عن القدس وفلسطين (وعاؤها الجغرافي)

عندما نريد أن نتكلم عن القدس ، تتزاحم الموضوعات ، ولا نثق بصواب ما نبدأ به وما ننتهى ، ولا بأننا قد أشرنا إلى ما تنبغى الإشارة إليه فى غالب الظن .

القدس بالنسبة لنا موضوع دين – أو أديان- ووطن وتاريخ وثقافة ، هى ماض وحاضر ، وهى مستقبلنا أيضا ، وفلسطين هى وعاء القدس وحاملتها . بل إن القدس هى هوية فلسطين ، وهى من أعطاها الغالب الأعم من صبغتها وأهميتها ، ليست القدس مدينة فى وطن هو فلسطين ، ولكن فلسطين وطن فى مدينة هى القدس . إن فلسطين بغير القدس لا تكون أكثر من سيناء مصر أو جولان سوريا أو شريط حدود لبنان الجنوبى ، قضية تحرير سياسى بحت .

أقول ذلك لأوضح أن فلسطين ليست مسئولية الفلسطينيين وحدهم ، إننا جميعاً نحمل تبعتها ، مسلمين ومسيحيين وعرب، وبموجب كل من هذه الانتماءات السياسية والثقافية التاريخية والدينية . وأقول ذلك لأوضح فى المقابل أن فلسطين ليست ملكاً لشعب فلسطين وحده ، وما يتنازل عنه أى من الكيانات السياسية التى صيغت لتمثله ، ليست له حجية شرعية علينا ، ولكن شريطة أن نكون على مستوى تحمل التبعة.

القدس كانت أرض صراع دام قرنين من الزمان ، من القرن الحادى عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادى ، وهى الآن أرض صراع استكمل قرنًا من الزمان ولم تظهر بعد فواتح انتهائه .

ونحن نعرف أن الصراع القديم والصراع القائم ليس صراعاً دينياً حضارياً فقط ولكنه صراع سياسى أيضاً . ولكننا لا نستطيع أن نغفل عن الصبغة الدينية له ، فالقدس لا يمكن أن تستحيل إلى أنها محض موقع وعاصمة ، فهى ليست “برلين” يمكن أن تحل محلها “بون” فى الضمير الألمانى ، وهى ليست “استامبول” يمكن أن تحل محلها “أنقرة” فى الضمير التركى . ولكنها “القدس” بغير بديل . وهى ليست أرضاً يستبد شعبها بتقرير المصير بشأنها ، ليست كذلك فقط لأننا مسئولون عنها يوم الحساب ، مسئولون عنها بوصفنا الدينى ، بعد أن نجوز من الدنيا إلى الآخرة، ومن العالم المشهود إلى عالم الغيب .

الماضى والحاضر مبسوطان أمامنا ، وما نعيه من ماضينا فهو حاضر معنا ، أو هو حاضر بنا فى يومنا هذا . الحاضر وحده نقطة ، والنقطة لا اتجاه لها ولا معنى، إنما نعرف اتجاهها مما قبلها ، أى أن الخط السابق عليها هو ما ينبئ باتجاهها؛ ومن هنا أهمية “حضور” الماضى وبُدُوِّه فى الإطار المعاش ؛ لأنه هو ما يرسم السياق ويكشفه .

قد يغفل كثيرون اليوم عن معرفة من هو “أحمد زكى باشا” لقد عاش بيننا فى مصر من 1884 إلى 1934 ، وكان أديباً وسياسياً مستقلاً ، واشتُهر “بشيخ العروبة” واشتهرت داره “بدار العروبة” لأنه كان من أوائل الدعاة لها . قضى السنين الأخيرة من حياته يكتب عن فلسطين ، وكان قد اشترك فى تحقيق أحداث “حائط البراق” فى 1929، وهى أحداث جرت بين عرب فلسطين وبين صهيونيى اليهودية حول حائط المسجد الأقصى ، وكان من بدايات الصراعات الدموية وقتها . كان أحمد زكى يسمى الأندلس “الفردوس المفقود” ورغم فائق اهتمامه بفلسطين ، لا أظن أنه دار بخلده أنه بعد عشرين سنة من أحداث حائط البراق ستكون فلسطين الفردوس المفقود الثانى . وهذا جميل بهم -الكاتب العربى المخضرم – يسميها فى الخمسينيات “فلسطين هى الأندلس الثانية” وعندما قال هذا القول لم يكن دار بخلده – فيما أظن – أنه بعد خمس عشرة سنة تقريباً ، فى 1967 ، سنة الهزيمة الشهيرة سَيَكمُل للصهاينة احتلال فلسطين ، وسيتوغلون فى أراضى جاراتها ويستكملون احتلالهم للقدس والمسجد الأقصى ، ثم بعد ذلك نصل إلى هذه الأيام التى نعيشها اليوم ونرى أن القدس تكاد تفلت من أيادينا ، فالمستوطنات اليهودية والتخطيط السكانى والسياسيات اليهودية المعلنة .. كل ذلك يحدث عيانا جهاراً .

أنا أبعد ما أكون فى حديثى هذا عن حديث العجائز ، ممن يشكون الزمان ويضربون الأمثال ولكنى أقصد أن أوضح مخاطر واقع يأتينا من الحاضر القريب ، حاضر خمسين سنة مضت أو ثلثى قرن ، إن شئنا أن نؤرخ لبدء محنتنا فى فلسطين بحادثة حائط البراق ، وأن هذه المخاطر ليست متعلقة بشؤون السياسات الوطنية فقط\، ليست فقط مسألة استعمار وشعوب خاضعة ، ولكنها تتعلق بالتكون العضوى للجماعة الإنسانية ، وهى كذلك ليست متعلقة فقط بالشأن الدنيوى بالتاريخ والثقافة والتكوين القومى العام للجماعات ، ولكنها متعلقة أيضاً بالشأن الدينى ، وتبعاتنا الدينية العقدية . أى قصدت فقط أن أوضح مقدار المخاطر وحجم التبعة الملقاة علينا . ونحن لازلنا بإذن الله قادرين على المواجهة متمسكين بالحق ، ولا يزال ميزان القيم فى هذه المسألة بالذات سليماً بحمد الله .

إن القدس ، هى نقطة تجميع عجيب ، لقد جمعت العروبة والإسلام بغير تناقض ولا تضارب ، وهى أيضا جمعت المسلمين والمسيحيين بتآلف وتشارك وبغير تنازع ، وهى تجمع أهل الدنيا فى بلادنا وأهل الدين، وهى جمعت أقطارنا العربية المفككة وبلورت فى أهاليها الشعور المشترك بالخطر الواحد والمصير الواحد . هذا كله مما أنعم الله علينا به من طريق القدس ، وبقى علينا أن تتحول “المكنة” إلى “فِعْلة” ونحن لازلنا صامدين ومرابطين .

وإذا نظرنا إلى الموقف على مدى عشرات السنين الماضية نلحظ أن شعب فلسطين لم يعد ثمة قوام أو هيئة تشخصه منذ 1948 ، فاحتلت إسرائيل ما احتلت وأسقطت الفلسطينيين فى أرضهم من حسابها ، هم أناس بغير هُوية ولا تكوين . وسيطرت الأردن على القسم الباقى وكاد أن يضيع الفارق بين الأردن وفلسطين ، ومن وجهة أخرى كانت الأقطار العربية إما ممثلة من قوى أجنبية ، أو خارجة تواً من احتلال كثيف مرهق ، وهى ضعيفة واهنة المفصل والعصب . وإسرائيل مدعومة من الغرب السائد فى العالم كله ومن كبيرة الاستعمار العالمى الفتىّ “الولايات المتحدة الأمريكية” ذات التجربة التاريخية “الرائدة” فى إبادة الهنود الحمر والحلول محلهم ، وتصويرهم على أنهم همج كنسهم التاريخ فى ترابه .

وظلت فلسطين وشعبها لا يكاد يُسمع لهم حس أو يظهر لهم تكوين مشخص لهم ، وكانت قضية فلسطين هى تقريباً ما تتبناه الدول العربية المحيطة . ثم ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية وقامت على سوقها بعد أكثر من عشر سنين فى أوائل الستينيات ، ونحن هنا لا نحكى التاريخ ولا نسرد وقائعه ،  ولكننا نشير إلى الخطوط العامة . وهى تبدو لى فى عدة نقاط تبدو منذ قامت منظمة التحرير الفلسطينية .

أولاً : أنها جاءت حركة شتات ، قامت فى الأساس بقيادة وبأعضاء يقيمون فى المهاجر المختلفة للشعب الفلسطينى ويعتمدون فى الأساس على شعبية ترد من هذه المهاجر ، ويستخدمون أدوات عمل سياسى وأساليب تحرك ترتكن فى المحل الأول على الرأى العام العربى ، وبخاصة فى دول الجوار الفلسطينى ثم الدول العربية ثم الدول الإسلامية ثم حركات التحرر فى العالم غير الإسلامى ، وتعتمد على ضغوط هذا الرأى العام وحكوماته .

ثانياً : أنها منظمة تجاوزت فى نظر المتعاملين معها وصف التنظيم السياسى ووظيفته ، وبدت فى نظر هؤلاء بحسبانها الكيان المجسِّد والمشخص للوطن الفلسطينى ، وكانت هذه الوظيفة مما يحتاج إليها جمهور الشتات الفلسطينى باعتبارها ممثلة للوطن البعيد الذى لا يحيون على أرضه ، وباعتبارها رمزاً للتماسك الجمعى لشعب توزع شتاتاً .

ثالثاً : أنها جاءت حركة تحرير وطنى بالصيغة التى كانت سائدة فى حركات التحرر على مدى الخمسينيات والستينيات التى تستهدف تحرير الأرض وإقامة نظام حكم اجتماعى على صورة نظم الغرب السياسية والاجتماعية .

كانت منظمة التحرير عند نشوئها ومع بقائها خطوة لا شك فى أهميتها ، من حيث حفظ القضية وحفظ الفلسطينيين المهاجرين من الذوبان فى الأقطار التى هاجروا إليها. وذلك برغم كل ما نعرفه من قصور وضمور وسلبيات فى بناء المنظمة وسياساتها .

ومع هزيمة 1967 ومع كل ما عانى منه العرب من بعد ، ومع معاهدات الصلح وانسحاب مصر من موقف القتال والاعتراف بإسرائيل ، ومع التصفيات الجسدية التى عانت منها المنظمة فى عدد من معارك الحروب والاغتيالات السياسية ومع التعقب الإسرائيلى لرجال المنظمة فى لبنان وتهجيرهم منها إلى تونس – مع كل ذلك وفى سياقه ماذا جرى ؟!

فى عام 1987 فوجئ العالم والعرب قبل غيرهم ، بأن عرب فلسطين فى داخل الأراضى المحتلة يتحركون ويجاهدون ، وكان هذا تحولاً مهماً وحاسماً بدأ فى وجوه عدة :

أولاً : ظهرت حركة تحرير من داخل فلسطين ومن شعبها المستقر على أرضها، فكانت حركة “داخل” فى قياداتها وأعضائها وجماهيرها ، وصارت تستخدم القوة الذاتية لجماهير الفلسطينيين المقيمين بأرضهم ، وما يتبع ذلك من أدوات عمل سياسى وأساليب تحرك ، مغايرة إلى حد كبير لما كانت تصنع منظمة التحرير .

ثانياً : ظهرت بغير احتياج لأن تكون منظمة “معادلة” للوطن ، فهى تقف على أرض الوطن ، وتقوم داخل أرضها وتنتشر بين ناسها ، ومن ثم فإن ما أصاب منظمة التحرير من وهن وشحوب ، كانت حركة الداخل بريئة منه نوعاً ماً .

ثالثاً : جاءت حركة الداخل مصطبغة بالصبغة الإسلامية ، وصار الطابع الإسلامى لها من الخصائص التى كانت قائمة فيها خلال العشرينيات والثلاثينيات وحتى 1948 ، ثم ضمر هذا الطابع مع حركة الخارج ، ثم عاد من جديد .

فرضت حركة “الداخل” الوطنية ذاتها على الواقع الفلسطينى . وفرضت خصائصها فى النظر العربى والإسلامى والعالمى ومثّلت تحدياً كبيراً لمنظمة التحرير ولوضعها القيادى بين الشعب الفلسطينى ، وتحدياً لاعتبار المنظمة هى “الممثل الشرعى الوحيد” للفلسطينيين ، فى نظر من يتعاملون مع هذا الشأن .

ونحن يمكن أن ندرك من استقراء وقائع التاريخ الحديث لشعوب أقطارنا ، أن حركات التحرر الوطنى ذات التوجه العلمانى أو ذات الثقافة الغربية فقط كانت مقاومتها للاستعمار تميل إلى المهادنة حينا وإلى قبول أنصاف الحلول حينا ، والكثير منها آل إلى الانتكاس بعد تجارب بدأت فى العشرينيات بعد الحرب العالمية الأولى واستمرت حتى السبعينيات .. ومن الجلى أن حركة التحرر الفلسطينية لحقها ما لحق غيرها فى هذا الشأن ، ولكن يضاف إلى ذلك سبب فلسطينى خاص ،وهو ظهور حركة تحرر إسلامية فى فلسطين بالخصائص السابقة ، مما شكل تهديداً وتحدياً لم يكن فى مقدور قيادة منظمة التحرير أن تطيقه ولا أن تستوعبه . وقد أدى ذلك إلى انهيار الموقف التحريرى لهذه القيادة المسيطرة على أعنَّة القرارات فيها .

وأسهم فى ذلك أن حركة “الداخل” أكثر ثباتاً واستقراراً وأكثر فاعلية من حركة تعمل فى الأساس بقيادة من خارج الحدود، وأن أدوات حركة الداخل فى السياسة أفعل وأقل تكلفة ، وأن مخاطر الداخل تعصم رجال الحركة من الترهل والاسترخاء كما أسهم فى ذلك -كذلك- أن منظمة التحرير فقدت فى كفاح الأيام الماضية أبطالاً من خيرة من أنجبت قوة وشجاعة وإخلاصاً وعزماً وإنكاراً للذات . وإذا كان يُقال إن الحروب يخوضها الأبطال وينعم بثمار نصرها من ليسوا منهم ، فما بالنا بمن ينعم بثمار من حادوا عن الجهاد بغير نصر حققوه ، وركنوا إلى السلم بغير هدف كانوا نهضوا من أجله .

ونحن نعرف أن انهيارات حدثت فى الموقف العلمانى الوطنى منذ السبعينيات فى سائر أقطارنا ، وانهيارات حدثت للكثير من منظماته وهيئاته ، مما دفع الوطنيين العلمانيين إلى اختيارات صعبة بين الصبغة العلمانية – والتى صيغت بها أهدافهم ، وبين الموقف الوطنى التحريرى  الذى اتخذوه .

وفى هذا الإطار بدأت منظمة التحرير ، بما لاقته من تحدٍ وطنى هدد قيادتها للشعب وهدد وضعها باعتبارها “الممثل الشرعى الوحيد” بدأت المنظمة تستغرق فى جانب الولاء التنظيمى – ولو لم يكن مشخصاً للولاء الوطنى – وتضع من أهدافها تحقيق الاعتراف الدولى لتكسب به قوة مواجهة ومركز ثبوت ، لا فى مواجهة الدول الأخرى ولكن فى مواجهة من رأتهم مزاحمين لها على تمثيل الشعب الفلسطينى. وصارت تنشد الاعتراف ولو من الخصوم، خصوم حركتها التحريرية ، وصارت تصر على استجلاب الاعتراف ولو أدت مقابله من أهدافها ، صار ثمة إحلال للتنظيم بدلاً من الوطن ، ولم يعد لديها التنظيم هو رمز للوطن ، وإنما صار هو وطنها لا غير . لذلك أعلنت عن تشكيل الحكومة “فى الخارج” منها هى ذاتها . فصادرت حق الآخرين فى تشكيل مماثل ، ثم بوصفها حكومة فاوضت الإسرائيليين فى “أوسلو” وأخذت منهم مكاناً فى “الداخل” بمقابليْن : أولهما – التنازل عن كونها حكومة أى دولة ، والاكتفاء بكونها “سلطة” فهى تنازلت عن الحكومة لا لشعبها ولكن للإسرائيليين ، والمقابل الثانى – هو أن تكون سلطة داخل ضد حركات التحرير الفلسطينية الداخلية .

وأهم ما نلحظه من هذا النظر العام ، أن الأمر ما ضاق حتى اتسع ، وأن الأزمة ما اشتدت وأطبقت إلا وبدأ بصيص انفراج، وأن النفس طويل ، وأننا أمام شعب حى .

أما عن الدول العربية ، فنحن نعرف أن مصر كانت هى أول من وضع معاهدة السلام مع الإسرائيليين فى 1979 ، بعد الزيارة العجيبة التى قام بها الرئيس أنور السادات لإسرائيل فى أكتوبر 1977 ، وبغض النظر عن الطريقة والأسلوب فإن عشرين سنة بعد هذا الحدث تكفى للنظر إليه نظراً شاملاً .

وأول ما ينبغى إدراكه هنا أن مصر والعروبة وكامب ديفيد فى 1979 ، تماثل تركيا والجامعة الإسلامية ومعاهدة لوزان فى 1923 . توضيح المسألة أن الحرب العالمية الأولى أسفرت عن هزيمة الدولة العثمانية ، دولة الخلافة الإسلامية ، واحتلت الجيوش الأجنبية أرضاً فى الأناضول وحاصرت قصر الخليفة فى استامبول ، وخلال المدة من 1919 إلى معاهدة لوزان فى 1923 كانت الدولة العثمانية قد فصلت الخلافة عن السلطنة ، ثم ألغت الخلافة وتركت كل ما سوى الأراضى التركية ، وهنا حلَّت الجيوش الأجنبية عن أرضيها .. كانت مقايضة تاريخية هى جلاء القوات الأجنبية عن تركيا مقابل أن تترك الإسلام وتقطع كل صلة لها بالخلافة ودعاوى الجامعات الإسلامية ..

وتمت المقايضة : وفى مصر مع احتلال سيناء – فيما احْتُلَّ من أراضى العرب فى حرب 1967 – جرى الضغط على مصر بحسبانها كانت القاعدة لانطلاق دعوة الوحدة العربية وتجميع العرب تحت شعار واحد وسياسة واحدة ، فجاءت المقايضة التاريخية أيضاً وهى أن تجلو القوات الإسرائيلية عن الأراضى المصرية، أى سيناء ، مقابل أن تتنازل مصر عن دورها العربى ودعاوى الوحدة العربية وجاءت اتفاقية كامب ديفيد فى هذا السياق .

ولكن الحقيقة – وبعد عشرين سنة – أننا نلحظ أن السياسة المصرية لم تخضع لهذا المصير بذات الدرجة الكبيرة التى خضعت بها تركيا بعد مؤتمر لوزان ، إنما ألت السياسة المصرية إلى نوع من فتح النوافذ والمناورة والكر السياسى والفر ؛ لتسترد وضعها العربى بالتدريج وبما يتيسر منه حسب الإمكانات المتاحة .

ومن جهة أخرى ، فإن معاهدة كامب ديفيد قد نقلت الصراع العربى الإسرائيلى من وضع الحروب النظامية التى تقوم بين جيوش دول إلى وضع أخر ؛ هذا الوضع الآخر أريد به من القوى الصهيونية والأمريكية أن يكون وضع سلام . ولكن الحادث أن المعاهدات والإتفاقات والاعتراف الرسمى بوجود دولة إسرائيل ، كل ذلك لم ينشئ السلام بمعنى أن الصراع لم ينفك ، إنما تحول إلى أشكال نشاط أخرى وحركيات سياسية مغايرة ؛ تحول من صراع جيوش نظامية إلى صراع جماعات ، أى صراع يعتمد – فيما يعتمد- لا على القرار العسكرى الحربى بمثل ما يعتمد على النشاط الشعبى ، ومن قضاياه عدم التطبيع أى رفض التعاون ، ورفض التعامل أى المقاطعة ، وذلك بصور تكاد تشبه أساليب الكفاح السلمى المشروع التى مارسها المصريون ضد الاحتلال البريطانى فى سنة 1919 ،ومارستها الهند بزعامة غاندى ضد الإنجليز فى فترة ما بين الحربين العالميتين .

ويتواكب مع هذه الأساليب من الصراع، بين الشعوب العربية والإسلامية وبين الإسرائيليين – نوع أساليب الصراع الشعبى داخل فلسطين ، وليس من شعب عربى ويتصور أن فلسطين هى للفلسطينيين فقط إنما هى للعرب والمسلمين بعامة . وأكاد أقول إنه ليس من حكومة عربية تعتقد أن فلسطين هى شأن الفلسطينيين وحدهم ؛ لأنه ليس من حكومة عربية إلا وتهتم بقضية الأمن القومى لها ولأرضها ، وإلا أحاطت  بها المخاطر والمكاره وفقدت مبرر وجودها ..

وأمن فلسطين فى عروبتها وإسلامها هو أمن قومى لكل البلاد العربية المحيطة بها وغير المحيطة أيضاً ، إن إسرائيل وفلسطين يحوطها ما يسمى بدول الطوق وهى مصر والأردن وسوريا ولبنان ، وهذا طوق من شأنه دعم الحركة الفلسطينية وتطويق إسرائيل . لذلك فليس غريباً أن السياسات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل والصهيونية ، أحاطت دول الطوق هذه بطوق أخر محاصر ، وهى العراق والسودان  وليبيا ، لتكون دول الطوق المحاربة لإسرائيل محاطة بعوامل إضعاف مقصود ، ولتفقد دول الطوق عمقها السياسى والاستراتيجى فى حالات الحروب والصراع وحتى فى صور الصراع السلمى.

ومن جهة أخرى فإسرائيل لا تكف عن الصراع ولا ترضى بالسلام ولا تأمن للسلام ، وقد ارتفع شعار “الأرض مقابل السلام” ، ورضيه العرب فى مدريد سنة 1991 ، ولكن إسرائيل لم تلبث أن رفضته وأحلَّت محله شعار “الأمن مقابل السلام” .. كان الشعار الأول يعنى أن إسرائيل تعيد الأرض للعرب ، وهم يعطونها السلام ، بمعنى أن السلام كان قراراً فى يد العرب يُعطونه بشرطهم أو لا يعطونه . أما الشعار البديل “الأمن مقابل السلام” فهو يعنى أن على العرب أن يقدموا الأمن لإسرائيل وهى من يعطيهم السلام.

صار السلام قراراً إسرائيلياً وليس عربياً ، والسلطة الفلسطينية التى حلت محل منظمة التحرير توافق على هذا الطرح فى اتفاقية “واى بلانتيشن” وتقبل أن تقوم بدور من يحمى إسرائيل من “إرهاب” الفلسطينيين .

والصراع محتدم ، والجهاد قائم ، والتنوع هائل ؛ وليست فلسطين الأندلس الثانية ، ولله سبحانه فى كل نفس ألف فرج قريب … الحمد لله

  • نُشرت  هذه الدراسة ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى