هجمات باتاكلان … جدل أبعد من فرنسا

رغم وقوع تلك الهجمات بالعاصمة الفرنسية باريس في 13 نوفمبر 2015، ورغم أهمية دلالتها بالنسبة لواقع الدور الفرنسي، ماضيه ومستقبله، رغم ذلك، إلا أن دلالتها وتداعياتها دارت حولها جدالات أكثر عمقًا على المستوى العالمي (خاصةً الأوروبي). هذا، لاسيما مع التزامن مع عمليات مشابهة بمالي (وهي منطقة نفوذ فرنسي أيضًا)، فضلا عن حادث الطائرة الروسية بمصر، وما سبق ذلك وما تلاه من عمليات (استهداف عناصر من الأمن التونسي على سبيل المثال)، أي حالة عنف متفاقمة إقليميًا ودوليًا.

وتلك الجدالات تأتي على المستويات التالية:

  • المفاهيم.
  • السياسات، والتحالفات.
  • الأدوات.

مستوى المفاهيم:

يتعلق ذلك بمجموعة من المفاهيم التي تصاعدت الحالة الجدلية حولها مع الأحداث الأخيرة (حيث إنها كانت محل جدل بطبيعتها)، ومن تلك المفاهيم: الدولة، المواطنة، الأمن، التعددية الثقافية، الديمقراطية). ونناقش على وجه الخصوص ما دار حول المفهومين التاليين:

  • الدولة:

هل تعود سيادة الدولة القومية في صورتها الفجة لتعيد الإمساك بزمام الأمور في أوربا، بعد تلك المسيرة للوحدة الأوربية، وتأثيراتها غلى سيادة الدول الأوربية؟!

سؤال يُطرح بقوة عقب تفجيرات باريس، حيث ما كشفت عنه تحريات وعمليات ما بعد التفجيرات عما تمتع به العناصر المطلوبة أمنيًا من سهولة الحركة بين دول الاتحاد الأوربي، تحت مظلة ما يوفره من تيسيرات في هذا الأمر.

ذلك حتى إنه تعالت الدعوات لإعادة النظر في ترتيبات حرية التنقل الأوربية (اتفاقية شينجن)، بل الأخطر ما كشف عنه أحد استطلاعات الرأي الذي أجري عقب الأحداث من رغبة أكثر من نصف البريطانيين الانسحاب من الاتحاد الأوربي، الأمر الذي اعتبره البعض اتجاهًا للردة إلى أسر الدولة القومية.

ولنقل إن التكهنات على هذا الصعيد تصدقها أو تكذبها مدى قدرة الاتحاد الأوربي على التفاعل مع احتياجات أعضائه والاستجابة لها، خاصة على المستوى الأمني، على ألا يتم تجاهل الضرورة الملحة لبلورة سياسات بديلة أكثر مرونة للتعامل مع قضايا الإرهاب. هذا، حتى لا يتحول الاتحاد كسوابقه من منظمات وكيانات إقليمية فقدت مكانتها، حين فشلت في الاستجابة للمستجدات، والتطورات، لاسيما على الصعيدين: الأمني الداخلي، والدفاعي الخارجي. (وفي الجامعة العربية خير مثال)، علمًا أن الاتحاد لم يستجب بعد لمطالبة فرنسا إياه تحمل مسئولياته في هذا الصدد.

– المواطنة:

ففي الوقت الذي تواتر فيه الحديث عن المواطنة العالمية (وإشكالاتها بالطبع)، واعتبار أن دول الاتحاد الأوربي بمثابة نقطة انطلاق بصددها، تتزايد تخوفات العودة إلى الوراء خطوات. حيث الحديث عما يتصل بسحب الجنسية الفرنسية من أي مزدوج جنسية يكون موضع شك واتهام بالإرهاب.

ولا شك أن الأقليات المسلمة بالغرب هي محل الريبة بالأساس (علمًا أن نسبة غير قليلة منهم من مزدوجي الجنسية)، حتى إنه كالمعتاد تعالت الأصوات المضادة لتلك الأقليات بالغرب، إلى أن وصل الأمر لتبني مساحة واسعة من النخب السياسية لخطاب اليمين المتطرف، ما بدا جليًا في الخطاب الرسمي الفرنسي.

وبالتالي، ربما يثور التساؤل: هل نصبح بصدد مواطنة عالمية تستثني المسلمين؟! أو بشكل أكثر موضوعية: هل نصير بصدد مواطنة على أساس الدين، بينما مواجهة فاعلة للعنف والإرهاب تجد أول سبلها في تمتين مفهوم المواطنة؛ نظريًا وواقعيًا، سواء في الشرق أو في الغرب؟ هل تجد أوربا نفسها وهي تواجه الإرهاب، تقع أسير العنصرية والأحادية الثقافية؟

مستوى السياسات والتحالفات:

تعد الأزمة السورية هي تلك البوتقة التي ستنصهر فيها أغلب التداعيات على هذا الصعيد، حيث:

  • تزايد الدعوات للتضييق على دخول اللاجئين السوريين إلى أوربا، في الوقت الذي تتحدث فيه تركيا عن زيادة أعبائها في هذا الشأن. إذ تم تحميلهم قسمًا من المسؤلية عما جرى، وليس السياسات الأوربية –الأمريكية المترددة تجاه قضيتهم، وتجاه نظام الأسد تحديدًا.

ولعل هنا يبرز خوف مبرر من فقدان السياسة أبعادها الإنسانية بشكلٍ كامل، خاصة مع وجود حالات لثقب قوارب اللاجئين على الحدود اليونانية، وهم بداخلها، وإن كانت مثل تلك الحوادث مازالت في نطاق ضيق.

  • تسير الأمور باتجاه التركيز على الحرب على داعش دون سواها، وكأن جرائم نظام الأسد ليست بإرهاب، وتبدو التحركات الروسية قائدة في هذا الاتجاه، والسؤال: هل يتم التنازل عن شرط رحيل الأسد للتسوية (وهو شرط تتبناه فرنسا بالأساس) لصالح توثيق وتوسيع التحالف ضد داعش؟.

مستوى الأدوات:

أي أدوات التعامل مع الإرهاب، إذ زاد إصرار الغرب على التعامل الأمني مع القضية، ذلك التعامل الذي لم يجد نفعًا البتة في أي من المراحل. هذا وإن كان في وقت سابق قد طغى البعد الأمني على الخطاب الأمريكي، واختار الخطاب الأوربي التوازن، إلا أن ما نراه الآن تزايد في مساحة البعد الأمني بالخطاب الأوربي، على نحو أثار حفيظة وسائل الإعلام الغربية نفسها، لاسيما الفرنسية (محل الحدث)، للمطالبة بألا تدوس الآلة الأمنية القيم الديمقراطية كافة.

وعلى جانب آخر، يلاحظ أن التعامل الأمني ربما يشهد تطورًا نوعيًا، ذلك على خلفية الخوف من التطورات التي بدأت تشهدها العمليات الإرهابية، إذ نرصد تصريحات تبرز الخوف من هجوم كيميائي أو جرثومي. ذلك أخذًا في الاعتبار أن مثل هذا الترويج للفزع، ربما يكون مقدمة لمزيد من التشدد الأمني.

والخلاصة، إن ما يشهده العالم الآن من هجمات إرهابية (موجهة ضد قوى أساسية بالنظام العالمي، على اختلاف وتناقض مواقفها)، وإصرار على التعامل ضيق الأفق معها من قبل القوى العالمية، سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار، ليس فقط على مستوى السياسات والأدوات، وإنما على مستوى القيم والبنى الحاكمة أيضًا. إن القوى العالمية بمختلف توجهاتها لابد لها من إدراك حاجة هذا العالم إلى مراجعة للسياسات أوسع أفقًا، وبناء للمفاهيم أكثر رحابة، يشارك فيه الجميع.

 

  • مركز الحضارة للدراسات السياسية- نوفمبر 2015

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى