تحولات التشريع و القضاء في مصر بين ثورتي 1919 و1952

تمهيد:

قامت ثورة 1919م مستهدفة تحقيق الاستقلال الوطني، وهي وإن لم تحقق هدفها كاملاً إلا أنها استطاعت أن تضع الأولويات الوطنية في إطارها الصحيح، ولفتت النظر إلى أن المعركة الأهم هي معركة الاستقلال، وإجلاء المحتل البريطاني عن البلاد، وأن ما عداها من قضايا ومعارك فرعية ينبغي أن تتوارى؛ لأنها في أحسن حالاتها تشوش على ما ينبغي التركيز عليه، وفي أسوأها تعرقله وتمكن للمحتل من ترسيخ سيطرته على الوطن، أرضًا وعقًلا وإرادة!
وعلى الرغم من أن التحولات الكبرى فيما يتعلق بمجالي التشريع والقضاء قد سبقت قيام ثورة 1919م، حين جرى إحلال القوانين الوضعية (الفرنسية) محل الشريعة الإسلامية، وتم استبدال المحاكم القنصلية بالمحاكم الوطنية (في القضايا التي يكون أحد أطرافها أجنبيًا)، بل وتشكلت المؤسسات والهياكل المتعلقة بكل من التشريع والقضاء على نسق غربي مغاير لما استقرت عليه مئات السنين، فإن هذه الثورة كان لها تأثيرات مهمة كذلك على حركتي التطور التشريعي والقضائي، وإن كانت تلك التأثيرات تابعة للتحولات السياسية المترتبة على نمو الحركة الوطنية وإيجاد ممثلين لها في الواقع السياسي والاجتماعي ومن ثم التشريعي، فضلا عن شيوع الروح الوطنية وغلبتها على أية تحزبات سياسية أخرى.
وقد تكون أهم تلك التحولات القانونية والقضائية التي حدثت بعد ثورة 1919م حتى ثورة يوليو 1952م، تتمثل في صدور الدستور المصري الأول سنة 1923م، وإحلال المحاكم الأهلية محل المحاكم المختلطة، فضلا عن حركة التغييرات التي جرت في بعض التشريعات المصري، وعلى رأسها القانون المدني، وما ترتب على هذه التحولات جميعها من من التضييق من اختصاصات المحاكم الشرعية وصولا إلى إلغائها تمامًا فيما بعد في عهد ثورة يوليو 1952، وهي كلها تحولات سنرى أنها ارتبطت في الأساس بتطورات سياسية دفعت إليها ثورة 1919، أو على الأقل تأثرت بها، وذلك على التفصيل الآتي:

أولاً- صدور دستور 1923م:

لم يبدأ سعي القوى الوطنية إلى إصدار أول دستوري مصري كامل مع قيام ثورة 1919م، بل بدأ قبل قدوم الاحتلال البريطاني، وكاد المصريون أن يتمكنوا من هدفهم في أثناء الثورة العرابية (1881م) فأصدروا “اللائحة الأساسية” في 7 يناير 1882م، والتي حدَّت من تغول السلطة التنفيذية لصالح البرلمان لتضع مصر على أعتاب الحكم الدستوري، مما لاقى رفضًا صريحًا من بريطانيا وفرنسا(1)، وأدى في النهاية إلى قدوم الاحتلال البريطاني (1882م) وقضائه على تلك الثورة وما سعت إليه من إقامة حياة حرة وكريمة للمواطن المصري، فألغت اللائحة الأساسية وأصدرت بدلا منها ما أسمته بـ”القانون النظامي” الذي خلا من النصوص الضامنة لاستقلالية البرلمان عن السلطة التنفيذية، ومن ثم كان من الطبيعي أن يتجدد السعي الحثيث نحو انتزاع الدستور بعد قيام ثورة 1919م.
ولعل الخطوة الرئيسة التي مهدت لصدور الدستور، وكان لثورة 1919م تأثير مباشر في حدوثها، تتمثل في صدور تصريح 28 فبراير 1922م، الذي أعلنت فيه الحكومة البريطانية إنهاء الحماية على مصر وأن مصر باتت دولة مستقلة ذات سيادة (بتحفظات أربعة مشهورة تكاد تسحب بموجبها ذلك الاستقلال المزعوم) كما تضمن إلغاء الأحكام العرفية المفروضة في مصر منذ عام 1914م(2) وهو التصريح الذي وإن كانت قد رفضته القوى الوطنية حينها لأسباب تتعلق بصوريته، وبأنه يعطي انطباعًا مخادعًا للعالم يظهر مصر وكأنها قد نالت استقلالها عن الاحتلال البريطاني على غير الحقيقة، ومن ثم فإن قبولهم به سيسبغ شرعية زائفة على وجود الاحتلال البريطاني في مصر، إلا أنه كانت لهذا التصريح أهمية نظرية تتمثل في اعتراف (الوصي) بنفسه بأن القاصر -في زعمه- قد بلغ رشده، وبات يتولى أمره بنفسه، وهي ورقة سياسية فتحت الباب لإصدار أول دستور حقيقي للبلاد، سنة 1923م، بعد أن وضعته لجنة شكلتها حكومة السيد عبد الخالق ثروت، سميت بـ “لجنة الثلاثين” باعتبارها كانت تضم ثلاثين عضوًا، خلاف رئيس اللجنة ونائبه(3)!
وقد أدى اختيار لجنة مشكلة من قبل الحكومة لوضع الدستور إلى رفض كل من حزب الوفد (حزب زعماء ثورة 1919 وأكبر حزب سياسي في بلاد حينئذ) والحزب الوطني، المشاركة في وضع هذا الدستور، الذي “كان يجب أن يُعهد وضعه إلى جمعية وطنية تأسيسية تمثل الأمة لا إلى لجنة تؤلفها الحكومة”(4).
ولكن رغم عدم مشاركة حزب الوفد في لجنة وضع الدستور، ورغم أن زعيمه وزعيم الثورة –سعد باشا زغلول- كان منفيًا حينها خارج البلاد ولم يعد إلا بعد صدور هذا الدستور بالفعل، فإن الثورة لم يغب تأثيرها الذي مكن للأمة من تكليل جهادها بوضع دستور للبلاد(5) يخفف من قبضة الاحتلال والاستبداد معًا، ويضع إطارًا يؤسس لحماية الحقوق والحريات، ويسهم في التأسيس لاستقلال القضاء، ويُمكِّن لنواب الأمة في كل من مجلسي النواب والشيوخ من الإسهام في سن التشريعات التي تنظم معاملاتها وتحمي مصالحها، وهو أمر الذي سنلاحظه حين نرى للمجلسين كلمة مقدرة –إلى حد ما- في سن قوانين ما بعد الثورة، حتى قيام ثورة يوليو، بعد أن كان هذا الأمر مخولاً للملك منفردًا (تحت ضغط الاحتلال البريطاني أو بتوجيه من ممثلي هذا الاحتلال والدول الأوروبية النافذة).
كما سنلمس روح الوحدة الوطنية التي دعمتها ثورة 1919، في أعمال اللجنة، حين لم نر أي أثر لاعتراض النواب –بكافة تبايناتهم الفكرية وانتماءاتهم الدينية والسياسية المختلفة- على النص في هذا الدستور على أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية” وذلك في المادة 149 منه، والذي كان بناءً على اقتراح قدمه الشيخ محمد بخيت المطيعي (مفتي الديار سابقًا) -في جلسة 19 مايو 1922-(6)، في وقت كان الاحتلال البريطاني يحرص فيه كل الحرص على تأجيج الصراع الطائفي في البلاد مدعيًا أنه يحمي الأقليات في البلاد، حتى أنه ضَمَّن تحفظًا في تصريح 22 فبراير يخوله حماية الأقليات!
كما أن الدستور صدر على غير رغبة حقيقية من الملك فؤاد الذي حاول كثيرا أن يدخل تعديلات على مشروع الدستور المقدم من “لجنة الثلاثين”، تحد من مزاحمة مجلسي النواب والشيوخ لانفراده بالسلطة، وتمنع من أن تكون الأمة مصدر السلطات، ولكنه لم يفلح في ذلك نتيجة تصاعد الاحتجاجات من الرأي العام الذي زادت من فاعليته ثورة 1919، وكان من أكثر هذه الاحتجاجات تأثيرًا ما جاء في الخطابين اللذين أرسلهما عبد العزيز فهمي باشا إلى رئيس الوزراء -يومئذ- يحيى إبراهيم باشا، معترضًا في كل منهما على ما جرى تداوله من إدراج تعديلات على مشروع الدستور تجعل منه مسخًا، استنادًا إلى فكرة رجعية كانت لدى رئيس الوزراء السابق محمد توفيق نسيم –الذي كان قد حسم رأيه بالموافقة على تلك التعديلات-، مؤداها أن “الدستور منحة من الملك، لا حق من حقوق الأمة”(7).
وفند فهمي باشا في هذين الخطابين -المشار إليهما- تلك التعديلات بلغة قوية ومؤثرة في الرأي العام المصري، أسهمت في النهاية في إصدار مشروع الدستور ذاته الذي وضعته لجنة الثلاثين كاملا، عدا مادتين اعترض عليهما المندوب السامي البريطاني نتيجة ذكرهما للسودان، فجرى حذف اسم السودان من المادتين (29) و (45) من مشروع الدستور، ليفصل بين البلدين المحتل الذي أملى إرادته في النهاية -بالتهديد والوعيد- متفوقًا على سلطتي الشعب وملك مصر (وحدها) دون السودان(8)!
وقد أعقب إصدار الدستور مباشرة –في 19 إبريل 1923م- صدور قانون الانتخاب، في 30 إبريل 1923م، والذي نظم كيفية انتخاب أعضاء مجلسي النواب والشيوخ ومكنَّ المصريين جميعًا من انتخاب ممثليهم في البرلمان بخطوات واشتراطات معينة، وهي خطوة تشريعية مهمة أخرى في سبيل نيل الأمة لاستقلالها وحريتها، عبر إشراكها لممثليها البرلمانيين في حكم البلاد.
ولكن –في المقابل- صدرت عدة قوانين تمثل قيدًا على الحريات التي كفلها الدستور الجديد، أصدرتها الحكومة، استباقًا لانعقاد البرلمان، بل وقبل انتخاب أعضائه أساسًا، وهي:
1) قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات في الطرق العمومية، رقم 14 لسنة 1923، الصادر في 30 مايو من العام نفسه، الذي قيد حق الاجتماعات بقيود تكاد تصادر الحق نفسه، وهو القانون الذي ظل ساريًا في مصر لمدة تسعين عامًا! حيث تم إلغاؤه عام 2013م بالقانون (رقم 107 لسنة 2013م، بتنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية)، والذي لم يقتصر فقط على مصادرة حق الاجتماعات والتظاهرات بل منح شرعية لتدخل قوات الشرطة في فض هذه الاجتماعات والمواكب والتظاهرات بكافة السبل المناسبة، حال تقدير الشرطة أنها قد خالفت قواعد القانون!
2) قانون الأحكام العرفية، الصادر في 26 يونية 1923، والذي ينظم الأحكام العرفية في مصر ومدى سلطة الحكومة في ظلها، حيث خوَّل الحاكم العسكري سلطات واسعة تتيح له إهدار حقوق المواطنين وحرياتهم دون قيود أو ضمانات حقيقية، خلال فترة الحكم العرفي، والتي امتدت حتى وقتنا هذا بمسميات مختلفة، إلا في فترات زمنية محدودة جدًا!
3) قانون التضمينات، الصادر في 5 يوليه 1923، والذي حَصَّن الإجراءات التشريعية والقضائية والتنفيذية التي اتخذتها السلطة العسكرية البريطانية أثناء الأحكام العرفية في الفترة من نوفمبر عام 1914 إلى تاريخ صدور هذا القانون، أي تسع سنوات كاملة!
ولا يخفى أن هذه القوانين قد أثارت الرأي العام حينئذ، ولكن تأثير القوى الوطنية –حتى بعد ثورة 1919م- لم يصل بعد للقوة اللازمة التي يواجه بها قوتين كبيرتين متمثلتين في الاحتلال البريطاني ثم الحكم الملكي الاستبدادي، لاسيما إذا تحالفا معًا على حساب المواطنين، وهو وضع يبدو أنه بقيَ حتى لحظتنا الراهنة مع استبدال شكل الاحتلال وتغيير مسمى الحاكم من ملك إلى رئيس!
ولذلك فقد فشلت المحاولات دومًا من جانب البرلمانات المصرية المتعاقبة لترشيد تلك القوانين (المكبلة) للدستور، وظلت عصية على التغيير إلا إلى الأسوأ، بل وجرى حل البرلمان نفسه غير مرة بالمخالفة لأحكام الدستور، والذي جرى انتهاكه من قبل الملك وحكوماته مرات عديدة، انتهت إلى إلغائه كله وإصدار دستور جديد (دستور 1930م)، وهو الدستور الذي سحب العديد من الاختصاصات من مجلس النواب لحساب السلطة التنفيذية مما أدى إلى اتفاق حزبي الوفد والأحرار الدستوريين على عدم الاعتراف به ولا بالانتخابات التي ستقام في ظله، الأمر الذي أدى في النهاية إلى إلغاء هذا الدستور سنة 1935 تحت ضغط شعبي وسياسي، واستجابة لرهن محمد توفيق نسيم باشا موافقته على تشكيل حكومة جديدة بإعادة العمل بدستور 1923م(9).
ولكن –على أية حال- كان لصدور الدستور أثره الكبير في مجالي التشريع والقضاء من خلال تقسيمه الوظائف الرئيسة الثلاث في الدولة؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، على هيئات ثلاث؛ البرلمان والحكومة، والقضاء، كما تغير التوصيف الأساسي للأفراد فأصبحوا –وفقًا لنصوص الدستور- مواطنين تابعين للدولة، دون تصنيفهم على أساس ديني أو عرقي، وإن ظلوا –في الواقع- مصنفين تصنيفات طبقية، تتعارض مع الحقوق الطبيعية للإنسان، كما استمر إهدار مبدأ سيادة القانون في الواقع العملي، لتظل مصر –ومعها معظم دول العالم الثالث- دولة فيها دستور، وليست دولة دستورية أو ديمقراطية(10)، بفضل استبداد الحاكم –في الداخل-، وضغوط الدول المحتلة للإرادة الوطنية– في الخارج، لتظل لهما وحدهما السلطة على البلاد و(العباد)!

ثانيًا- إلغاء المحاكم المختلطة وإصدار تقنينات جديدة:

مثلما كان إصدار تصريح فبراير 1922، هو الذي أتاح وضع الدستور، فإن معاهدة 1936 التي وقعتها مصر مع الحكومة البريطانية، كانت هي التي مهدت لإحداث حركة تغيير تشريعي وقضائي واسع في البلاد، حيث تبعها إبرام معاهدة مونترو (8 مايو 1937) بين مصر والدول الاثنتي عشر صاحبة الامتيازات، والتي أسفرت عن إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر، بعد أن تعهدت مصر في المقابل بأن التشريع الذي سيسري على الأجانب لن يتنافى مع المبادئ المعمول بها على وجه العموم في التشريع الحديث(11).
وبالفعل فقد استتبع توقيع مصر على معاهدة مونترو –بالضرورة- تغيير الأوضاع التشريعية والقضائية التي كانت مرتبطة بوجود الامتيازات الأجنبية المجحفة والمهينة، ومن ذلك: إلغاء المحاكم المختلطة، وإحلال تقنينات جديدة محل التقنينات التي سبق وأن فرضها المحتل –على عجل- سنة 1883م، وهو أمر يحتاج إلى مزيد من التفصيل، لاسيما فيما يتعلق بإلغاء المحاكم المختلطة، والمناقشات التي دارت حول مشروع القانون المدني الجديد.

1) استبدال المحاكم الأهلية بالمحاكم المختلطة:

قضت اتفاقية مونترو بتحديد فترة انتقالية تبدأ من 15 أكتوبر سنة 1937م، وتنتهي في 14 أكتوبر سنة 1949م، أي اثنتي عشرة سنة، تلغى بعدها الامتيازات الأجنبية تمامًا وينتقل اختصاص المحاكم المختلطة إلى المحاكم الأهلية (الوطنية)(12).
وحتى نصل إلى التوصيف الصحيح لهذا التغيير القضائي، وما إذا كان إصلاحًا أم استلابًا، ينبغي أن نفهمه في سياقه التاريخي والسياسي، حيث سنجد أن التاريخ يخبرنا بأن القضاء في مصر كان قضاءً إسلاميًا (شرعيًا) منذ الفتح الإسلامي لمصر في القرن السادس عشر الميلادي، وأن المحاكم الشرعية كانت تنفرد بوظيفة القضاء وحدها حتى جاءت الحملة الفرنسية (سنة 1798- 1801م)، حين أنشأ نابليون بونابرت محكمة سمّاها “محكمة القضايا” في كل من الإسكندرية ورشيد ودمياط، وكانت مكونة من اثني عشر تاجرًا، نصفهم من المسلمين ونصفهم الآخر من المسيحيين، وأسندت رئاستها إلى قاض مسيحي (هو ملطى القبطي الذي كان كاتبا عند أيوب بك الدفتردار!)، وجعل من اختصاصها النظر في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوي، ولكن هذه المحكمة زالت بزوال الاحتلال الفرنسي(13).
ثم بدأ محمد علي في تأسيس نموذج موازٍ للنظام القضائي المصري المعتمد على المحاكم الشرعية وحدها فأسس –بدءًا من عام 1258هـ- ما عُرف بـ”مجالس التجار” والتي كانت مجالس قضائية حقيقية، أخذت اختصاصاتها تتسع على حساب اختصاص المحاكم الشرعية، وكانت هذه المجالس تطبق تشريعات صادرة على النسق الأوروبي، بدأت بما عُرفت بـ “قوانين الوالي”، والتي اعتمد فيها محمد علي تمامًا على تقليد الأوروبيين وصرح بذلك فعلاً في مقدمات نصوصها(14).
واستمر خلفاء محمد علي على النهج نفسه حيث أنشأ (الخديوي عباس الأول) خمسة مجالس قضائية للأقاليم تغطي أقاليم مصر جميعها بدءًا من عام 1268هـ (1851م)، ثم أنشأ مجلس استئناف المسائل التجارية سنة 1272هـ (1885ه) بناء على طلب القناصل الأجانب، ثم جاء من بعده (الخديوي سعيد) فأنشأ “مجلس قومسيون مصر” وخَصَّه بنظر الخصومات بين الأهالي والأجانب، ولذا أشرك في عضويته مصريين وأجانب وكان يطبق القوانين المعمول بها في الدولة العلية (وهي قوانين غلب على الكثير منها الطابع الأوروبي) مع مراعاة الأصول المرعية في القطر المصري(15).
وهذه الاقتطاعات من اختصاصات المحاكم الشرعية (ومن ثم من الفقه الإسلامي مصدر التشريع الوحيد لهذه المحاكم) أضيفت إليها “المحاكم القنصلية” التي كان يخضع لها الأجانب في مصر استنادًا إلى نظام “الامتيازات الأجنبية” حتى صارت هناك سبع عشرة محكمة قنصلية يتبعها ثمانون ألف أجنبيٍّ(16)، وهو النظام الذي أفضى إلى حدوث فوضى قضائية/تشريعية، دفعت إلى البحث عن بديل أفضل، وقد تمثل هذا البديل حينها في “المحاكم المختلطة” التي أنشئت في عهد الخديوي إسماعيل –بعد اعتماد الدول الأوروبية للفكرة- سنة 1875، وبدأت عملها في أول يناير 1876م، وأُخذت قوانينها ونظام القضاء فيها عن القوانين الفرنسية والإيطالية والبلجيكية، ووضعها محام فرنسي كان متواجدًا في مصر في ذاك الوقت اسمه “مونروي” بتكليف من نوبار باشا، وكانت غالبية قضاة المحاكم المختلطة من الأجانب أيضًا(17).
وبعد إنشاء المحاكم المختلطة وضعت الحكومة المصرية لائحة لإعادة تنظيم المحاكم الشرعية سنة 1880م أخذت عن قانون المرافعات -المأخوذ عن القانون الفرنسي-، والذي كانت تطبقه المحاكم الأهلية والمحاكم المختلطة(18)، ثم فعلت الأمر نفسه بالنسبة للمحاكم الأهلية (الوطنية) فوضعت أول لائحة لتنظيمها سنة 1881م، ثم أُنشئت المحاكم الأهلية لتقوم بالقضاء بين المصريين، كما تقوم المحاكم المختلطة، بأمر عال من الخديوي توفيق سنة 1883م، وهو العام نفسه الذي صدرت فيه التقنينات الستة التي ستطبقها المحاكم الأهلية، والتي استعانت اللجنة التي وضعتها بتقنينات المحاكم المختلطة إلى حد أنها كادت تنقلها بحروفها، مع بعض التعديلات الطفيفة التي اقتضتها الظروف وقتئذ(19).
ولقد كان الغرض من إنشاء المحاكم الأهلية وتطبيق القوانين ذاتها التي تطبقها المحاكم المختلطة، هو التخلص من المحاكم المختلطة بأسلوب يتحاشى اعتراض الأوروبيين، حسبما أفصح حسين فخري باشا (ناظر الحقانية آنذاك) في مذكرته إلى مجلس النظار حين قال: “لي أمل بأنه مع اعتدال محاكمنا الأهلية التي تنشأ عن النظام الجديد، وقيامها بحق واجباتها، بموجب ذات القوانين المتبعة في المحاكم المختلطة، يتيسر للحكومة الاستغناء عن هذه المحاكم ببرهان عدم الحاجة إليها.. لإدخال الأجانب في المحاكم مزية أخرى، وهي أن المحاكم المختلطة محاكم استثنائية، وإيجادها ما كان إلا لعدم وجود محاكم أهلية يمكن طمأنة الأوروبيين بها، والاستحصال على ثقتهم بكفاءتها وحقانيتها، فإن ترتيب المحاكم الأهلية بالصورة المقدم ذكرها طبعًا ترتاح لها نفس الأوروبايين…”(20).
وهكذا يتبين أن إنشاء المحاكم المختلطة -بقوانينها المأخوذة عن قوانين فرنسية- كان بهدف إلغاء المحاكم القنصلية والتخلص مما سببته من فوضى، وما تمثله من اعتداءٍ صارخ على السيادة المصرية، ثم كان إنشاء المحاكم الأهلية النظامية على نسق المحاكم المختلطة وبقوانينها ذاتها تقريبًا، مستهدفًا إلغاء المحاكم المختلطة دون اعتراض الأوروبيين، ولذلك حين حانت الفرصة، ألغيت هذه المحاكم تمامًا بموجب معاهدة مونترو، وجرى التفكير في إصدار تشريعات مصرية خالصة تسهم في استرداد الاستقلال التشريعي والقضائي، وإن كان استقلال ناقصًا، ولكنها السياسة التي من صفاتها أنها “فن الممكن”، ومن سماتها أنها تحقق بالتدريج ما ترنو إلى تحقيقه في النهاية دون تجاوز ما يسمح به الواقع السياسي البائس للبلاد، والتي كان أقصى أمانيها حينها أن تمصر القضاء والقوانين انتزاعًا من قوى الاحتلال الغربي، حتى لو كان ذلك على حساب المحاكم الشرعية، وما يستتبع ذلك من تنحية للشريعة الإسلامية عن مصدرية التشريع إلا قليلا(21)، وهو أمر يمكن فهمه الآن، لا باعتباره معاداة من النخبة لمرجعية الشريعة الإسلامية، ولكن بأنه جاء نزولا على ضرورات الخضوع للاحتلال وللاستبداد في الوقت ذاته، والذي يستهدف في النهاية إلغاء المحاكم الشرعية، ويسعى إلى استقرار احتلاله للمجال القانوني في الدول التابعة له وتشكيلها على النحو الذي يضمن له تحقيق مصالحه وإشباع أطماعه، وهو أمر يحسن أن نعود إليه عند استعراض تحولات التشريع التي حدثت هي الأخرى، ترتيبًا على إلغاء الامتيازات الأجنبية، والذي حان وقت بيانه.

2) إصدار تقنينات جديدة، القانوني المدني نموذجًا:

بدأ العمل مباشرة بعد إبرام معاهدة مونترو على إصدار تشريعات مصرية جديدة بدلا من التشريعات التي فرضها الاحتلال الإنجليزي من قبل بمجرد احتلاله للبلاد، ومن ضمنها قانون العقوبات الجديد سنة 1937م الذي صدر دون اختلاف كبير عن قانون العقوبات السابق الصادر في عام 1883، ووضعته لجنة كان من ضمن أعضائها السير (آرثر بوت) آخر المستشارين الإنجليز لوزارة العدل المصرية(22)، كما صدر قانون الإجراءات الجنائية في العام نفسه، ليحل محل قانون 1876م، متضمنًا كثيرًا من التعديلات عليه، “وقد اقتبس معظمها عن طريق التقنين الأهلي الصادر في سنة 1904م، ومن بعض القوانين الأجنبية كالقانون الإيطالي”(23).
وكان من ضمن القوانين الجديدة التي جرى إصدارها كذلك (القانون المدني) والذي اختلف أسلوب وضعه عن بقية التقنينات، إذ استمر العمل فيه من عام 1936م إلى أن صدر وبدأ العمل به في 15 أكتوبر سنة 1949م، بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي حددتها اتفاقية مونترو لإلغاء المحاكم المختلطة بيوم واحد فقط، حيث أصدر مجلس الوزراء (برئاسة على باشا ماهر) قرارًا بتاريخ 27 من فبراير 1936م بتشكيل أول لجنة للقيام بهذه المهمة برئاسة مراد سيد أحمد باشا وعضوية ثمانية من رجال القانون، وقد حُلَّت هذه اللجنة بعد ثلاثة أشهر فقط، وحلَّت محلها لجنة أخرى بقرار من مجلس الوزراء كذلك، وأسندت رئاستها إلى كامل صدقي بك، ثم حُلَّت هذه اللجنة بعد ثمانية عشر شهرًا، حيث تقدمت وزارة العدل بمذكرة إلى مجلس الوزراء تقترح فيها أن يعهد بوضع التشريع التمهيدي إلى اثنين من كبار المشتغلين بالقانون على أن يتفرغا لعملهما ويُتمَّاه في مدى ستة أشهر، ولقي اقتراح وزارة العدل موافقة مجلس الوزراء، وبناء عليه أصدر وزير العدل بتاريخ 28 يونيه سنة 1938 قرارًا بإسناد هذه المهمة إلى كل من د. عبدالرزاق أحمد السنهوري بك (باشا) القاضي بالمحاكم المختلطة حينذاك، ومسيو إدوارد لامبير من كبار رجال الفقه في فرنسًا(24).
وقد جرى الإعداد لهذا التشريع ومناقشته في ظل مناخ يختلف كثيرًا عن المناخ الذي كان قائمًا أثناء ثورة 1919 وما بعدها مباشرة، ليس فقط من حيث إدراك الأولويات الوطنية التي يتعين الانتباه إليها والعمل وفقها، بل من خلال الروح السائدة فيما بين السياسيين، والمثقفين، إذ كادت تغيب معركة الأمة ضد الاحتلال والحكم الفردي المطلق، لتحل محلها معركة كبرى بين التوجهين الإسلامي والعلماني، ألقت بظلالها على مناقشات القانون المدني.
وقد رأينا من قبل كيف مر النص الدستوري على أن الإسلام دين الدولة من دون أي خلاف، ولكن بعد صدور دستور 1923 بعام واحد فقط أعلنت تركيا إلغاء الخلافة العثمانية رسميًا في عام 1924م، وقد كان لسقوطها تأثير كبير على الحالة الفكرية المتعلقة بالوضع القانوني والقضائي الذي جرى اعتبار التغييرات التي طرأت عليه هو الآخر بمثابة إلغاء لمصدرية الشريعة الإسلامية عن المجالين معًا، وزاد الأمر سوءًا، صدور كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ الأزهري علي عبدالرازق الذي أعلن فيه تبرؤ الدين الإسلامي(25)، مما أدى إلى إحالته إلى التحقيق من قبل هيئة علماء الأزهر، ثم إصدار قرار بشطب اسمه من سجل علماء الأزهر وتجريده من مناصبه القضائية والإدارية، الأمر الذي أدى إلى نشوب سجال كبير بين المخالفين لما جاء في الكتاب، وبين المعارضين لمحاكمة كاتبه باعتبار ذلك يعد اعتداءً على حرية الفكر، وكان من اللافت أن من ضمن الذين ردوا على مؤلف الكتاب وفندوا حججه كل من الشيخ محمد بخيت المطيعي (صاحب اقتراح إدراج النص على أن الإسلام دين الدولة في دستور 1923م) حيث أصدر على الفور –سنة 1926- كتاب: (حقيقة الإسلام وأصول الحكم)، وكذلك الإمام الأكبر محمد الخضر حسين -شيخ الأزهر فيما بعد- في كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) الذي صدر في العام نفسه، ثم د. عبد الرازق السنهوري –رئيس لجنة إعداد التقنين المدني فيما بعد!- في كتابه (أصول الحكم في الإسلام(، بينما دافع عن الكتاب الكثير من المفكرين والسياسيين كذلك، ومنهم الدكتور محمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد عن عبد الرزاق، واستقال عبد العزيز باشا فهمي من وزارة الحقانية في وزارة زيور باشا في 13 مارس 1925 م، احتجاجًا على ما رآه ظلمًا وقع على الشيخ علي عبدالرازق(26).
ثم نشبت معركة أخرى حين تقدم بعض أعضاء مجلس النواب بعدد من مشروعات القوانين تستهدف منع (الوقف الأهلي)، بعد أن مهدت لها حملة صحفية، يبدو أنها كانت ممنهجة، تهاجم الوقف وتطالب بإلغائه، بعد أن زعمت أنه “ليس من الدين” أساسًا، غير أن مشروعات القوانين لم تقر، إما بسبب رفض البرلمان، أو لحله، غير أنها حققت هدفًا مرحليًا عام 1946م بصدور القانون رقم 48 لسنة 1946م الذي يعتبر أول قانون موحد لنظام الوقف، وقد مهد السبيل لهيمنة الدولة الحديثة على الوقف، ونقل المرجعية بشأنه من الفقه الإسلامي إلى القانون الوضعي(27)!
وهذه مجرد نماذج تفتتت –في ظلها- الحركة الوطنية لحساب معركة إسلامية علمانية [إلى جانب معارك أخرى فرعية دفعت إليها تحزبات سياسية ضيقة]، لاسيما بعد إعلان أتاتورك سنة 1928 أن تركيا دولة علمانية واستمراره في اتخاذ إجراءات معادية للدين بشكل صارخ، مما زاد من استفزاز الشعور الديني لدى الشعب المصري –والشعوب الإسلامية بصفة عامة-، وأدى –على ما يبدو- إلى تأسيس جماعة “الإخوان المسلمين” في العام نفسه (1928م) رافعة –في المقابل- شعار “الإسلام دين ودولة” ومنتهجة السبيل السياسي لإقامة الخلافة الإسلامية من جديد، ومن هنا جاء تسييس التغييرات التشريعية والقضائية، لا من باب أنها قضية يحاول المصريون بها استكمال استقلالهم –الناقص- عن الاحتلال في المجال التشريعي، ووسيلة للتضييق على الحكم الفردي الاستبدادي، ولكن باعتبارها تمثل مجالا للمعركة بين الإسلاميين والعلمانيين!
وفي خضم هذه المعركة المتصلة، جاءت مناقشات مشروع التقنين المدني الجديد الذي وضعته اللجنة التي يترأسها السنهوري باشا، والتي شهدت جدالا حادًا بسبب الاعتراض على اعتماد هذا المشروع على استمداد نصوصه من القوانين الأوروبية لا من الشريعة الإسلامية، وكذلك لتأخير الشريعة الإسلامية لما بعد النص والعرف، في ترتيب المصادر التي سيعود إليها القاضي عندما يعرض عليه نزاع ما، والوارد في المادة الثانية من مشروع التقنين [المادة الأولى من القانون فيما بعد]، والتي نصت على أن: “1- تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. 2- فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد، فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد، فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة”.
ولم يأت هذا الاعتراض من الحركة الإسلامية الناشئة وحدها كما قد يعتقد البعض، بل جاء -في الأساس- من جانب كثير من علماء الأزهر الشريف، ومنهم الشيخ سيد عبد الله علي حسين الذي ألف كتابًا تحت عنوان (المقارنات التشريعية) يقارن فيه بين القانون المدني الفرنسي (المسمى بقانون نابليون) وبين مذهب الإمام مالك، مستهدفًا إثبات أن هذا القانون مأخوذ عن مذهب الإمام مالك ولكن “المشرعين الوضعيين” أجمعوا إجماعًا سكوتيًا على إنكار ذلك(28)، وقد أعد الشيخ سيد هذا الكتاب الفترة من (1940- 1949) أي بالتوازي مع إعداد مشروع القانون المدني ومناقشته داخل البرلمان وخارجه، وشن في مقدمته هجومًا حادًا على ما ورد بالمادة الثانية من مشروع القانون (التي أصبحت المادة الأولى من القانون بعد ذلك) من وضع الشريعة الإسلامية بعد العرف كمصدر من المصادر التي يلجأ إليها القاضي إذا لم يجد نص تشريعي في الواقعة المعروضة عليه، واعتبر ذلك هجرًا للتشريع الإسلامي في بلاد الإسلام، وأن تقديم العادة على الشرع الإسلامي لا يمكن إلا أن يكون نابعًا عن جهل أو عداء له، وقرر أن التشريع الإسلامي يستحق غضبة من رجال القضاء كي يحل محل هذا التشريع الدخيل علينا المأخوذ عن عشرين تشريعًا أجنبيًا، وتساءل: كيف سيقر نواب البرلمان قانونًا “يتلاشى به التشريع الإسلامي؟!”، وهل اليمين الذي أقسموه على احترام الدستور –وفيه أن دين الدولة الإسلام- يبرر إقرار هذا القانون المخالف للتشريع الإسلامي؟!(29).
وقد وجدت دعوة الشيخ سيد عبد الله حسين –على ما يبدو- استجابة من البرلمان ومن القضاة في الوقت نفسه، فإذا بالمشروع يلقى هجومًا عاصفًا عند مناقشته في مجلس الشيوخ بحضور بعض مستشاري محكمة النقض ومحكمة الاستئناف والقضاء المختلط وأساتذة كلية الحقوق، فقد رفض المستشار حسن الهضيبي [المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين فيما بعد] مناقشة مشروع القانون المدني من حيث المبدأ، طالما أنه لم يستمد من القرآن والسنة، وقرر أنه لن يشارك في مناقشة المشروع من حيث الموضوع لأن خطأه وصوابه عنده سيَّان، وأنه قد حضر فقط لبيان رأيه هذا(30).
بينما كان من ضمن الفريق الذي عارض مشروع هذا القانون المستشار بمحكمة النقض محمد صادق فهمي بك، الذي أسهم في وضع نموذج لمشروع تقنين مدني مستمد بالكامل –حسب تصور واضعيه- من الشريعة الإسلامية، ولكن الدكتور عبد الرزاق السنهوري هاجم بشدة المشروع الذي تقدم به المستشار فهمي ورفاقه، مقررًا أن “صادق بك فهمي في النموذج الذي وضعه، وقال إنه اقتبسه من الشريعة الإسلامية قد ابتعد كل الابتعاد عن أحكام هذه الشريعة، بل أتى بأحكام مضادة لها”(31)، وبعد أن أورد أمثلة ليؤكد بها على صحة مقولته تلك، قرر أنه: “ولو صح أن النصوص التي أوردها صادق بك في نموذجه –وهي تطابق نصوص المشروع- هي أحكام الشريعة الإسلامية، لجاز لنا أن نقول نحن أيضًا على نصوص المشروع إنها هي أحكام الشريعة الإسلامية، ولأسقطنا بذلك الحجة التي تقدم بها. ونموذج صادق بك يكاد يماشي المشروع نصًا نصًا. فإذا انحرف عنه في نص واحد زلَّ وعثر”(32)، وقرر أنه “لو كان صادق فهمي بك نجح في هذه المحاولة لكنت بلا نزاع أول من يتفق معه لأنه لا يوجد شخص في هذا العالم يحب الشريعة الإسلامية كما أحبها أنا، وقد ناديت، ولا أقول أني أول واحد نادى بهذا، وإنما أقول إني من أوائل من نادى بأن الشريعة الإسلامية يجب العناية بها والاهتمام بدراستها في دور القانون المقارن”(33).
بينما فضل المستشار صادق فهمي أن يدافع عن وجهة نظره، من خلال الاعتراض على ما أوردته المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون من أنها “أخذت نصوصها من عشرين تشريعًا” مؤكدًا على أهمية وحدة المصدر الذي يستمد منه القانون ووضوحه بالنسبة للقاضي، وضرب مثلا على ذلك بأنه “لما كان مصدرنا هو القانون الفرنسي في كل أحكامنا وفي كل فقهنا وفي كل تفكيرنا فإنكم تجدون أن الأحكام تسير بانسجام، وإذا ما رجعتم إلى القضاء الفرنسي تجدون أننا نسير جنبًا إلى جنب مع محكمة النقض، ولقد وصل الأمر عندنا إلى حد أننا نترجم بالكلمة أحكام محكمة النقض والأحكام الفرنسية لأن النصوص مصادرها معروفة”، ولذلك طالب بأن يكون مصدر القانون الجديد واحد فقط، مع استبدال الشريعة الإسلامية بالقانون الفرنسي؛ “أنا أرى أن تكون الشريعة الإسلامية مصدرًا للقضاء العادي ولدى النصوص” بعد أن أكد على أن “الشريعة الإسلامية واسعة، ومنها مذاهب كثيرة، لدرجة أنك تجد لكل شيء حلاً”، ولذلك طالب بأن تكون هيئة كبار العلماء ممثلة في اللجنة(34)، غير أن الرد عليه جاء من جانب محمود حسن باشا -وزير الدولة- بأنه قد ثبت أن كثيرًا من أحكام التشريع الحالي تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، بينما برر عضو مجلس الشيوخ (علي ذكي العرابي باشا) عدم ملاءمة الأخذ عن الشريعة الإسلامية بقوله: “إن كتب الفقه بحالتها الراهنة لا تفهم بسهولة، ولذلك فإن القاضي سيجد صعوبة في الرجوع إليها، أكثر مما لو رجع إلى القانون البولوني أو الألماني، فإذا وضعت الشريعة الإسلامية وضعًا حديثًا أمكن الانتفاع بها”، وهو الأمر الذي رد عليه المستشار صادق فهمي بأن “المسائل الشرعية في المحاكم المختلطة عبارة عن مثل أعلى فيما يختص بتطبيقها”، وانتهت الجلسة بتأكيد المستشار صادق فهمي على معارضته لما جاء بالمذكرة الإيضاحية من أنها أخذت نصوصها من عشرين تشريعًا، وإلا فإنه سيطالب بمذكرة إيضاحية لكل نص(35)!
ولكن المناقشات حول مصدرية الشريعة لم تنته بنهاية الجلسة السابقة، فقد تكررت تساؤلات بعض نواب البرلمان عن وضع الشريعة الإسلامية في التقنين الجديد، حتى في أواخر جلسات مجلس الشيوخ، وتحديدًا في جلسة (8 يونية 1948م)، حين وجه عضو مجلس الشيوخ (عبد الوهاب طلعت باشا) سؤالا محددًا إلى د. عبد الرزاق السنهوري باشا، وهو: “هل رجعتم إلى الشريعة الإسلامية؟”، فأجاب السنهوري باشا بقوله: “أؤكد لك أننا ما تركنا حكمًا صالحًا في الشريعة الإسلامية يمكن أن يوضع في هذا التقنين إلا وضعناه، والدليل على ذلك أن أحد حضرات المستشارين أراد أن يضع نموذجًا مأخوذًا من الشريعة الإسلامية فأتى بنفس نصوص القانون ونسبها للشريعة الإسلامية”، فرد عبد الوهاب باشا بسؤال آخر: “وهل استعنتم بالفقهاء الشرعيين لعلهم يمكنهم أن يساعدوا في هذا السبيل؟”، فعقب السنهوري باشا بقوله: “لقد قمنا بما يمكن عمله في هذا السبيل، وأخذنا كل ما يمكن أخذه عن الشريعة الإسلامية مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث ولم نقصر في هذا” فردَّ عبد الوهاب باشا قائلاً: “أنا كرجل يؤمن بالكتاب المنزل، وكرجل درس الشريعة الإسلامية كما درس المعاملات فيها، أرى أن ما فيها ما يتسع لكل شيء”، فدعاه السنهوري باشا لزيارته ليبحث معه الموضوع واثقًا من أنه سيقتنع(36)!
وهكذا انتهت النقاشات إلى إبقاء نص المادة الأولى كما هي دون تعديل وبقيت مبادئ الشريعة الإسلامية كما هي مصدرًا تاليًا للتشريع والعرف، وكان من غير المحتمل أن ينتهي الأمر إلى غير ذلك في ضوء السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي جرى فيها إعداد المشروع ومناقشته وإصداره، حتى إنه قد بدأ إعداده مع تكرم الأوروبيين بإلغاء نظام الامتيازات الأجنبية، وتم إقراره مع قبولهم الاستجداء بإلغاء المحاكم المختلطة، فكيف كانت الحكومة المصرية ستقنع الدول العظمى باستمداد القانون المدني من الشريعة الإسلامية وحدها بعد أن سبق وتعهدت لهم باستمداد هذه القوانين من التشريع الحديث على الوجه المشار إليه سلفًا؟ وهل كانت تلك الدول ستسمح بنيل الشعب المصري استقلاله التشريعي كاملا حينئذ وهم أساسًا لم يُمكنّوه من نيل استقلاله السياسي والاقتصادي والثقافي!
على أية حال فإن المتأمل في مناقشات البرلمان يلمس أنه حتى في ظل السياق المعادي لتحقيق استقلال تشريعي وقضائي حقيقي في مصر “المحتلة”، كان يمكن استبدال السجالات حول دور الشريعة الإسلامية بعمل موحد وجاد بين الأطياف المختلفة في هذا السبيل، لا سيما وأننا لم نلمس في هذه المناقشات عداءً حقيقيًا تجاه مرجعية الشريعة، بدليل أن رئيس لجنة إعداد القانون المدني نفسه –وهو العلامة د. عبد الرزاق السنهوري باشا- كثيرًا ما عبَّر -قولا وعملا- عن حبه للشريعة الإسلامية وحلمه بأن تكون هي المصدر الوحيد للتشريع، وأن تأخذ مكانتها التي تستحقها في القانون المقارن، ولكنه مع الأسف لم يستمع إلى نصائح مخالفيه، ولم يتعاون معهم في دعم دور الشريعة في القانون الجديد، رغم أنهم طلبوا منه أكثر من مرة الاستعانة بممثلين لهيئة كبار العلماء في لجنة القانون المدني، خاصة وأنه يدرك جيدًا بخبرته القانونية والشرعية الكبيرتين أنه كان يمكن الاعتماد على الشريعة الإسلامية في كثير من نصوص القانون الجديد أكثر من غيرها من المصادر الأجنبية التي اعتمد عليها، ولاسيما أنه كانت هناك تجارب سابقة بالفعل يمكن الاستفادة منها، مثل تقنينات محمد قدري باشا والفتاوى الهندية ومجلة الأحكام العدلية، والتي استفاد منها هو نفسه فيما بعد عند إعداد القانون المدني العراقي(37).
وعلى الجانب الآخر فإن الناظر إلى المحاولات التي سعت للتمكين للشريعة الإسلامية وللفقه الآخذ عنها واسترداد مرجعيتها التشريعية والقضائية، سيلاحظ أن بعضها لم يُراع بالقدر الكافي المناخ الذي توضع فيه التقنينات المصرية الجديدة، وعدم ملاءمة الدخول في صراع حول هذا الأمر إلا بالقدر الذي تسمح به وضعية البلاد مسلوبة الأرض والإرادة والحرية، فضلا عن أنهم كانوا مطالبين بأن يكونوا أكثر عمقًا في أطروحاتهم ليكونوا أكثر إقناعًا بتفوق الشريعة الإسلامية على القوانين المعاصرة، بدلا من تقديم مشروعات توصف بالسطحية وبأنها تُردد ما ورد في مشروع التقنين ولكن بغطاء إسلامي، بل وقد يلاحظ أنه حتى محاولة الشيخ سيد عبد الله حسين تَصُبّ في النهاية لصالح قانون نابليون لأنها تسبغ عليه شرعية كاملة باعتبار أنه مأخوذ من الفقه المالكي، على طريقة “بضاعتنا ردت إلينا”، وهي ليست بضاعتنا، ولا ترد إلينا، بل تسلبنا مرجعيتنا مستغلة لجهلنا وغفلتنا، وتضعها في يد دولة تابعة ومتسلطة تستغلها لإسباغ شرعية إسلامية على أعمالها وإجراءاتها المخالفة –غالبًا- لروح الشريعة الإسلامية ولقيمها ومبادئها!
وعلى أية حال فإن نص المادة الأولى من القانون المدني الجديد يحمد له أنه عاد بالشريعة الإسلامية فعليًا إلى مرتبة المصدر الرسمي بالنسبة للقاضي، حتى وإن كانت في مقام ضيق وتالية للتشريع والعرف، بعد أن كان قد تم حصرها في نطاق الأحوال الشخصية وحدها، كما أن النص عُدَّ سابقة تطورت فيما بعد إلى ورود نص دستور 1971، وفي الدساتير اللاحقة عليه، يستخدم ذات المصطلح الذي صَكَّه السنهوري باشا، وهو “مبادئ الشريعة الإسلامية”، ليجعلها مصدرًا رئيسًا للتشريع، فضلاً عن أن الشريعة الإسلامية قد استردت جزءًا من ريادتها كمصدر تاريخي وموضوعي في بعض من مواد القانون المدني الجديد، حيث استمد منها “كثيرًا من نظرياتها العامة وكثيرًا من أحكامها التفصيلية”(38) كما يقول الدكتور السنهوري، والذي أكد على أن هذا المشروع أدخل في شأن الشريعة الإسلامية “تجديدًا خطيرًا” بجعلها مصدرًا رسميًا من مصادر القانون المصري، وباعتبار أن “الفروض التي لا يعثر فيها القاضي على نص في التشريع ليست قليلة، فسيرجع القضاء إذن للشريعة الإسلامية، يستلهم مبادئها في كثير من الأقضية، وفي هذا فتح عظيم للشريعة الغراء، لاسيما إذا لوحظ ما ورد في المشروع من نصوص هو أيضًا يمكن تخريجه على أحكام الشريعة الإسلامية دون كبير مشقة. فسواء وجد النص أم لم يوجد، فإن القاضي في أحكامه بين اثنتين، إما أنه يطبق أحكامًا لا تتناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وإما أنه يطبق أحكام الشريعة ذاتها”(39).
ولكن هذا القانون برمته –على حد قول الدكتور السنهوري باشا نفسه كذلك- يبقى قانونًا “يمثل الثقافة المدنية الغربية، لا الثقافة القانونية الإسلامية”(40)، “وهو “يمثل الثقافة المدنية الغربية أصدق تمثيل، ويمثلها في أحدث صورة من صورها”(41)، ولم لا وقد اعتبر البعض أن هذا كان لزامًا على مصر تجاه الأوروبيين بالسير سيرتهم في الحكم والإدارة والتشريع مقابل إلغاء الامتيازات الأجنبية(42)؟!

خاتمة:

يتضح مما سبق كيف كانت ثورة 1919 مفتاحًا لحصول البلاد على استقلال (منقوص) أسفر عن تحولات في التشريع والقضاء اتسمت هي الأخرى باستعادتها سيادة البلاد عليهما جزئيًا، وخاصة بصدور أول دستور مصري كامل، وهو دستور 1923، والذي لم يتحقق مبتغى الحركة الوطنية منه، نتيجة انتهاكه مرارًا من قِبَل حاكم البلاد رسميًا (الملك فاروق)، وحاكمها فعليًا (المندوب السامي البريطاني)، إما عبر إصدار تشريعات في غيبة البرلمان “مكبلة” للدستور، لا “مكملة” له، أو باتخاذ إجراءات غير مشروعة تخرج عن أحكام الدستور خروجًا صريحًا، ولكن -في المحصلة النهائية -كان وضع البلاد بعد صدور الدستور أفضل من وضعها قبله، بفضل ما أوجدته ثورة 1919 من روح للتحدي والمقاومة لدى المواطنين جميعًا.
وكان من أهم الإنجازات التشريعية والقضائية التي حدثت فيما بين ثورة 1919 وثورة 1952 -كذلك- إلغاء الامتيازات الأجنبية، وما ترتب عليه من إلغاء للمحاكم المختلطة، وإصدار تقنينات جديدة بديلة عن تلك التي نقلت حرفيًا من القوانين الفرنسية، ومن ضمنها القانون المدني الذي أعاد للشريعة الإسلامية بعضًا من التواجد الذي حرمت منه منذ الاحتلال البريطاني لمصر، ولكنه كان غير كاف، ولا مقنع لكثير من المصريين، خاصة وأنه كان من الممكن توسعة الأخذ عن الشريعة الإسلامية دون إحداث ضجيج مستفز لقوى الاحتلال ولا للحكم الاستبدادي، ولكنه أمر لم يكن ليحقق الاستقلال التشريعي في الحقيقة، طالما أن البلاد لم تنل بعد استقلالها السياسي والثقافي والاقتصادي، ولم تمتلك تحديد مصيرها وفق ما لا يتعارض مع هويتها الثقافية والتشريعية والسياسية، وهو الهدف الأسمى للثورات المصرية جميعها، التي من الممكن أن نخلص الآن إلى أن تحولات التشريع والقضاء التي يمكن أن تسهم في تحقيقه، هي تلك التي تعض بالنواجز على نصوص دستورية -غير قابلة للتعديل خلال فترة انتقالية تبلغ ثلاثين عامًا على الأقل- تضمن حكم الشعب بنفسه لنفسه عبر إتاحة تداول السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة، تجري بإدارة وإشراف قضاء حر ومستقل عن السلطة السياسية، وتقدم ضمانات راسخة للحقوق والحريات العامة، تمكن الوطن عن اللحاق بالدول المتقدمة في احترامها لحقوق الإنسان وحمايته من القهر والهدر، وذلك بدلا من الدخول في صراعات لا جدوى منها، تستغلها الدولة في الإلهاء عن تسلطها، والتبرير لتغولها.
*****

الهوامش

(*) باحث مصري حاصل على درجة الدكتوراة في القانون العام والشريعة الإسلامية.
(1) انظر في تفاصيل اعتراض البريطانيين والفرنسيين على اللائحة الأساسية (دستور 1882م) ما أورده المؤرخ عبد الرحمن الرافعي من إرسال الرقيبين الإنجليزي والفرنسي: كولفين ودي بلنيير بمذكرة مشتركة إلى قنصليهما في مصر بتاريخ 6 فبراير 1882م، بعد تعيين وزارة البارودي بيومين، وقبيل إعلان الدستور بيوم واحد، اعترضا فيها على هذا “الانقلاب” متبرمين من النظام الدستوري بأكمله، مصرحين بأنهم يفضلون حكم الخديوي ووزرائه على حكم نواب الشعب والجيش! (انظر: الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1404 هـ/1983م، ص ص 205-207).
(2) انظر النص الكامل لتصريح 22 فبراير في: عبد الرحمن الرافعي، في أعقاب الثورة المصرية – ثورة 1919م، (القاهرة: دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1407هـ/1987م)، الجزء الأول، ص ص 62-63.
(3) انظر في تفاصيل تشكيل هذه اللجنة وأسماء أعضائها: في أعقاب الثورة المصرية – ثورة 1919م، المصدر السابق نفسه، ص ص84-85.
(4) عبد الرحمن الرافعي، المصدر السابق ، ص85.
(5) كتب د. يحيى الجمل مؤكدًا على أن دستور 1923 كان “نتيجة مباشرة لثورة 1919” انظر: النظام الدستوري في جمهورية مصر العربية مع مقدمة في دراسة المبادئ الدستورية العامة (القاهرة: دار النهضة العربية، 1974م) ص107.
(6) مجلس الشيوخ: الدستور: تعليقات على مواده بالأعمال التحضيرية والمناقشات البرلمانية (القاهرة: مطبعة مصر، 1940م)، ج3، ص3381.
(7) عبد الرحمن الرافعي، في أعقاب ثورة 1919، المصدر السابق، ص117.
(8) انظر لمزيد من التفاصيل: عبد الرحمن الرافعي، في أعقاب ثورة 1919، المصدر السابق، ص ص117-147.
(9) انظر: د. محمد محمد نور فرحات، ود. عمر فرحات، التاريخ الدستوري المصري- قراءة من منظور ثورة يناير 2011، (الدوحة- قطر: مركز الجزيرة للدراسات، بيروت- لبنان: الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 1432 هـ/2011م)، ص35.
(10) تنطبق هنا على الحال في مصر مقولة الفقيه القانوني الفرنسي (بوردو): “هناك دول بها دستور وهناك دول دستورية، والثانية فقط هي التي يوجد بها نظام ديمقراطي دستوري” [نقلا عن: أ. د. يحيى الجمل، حصاد القرن العشرين في علم القانون (القاهرة: دار الشروق، 1427 هـ – 2006م)، ص110].
(11) عبد الرحمن الرافعي، في أعقاب ثورة 1919، (القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثانية، 1409ه/1989م) الجزء الثالث، ص44.
(12) عبد الرزاق أحمد السنهوري، وأحمد حشمت أبو ستيت، أصول القانون -أو المدخل لدراسة القانون (القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط 1950م)، ص216. وانظر كذلك في تفاصيل جهود نوبار باشا –بتوجيه من الخديوي إسماعيل -لإقناع الدول الأوروبية الكبرى بالموفقة على استبدال المحاكم المختلطة بالمحاكم القنصلية: مذكرات نوبار باشا، القاهرة: دار الشروق، 2008م.
(13) عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، (بيروت: دار الجيل، د.ت ج2)، ص209.
(14) انظر: د. محمد نور فرحات، البحث عن العقل -حوار مع فكر الحاكمية والنقل، سلسلة “كتاب الهلال”، (القاهرة: دار الهلال، العدد 560، أغسطس 1997م)، ص ص 239، 247.
(15) راجع: د. محمد نور فرحات، المصدر نفسه، ص247؛ وكذلك: سيد عبد الله علي حسين، المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي- مقارنة بين الفقه الفرنسي ومذهب الإمام مالك رضي الله عنه، دراسة وتحقيق: مركز الدراسات الفقهية والاقتصادية: أ. د. محمد أحمد سراج، وأ. د. علي جمعة محمد، وأ. أحمد جابر رضوان (القاهرة: دار السلام،1421هـ/2001م)، مج1، ص ص41- 42.
(16) طارق البشري، في المسألة القانونية المعاصرة- الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، (القاهرة، دار الشروق، 1417هـ/1996م)، ص16.
(17) سيد عبد الله علي حسين، المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي، مصدر سابق، ص ص42- 43.
(18) انظر: عبد الرحمن الرافعي، الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي (القاهرة، دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1404ه/1983م)، ص68.
(19) راجع: عبد الرزاق أحمد السنهوري، أصول القانون، مصدر سابق، ص ص200- 203، وسيد عبد الله علي حسين، المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي، مصدر سابق، ص43.
(20) راجع محضري جلستي مجلس النظار في الثاني من نوفمبر، والواحد والعشرين من ديسمبر عام 1882م (نقلاً عن المستشار طارق البشري، الوضع القانوني..، مصدر سابق، ص56).
(21) لعل من أوضح الأدلة على استهداف المحتل البريطاني نفسه -من بدايات احتلاله لمصر- إحلال المحاكم الأهلية محل المحاكم الشرعية، ما صرح به اللورد كرومر –وهو القنصل البريطاني والحاكم الفعلي لمصر في الفترة منذ علم 1883 حتى 1907م- في رسالته –عام 1896م- إلى رئيس وزراء بريطانيا آنذاك (اللورد ساليسبري) “ثمة علاج أوحد وفعال للموقف، وهو إلغاء المحاكم الشرعية بوصفها مؤسسة مستقلة كليًا، ونقل ولايتها القضائية إلى المحاكم المدنية العادية. وهو ما قد تم في الهند قبل عدة سنوات، وأنا لن أيأس أبدًا من تحقيق تغير مشابه لم يسبق له الحدوث في مصر”. نقلاً عن: عزة حسين، سياسات تقنين الشريعة، النخب المحلية، والسلطة الاستعمارية، وتشكل الدولة المسلمة، ترجمة: باسل وطفة، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2019م)، ص287..
(22) ج. ن. أندرسون، “الإصلاحات القانونية في مصر- 1850- 1950، ترجمة دكتور رضوان السيد، مجلة الاجتهاد، ع 3، ربيع 1989م، بيروت: دار الاجتهاد، ص277، وكذلك: د. شفيق شحاتة، الاتجاهات التشريعية في قوانين البلاد العربية، (القاهرة، جامعة الدول العربية: معهد الدراسات العربية، سنة 1960)، ص42.
(23) انظر: د. شفيق شحاتة، المصدر السابق، ص43.
(24) الحكومة المصرية- وزارة العدل، القانون المدني- مجموعة الأعمال التحضيرية، (القاهرة: مطبعة دار الكتاب العربي، غير مبين سنة النشر أو رقم الطبعة)، الجزء الأول، ص5-6.
(25) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، (القاهرة، مطبعة مصر، 1343هـ – 1925م)، ص13.
(26) انظر في تفاصيل هذا السجال: د. محمد عمارة، نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، سلسلة في التنوير الإسلامي “19”، القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، أبريل 1998م.
(27) والملفت أن من أبرز من واجهوا تلك الحملة على نظام الوقف –أيضًا- الشيخ محمد بخيت المطيعي –رحمه الله- الذي عقب على تلك الحملة المغرضة بقوله: “لو جاز لولاة الأمور إبطال الأوقاف … لجاز لهم أن يبطلوا جميع الأحكام، شرعية كانت أو أهلية، وذلك فتح لباب الفساد والفوضى” محاضرة الشيخ محمد بخيت المطيعي في نظام الوقف، (القاهرة، المطبعة السلفية، 1928م)، ص13. وانظر في تفاصيل هذه المعركة حول نظام الوقف، كلاً من: د. إبراهيم البيومي غانم، الأوقاف والسياسة في مصر، (القاهرة: دار الشروق، 1419 هـ- 1998م)، ص ص425- 434، ومليحة محمد رزق، التطور المؤسسي لقطاع الأوقاف في المجتمعات الإسلامية- دراسة حالة جمهورية مصر العربية، (الكويت: الأمانة العامة للأوقاف، سلسلة الدراسات الفائزة في مسابقة الكويت الدولية لأبحاث الوقف -8-، 1427هـ/2006م)، ص ص124- 130.
(28) سيد عبد الله علي حسين، المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي، مصدر سابق، ص ص61-62.
(29) المصدر نفسه، ص54، 57، 58 (بتصرف واختصار).
(30) الحكومة المصرية- وزارة العدل، القانون المدني- مجموعة الأعمال التحضيرية، مصدر سابق، ص ص 48، 45.
(31) الحكومة المصرية- وزارة العدل، القانون المدني- مجموعة الأعمال التحضيرية، المصدر نفسه، ص86.
(32) القانون المدني- مجموعة الأعمال التحضيرية، مصدر سابق، ص88.
(33) القانون المدني- مجموعة الأعمال التحضيرية، مصدر سابق، ص85-86. وقد علق د. السنهوري في موضع آخر على هذه المحاولة بأن هؤلاء حاولوا أن يستبقوا الحوادث “فدرسوا الشريعة الإسلامية دراسة سطحية فجة، لا غناء فيها، وقدموا نموذجًا يشتمل على بعض النصوص في نظرية العقد، زعموا أنها أحكام الشريعة الإسلامية، وهي ليست من الشريعة الإسلامية في شيء”. الوسيط في شرح القانون المدني، مصدر سابق، ص48، هامش رقم (1).
(34)المصدر السابق، ص ص112- 115.
(35)المصدر السابق، ص ص115- 116.
(36)المصدر السابق، ص ص159- 160.
(37) كان للسنهوري باشا فضل كبير في الدراسات المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون، وطبق ذلك في القوانين المدنية التي وضعها بعد ذلك، لاسيما في القانون المدني العراقي، وكذلك في بعض مؤلفاته الأخرى (انظر تفصيل ذلك في كتاب “إسلاميات السنهوري” الذي أعده د. محمد عمارة في مجلدين كاملين- مرجع سابق).
(38) د. عبد الرزاق السنهوري، “وجوب تنقيح القانون المدني وعلى أي أساس يكون هذا التنقيح”، مقال منشور في: د. محمد عمارة، إسلاميات السنهوري باشا، القاهرة: دار الوفاء، الطبعة الأولى، 1426ه/2006م، ج1، ص ص472-473.
(39) المصدر نفسه، وكذلك: القانون المدني- مجموعة الأعمال التحضيرية، مصدر سابق، ص20.
(40) راجع مقاله المعنون: القانون المدني العربي، إسلاميات السنهوري باشا، مصدر سابق، الجزء الثاني، ص541.
(41) المصدر نفسه، ص542.
(42) انظر ما كتبه الدكتور طه حسين (1306 – 1393 هـ/1889 – 1973 م) في هذا الشأن: “.. فالتزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع التزمنا هذا كله أمام أوروبا. وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال (عام 1936 م) – ومعاهدة إلغاء الامتيازات – (عام 1937 م) إلا التزاما صريحا قاطعا أمام العالم المتحضر بأننا سنسير سيرة الأوربيين في الحكم والإدارة والتشريع؟” (مستقبل الثقافة في مصر، القاهرة: دار المعارف، ط2، 1996م.ص34).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى