا الشأن على الرئيس بوش الابن وإدارته؛ حيث إن الاهتمام بالقارة الإفريقية قبل أحداث 11سبتمبر ارتبط بالأساس بالحرب الباردة؛ حيث أشارت وزارة الدفاع الأمريكية -في تصريح لأحد كبار مسئوليها عام 1988- إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لها أي أهداف عسكرية رئيسية في إفريقيا، وأن ما تشهده القارة من صراعات وحروب -معظمها حروب أهلية- داخلية لا تمثل مساسًا بالأمن الأمريكي، ولا تتطلب تدخلاً من جانب قواتها، ولو تحت مظلة حفظ السلم والأمن؛ الأمر الذي رسخته تجربة الصومال، وما أدت إليه من إصدار الرئيس الأمريكي الديموقراطي السابق بيل كلينتون قراراً بتقييد مهام القوات الأمريكية المستقبلية في إطار عمليات حفظ السلم والأمن الدوليين[2]، على الرغم من قيامه هو نفسه -ومن قبله وزيرة خارجيته- بزيارة القارة[3].
وقد تواترت الكتابات عن هامشية موقع قارة إفريقيا في السياسة الأمريكية؛ استنادًا إلى اعتبارات تاريخية وسياسية جوهرها ضعف الوجود الأمريكي تاريخيًا في القارة، وارتباط ذلك الوجود بالحرب الباردة بالأساس، واعتبارات اقتصادية تتعلق بضعف الاستثمارات الأمريكية في إفريقيا؛ والتي لا تتجاوز بأكملها ثلث استثماراتها في دولة البرازيل وحدها، علاوة على ضعف الناتج القومي الإجمالي للقارة؛ والذي لا يتجاوز في مجمله الناتج القومي لدولة البرتغال[4].
إلا أن أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من تداعيات في المنطقة العربية -وفي مقدمتها الحرب على العراق- أعادت إفريقيا من جديد إلى أجندة اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية، في ضوء الرؤية الأمنية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم على مكافحة “الإرهاب”، وتأمين المصالح الاقتصادية الاستراتيجية وفي مقدمتها إمدادات البترول[5]، وفي ضوء الموقف الإفريقي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الإفريقي من قرار الحرب ضد العراق[6].
وفي هذا الإطار قام الرئيس الأمريكي جورج بوش بزيارة لإفريقيا خلال شهر يوليو 2003م، زار خلالها عددًا من الدول الإفريقية جنوب الصحراء هي؛ السنغال، وجنوب إفريقيا، وأوغندا، ونيجيريا، واختار أن تكون محطته الأولى في القارة جزيرة “جوري” التي تقع بالقرب من العاصمة السنغالية داكار؛ حيث يوجد النصب التذكاري لملايين الأفارقة الذين تم بيعهم كرقيق ونقلهم من هذه الجزيرة إلى الولايات المتحدة ليعملوا في مزارعها كعبيد، ثم ليعانوا من التفرقة العنصرية بعد تحريرهم.
وقد ارتبطت زيارة بوش لإفريقيا منذ البداية بالحرب على العراق؛ حيث كان الموعد المقرر للرحلة هو شهر يناير 2003م، وحالت ظروف الحرب الأمريكية ضد العراق دون إتمامها في ذلك التوقيت.
ويُعتقد أن المؤسسات الأمريكية قد استثمرت هذا التأجيل في ترتيب سياساتها الإفريقية، واختارت القضايا التي تشغل بال واهتمام الدول الصديقة في إفريقيا جنوب الصحراء، وأعلنتها كأهداف للجولة الرئاسية؛ ولذلك اختارت الإدارة الأمريكية قضايا التعاون العسكري وحفظ السلام ومكافحة الإرهاب، وقضية مكافحة مرض الإيدز، وقضية دعم النظم الديموقراطية وإيقاف الحروب الأهلية بالحل السياسي التفاوضي، وقضية التجارة والاستثمار المرتبطة بخطة نيباد الإفريقية؛ مستهدفة من خلال تلك القضايا توجيه رسالتين أساسيتين: الأولى خارجية لدول القارة بهدف تحقيق المصالح الوطنية الأمريكية ودعم مواقف أصدقائها في القارة، والرسالة الثانية داخلية للناخب الأمريكي الذي يجرى إعداده وتهيئته لانتخابات الرئاسة في عام 2004[7].
فما هي الأهداف الحقيقية والمعلنة من وراء هذه الجولة؟ وما هو مردودها في الأوساط الإفريقية؟ وما هي النتائج التي أسفرت عنها؟ وما علاقة ذلك كله بالحرب على العراق؟

أولاً- جدول زيارة بوش ومسارها:

بدأ الرئيس الأمريكي جورج بوش جولته الإفريقية -وسط إجراءات أمنية مشددة- بزيارة السنغال؛ حيث عقد الرئيس السنغالي عبد الله واد والرئيس بوش قمة مصغرة (غير رسمية) مع عدد من رؤساء دول غرب إفريقيا؛ من بينهم رئيس غانا جون كوفور، الذي تتولى بلاده الرئاسة الحالية للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وتركزت أعمال القمة حول سبل تثبيت وقف إطلاق النار في ليبيريا. وأكد بوش في تصريحاته الصحفية عقب انتهاء القمة السريعة في السنغال أن واشنطن ستعمل بالتنسيق مع الأمم المتحدة ومجموعة “إيكواس”[8]؛ من أجل الحفاظ على اتفاقية وقف إطلاق النار بين الأطراف المتناحرة في ليبيريا، لكنه أشار إلى أنه لم يتخذ بعدُ قرارًا محددًا حول إرسال فرق أمريكية للمشاركة ضمن قوات حفظ السلام الدولية المقرر نشرها في ليبيريا[9].
وفي المحطة الثانية للجولة –التي زار خلالها جنوب إفريقيا– عقد الرئيس جورج بوش مباحثات رسمية مع الرئيس الجنوب/إفريقي تابومبيكي تناولت الجهود الإقليمية الجارية لإحلال السلام في ليبيريا وإمكانية مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الجهود. ومجددًا رفض الرئيس الأمريكي تحديد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستساهم بإرسال قوات إلى هذا البلد أم لا، وصرح بوش في مؤتمر صحفي مشترك مع تابومبيكي في بريتوريا أن بلاده ملتزمة بتحقيق السلام في ليبيريا في أقرب وقت، وأنه لم يطرأ جديد في موقفها، مشددًا على ضرورة تنحي الرئيس تشارلز تايلور قبل أي تدخل أمريكي[10].
ووجَّه الرئيس بوش أثناء محادثاته مع الرئيس تابو مبيكي نداء لبذل مزيد من الجهود للترويج لإجراء انتخابات حرة وإصلاحات اقتصادية في زيمبابوي المجاورة؛ وذلك في الوقت الذي تتحفظ فيه جنوب إفريقيا على تدخل الولايات المتحدة في الشئون الداخلية لهذه الدولة، في حين أكد الرئيس تابومبيكي أهمية مشاركة الولايات المتحدة عسكريًا لحل النزاعات المسلحة في القارة الإفريقية بصفة عامة وفي ليبيريا بصفة خاصة، وقال إن قوات حفظ السلام الإفريقية في ليبيريا تنتظر وصول قوات أمريكية لدعم جهودها. وعلى صعيد آخر أعلن الرئيس الأمريكي أنه يعمل مع الكونجرس من أجل توفير ميزانية للإسهام في الجهود الدولية لمكافحة الإيدز في إفريقيا، وقال إن بلاده تخصص الآن 15 مليار دولار لهذا الغرض؛ وهو أمر لا يخلو من الدلالة والأهمية لدولة جنوب إفريقيا التي تعتبر أكثر دول العالم ابتلاء بهذا المرض[11].
وجاءت بوتسوانا في المحطة الثالثة من الجولة؛ حيث أعلن بوش أن اختيار بوتسوانا في جدول الرحلة الأمريكية إنما سببه هو أن بوتسوانا بها أعلى نسبة من النجاح في المكافحة والشفاء من مرض الإيدز، وأن زيارته للمستشفيات والمراكز الطبية فيها لإعطاء المرضى الأفارقة الأمل بتحقيق الحلم الأمريكي في المكافحة[12].
ويرى البعض أن السبب الرئيسي لزيارة تلك الدولة الصغيرة هو أن بوتسوانا تعد واحدة من القواعد العسكرية الأمريكية في إفريقيا، وبها القاعدة الجوية “مول بولوت” التي تقع شمال عاصمة بوتسوانا، والتي تشير الأنباء إلى أن التعاون بين الولايات المتحدة وبوتسوانا فيها (حيث تمثل برج المراقبة بالمنطقة) قائم منذ عام 1992م، وأن مساعد وزير الخارجية للشئون الإفريقية زار بوتسوانا في إبريل 2003م؛ لتجديد الاتفاق بين الجانبين، والإعداد لزيارة الرئيس جورج بوش لبوتسوانا[13]، وذلك على الرغم من نفي حكومة بوتسوانا وجود أي قواعد أمريكية على أراضيها[14].
وكانت المحطة الرابعة في أوغندا؛ التي تعد أحد الحلفاء الرئيسيين لواشنطن في القارة الإفريقية ومن بين خمس دول إفريقية ينتظر أن تحصل على دعم أمريكي متزايد بموجب خطة أمريكية لمكافحة الإرهاب العالمي[15].
وقد أثنى الرئيس بوش على مجهودات الحكومة الأوغندية في محاربة مرض الإيدز[16]؛ مؤكدًا أن أوغندا أظهرت للعالم إمكانية تقليل نسبة الإصابة بالإيدز، وأنها مثال يُحتذى به للقضاء على المرض؛ حيث أدت سياسات مكافحة الإيدز في أوغندا إلى خفض نسبة العدوى من 30% من السكان عام 1992، إلى 5% فقط العام الحالي[17].
ووصف بوش أوغندا بأنها أرض الأمل في إفريقيا، كما مدح موسيفيني كمدافع قوي عن التجارة الحرة وقائد للسلام في وسط وشرق إفريقيا.
وقد تناولت مباحثات بوش وموسيفيني -إلى جانب قضيتي مكافحة الإيدز والإرهاب- قضايا التجارة وخاصة في ضوء القانون الأمريكي؛ الذي يمنح عددًا من البلدان الإفريقية ميزة تفضيلية للدخول إلى الأسواق الأمريكية، إلى جانب مناقشة الأزمة الحالية في شمال أوغندا، نتيجة التمرد المسلح هناك والمستمر منذ نحو 17 عامًا، إلا أن الملاحظ أن المباحثات لم تتطرق للأوضاع في الكونغو الديمقراطية، على الرغم من مطالبة منظمة العفو الدولية للرئيس الأمريكي بالضغط على أوغندا لوقف كافة عملياتها العسكرية في الكونغو[18].
وكانت نيجيريا هي المحطة الخامسة والأخيرة ضمن زيارة بوش. وقبل ساعات من زيارته قامت قوات الشرطة النيجيرية تدعمها البلدوزرات بهدم المنازل العشوائية والمحال التجارية المقامة بصورة غير قانونية في العاصمة “أبوجا”؛ من أجل تمهيد الطريق الذي سيمر فيه موكب الرئيس الأمريكي؛ وذلك بتوجيهات من الرئيس النيجيري أوليسوجون أوباسانجو. كما نشرت الشرطة أكثر من ألفي رجل حول العاصمة أبوجا؛ من أجل توفير الأمن في المدينة قبل زيارة بوش، ورغم ذلك شهدت العاصمة تنظيم مظاهرات بين صفوف المواطنين الذين حاولوا الوصول إلى السفارة الأمريكية في “أبوجا”، احتجاجًا على الزيارة والتي تُعنى بالرئيس النيجيري وحده[19]؛ حسب رأي المتظاهرين الذين نددوا بالفساد في البلاد وسوء أحوالهم المعيشية، وأعربوا عن عدم توقعهم أن تؤدي الزيارة إلى تحسن أوضاعهم[20].
وتُعتبر كل من نيجيريا وجنوب إفريقيا حجر الزاوية في هذه الزيارة؛ فهما أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة (41 % من تجارتها مع القارة، والتي تبلغ حوالي 87 مليار دولار)؛ وذلك سواء في تجارة البترول النيجيرية -حيث تصدر نيجيريا نحو 46% من إنتاجها من البترول إلى الولايات المتحدة الأمريكية[21]- أو في سوق البضائع المتقدمة والصناعات الوسيطة في جنوب إفريقيا. وفضلاً عن هذه الأهمية التجارية؛ فالبلدان لهما أدوار إقليمية لتأكيد السلام الأمريكي في غرب وجنوب القارة بفعل الثقل الإقليمي للدولتين.
إلا أن ذلك لا ينفي أهمية ودلالة الدول الثلاث الأخرى على جدول الزيارة، والتي ترتبط كل واحدة منها بهدف أساسي أو أكثر من أهداف السياسة الأمريكية في القارة؛ فالسنغال أحد المعاقل الأساسية للنفوذ الفرنسي في القارة، ونموذج من نماذج الديمقراطية الناجحة، وفاعل رئيسي في غرب إفريقيا، ويمكن أن تلعب دورًا حاسمًا على صعيد التنافس الأمريكي الفرنسي في تلك المنطقة، كما أن موانيها على المحيط الأطلنطي يمكن أن تكون أحد المسارات المحتملة للبترول الإفريقي إلى الجانب الآخر من المحيط. وأوغندا حجر زاوية في استقرار وسط وشرق إفريقيا. وبتسوانا نموذج من نماذج الديمقراطية الناجحة في القارة[22]، علاوة على دورها الأمني في ظل رجحان وجود القاعدة الأمريكية بها؛ لأهمية ذلك في التعامل مع دول المنطقة، بما في ذلك جنوب إفريقيا؛ ذلك أن التعامل مع دولة بحجم بوتسوانا أسهل بكثير من التعويل على صداقة جنوب إفريقيا التي لا تفتأ تظهر ميولاً استقلالية في دورها الإقليمي والعالمي؛ وقد تمثل ذلك في موقفها من الحرب على العراق، وكذا في رفض توقيع اتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية يمنح مواطني وجنود الأخيرة استثناء من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ الأمر الذي أدى إلى وقف الولايات المتحدة مساعدات عسكرية كانت مقررة لجنوب إفريقيا مقدارها سبعة ملايين دولار أمريكي[23].

ثانيًا- محاور الزيارة وقضاياها المعلنة:

حفلت الأجندة الأمريكية بالعديد من القضايا أو المحاور؛ منها العام على المستوى القاري، ومنها الخاص والمعني بدولة أو أزمة داخل دولة محدَّدة. ويمكن متابعة محاور الزيارة وأهدافها المعلنة على النحو التالي:
أ-المحاور العامة:
تمثلت تلك المحاور في القضايا الصحية والاقتصادية والأمنية العامة؛ والتي اشتملت على قضايا مثل مكافحة الإيدز والأمراض بصفة عامة، وتعزيز التعاون الاقتصادي، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب.
(1) المحور الصحي: احتلت قضية مكافحة مرض الإيدز رأس قائمة جدول الأعمال الرسمي، وقال بوش في كلمته التي ألقيت في العاصمة النيجيرية أنه قد طالب الكونجرس –بمجلسيه– بالموافقة على تمويل خطته التي أعلنها في مايو 2003م لمكافحة مرض الإيدز؛ حتى تتمكن الولايات المتحدة من المساعدة في الحد من انتشار الإيدز في إفريقيا؛ وهي الخطة التي جاءت من خلال قانون يقضي بإنشاء صندوق لمكافحة الإيدز بقيمة 15 مليار دولار، تتوجه بصورة رئيسية إلى دول إفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي؛ حيث يبلغ المصابون بالإيدز في العالم 42 مليون شخص، من بينهم 29.4 مليونًا في إفريقيا. وكان مجلس النواب الأمريكي قد وافق في العاشر من يوليو 2003م، على منح ملياري دولار؛ أي أقل بمقدار مليار دولار من قيمة المساعدة للسنة الأولى بحسب مشروع القانون الذي اقترحه بوش، وينص على مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار سنويًا ولخمس سنوات؛ ليكون إجمالي المبلغ 15 مليار دولار[24].
ويرى البعض أنه على الرغم من دعوة بوش لمكافحة مرض الإيدز في إفريقيا؛ فإنها لا تعدو أن تكون مجرد ورقة أمريكية للضغط على إفريقيا؛ يؤكد ذلك سياسات الإدارة الأمريكية التجارية التي تمنع الدول الإفريقية من استيراد المواد الفعالة التي تدخل في عقاقير مكافحة الإيدز؛ وذلك لإجبار الدول على استيراد الأدوية باهظة التكلفة من شركات الدواء الكبرى[25]، علاوة على قيام الرئيس بوش بتعيين “راندال توبايس” مديرًا لبرنامج مكافحة الإيدز الذي يُفترض أنه موجَّه لمساعدة الدول الإفريقية؛ وذلك بالرغم من أن الرجل كان رئيسًا لمجلس إدارة شركة من كبريات شركات الأدوية التي تنتج عقاقير باهظة التكاليف، ومن بينها عقار لتأخير الآثار المدمرة لمرض الإيدز، وفي ذات الوقت تعد الشركة من كبار المساهمين في تمويل الحملات الانتخابية الرئاسية للحزب الجمهوري ولأعضائه في الكونجرس، وبالتالي فإنه من البديهي القول بأن ولاء “توبايس” سيكون لهدف إفادة الدول الإفريقية الفقيرة-وذلك بالتركيز على استيراد وتطوير عقاقير منخفضة التكاليف- كما تطالب تلك الدول وغيرها من دول العالم النامي[26].
(2) المحور الاقتصادي: أكدت الإدارة الأمريكية رغبتها الحقيقية في دعم النمو الاقتصادي للدول الإفريقية ومحاربة الفقر؛ من خلال ما يسمى باتفاقية “النمو والفرص الاقتصادية في إفريقيا”، وكذلك “برنامج الألفية للمساعدات”؛ اللذين يتيحان مزايا تجارية ومساعدات للدول التي تطبق معايير الولايات المتحدة في الحكم والتنمية والأمن.
وقد استهدفت جولة بوش بشكل خاص دعم اتفاقية النمو والفرص الاقتصادية[27]؛ والتي تتيح لعدد من الدول الإفريقية تصدير سلع إلى السوق الأمريكية دون جمارك. وبموجب الاتفاقية يتعين على الدول الإفريقية المنضوية تحتها أن تلتزم بشروط الحكم الجيد، وإزالة الحواجز الجمركية والاستثمارية، وحماية الملكية الفكرية، ومحاربة الفساد، والحد من الفقر. وفي مقابل هذا، يحق لهذه الدول الأعضاء في الاتفاقية أن تصدِّر إلى السوق الأمريكية بعض منتجاتها دون رسوم جمركية حتى عام 2004.
(3) المحور الأمني: احتلت قضية تأسيس آليات لفض وتسوية النزاعات في القارة وحفظ السلام بها مكانة متقدمة في جدول أعمال الرئيس الأمريكي في زيارته للقارة. وفي هذا الإطار وقبل بدء الرئيس الأمريكي جولته الإفريقية سارع الكونجرس بالمصادقة على تعهد الرئيس بوش بمساعدات قيمتها 100 مليون دولار للدول الإفريقية لمكافحة الإرهاب، بدعوى الخشية من أن تجد الجماعات الإرهابية التي خرجت من آسيا والشرق الأوسط في دول إفريقيا التي تعمها الفوضى قاعدة مثالية لتجنيد عناصر جديدة[28].
ب- المحاور الخاصة:
تواكب مع جولة بوش تفاقم أزمة الحكم في كل من ليبيريا وزيمبابوي؛ الأمر الذي جعل منهما محورًا خاصًا في جدول أعمال الجولة.
1- الوضع في ليبيريا: كانت قضية التدخل الأمريكي -لوقف الحرب الأهلية الدائرة في ليبيريا- من بين القضايا الخلافية والحساسة التي سيطرت على جولة بوش، لاسيما في ظل تزامنها مع الحرب الأمريكية ضد العراق؛ التي تجاهلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية قرارات الأمم المتحدة والمواثيق الدولية؛ ففي ضوء الامتناع الأمريكي عن التدخل الإيجابي في ليبيريا لإلزام كل من المتمردين والقوات الحكومية بوقف إطلاق النار؛ لم تفلح حجة عدم وجود تفويض من مجلس الأمن الدولي تارة، أو أن يكون ذلك من مسئولية تجمع دول غرب أفريقيا “الإيكواس” تارة أخرى؛ في تخفيف الضغوط على الإدارة الأمريكية والمطالبة بتدخل أمريكي لحل الأزمة؛ حيث ثارت انتقادات وتساؤلات من عينة: لماذا يتعلق الرئيس بوش بتفويض من الأمم المتحدة لنشر قوات حفظ السلام في ليبيريا لوقف المذابح الدائرة هناك، رغم المناشدات الدولية بل والليبيرية بالتدخل الأمريكي، في حين أنه ضرب بقرارات الأمم المتحدة عُرض الحائط بتدخله المنفرد في العراق، رغم مظاهرات التنديد الرسمية وغير الرسمية بهذا التدخل؟
والشاهد أن بوش كان يواجه رهانًا صعبًا في ليبيريا قد يؤثر في مستقبله السياسي ومستقبل حزبه الجمهوري الحاكم؛ فهو لا يريد توريط القوات الأمريكية في مشكلات دولية “غير مهمة” بمعايير الاستراتيجية الأمريكية، في الوقت الذي لا يزال فيه وضع قواته في العراق غير مستقر ومفتوح على كل الاحتمالات. وإذا تكشف خلل في حساباته في ليبيريا وواجهت القوات الأمريكية هناك مقاومة؛ فإن ذلك سيزيد من مأزقه السياسي الحالي في العراق، هذا بالإضافة إلى تململ بعض الأمريكيين أصلاً من الطابع الإمبراطوري لدولتهم؛ حيث تشير بعض الإحصائيات إلى أن 370 ألفًا من أصل نصف مليون جندي أمريكي نظامي موجودون اليوم في مهمات عسكرية بالخارج[29]؛ لذا اكتفت الإدارة الأمريكية بتوجيه بعض قطعها البحرية إلى سواحل ليبيريا، ومطالبة الرئيس الليبيري بالرحيل والتنحي عن الحكم؛ وهو أمر لم يكن الأخير يملك معارضته أو تحديه، في ضوء روابطه السابقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ضوء درس العراق الماثل للعيان[30].
(2) الأزمة في زيمبابوي[31]: وعن زيمبابوي التي تشهد صراعًا داخليًا -ذا أبعاد إقليمية ودولية- بين المزارعين البيض (معظمهم من أصول بريطانية) الذين يملكون أجود أراضي البلاد، وأهل البلاد الأصليين المطالبين بإعادة توزيع الأرض على نحو أكثر عدالة؛ أكد الرئيس بوش تأييده لجهود الرئيس تابومبيكي لحل الأزمة هناك، مؤكدًا أنه حقق تقدمًا، كما دعا أيضًا خلال خطابه بجزيرة جوري السنغالية إلى ممارسة مزيد من الضغوط على رئيس زيمبابوي روبرت موجابي؛ لحمله على استعادة الديموقراطية في بلاده من خلال إجراء انتخابات جديدة، وعلى الرغم مما صرَّح به الرئيس تابومبيكي من اتفاقه مع الرئيس الأمريكي في ضرورة معالجة المشكلات الاقتصادية والسياسية التي تعانيها زيمبابوي؛ فقد رفض أيضًا خلال مباحثاته مع الرئيس الأمريكي ممارسة أي ضغوط على الرئيس موجابي لحمله على الانصياع للطلبات الأمريكية[32].
وفي كلمة أمام اللجنة المركزية للحزب الحاكم في زيمبابوي “زانو” أكد موجابي أن بوش لا يجرؤ على تكرار ما فعله في العراق مع زيمبابوي؛ لأن الوضع مختلف؛ ولأن النفط لا يتوفر في البلاد، وأشار إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا تدعمان خصومه السياسيين، مشددًا على ضرورة عدم السماح لمؤامرات هذين البلدين بالنجاح[33].

ثالثًا- الأهداف الداخلية والخارجية للجولة:

على الرغم من تلك الدعوات الإصلاحية التي اتسمت بها جولة بوش لإفريقيا؛ من عدم السماح للإرهابيين بتهديد الشعب الأمريكي، أو باستخدام إفريقيا كقاعدة لتهديد العالم، أو الدعوات لإزاحة كابوس العبودية والديكتاتورية عن رقاب البشر، ورغم ما أعلنه الرئيس بوش خلال هذه الجولة من اهتمام أمريكا بمستقبل إفريقيا، والتأكيد على أن المصلحة الأمريكية القومية تقتضي أن تصبح إفريقيا مكانًا مزدهرًا، بل وزعمه أنه -ومنذ بداية إداراته- كان مهتمًا جدًا بالقضايا الإفريقية، وراغبًا في إجراء تغييرات جوهرية في القارة؛ فإن المراقبين يرون أن جولته تغيَّت أهدافًا أخرى تتسم بالتداخل والتركيب، يمكن تصنيفها إلى؛ أهداف داخلية تتعلق في مجملها بالتنافس على السلطة بين الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي، وأهداف أخرى تمتد إلى الشأن الخارجي تتعلق بتأكيد الهيمنة الأمريكية ورؤيتها للأمن العالمي، وضمان وتوسيع نطاق مصالحها الاقتصادية في القارة.
أ- الأهداف الداخلية:
تعتبر الأهداف الداخلية للزيارة واحدة من أهم أهداف جولة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإفريقية؛ ويمكن إجمال تلك الأهداف في هدفين أساسيين:
1- تدعيم مكانة بوش في صفوف اليمين الأبيض والأصوليين المسيحيين؛ من الذي يطمحون في توظيف معونات الولايات المتحدة –خصوصًا برنامجها لمكافحة مرض الإيدز– في نشر المسيحية بإفريقيا؛ وهو أمر يجد حماسًا لدى الرئيس بوش، ويفسر ضخامة المبلغ الذي خصصه لذلك البرنامج. وقد تحدثت وسائل الإعلام الأمريكية عن أن كولن باول قدم تقريرًا للقس بيل جراهام (أحد أبرز قادة اليمين المسيحي في أرجاء إفريقيا والعالم، ووصفه بوش الابن بأنه الرجل الذي قاده إليَّ الرب) عن الأوضاع في ليبيريا[34].
وربما يدعِّم ذلك إعطاء الإدارة الأمريكية أهمية خاصة للسودان من بين الدول الإفريقية جمعاء؛ حيث يضغط اليمين المسيحي -ذو الوجود القوي في الحزب الجمهوري- لاتخاذ موقف أشد صلابة ضد الحكومة “الإسلامية” في السودان دفاعًا عن المسيحيين الجنوبيين وعن الوثنيين أيضًا، الذين يعتبرهم بيل جراهام وأنصاره “مؤهلين” لقبول المسيحية بأقل جهد[35].
2-استمالة الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية (الذين تبلغ نسبتهم 8% من إجمالي أصوات الناخبين) لصالح الحزب الجمهوري الذي يُنظر إليه تقليدياً على أنه حزب محافظ ذو ميول يمينية يعتمد على أصوات الناخبين البيض ولا يعبأ بأصوات الأقليات وهمومها؛ تعويضًا لخسارته المتوقعة لأصوات كثيرة بين صفوف الكاثوليك وذوي الأصول العربية والآسيوية نتيجة سياساته الداخلية والخارجية[36].
وفي تعيينات بوش لأعضاء حكومته ظهر هذا الاهتمام الجديد بأصوات السود الأمريكيين لدى الحزب الجمهوري، متجسدًا في تعيين كولن باول وزيرًا للخارجية، وكونداليزا رايس مستشارة للأمن القومي، في سابقة تاريخية غير معهودة في عُرف السياسة الداخلية الأمريكية. لذا لم يكن بوش يستطيع -وهو على أعتاب أبواب الانتخابات الرئاسية- تجاهل أصوات الزنوج الأمريكيين الذين يطالبونه بإلحاح بالتدخل لإنقاذ الوضع في ليبيريا[37].
وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من الخطوة الرمزية التي خطاها بوش بزيارته جزيرة جوري في السنغال التي كانت مركز شحن العبيد الأفارقة إلى الولايات المتحدة؛ إلا أن الرئيس بوش رفض الاعتذار للأفارقة عن جرائم العبودية، وهو أمر ربما يرجع في جانب منه إلى أسباب داخلية من نوع آخر؛ وهي الخوف من إغضاب اليمينيين الأمريكيين البيض، الذين يشكِّلون أساس قاعدته الانتخابية، وربما أيضًا سدًا للباب أمام معضلات سياسية وقانونية يمكن أن يثيرها الاعتذار؛ أهمها التعويضات التي يطالب بها بعض السود الأمريكيين والأفارقة عن المظالم التي حلت بأجدادهم.
ب- الأهداف الخارجية:
1. تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم عمومًا وفي إفريقيا خصوصًا [38]، بعد غزو العراق الذي عارضته دول إفريقية عديدة، وعجزت الولايات المتحدة عن ضمان أصوات الدول الإفريقية في مجلس الأمن لقرار يشرَّع الحرب[39].
وقد ارتفعت أصوات قوية في إفريقيا ضد الحرب وضد سياسة التوسع والأحادية التي تنتهجها الإدارة الأمريكية[40]. ولعل أبرز هذه الأصوات وأكثرها مصداقية هو صوت نيلسون مانديلا؛ الذي اتهم الرئيس بانعدام البصيرة، وبالخروج على الإجماع الدولي، والسعي لإضعاف الأمم المتحدة، واعتبر سياسات واشنطن خطرًا على العالم بأسره[41].
2. الحصول على نصيب أكبر من النفط الإفريقي؛ تنويعًا لمصادر الطاقة، وتخفيفًا من الاعتماد على النفط العربي الذي يغذي الصناعة الأمريكية؛ ففي ظل واقع العواصف السياسية وعدم الاستقرار الذي يحيط بالنفط العربي، بفعل تطورات الصراع العربي/الإسرائيلي، والاحتقان السياسي المزمن في السعودية، وتصاعد المقاومة للاحتلال الأمريكي للعراق يومًا بعد يوم؛ على نحو تراجعت معه –إلى حد ما- آمال واشنطن في التغلب على أزمتها الاقتصادية بالسيطرة على النفط العراقي؛ أصبح الاهتمام بالنفط الإفريقي الواعد -لاسيما في نيجيريا والسودان والجابون وتشاد…إلخ- ضرورة استراتيجية[42].
3. المساعدة على استقرار الأوضاع –بأي وسيلة– في الدول الإفريقية الممزقة مثل ليبيريا؛ فقد تعلمت واشنطن من تجربة أفغانستان والصومال أن الدول التي تنهار سلطتها من السهل تحولها إلى قاعدة للنشاط المعادي للسياسات الأمريكية والنفوذ الأمريكي، ولا تزال التجربة المريرة في الصومال -والتي انتهت بعرض جثث المارينز في شوارع مقديشو- تقض مضجع المخططين الأمريكيين، ولا يزال الرأي العام الأمريكي يعتبرها نذير شؤم، وعنوان فشل في السياسة الخارجية للولايات المتحدة[43].
4. فتح قنوات مع بعض الدول الإفريقية للمساعدة في حرب واشنطن على الإرهاب؛ حيث أشارت مصادر صحفية فرنسية إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية ناقشت مع بعض دول غرب إفريقيا (منها الجزائر ومالي) إمكانية بناء قواعد عسكرية على أراضيها؛ ليس للاستخدام الدائم وإنما للاستخدام وقت الحاجة، وأبرمت اتفاقياتٍ لتزويد الطائرات العسكرية بالوقود (بين أمريكا وبين كل من السنغال وأوغندا) لهذا الغرض. وعزت المصادر إلى الجنرال جيمس جونز قائد القوات الأمريكية في أوروبا –وهو المسئول عن إفريقيا أيضًا– خشيته من أن وجود مناطق شاسعة لا تخضع لسلطة قد يوفر مأوى للأنشطة المعادية لواشنطن[44].
5. تدعيم الوجود الأمريكي في دول غرب إفريقيا ذات الصلات الوثيقة بفرنسا؛ بهدف منافسة النفوذ الفرنسي، خاصة مع بداية اتساع الفجوة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الرئيسية في غرب أوروبا، على نحو ما كشفت عنه الحرب على العراق والموقف الفرنسي المعارض للولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عما أثير من دور أمريكي في الحرب الأهلية التي شهدتها ساحل العاج، ومساعدتها للمتمردين هناك عبر مالي وبوركينا فاسو في مقابل دعم فرنسا للحكومة الرسمية هناك[45].

رابعًا- محاربة “الإرهاب” والترتيبات الأمريكية الأمنية للقارة:

لا يمكن فصل جولة بوش في القارة عن الرؤية الأمريكية لموقع إفريقيا في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب. وطبقًا لما صرحت به دوائر البنتاجون يمكن القول إن الهدف الحقيقي –و تحت ستار محاربة الإرهاب– هو إقناع الحلفاء الأفارقة بالسماح بوجودٍ أكبر للقوات العسكرية الأمريكية؛ حيث تقوم الرؤية الأمنية الأمريكية على أنه في ظل الحرب الشاملة على “الإرهاب” سيتعين على الولايات المتحدة الذهاب إلى الأماكن التي يوجد فيها الإرهابيون؛ وفي مقدمتها -من وجهة نظر وزارة الدفاع الأمريكية- تلك المناطق الكبيرة غير الخاضعة لحكومات مستقرة، والتي ستكون ملاذات محتملة لذلك النمط من النشاط؛ فالإدارة الأمريكية ترى أن أجزاء كبيرة من جنوب الصحراء الإفريقية -تمتد من موريتانيا في الغرب إلى السودان في الشرق- يمكن أن تصبح أماكن مختارة لنشاط “الجماعات الإرهابية”؛ بما فيها تنظيم القاعدة[46].
وقد أشارت الكتابات الأمريكية إلى أن الجيش الأمريكي يسعى إلى توسيع دائرة تواجده في دول شمال إفريقيا العربية، وفي شبه الصحراء الإفريقية؛ من خلال اتفاقيات جديدة للوجود والانتشار والتدريبات المشتركة التي تهدف إلى محاربة التهديد “الإرهابي” المتزايد في المنطقة[47].
وذكرت مصادر أنه رغم إعداد المخططين العسكريين لبدائل للقوات الأمريكية للانضمام إلى قوة حفظ السلام الدولية للإشراف على وقف إطلاق النار في ليبيريا؛ فإن البنتاجون يسعى إلى دعم روابطه العسكرية مع حلفاء مثل المغرب وتونس، كما يسعى أيضاً إلى الحصول على تسهيلات طويلة المدى في قواعد في دول مثل مالي والجزائر، والتي يمكن أن تستخدمها القوات الأمريكية في تدريبات متقطعة، أو لضرب الإرهابيين، وتهدف أيضًا إلى توقيع اتفاقيات لإعادة تموين الطائرات بالوقود في أماكن مثل السنغال وأوغندا؛ وهما من بين الدول الخمس التي شملتها الزيارة[48].
وأشارت نفس المصادر إلى أنه ليست هناك أي خطط لإقامة قواعد عسكرية دائمة في إفريقيا، وبدلاً من ذلك فإن القيادة الأوروبية للولايات المتحدة التي تشرف على العمليات العسكرية في معظم إفريقيا، ترغب في أن يتم تجديد إحلال القوات الموجودة حاليًا في أوروبا بشكل منتظم، وإرسالها إلى معسكرات أو مطارات في إفريقيا، وجعل مشاة البحرية الأمريكية يقضون وقتًا أكثر في الإبحار حول سواحل غرب إفريقيا[49].
وأشارت تلك المصادر إلى أن القيادة الأمريكية في أوروبا سوف تقوم خلال خريف2004م بإرسال مدربين للعمل مع جنود الدول الأربعة في شمال إفريقيا حول كيفية جمع المعلومات الاستخباراتية، وأنه لا تزال هناك بعض الخطط قيد البحث على نطاق واسع، مع وجود بدائل ومبادرات أخرى -في إفريقيا- جاهزة ويتم حاليًا تطبيقها، أو سوف يبدأ العمل فيها على الفور؛ منها إرسال 1800 جندي أمريكي إلى جيبوتي للقيام بعمليات مكافحة الإرهاب في القرن الإفريقي منذ عام 2002. ورغم أن الالتزامات العسكرية الأمريكية، وأيضًا الإنفاق العسكري الأمريكي في إفريقيا لا يزال أقل منه في الخليج العربي وشبه الجزيرة الكورية؛ إلا أن القادة العسكريين الأمريكيين يرون أن المخاطر الناشئة تتطلب أن يقوم البنتاجون بإعطاء اهتمام أكبر بالقارة الإفريقية[50].
ويرى الجنرال جيمس جونز من القيادة الأمريكية في أوروبا أن إفريقيا -كما تشهد بذلك الأحداث الأخيرة- تعد مشكلة كبرى، وأنه مع مضي الولايات المتحدة في حربها الشاملة ضد الإرهاب فسوف يتعين عليها أن تذهب إلى حيث يوجد الإرهابيون، وأن هناك بعض الأدلة -على الأقل مبدئيًا- تفيد بأن الكثير من المناطق الإفريقية غير الخاضعة للسيطرة أو للحكم سوف تصبح ملاذاً لهذا النوع من النشاط[51].
وأكد الجنرال جونز أن السفينة الحربية أرمادا في البحر المتوسط قد أجبرت تجار المخدرات الدوليين، ومهربي الأسلحة، والمتشددين الإسلاميين، وغيرهم من الإرهابيين؛ على تحويل طرقهم إلى إفريقيا.
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ انتهاء العمليات العسكرية الأساسية في العراق؛ قامت الولايات المتحدة بتحويل طائراتها الاستطلاعية وأقمار التجسس لمراقبة المنطقة عن قرب، وتبادل المعلومات مع الحكومات في شمال وشرق إفريقيا. ولا تزال المؤشرات عن وجود “القاعدة” واضحة، وفي بعض الأحيان قيد النقاش. كما أن هناك منظمات إرهابية داخلية يرى بعض المسئولين الأمريكيين أن لها صلات بتنظيم القاعدة؛ مثل جماعة السلفيين في الجزائر، والتي اختطفت ما يزيد عن 30 سائحًا أوروبيًا في أوائل هذا العام وهذه الجماعة تضم حوالي 750 شخصًا، غير أن هناك الآلاف من المتعاطفين معها[52].
ويمكن القول إن التوجهات العسكرية لتوسيع وتعميق الروابط مع إفريقيا تلقى ردودًا إيجابية على نطاق واسع من جانب كثير من هذه الدول الإفريقية؛ فقد أعلن السفير الجزائري لدى الولايات المتحدة إدريس جزائري أن بلاده ترحب بتوسيع التعاون مع الولايات المتحدة في المجالين المدني والعسكري، وأن الجزائر سوف تكون على استعداد للتعاون في تدريب فرق إفريقية لمكافحة الإرهاب، والتصدي لهذا التحدي المشترك، غير أن بعض الخبراء في إفريقيا حذر بأن البنتاجون -الذي يروج لفكرة تحقيق الديموقراطية في دول عربية بعينها- لا يجب أن يتهاون ويتخلى عن هذه المبادئ بالتعامل مع حكومات تمارس نفوذًا عسكريًا قويًا مثل الجزائر[53].
ويمكن القول إن الاهتمام العسكري الجديد بإفريقيا -الذي سبق رحلة بوش- جاء في إطار الجهد الذي تبذله القيادة الأمريكية في أوروبا لإعادة تخطيط مكان وكيفية تمركز القوات الأمريكية في منطقة تضم 93 دولة، تمتد من جنوب إفريقيا وحتى روسيا؛ وهو جزء من جهود شاملة تقوم بها وزارة الدفاع لتحديد موقع تمركز قوات الولايات المتحدة[54].
ويرى الجنرال جونز أن يكون هناك ما أطلق عليه “أسرة القواعد” أو Family of bases في إفريقيا تضم قواعد للعمليات المتقدمة ربما بجوار قواعد جوية قد تضم وحدة مكونة من 3000 إلى 5000 جندي؛ وهو أمر يمكن استخدامه للتعبير عن تواجد عسكري واضح. والنموذج الثاني من القواعد سوف يكون مكانًا أو موقعًا متقدمًا للعمليات يتم تسليحه بقوات خاصة؛ سواء من مشاة البحرية، أو القوات البرية المسلحة بأسلحة خفيفة؛ وذلك في محاولة لإيجاد بديل أكثر مرونة يسمح بمزيد من التدخل في مناطق المسئولية. ويرى كذلك أن البنتاجون قد قطع شوطًا في هذا الأمر منذ سنوات عندما توصل إلى اتفاقيات مع غانا والسنغال والجابون وناميبيا وزيمبابوي للسماح للطائرات الأمريكية بالتحليق فوق المنطقة لإعادة الملء بالوقود من قواعد جوية داخلية[55].
بناء على ما تقدم؛ فإن ترتيب أولويات الأهداف الأمريكية المعلنة فيما يتعلق بإفريقيا لا يختلف كثيرًا عن ترتيبه في بقية مناطق العالم، وذلك بالرغم من اختلاف الظروف والبيئة في القارة السوداء كلية عنها في بقية مناطق العالم. وترتيب الأولويات الأمريكية في إفريقيا في ضوء تلك المعطيات يحتل فيه الإرهاب -وليس الإيدز- رأس قائمة اهتمامات الإدارة الأمريكية.
وقد تزامن مع جولة بوش صدور قرار ذي مغزى؛ وهو قرار الولايات المتحدة بوقف مساعداتها العسكرية لنحو خمسين دولة “حليفة” و”صديقة”؛ بسبب موقف هذه الدول المؤيد للمحكمة الجنائية الدولية، وعدم توقيعها على الاتفاقية الثنائية مع واشنطن؛ والتي تنص على استثناء الجنود والمواطنين الأمريكيين من المثول أمام هذه المحكمة في حالة ارتكابهم لجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية؛ الأمر الذي ترى الإدارة الأمريكية أنه قد يعرقل مشاركة الولايات المتحدة في دعم القوة العسكرية الإفريقية المقترح إنشاؤها من جانب الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وبقية الدول الصناعية الثماني الكبرى التي كانت قد أكدت خلال قمتها في إيفيان بفرنسا 2003م أولوية إنشاء هذه القوة، واستكمال آليات الأمن، وحل الصراعات؛ حتى تتأهل إفريقيا وتستحق الحصول على مشاركة الدول الكبرى في برنامج تنمية إفريقيا (نيباد)[56].
وإذا كان قرار الدول الثماني الصناعية الكبرى قد مثل تخلياً عن مسئوليات تحقيق الأمن في القارة[57]، وإلقاء المسئولية على دول القارة في تحمل العبء البشري اللازم لذلك؛ فإن القرار الأمريكي قد مثل بدوره أداة ضغط مادي على دول القارة للمسارعة لمنح امتياز استثناء الجنود والمواطنين الأمريكيين من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، حال ارتكابهم جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية.
خامسًا- الرؤية الإفريقية لجولة بوش:
مع بدء جولة بوش إلى إفريقيا تركزت أعين النخبة والصحافة الإفريقية حول الولايات المتحدة الأمريكية بوجه عام وبوش بشكل خاص، ولم تبدُ الآراء الإفريقية مرحبة بزيارة بوش بالقدر اللائق، واكتفى البعض بالمقارنة بين حال إفريقيا خلال الزيارة المعنية، وحالها عندما قام الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون بنفس الزيارة للقارة عام 1998[58].
ففي صحف كينيا القومية وصحيفة المونيتور الأوغندية، وتحت عنوان “فقيرة في الأموال، أفـقر في الديموقراطية” أشار “تشارلز أوبانجو أوبو” (الكاتب الصحفي) إلى أن الرئيس بوش وعد بتقديم الأموال لإفريقيا، غير أنه تجاهل المشكلة الحقيقية؛ وهي الفوضى، وعدم النظام، وتدني المستويات الصحية، والتي شاعت في القارة؛ ليس بسبب أن الدول الغنية لا تقدم للقارة أي مساعدات للتنمية، أو لنقص المستشفيات، ولكن بسبب تولي الديكتاتوريات الفاسدة شئون الحكم فيها[59].
وأضاف الكاتب الصحفي أنه إذا أراد بوش إحداث تغيير حقيقي في إفريقيا؛ فإن عليه تحقيق أمرين أساسيين: الأمر الأول- وضع نهاية للحروب، الأمر الثاني- مساعدة القوى الموالية للديموقراطية على تولي حكومات مخلصة وأمينة وفعالة في الدول الإفريقية التي عانت من الأنظمة القمعية[60].
وخلص إلى القول إن “رحلة بوش إلى إفريقيا كان من الممكن أن تكون مثمرة إذا أبدى مساندته ووقوفه إلى جانب الديمقراطية في إفريقيا؛ وهو الأمر الذي لم يفعله. وإذا أخذنا في الاعتبار ندرة الزيارات التي يقوم بها رؤساء الولايات المتحدة إلى إفريقيا؛ فإنه من المشكوك فيه أنه سوف يعيد المحاولة ويفعل ما هو صواب”[61].
أما “ماريا نزومي” (مديرة معهد الدبلوماسية الدولية بجامعة نيروبي)؛ فقد ذهبت إلى أن إفريقيا لا تزال تحتل مكانة أدنى في قائمة الأولويات الأمريكية، وتساءلت حول الكيفية التي سوف يساعد بها بوش القارة. وأكدت حقيقة أنه ليس الجميع يسعى إلى القوة العسكرية الأمريكية، وأنه ليس هناك رغبة في أن يقوم بوش بإرسال قواته في أنحاء إفريقيا، أو أن ينظر إلى القارة من منظور الإرهاب الدولي. كما أضافت أن بوش يسعى من خلال زيارته إلى تجنب نقاط التوتر بالغة الخطورة في القارة، وإظهار قصص النجاح بدلاً من ذلك؛ فهو يزور السنغال ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، وبوتسوانا حيث الازدهار الاقتصادي، وجنوب إفريقيا أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في القارة السوداء، وأوغندا التي حققت نجاحًا في تخفيض معدلات انتشار الإيدز، ونيجيريا التي طبقت نظام الانتخابات بدلاً من الانقلابات العسكرية المتتابعة[62].
وصرح مراقبون آخرون، بأنهم يشعرون بالتفاؤل الحذر من وعود بوش؛ في ظل اهتمام واشنطون الواضح وتركيزها على دول غرب إفريقيا الغنية بالبترول والفقيرة في حقوق الإنسان؛ حيث إنه لا توجد دولة من بين تلك الدول شارك بترولها في ثراء شعبها.
وأشاروا إلى أن التركيز على البترول في خليج غينيا يؤكد على أن الولايات المتحدة سوف تعطي ظهرها عندما يصل الأمر إلى حقوق الإنسان والشفافية والمساءلة الحكومية، وطالب البعض بضرورة زيادة التدخل الأمريكي في جهود السلام والحرب في إفريقيا، مؤكدين أنها لا تقتصر على أعمال القتل فقط؛ فالمرض يحصد أرواحًا أكثر من التي تحصدها الحرب في إفريقيا، والفقر المدقع هو نصيب غالبية الأحياء هناك، كما أن الرئيس سوف يجد إفريقيا مختلفة تمامًا عن تلك التي زارها سلفه في عام 1998. فعندما وصل كلينتون؛ كانت ساحل العاج وزيمبابوي مناطق استقرار، ولم تكن الحرب قد أثقلت كاهل الكونغو، وكانت ليبيريا تحت سيطرة “تشارلز تايلور” غير أن هذه الدول صارت من أكبر مناطق التوتر في القارة الإفريقية إلى جانب السودان وبوروندي[63].
وعلى صعيد جهود حفظ السلام انتقدت الكتابات أن يخصص بوش جهدًا دبلوماسيًا كبيرًا للصراع السوداني الممتد منذ عقود، بينما يتراجع هذا الجهد ويقل عندما يتعلق الأمر بمناطق صراع أخرى كما هو الحال في الكونغو والصراع في بوروندي، بل وفي نيجيريا التي تعد مهمة للولايات المتحدة؛ حيث إن البترول الإفريقي سوف يساعد في تخفيف اعتماد الأمريكيين على بترول الشرق الأوسط[64].
وعلى الرغم من تلك الآراء الأكاديمية والصحفية؛ فإنه على الصعيد الرسمي صرحت حكومتا كينيا[65] وأوغندا بإمكانية مساهمتهما في قوات حفظ السلام في العراق إلى جانب القوات الأمريكية -وإن تراجعت الأخيرة عن تلك التصريحات في ظل الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها الحكومة؛ انطلاقًا من تناقض إرسال قوات إلى العراق مع الحاجة لهذه القوات لفرض الأمن والتصدي لمتمردي جيش الرب المناهض للحكومة الأوغندية في شمال البلاد-[66]، كما أعلنت نيجيريا موافقتها على التوقيع على اتفاقية ثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية لاستثناء الجنود والمواطنين الأمريكيين من الخضوع للمحكمة الجنائية الدولية؛ وهو أمر شاركتها فيه بعض من دول القارة ولم يمتنع عنه صراحة سوى جنوب إفريقيا[67]. وقامت مالاوي بتسليم بعض المشتبه في انتمائهم إلى تنظيم القاعدة للولايات المتحدة الأمريكية للتحقيق معهم[68].

تقييم جولة بوش لأفريقيا:

يصعب الحكم على نتائج زيارة بوش لإفريقيا قبل مضى بعض الوقت؛ لنرى ما تحقق في أرض الواقع من الوعود الأمريكية لشعوب وحكومات القارة على الأصعدة المختلفة سالفة البيان. إلا أن ذلك لا يمنع من رصد بعض الملاحظات العامة التي أثيرت بشأن الزيارة، وما أحاط بها وصاحبها من أحداث ويمكن إجمالها فيما يلي:
· قصر فترة الجولة بالمقارنة بعدد الدول التي تشملها الجولة؛ حيث شملت الجولة زيارة خمس دول في ستة أيام؛ وهو الأمر الذي أدى إلى قصر الزيارة لبعض الدول إلى عدة ساعات فقط، بما أثار الشكوك في مدى جدية الجولة وما يمكن أن يتضمنه جدول الأعمال من قضايا مهمة يمكن أن تناقش بجدية؛ وذلك بالنظر لشدة تعقيدات المشكلات والقضايا الإفريقية؛ ولذا فقد أكد العديد من المراقبين أن الجولة كانت في جوهرها جولة انتخابية خارجية لم تستهدف التعامل الجدي مع قضايا إفريقيا، بقدر ما كانت تستهدف تأكيد أهمية استجابة إفريقيا للمطالب الأمريكية -وعلى رأسها مكافحة الإرهاب- والتخلي عن دعم روبرت موجابي رئيس زيمبابوي، إضافة إلى كسب أرضية لدى القاعدة الانتخابية للأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية السوداء داخل الولايات المتحدة.
· إصرار الإدارة الأمريكية على عدم الاعتذار عن العبودية وعن الاستغلال الذي تعرض له الأفارقة؛ حيث صرحت كوندليزا رايس بقولها “إن العبودية هي العيب الخلقي الذي أصاب أمريكا لدى ميلادها؛ إلا أن الرئيس بوش لن يعتذر عن تلك العبودية خلال جولته الإفريقية”، وأكدت أن وزر ذلك العيب يقع على الكثيرين. ولم يكن الإصرار على عدم الاعتذار عن جريمة العبودية موفقًا في ذلك التوقيت، رغم الوعي بعواقب مثل هذا الاعتذار؛ حيث أثر ذلك منذ البداية سلبًا على الجولة نفسها. وكان الأجدر بالقائمين على الإعداد للجولة عدم التعرض للقضية برمتها من الأساس.
· تزامُن الجولة مع انعقاد القمة الإفريقية على نحو أدى إلى تصاعد الانتقادات التي وجهت إلى الولايات المتحدة؛ لإصرارها على توقيت الجولة، رغم مطالبة أكثر من دولة شملتها الزيارة تأجيلها عدة أيام؛ بحيث لا تتعارض مع عقد القمة الإفريقية التي عقدت في نفس الوقت في “مابوتو” عاصمة موزمبيق؛ فالجولة استمرت طوال فترة عقد القمة واختتمت بختامها؛ وهو الأمر الذي اضطر خمسة رؤساء إلى البقاء في دولهم حتى انتهاء زيارته لهم؛ أما الباقون فقد اضطروا إلى الرحيل وترك القمة في آخر أيامها للقائه، في ذات الوقت الذي كان يمكن للرئيس الأمريكي أن يحضر جلسة من جلسات القمة إظهارًا لاحترامه للاتحاد الإفريقي الوليد، وأن يجري محادثاته مع قادة الدول الخمس أو أكثر في “مابوتو”.
· تعمُّد منظمي الجولة تجنب المناطق الساخنة التي تغلي بالمشكلات الحقيقية في إفريقيا؛ للتخفيف مما قد تثيره زيارة مثل هذه المناطق من التزامات مادية أو أدبية، واختيارهم دولاً بعينها تمثل كل منها رسالة محددة تخدم المصالح والأهداف الأمريكية على مستوى القارة؛ سواء تعلقت تلك المصلحة بالمنافع الاقتصادية أو العقيدة السياسية والتبشير بالديموقراطية، أو بمد النفوذ إلى مناطق كانت حكرًا على دول “صديقة”.
· الإسراف في إطلاق الوعود المعروفة بـأنها لن تتحقق؛ من ذلك تعهد الرئيس بوش بالسعي الجدي لوقف الدعم الذي يقدم للمزارعين الأمريكيين، واتخاذ إجراء بشأن ذلك قبل مفاوضات منظمة التجارة العالمية في كانكون بالمكسيك، وكذا الوعد بفتح أسواق الولايات المتحدة الأمريكية أمام البضائع والسلع الإفريقية، ومن المعروف أن مثل هذا الإجراء بوقف الدعم ليس قرار الإدارة الأمريكية؛ وإنما هو قرار الكونجرس. وفي ظل خطورة تنفيذ مثل هذه الوعود والإجراءات على مصالح فئات وجماعات أمريكية معتبرة -في مقدمتها جماعات المزارعين الأمريكيين الذين يشكلون جماعة ضغط قوية داخل الكونجرس بمجلسيه- فإن تحقيق هذه الوعود يعد بمنزلة المستحيل؛ خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن الجولة كانت انتخابية في المقام الأول، بالرغم من كونها جولة خارجية، وأن لجماعات المزارعين الأمريكيين -وخاصة في ولايات الوسط ووسط غرب وجنوب الولايات المتحدة- قدرة تصويتية واقتصادية كبيرة هي من القوة بما يمكنها من إسقاط الرئيس بوش في انتخابات الرئاسة حالة تعرُّضه لمصالحهم؛ والتي تتعارض والوعود التي أطلقها بوش في هذا الصدد، في ظل أن الدعم الذي يقدم للمزارعين الأمريكيين عقبة أمام دخول المنتجات الزراعية الإفريقية للسوق الأمريكي[69].
· التناقض الشديد بين الصورة التي نجحت الإدارة الأمريكية الجمهورية في رسمها للرئيس الأمريكي على مدار السنوات الثلاث التي قضاها في البيت الأبيض؛ والتي ارتبطت باستخدام القوة العسكرية من جانب واحد في فرض رؤى ومصالح واشنطون بدلاً من الدبلوماسية الثنائية أو متعددة الأطراف من ناحية، وبين الصورة الجديدة التي حاولت الإدارة الأمريكية رسمها للرئيس على مدى الأيام الستة التي استغرقتها جولة بوش الإفريقية كرجل سلام جاء لإفريقيا ليبشر بالنمو الاقتصادي من ناحية أخرى. وكما قيل قبل الزيارة؛ فإن الرئيس الأمريكي رغب في أن يأتي لإفريقيا بصورة مغايرة عن التي شاعت عنه؛ والتي نجحت الإدارة الأمريكية على مدى السنوات الماضية في ترسيخها -لدى الرأي العام العالمي بصفة عامة والإفريقي بصفة خاصة- لرجل نبذ جميع الإنجازات الإيجابية للدبلوماسية متعددة الأطراف، بما في ذلك الاتفاقيات البيئية واتفاقات المحكمة الجنائية الدولية؛ بالإضافة إلى اتخاذه قرارات أحادية بالحرب ضد دول مستضعفة بدون وجود أدلة على ارتكاب هذه الدول أي جرائم أو تعريضها الأمن الأمريكي للخطر[70].
· التعامل الخاطئ مع الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا؛ فمن المعروف أن الأخير كان قد هاجمَ الولايات المتحدة قبل وخلال الحرب ضد العراق بضراوة شديدة، ونتيجة لذلك كان إعلان البيت الأبيض قبل أيام من بدء الجولة بأن بوش لن يقابل مانديلا بسبب الارتباطات وقِصر زمن الجولة، وهذا لم يُقصد به سوى الرد على ما ورد على لسان الزعيم مانديلا من انتقادات حادة للعدوان الأمريكي للعراق. وكان من الأفضل عدم إثارة مسألة الزعيم الإفريقي من الأساس؛ حيث إن الخاسر فيها كان الرئيس الأمريكي نفسه؛ فبدلاً من استثمار جولة الرئيس -كما كان مستهدفًا في الأساس- لكسب أرضية لدى الناخبين من السود الأمريكيين؛ خسر الرجل مزيدًا من هذه الأرضية، خاصة عندما اكتملت المسألة بحضور الرئيس الأمريكي السابق الديموقراطي بيل كلينتون حفل عيد ميلاد مانديلا الخامس والثمانين خلال شهر يوليو 2003، وإلقائه كلمة في الحفل سحبت البساط من تحت قدم الإدارة الجمهورية -على الأقل فيما يتعلق بالناخبين السود الأمريكيين- وهو أمر سوف تبرهن على مدى صحته نتائج تصويت الناخبين السود في الانتخابات الأمريكية الرئاسية لعام 2004[71].
· وعلى صعيد الدول الإفريقية يمكن القول إن الجولة قد كشفت المزيد من التمايز بين موقف الجماهير والشعوب من الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، وموقف الحكومات الإفريقية من ناحية أخرى؛ فعلى حين خرجت المظاهرات في شوارع كل من نيجيريا، والسنغال، ونيجيريا اعتراضًا واحتجاجًا على سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة بوش، ومُنعت مظاهرات مماثلة في أوغندا؛ فإن حكومات معظم الدول الإفريقية قد أبدت -بشكل أو بآخر- استجابة لمطالب الولايات المتحدة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، ومطلب استثناء المواطنين والجنود الأمريكيين من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأبدت دول أخرى إمكانية المساعدة بتقديم قوات لحفظ السلام في العراق، شريطة أن يكون ذلك تحت مظلة الأمم المتحدة. بل وتبنَّت دولٌ مثل كينيا، وإثيوبيا، وأوغندا وجهة النظر الأمريكية ومبرراتها للتدخل في العراق واحتلاله؛ باعتبار أن الولايات المتحدة لا تنوي البقاء في العراق، وأنها سوف تسلم السلطة للعراقيين بمجرد أن تستتب الأمور هناك، على نحو ما صرح وزير الخارجية الكيني “كالونزو موسيووكا”[72].
· إن الموقف الإفريقي لم يعدم -على مستوى الزعامات والحكومات- مواقف متميزة من الصلف الأمريكي؛ فإلى جانب المعارضة الشديدة من جانب الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا للسياسات والممارسات الأمريكية على صعيد القارة والشرق الأوسط؛ أعربت بعض الحكومات الإفريقية عن أن تحقيق السلام يتطلب التعامل الجماعي مع قضايا الأمن العالمي؛ وفي مقدمتها حرب العراق، والصراع العربي/الإسرائيلي، وعدم ترك ذلك للإرادة المنفردة للولايات المتحدة الأمريكية، أو غيرها من القوى الكبرى[73].
*****

الهوامش:

(1) محمد بن المختار الشنقيطي، بوش في إفريقيا مطامح الداخل ورهانات الخارج، في:
www.aljazeera.net
(2) Todd J. Moss,US Policy and Democratisation in Africa: the Limitation of Liberal Universalism, Cambridge: Cambridge University Press, Vol. 23, No. 2, 1995, pp. 195-196.
(3) راجع تفاصيل تلك الزيارة في: محمد عاشور “زيارة الرئيس الأمريكي لإفريقيا بين الضغوط الداخلية ومساعي الهيمنة”، في حولية “أمتي في العالم”، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 1999م، ص 483-492.
(4) Moss, op.cit, p195.
(5) Mammo Muchie, “Africa and Arabia in the post-September 11 world order”, in Mammo Muchie (ed.), The Making of the Africa-Nation: Pan africanism and African Renaissance (London: Adonis & Abbey Publishers, 2003), pp. 314-315.
(6) Africa/Iraq Caught in the Crossfire: Africa Opposes war in Iraq but its Leaders Count the Diplomatic cost.at
http://www.africa-confidential.com/spicial.htm
(7) د. عبد الملك عودة، “موسم القمم الإفريقية”، جريدة الأهرام،9/7/2003. وانظر أيضًا: محمد بن المختار الشنقيطي، بوش في إفريقيا مطامح الداخل ورهانات الخارج، سبق ذكره.
(8) انظر موقع الجزيرة يوليو 2003.
(9) المعروف أن دولة ليبيريا أسست على أيدي مجموعة من العتقاء الذين كانوا عبيدًا في القارة الأمريكية ثم عادوا إلى إفريقيا؛ ولذلك تربط شعبها –أو نخبتها السياسية على الأصح– روابط وثيقة بالسود الأمريكيين.
(10) حول تلك الأزمة وموقف الولايات المتحدة منها انظر: د. محمد عاشور مهدى: “الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبل الصراع في ليبيريا بعد تيلور”، islamonline.net
(11) Bush in Africa- South Africa, at: Africatoday.co.uk/aug03/aug03bushinafrica.htm
(12) www.aljazeera.net, July 2003.
(13) Pusch Commey, “What was Bush Looking for in Africa?”, New African, London: ic publications, no.421, August/September, P38.

(14) Bush in Africa-botswana, Meeting of Minds.
At: Africatoday.co.uk/aug03/aug03bushinafrica.htm
(15) “بوش يبحث في أوغندا مكافحة الإيدز والحرب على الإرهاب”، الجزيرة 12/5/1424هـ الموافق 11/7/2003.
(16) Bush in Africa-uganda:an Unwelcom Distraction at: Africatoday.co.uk/aug03/aug03bushinafrica.htm
(17) Bush Lauds Uganda`s Fight Against AIDS, San Francisco Chronicle, July 12, 2003
at: www.safgate.com
(18) Ibid.
(19) موقع الجزيرة.
(20) “The Nigeria that Bush didn`t see”, www.cnn.com
(21) “Bush Praises Nigeria`s Leadership on AIDS,’ at: www.cnn.com
(22) Commy, op.cit, pp. 38-39
“America and Africa: New Mission”, The Economist, vol.386, no 8331, July 5, 2003.
وانظر أيضًا: د. عبد الملك عودة، مرجع سابق، وحلمي شعراوي، رحلة بوش الإفريقية، الأهرام، 7 يوليو 2003، العدد 42581.
(23) Commy, op.cit, p37
يحي غانم: جنوب إفريقيا والتمسك بأجندة إفريقية في مواجهة الأجندة الأمريكية، جريدة الأهرام، 13 أغسطس 2003.
(24) Bush lauds Uganda’s fight against AIDS, San Francisco Chronicle, July12, 2003 at: www.sfgate.com
وانظر أيضًا:
www.aljazeera.net, July 2003
(25) Mark Weisbrot, “Bush in Africa: Compassionate Protectionism.”, at:
http://www.alternet.org/story.html?StoryID=16384
– Bush lauds Uganda’s fight against AIDS, San Francisco Chronicle, July 12, 2003.
at: www.sfgate.com
-Russell Mokhiber and Robert Weissman, “The Two Faces of George Bush in Africa”, at: Africatoday.co.uk/aug03/aug03bushinafrica.htm
(26) Mark Weisbrod, op.cit.
(27) صدر ذلك القانون في 21/3/1998م إبان حكم الديموقراطيين برئاسة بيل كلينتون؛ وذلك إثر دراسات حول الفرص المتاحة للتجارة والاستثمار في إفريقيا راجع: محمد عاشور: “زيارة كلينتون….”، مرجع سابق،ص ص 485-487.
(28) الجزيرة في 11/7/2003.
William Maclean, “As Bush Visits, Africa Resents Terror Hunt”. REUTER, July 6, 2003.
(29) محمد بن المختار الشنقيطي، بوش في إفريقيا مطامح الداخل ورهانات الخارج، سبق ذكره.
(30) د. محمد عاشور مهدى: الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبل الصراع في ليبيريا بعد تيلور، سبق ذكره.
(31) حول تلك الأزمة انظر الموضوع الخاص عنها في مجلة:
New African, No.385, May 2000, pp. 14-17 & No. 386, June 2000, pp. 16-23, pp. 25-27.
(32) Bush in Africa- South Africa, at: Africatoday.co.uk/aug03/aug03bushinafrica.htm

(33) موجابي لبوش: لاتتدخل في شئوننا، At: BBCArabic.com
(34) محمد بن المختار الشنقيطي، بوش في إفريقيا مطامح الداخل ورهانات الخارج، سبق ذكره.
(35) انظر: المرجع السابق.
“Bush Lauds Uganda Fight Against AIDS”, San Francisco Cronicale, July 12, 2003 at: www.sfgate.com
(36) عامر راشد،”جولة بوش الإفريقية: عين على النفط والأخري على الانتخابات”.
At:www.rezgar.com/debat
(37) محمد بن المختار الشنقيطي، بوش في إفريقيا مطامح الداخل ورهانات الخارج، سبق ذكره.
(38) المرجع السابق.
(39) محمد طه توكل “من بعد سقوط بغداد:هل تبدأ أمريكا جرد حساباتها في القرن الإفريقي”، الأهرام 12/4/2003.
– بدر شافعي، جولة بوش الإفريقية.. مكاسب أكثر، تورط أقل.
www.Islamonline.net
(40) راجع موقف الاتحاد الإفريقي من شن الحرب على العراق “اختتام أعمال القمة الإفريقية”.
BBCArabic.com
(41) محمد بن المختار الشنقيطي، سبق ذكره.
(42) المرجع السابق، وكذلك عامر راشد، سبق ذكره.
(43) المرجع السابق.
(44) محمد بن المختار الشنقيطي، سبق ذكره، وكذلك بدر شافعي، سبق ذكره، وانظر أيضًا: “إفريقيا القاعدة الجديدة للقوات الأمريكية”.
At:BBCArabic.com
(45) لقاءات مع بعض أبناء تلك الدول ممن فروا من القتال هناك
(46) US seeks wider role in africa new small bases,training exercises are in works, Sanfrancesco Cronical, July5, 2003 at: www.safgate.com
وانظر أيضًا:
Eric Schmitt, “Pentagon Seeking New Access Pacts for Africa Bases”, New York Times, 4 July 2003.
مارتن بلاوت: إفريقيا القاعدة الأمريكية الجديدة للقوات الأمريكية
At: BBCArabic.com
(47) Ibid.
وانظر أيضًا: الشنقيطي،سبق ذكره.
(48) Ibid.
واشنطن تريد تعزيز وجودها العسكري في إفريقيا؛ الجزيرة.
(49) Ibid.
(50) Ibid.
(51) Bush begins 5-day trip to Africa / Sept. 11 attacks made him take continent’s problems seriously, San Francisco Chronicle, July 7, 2003 at: www.sfgate.com
(52) US seeks wider role in africa new small bases, training exercises are in works, Sanfrancesco Cronical, July5, 2003 at: www.safgate.com
(53) حلمي شعراوي، سبق ذكره.
(54) Ibid.
وانظر أيضًا مارتن بلاوت،سبق ذكره.
(55) Eric Schmitt, “Pentagon Seeking New Access Pacts for Africa Bases”, New York Times, 4 July 2003.
(56) د.عبد الملك عودة، موسم القمم الإفريقية، جريدة الأهرام، يوليو 2003.
(57) “الدول الثماني تخذل إفريقيا”.
at: BBCArabic.com
(58) Commy,op.cit., p. 38, Wairagala Wakabi”, An unwelcom distraction”, at:
www.Africatoday.co.uk,Joan Brickhill, “Left in
muddle”, at: Africatoday.co.uk.
(59) Charles Onyango-Obbo, “Poor in Money, But even poorer in Democracy”, The Monitor
(60) Ibid.
(61) Ibid.
(62) Somini Sengupta with Marc Lacey, “Poor and War-Weary, Africa Turns Eyes to Bush For Help”, New York Times, 6 July 2003.
(63) www.allafrica.com
(64) Ibid.
(65) Kevin J. Kelley, ”Kenya Offers Troops for Mission to Iraq in New York”, the Nation, Nairobi, September 29, 2003.
(66) Milton Olupot And Joyce Namutebi, “Uganda: UPDF Won’t Go to Iraq Says Chief of Military Intelligence Mayombo”, New Vision, September 26, 2003.
(67) يحي غانم، جنوب إفريقيا والتمسك بأجندة إفريقية في مواجهة الأجندة الأمريكية، سبق ذكره.
(68) “الولايات المتحدة تتسلم خمسة من مشتبه بانتمائهم للقاعدة في مالاوي”.
At:BBCArabic.com
(69) يحي غانم: “قراءة فيما لم تسفر عنه جولة بوش الإفريقية: الرئيس الأمريكي والوعود الإفريقية المستحيلة”، الأهرام 6/8/2003.
(70) المرجع السابق.
(71) “مانديلا يتفادى لقاء بوش”, المرجع السابق.
At:BBCArabic.com
(72) Kwevin J.Kelley, op.cit.
(73) Petros Kuteeue, “Namibia Backs United Nations Role in Iraq”, The Namibian, October 10, 2003.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2005

للتحميل اضغط هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى