هندسة التجويع: المجتمع الغزاوي في عام ثانٍ من الإبادة والحصار

مقدمة:
يشكّل الوضع الإنساني المتدهور في قطاع غزة نموذجًا مركّبًا لانهيار المعايير القانونية والأخلاقية في النظام الدولي المعاصر، إذ يدخل المجتمع الغزّاوي عامه الثاني تحت ظروف تُوصَف -وفق تقارير أممية ومصادر حقوقية- بأنها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية والتجويع الممنهج. فالحرب الدائرة منذ أكتوبر 2023 لم تقتصر على العمليات العسكرية المباشرة فحسب، بل اتّخذت أبعادًا أكثر تعقيدًا وشمولا، تمثّلت في استهداف المدنيين وتفكيك البنية التحتية وهندسة التجويع وفرض حصار خانق أدّى إلى شلل تام في مختلف مناحي الحياة.
إن ما يشهده قطاع غزة اليوم هو امتداد لسياسات استعمارية طويلة الأمد، تُوظَّف فيها أدوات العنف والسيطرة الاقتصادية كوسائل لإخضاع السكان وتهجيرهم قسرًا وإبادتهم. وتبرز في هذا السياق سياسة التجويع بوصفها سلاحا يُستخدم بشكل متعمّد ضد فئات سكانية محمية بموجب القانون الدولي الإنساني، لا سيما الأطفال والنساء والمرضى.
وبينما تستمر هذه السياسات الاستعمارية في قتل السكان وإحداث تحولات ديمغرافية واجتماعية عميقة، يبقى موقف المجتمع الدولي محصورًا في بيانات تنديد لا تتجاوز حدود الخطاب، ما يثير تساؤلات جدّية حول فاعلية النظام الدولي ومصداقيته في حماية المدنيين ومنع ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
من هذا المنطلق، تتناول هذه الورقة حالة التجويع في قطاع غزة في العام الثاني من الحرب؛ لتجادل بأن سياسة التجويع الممنهج تمثل ركيزة أساسية في النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي وأداة رئيسة في قتل الفلسطينيين، كما أنها تخدم أهداف السياسة الإسرائيلية المتمثلة في ترسيخ الإبادة الجماعية وتقليص القدرة على المقاومة وهندسة تغييرات ديمغرافية واجتماعية، ثم ترصد محاولات كسر الحصار، وفي النهاية تقدم رؤية لأهمية هندسة مقاومة سياسات التجويع.
أولا- حالة التجويع في العام الثاني من الإبادة:
لم تعد المجاعة في غزة مجرّد خطر يلوح في الأفق، بل واقع كارثي تتكشّف ملامحه بالأرقام، وتوثّقه تقارير المنظمات الدولية. ففي 22 أغسطس 2025، أكّد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) للمرة الأولى منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر 2023، أن محافظة غزة تشهد مجاعة فعلية، ويتوقع التقرير أن تمتد آثار المجاعة إلى محافظتيّ دير البلح وخان يونس في جنوب القطاع بحلول نهاية سبتمبر.
وبحسب التصنيف، يعيش أكثر من نصف مليون شخص في غزة المرحلة الخامسة -الأشد- من مراحل انعدام الأمن الغذائي، والتي تعني أنهم يمرون بظروف كارثية ومميتة. ويواجه 54% من السكان المرحلة الرابعة من انعدام الأمن الغذائي، والتي تُعرف بمرحلة الطوارئ، فيما تم تصنيف نحو 396 ألف شخص آخر (20% من السكان) ضمن المرحلة الثالثة التي تشير إلى أزمة غذاء، أي مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد[1].
وأكثر المتضررين من سياسات التجويع التي تفرضها إسرائيل على شعب غزة هم الأطفال والنساء؛ حيث يعاني نحو 250 ألف طفل دون سن الخامسة من نقص في التغذية يهدد حياتهم. وخلال ثلاثة أشهر فقط (من أبريل إلى منتصف يوليو 2025)، دخل أكثر من 20 ألف طفل المستشفيات بسبب الجوع.
أما النساء، فتعاني واحدة من كل أربع نساء حوامل أو مرضعات من سوء تغذية حاد، بنسبة وصلت إلى 25% في يوليو 2025، في حين أن 100% منهن، إلى جانب الأطفال بين 6 و23 شهرًا، لا يحصلون على الحد الأدنى من الغذاء الضروري للنمو والبقاء على قيد الحياة. كما يُقدَّر أن نحو 300 ألف طفل دون سن الخامسة و150 ألف امرأة حامل أو مرضعة بحاجة عاجلة إلى مكملات غذائية علاجية[2].
وقد بدأت التحذيرات الدولية من احتمال وقوع مجاعة في غزة منذ الأيام الأولى للعدوان في أكتوبر 2023، حين أطلقت منظمات إغاثية وحقوقية تحذيرات مبكرة من دخول القطاع مراحل متقدمة من انعدام الأمن الغذائي، نتيجة الحرب الممنهجة التي تشنها إسرائيل على السكان باستخدام سلاح التجويع.
وحذرت تقارير ميدانية عديدة من كون المجاعة وشيكة نتيجة الانهيار الكامل في نظام الأمن الغذائي في القطاع، وهو ما أكّده برنامج الأغذية العالمي أواخر يوليو 2025، حين صرّح بأن نحو ثلث سكان القطاع يقضون أيامًا دون طعام، ويواجهون ظروفًا تُشبه المجاعة[3].
ثانيا- سياسة التجويع:
لم تبدأ سياسة التجويع التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على غزة مع اندلاع طوفان الأقصى، بل هي ممارسة قديمة وممنهجة تعود جذورها إلى بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، لكنها توحشت من بعد فرض الحصار الشامل على القطاع في عام 2007. فمنذ ذلك الحين، اعتمدت إسرائيل على آليات متعددة للتجويع المنظم؛ أبرزها التحكم في المعابر، وإدخال البضائع وفق قوائم “الاستخدام المزدوج”*، ومنع دخول المواد الأساسية مثل المعدات الطبية والمواد الغذائية تحت ذرائع أمنية فضفاضة، وتدمير المرافق الصحية والبنية التحتية في القطاع.
وقد وضع الاحتلال “غزة في حمية غذائية” من خلال “عدّ السعرات الحرارية”؛ حيث قام الاحتلال بحساب عدد السعرات الحرارية المسموح بدخولها إلى القطاع فقط لتفادي سوء التغذية؛ وهي 2,279 سعر حراري يوميًا للفرد في غزة. استندت هذه الحسابات إلى الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة للفرد، أي أعلى بقليل من تعريف الأمم المتحدة للجوع (1800 إلى 2200 سعرة حرارية يوميًا)، وأصدرت منظمة “جيشا” -منظمة حقوقية إسرائيلية- تقريرًا في عام 2012 بعنوان “استهلاك الغذاء في قطاع غزة – الخطوط الحمراء” تكشف فيه عن الإجراءات المصممة لتجنب تجاوز الحد المقرر للسعرات الحرارية المسموح بها في القطاع[4].
وقد أدت هذه السياسات إلى تجويع تدريجي للمجتمع في غزة، عبر خلق اعتماد شبه كامل على المساعدات الخارجية، وضرب قدرة السكان على الإنتاج والاكتفاء الذاتي، وهو ما أدى إلى أن 80% من السكان كانوا يعتمدون على المساعدات، في حين كان 73% يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
كما تحكمت إسرائيل أيضًا في توفير الضروريات الأخرى مثل الأدوية، والمعدات الطبية، والكهرباء، والمياه، والوقود، وهي السياسة التي فرضت على الغزيين إعادة تشكيل اقتصادهم على نحو يتحدى سياسات التجويع والإبادة والتهجير.
وبالتالي، فإن ما نشهده اليوم من تجويع ممنهج تحت القصف هو امتداد لسلسلة طويلة من التجويع الصامت والبطيء. وتحول الحصار إلى آلة تجويع شاملة؛ حيث أُغلقت كل المعابر، ومُنع دخول الغذاء والوقود والدواء، واستُخدمت المساعدات الإنسانية أداة للضغط والمساومة. فهذه ليست مجرد ممارسات ظرفية، بل جزء من بنية استعمارية هدفها تفكيك المجتمع وتجريده من قدرته على الصمود والمقاومة من خلال إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والغذاء، وجعل البقاء نفسه رهينة للقرار الإسرائيلي.
وتتعارض سياسات الحصار والتجويع مع مواد جوهرية من القوانين والتشريعات الدولية، مثل المادة 54 من البروتوكول الإضافي لاتفاقية جنيف، والمادة 14 من البروتوكول الإضافي الثاني، التي تنص على تجريم استخدام الجوع سلاحًا ضد المدنيين، إضافة إلى المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أكدت على الحق في الغذاء والتحرر من الجوع.
وخلال الحرب الأخيرة على غزة، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في 21 نوفمبر 2024 مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع آنذاك غالانت، لاستخدامهما التجويع كسلاح حرب بحق السكان في غزة؛ من خلال حرمان المدنيين من المواد الأساسية اللازمة وعرقلة دخول المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، لم تُجبر إسرائيل على الالتزام بالقانون الدولي، في ظل دعم سياسي غربي واسع للقضية الفلسطينية، وغياب أي تحرك دولي جاد أو موقف عربي موحد إزاءها[5].
ثالثا- أهداف التجويع:
لا يُمكن فهم سياسة التجويع المفروضة على قطاع غزة باعتبارها مجرد ورقة ضغط على السكان أو حركة المقاومة العسكرية، بل هي أداة مقصودة ضمن استراتيجية أوسع تستخدمها إسرائيل لتحقيق أهداف متعددة، وجزء من منظومة هندسية متعمدة تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الفلسطيني ديمغرافيًا، واجتماعيًا، وسياسيًا. ومن ضمن الأهداف التي يسعى الاحتلال إلى تحقيقها من خلال سلاح التجويع:
أ) القتل والإبادة الجماعية:
إن الهدف الأول والأكثر وضوحًا من هندسة التجويع واستخدامه كسلاح ممنهج هو الإبادة، وذلك من خلال التسبب في القتل الجماعي عبر الحرمان من الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة من جهة، ومن جهة أخرى عبر الاستهداف المباشر للمواطنين الذين يحاولون الوصول إلى المساعدات وقتلهم؛ فيما أصبح يُعرف بـ”مصائد الموت”.
فالتجويع وسيلة متعمَّدة تهدف إلى القضاء على الفلسطينيين في غزة؛ فإذا كان القصف بالصواريخ والدبابات هو الوجه الظاهر لسياسة الإبادة، فإن الوجه الخفي لهذه السياسة هو القتل بالتجويع الممنهج. أعلنت وزارة الصحة في غزة في هذا الإطار أن 185 شخصًا تُوفوا خلال شهر أغسطس الماضي فقط بسبب سوء التغذية، مع استمرار تفاقم آثار المجاعة التي فرضتها إسرائيل على القطاع المحاصر[6]. ففي سياق الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، يُفرض التجويع الجماعي كوسيلة غير مباشرة مكمّلة، يستخدمها الاحتلال لضمان استمرار معاناة الفلسطينيين وموتهم، بهدف إزالتهم تدريجيًا من الوجود[7].
ولا يقتصر استخدام التجويع كسلاح على حرمان السكان من الغذاء والاحتياجات الأساسية، بل يمتد إلى استهداف مباشر لأولئك الذين يحاولون النجاة والوصول إلى المساعدات. فقد وثّقت جهات حقوقية وإعلامية متعددة أن الجيش الإسرائيلي تعمّد استهداف المدنيين أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات، خصوصًا في الشمال، فيما أصبح يُعرف حقوقيًا بـ”مصائد الموت”. وتتجلّى هذه “المصائد” في عدة أنماط: سواء قصف لنقاط توزيع المساعدات، أو استهداف القوافل ذاتها، أو نصب الكمائن والقنص المباشر.
ب) تقليص القدرة على المقاومة:
يقوم الاحتلال الإسرائيلي بهندسة التجويع بهدف شلّ القدرة على المقاومة، فمن جهة تدفع إسرائيل من خلال سياسات التجويع المجتمع إلى حالة من اليأس كنوع من العقاب الجماعي المتعمد، وحين يُحاصر الإنسان في حدود البقاء البيولوجي، يُستنزف وعيه السياسي وقدرته على المقاومة والصمود، فالاحتلال يستخدم التجويع الممنهج من أجل إعادة تشكيل وعي الإنسان الغزاوي -والفلسطيني- بنفسه من مقاوم إلى ضحية.
ومن جهة أخرى، يُستخدم التجويع كأداة ابتزاز سياسي، من خلال توظيف الكارثة الإنسانية كوسيلة ضغط في المفاوضات. ويقوم منطق الاحتلال هنا على جعل الحياة لا تطاق للسكان، بحيث يزداد الضغط على فصائل المقاومة للاستسلام أو التفاوض بشروط غير منصفة.
فهذا الحرمان الممنهج من الغذاء والماء والرعاية الصحية لا يُضعف السكان جسديًا فقط، بل يعمل أيضًا على كسر إرادتهم، ويدفعهم -في ظل المعاناة المستمرة- إلى تغيير موقفهم من حركة المقاومة وتحميل حماس مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم، في محاولة لإعادة تشكيل الحسابات السياسية داخل المجتمع الفلسطيني. ففي السياق الاستعماري الاستيطاني، لا تقتصر الأهداف على تحقيق انتصارات عسكرية مؤقتة، بل تتعلق بإعادة تشكيل البيئة السياسية والاجتماعية بما يخدم الهيمنة طويلة المدى[8].
ج) هندسة التغييرات الديمغرافية والاجتماعية:
إن الهدف الأبعد من التجويع الممنهج في غزة لا يقتصر فقط على كسر إرادة المقاومة أو إخضاع السكان مؤقتًا، بل يتجاوز ذلك نحو هندسة ديمغرافية واجتماعية قسرية تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السكاني والجغرافي للقطاع بما يخدم الرؤية الاستعمارية الإسرائيلية بعيدة المدى.
ويتجلى ذلك في محورين رئيسيين: الأول: تفريغ قطاع غزة من سكانه؛ حيث يسعى الاحتلال الإسرائيلي، من خلال خلق ظروف معيشية كارثية وغير قابلة للحياة، إلى دفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية، سواء باتجاه “المناطق الآمنة” أو “مناطق المساعدات” داخل القطاع أو الانتقال خارجه نهائيا. والثاني: إحداث شرخ داخلي في المجتمع الفلسطيني؛ فالاحتلال الإسرائيلي يهدف أيضًا إلى تفتيت النسيج الاجتماعي الفلسطيني من خلال خلق ثنائية “الباقين” مقابل “الراحلين”، بما ينتج عنه تمايزات حادة في ظروف الحياة والانتماء، وقد يُستثمر ذلك لاحقًا في مشاريع سياسية تقسيمية، أو من خلال تجنيد عصابات من سكان غزة ليقتلوا الغزيين وينهبوا المساعدات[9].
وبذلك تمضي سياسة التجويع الممنهجة في غزة لتصيب بعمق البنية القيمية للمجتمع الفلسطيني، وتدفع باتجاه إذكاء مشاعر اليأس والعدمية تحت وطأة الصدمة الجماعية. فما يُمارسه الاحتلال من تجويع يؤدي إلى تفكيك النسيج المجتمعي، وضرب منظومة القيم التكافلية والتضامنية التي طالما شكّلت أساس الصمود الغزاوي من خلال فرض صراع على فتات المساعدات المحاطة بالمخاطر القاتلة وصناعة عداوات في الداخل من خلال تسليح العصابات لتسرق الطعام وتنهبه.[10]
ولذلك تعمل إسرائيل على تقويض الأمن المجتمعي داخل غزة، من خلال استهداف مباشر لأجهزة الشرطة وعناصرها، بما في ذلك الفِرَق المكلفة بتأمين قوافل الإغاثة. كما طالت عمليات القتل عناصر اللجان المجتمعية، وحتى أفراد الحماية الذين انتدبتهم العائلات والعشائر لتأمين توزيع المساعدات.
رابعا- الآليات المستخدمة لهندسة التجويع:
من أجل تحقيق أهدافه، يستخدم الاحتلال الإسرائيلي العديد من الآليات لفرض التجويع وإحكام الحصار على المجتمع الغزاوي، بعض هذه الآليات يتم ممارستها من قبل الحرب، لكنها أخذت طابعا أكثر عمقا وأثرا مع الحرب القائمة، وهناك آليات أخرى استحدثها الاحتلال في هذه الحرب خاصةً في العام الثاني منه مثل تأسيس “مؤسسة غزة الإنسانية” لتوزيع المساعدات -كما سيأتي-. ويمكن استعراض بعض هذه الآليات ورصد آثارها في العام الثاني من الحرب.
أ) تفكيك البنية التحتية للأمن الغذائي:
انتهج الاحتلال الإسرائيلي خلال هذه الحرب سلسلة من السياسات والآليات الهادفة إلى تفريغ قطاع غزة من كل مقومات الصمود الغذائي، عبر ضرب مصادر الإنتاج ومنع أي بدائل داخلية تساعد الفلسطينيين على الصمود أمام الحصار. فلم يكتفِ الاحتلال بمنع دخول المساعدات الخارجية، بل وسّع نطاق عملياته لتشمل تدمير الموارد الغذائية المحلية؛ فاستهدف قوارب الصيادين ومرافئ الصيد، وقصف الأراضي الزراعية ومخازن التموين الغذائي، كما دمّر المخابز وشركات التصنيع الغذائي في القطاع. وقد أدت هذه الممارسات إلى تسارع المجاعة وتفاقم الأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق ضمن سياسة التجويع المتعمد التي لا تستهدف فقط كسر إرادة السكان، بل القضاء على سبل بقائهم.
إن النظام الغذائي في قطاع غزة قد تعرض لعملية تفكيك ممنهجة أدت إلى تدمير شبه كامل لقدرة السكان على إنتاج أو الوصول إلى الغذاء محليًا. فوفقًا للدراسات، فإن 98.5% من الأراضي الزراعية في غزة إما دُمِّرت أو باتت غير قابلة للوصول، ولم يتبقَ سوى 1.5% فقط صالحة للزراعة[11].
كما شمل التدمير أيضًا القطاعات الحيوية المرتبطة بالأمن الغذائي؛ فقد تعرضت الثروة الحيوانية لما يمكن وصفه بالإبادة الجزئية أو الكاملة؛ حيث تضرر نحو 97% منها، سواء بالقصف المباشر أو بانقطاع الإمدادات الأساسية لهذه الثروة من أعلاف ومياه، وهو ما أثر على حياة عشرات الآلاف من السكان الذين كانوا يعتمدون على الثروة الحيوانية كمصدر للعيش.
أما قطاع الصيد البحري، فقد تعرض كذلك لاستهداف متواصل منذ اليوم الأول للحرب؛ حيث منعت إسرائيل دخول الصيادين إلى البحر، ودمرت القوارب والمرافئ والمعدات، واعتقلت العديد من الصيادين أو لاحقتهم، بل وقتلت بعضهم. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 85% من أسطول الصيد قد خرج عن الخدمة بالكامل[12].
نتيجة لذلك، شهدت أسعار الغذاء ارتفاعًا غير مسبوق؛ حيث وصلت إلى 15.000% فوق معدلاتها السابقة للحرب، ما جعل تأمين الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية أمرًا بالغ الصعوبة، خاصة مع انهيار الاقتصاد المحلي وانعدام فرص الدخل.
وتترافق هذه الوقائع مع استمرار القيود الإسرائيلية على دخول المعدات الزراعية والوقود وقطع الغيار والبذور والمخصّبات؛ وهي أدوات ضرورية لبقاء أي نشاط زراعي أو إنتاجي، وهو ما يؤكد السياسة الممنهجة للتجويع بتدمير الإنتاج الغذائي المحلي، وتجريد السكان من وسائل الاعتماد الذاتي، وتعميق التبعية الكاملة للمساعدات الخارجية التي يُتحكم في تدفقها سياسيًّا وأمنيًّا.
ب) تفكيك المؤسسات الإغاثية الدولية:
منذ السابع من أكتوبر، شنَّ الاحتلال الإسرائيلي حربًا شاملة على “الأونروا”، استهدف فيها الوكالة بمختلف الوسائل، سواء عبر القصف المباشر لمنشآتها، أو باستهداف موظفيها وتهديد وجودهم.
ترافق هذا الهجوم مع ضغط سياسي وإعلامي على “الأونروا”، من خلال التشكيك في شرعيتها وتقويض دورها؛ حيث واجهت اتهامات إسرائيلية علنية بمشاركة بعض موظفيها في “طوفان الأقصى”، وهو ما لم تُثبت صحته أي جهة دولية محايدة حتى الآن. ورغم أن الأمم المتحدة فتحت تحقيقًا رسميًا في الادعاءات، فإن هذه المزاعم استُخدمت كغطاء لقطع أو تعليق التمويل من عدة دول كبرى، أبرزها الولايات المتحدة، وألمانيا، والمملكة المتحدة. وقد أثّر هذا التقليص المالي سلبًا على قدرة الوكالة في الاستمرار بعملياتها الإنسانية داخل القطاع[13].
واستمرت الحملة الإسرائيلية بوتيرة متصاعدة؛ حيث دعا الكنيست الإسرائيلي في أكتوبر 2024 رسميًّا إلى حظر الأونروا، ووقف امتيازاتها وتسهيلاتها، ومنعها من ممارسة أي نشاط داخل الأراضي المحتلة. وتمت ترجمة ذلك قانونيًّا من خلال تشريع دخل حيّز التنفيذ في 30 يناير 2025 يمنع أي اتصال رسمي مع الوكالة أو التعاون معها.
ولم يستهدف الاحتلال الأونروا فقط، بل شمل الاستهدافُ الممنهجُ المؤسسات الإغاثيةَ الدوليةَ بشكل عام، فقد منع الاحتلال المنظمات الدولية الأخرى، وأبرزها برنامج الغذاء العالمي، من إدخال المساعدات الغذائية إلى القطاع، وقتل 479 من عمال الإغاثة الدوليين في مراكز توزيع الغذاء منذ 7 أكتوبر 2023، منهم 326 من عمال الأمم المتحدة[14].
ولم يتوقف الاحتلال عند هذا الحد، فمنذ مارس 2025، بدأ بفرض إجراءات إعادة تسجيل المنظمات الدولية والإغاثية العاملة في الأراضي الفلسطينية، ويُعد هذا الإجراء وسيلة لفرض مزيد من التحكم، من خلال مراقبة مصادر التمويل، وإخضاع العمل الإنساني للبروتوكولات الأمنية والقانونية التي تضعها سلطات الاحتلال.
وتأتي هذه السياسات ضمن الهندسة الممنهجة للتجويع والحصار والتي تسعى إلى تحييد الفاعلين الإنسانيين وإخضاعهم، ما يهدد استقلالية العمل الإغاثي ويعيد توجيه تدفقات المساعدات بما يخدم أهداف الاحتلال السياسية والعسكرية.
ج) فرض نظام بديل في توزيع المساعدات:
طوَّر الاحتلال الإسرائيلي من آلياته في استخدام الغذاء سلاحًا خلال الحرب على غزة، فساهم في تأسيس “مؤسسة غزة الإنسانية” أو ما يُعرف اختصارا بـ(GHF) للتحكم المباشر بتوزيع المساعدات وربطها بالأهداف العسكرية والسياسية للحرب. وقد اعتمد الاحتلال هذه المؤسسة بعد فشله في تأسيس روابط عائلية وعشائرية وشبكات نفوذ موالية له، لتكون المخولة حصرًا بتلقي المساعدات والتحكم بتوزيعها بهدف تحييد حركة حماس[15].
وقد جاء تأسيس المؤسسة كجزء من مشروع جديد لإدارة توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، بدعم مباشر من الحكومة الأمريكية التي أمدت المؤسسة بـ30 مليون دولار[16]، وسط اعتراضات من منظمات إغاثية على تصاعد الدور الإسرائيلي في هذا الملف. وبحلول مايو 2025، بدأت المؤسسة تشغيل نظام جديد لتوزيع المساعدات، ليكون بديلا عن النظام الذي كانت تديره وكالات الأمم المتحدة، وعلى رأسها الأونروا.
تدير المؤسسة أربع نقاط رئيسية لتوزيع المواد الغذائية تقع داخل مناطق عسكرية؛ حيث تقع ثلاث من هذه النقاط في منطقة تل السلطان في رفح جنوبي القطاع، وواحدة على محور نتساريم الذي يفصل شمالي القطاع عن وسطه وجنوبه، ويتولى متقاعدون أمنيون أميركيون توزيع الأغذية على مواطني غزة[17]. وبالتالي، أصبح لازما على المواطنين عبور مناطق عسكرية في جنوب القطاع مجازفين بأرواحهم؛ حيث أصبح من المعروف أن الجيش الإسرائيلي يطلق النار بشكل متكرّر على المدنيين الذين يأتون للحصول على مساعدات.[18]وخلال الأشهر الأخيرة، تقع يوميا حوداث يسقط فيها عدد كبير من الضحايا بالقرب من المواقع الأربعة التي تديرها المؤسسة في جنوب القطاع[19].
والأخطر من ذلك أن المؤسسة من المنوط بها أن تلعب دورا في خطة إعادة إعمار غزة (GREAT Trust) والتي تُجري إدارة ترامب حاليًّا مناقشات حولها. والخطة تطرح رؤية مستقبلية للقطاع بعد الحرب الجارية التي تشنها إسرائيل، تتمثل في “إعادة التوطين الطوعي” لسكان غزة، كما تتضمن رؤية لإدارة أمريكية للقطاع تمتد لعشر سنوات تتخللها برامج تنمية واستثمار واسعة وبناء ما بين ست إلى ثماني مدن جديدة داخل القطاع. وهذه الرؤية قريبة من تصريحات الرئيس ترامب المثيرة للجدل في 4 فبراير 2025، التي قال فيها إن الولايات المتحدة ستقوم “بالاستيلاء على” غزة وتحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، وذلك بعد إعادة توطين سكانها البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة في دول أخرى.
فتقترح الخطة أن تتولى مؤسسة غزة مسؤولية تقديم المساعدات والمأوى للسكان المعدمين مستقبلا، وهو ما يكشف الدور المشبوه الذي يُراد للمؤسسة أن تلعبه ضمن هذه الخطة كغطاء إنساني لإدامة السيطرة وإعادة تشكيل الواقع في غزة تحت إدارة غير فلسطينية[20].
د) إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات:
من آليات التجويع الممنهج التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي بحق سكان قطاع غزة إغلاق المعابر والتحكم الكامل في تدفّق المساعدات الإنسانية، سواء الغذائية أو الطبية أو الإغاثية. وهذه الآلية يستخدمها الاحتلال منذ عام 2007؛ حيث تحوّلت المعابر إلى نقاط يتحكم بها الاحتلال، ليس فقط بمن يدخل أو يخرج من القطاع، بل بما يدخل إليه، متى، وبأي كمية، وبأي شروط. فرغم أن المعابر هي شريان الحياة الوحيد لأكثر من مليوني فلسطيني محاصرين، إلا أن إسرائيل تواصل إغلاقها أو تقنين فتحها وفق اعتبارات سياسية وأمنية، وتستخدمها كأداة ابتزاز جماعي.
وقد كان عدد الشاحنات التي تدخل القطاع يوميًا قبل الحرب لا يتجاوز 550 شاحنة لتلبية احتياجات أكثر من مليوني شخص. ولكن مع بداية الحرب، تراجع هذا الرقم إلى أقل من 50 شاحنة وقد يصل أحيانًا إلى الصفر، ونادرًا ما تجاوز 280 شاحنة في اليوم، باستثناء فترة الهدنة المؤقتة بين يناير ومارس 2025؛ حيث سُمح بدخول نحو 800 شاحنة يوميًا – وهو عدد لم يكن كافيًا لسدّ فجوة الاحتياجات المتراكمة.
وفي الفترة بين مارس ومايو 2025، قام الاحتلال بإغلاق كامل للمعابر ومنع دخول الشاحنات، وهو ما أدى إلى تفاقم المجاعة وتراكم المساعدات على الحدود؛ حيث كان أكثر من 89,000 طن متري من الإمدادات الغذائية عالقا خارج غزة بحسب تقارير نُشرت في أبريل 2025، دون أي قدرة حقيقية على إدخالها.
وتعتمد “هندسة التجويع” عبر المعابر على عدة أدوات، منها هندسة المعابر نفسها؛ حيث جعل معبر كرم أبو سالم المعبر الوحيد المخصص لفحص الشاحنات، بينما جعل معبر رفح لحركة المسافرين فقط. ولا يمكن لأي شاحنة عبور معبر رفح أو غيره دون المرور أولا بالفحص الأمني في كرم أبو سالم، مما يفرض مسارات طويلة وتعقيدات لوجستية تؤدي إلى إبطاء إدخال المساعدات بشكل فعّال، إن لم يكن تعطيلها كليًا[21].
ولا تقتصر أدوات الاحتلال على الإجراءات الرسمية فقط، بل يقوم أيضا بتسهيل اعتداء المستوطنين على قوافل المساعدات. فخلال عام 2025، شهدت المعابر الإسرائيلية ممارسات غير مسبوقة، إذ أقدم مستوطنون، بتواطؤ واضح مع الجيش الإسرائيلي، على اعتراض الشاحنات الإغاثية، وإتلاف محتوياتها، أو نهبها بالكامل، دون أي محاسبة أو تدخل فعلي من السلطات الإسرائيلية. تحوّلت هذه الاعتداءات إلى وسيلة ممنهجة لحرمان الغزيين من الغذاء واستمرار سياسة التجويع التي تحاول حرمان السكان من أبسط حقوقهم، بما في ذلك الحق في الحياة[22].
بهذه السياسات والأدوات مجتمعة، يصبح إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات الإنسانية ركنًا أساسيًا في نظام التجويع الذي صُمم لإخضاع غزة. وبهذا يتحول الغذاء من حق إنساني إلى أداة ضغط وتقويض للكرامة.
ه) تسليح عصابات سرقة المساعدات وحمايتها:
قام الاحتلال في الحرب الأخيرة على غزة بتجنيد عصابات محلية مسلحة بقيادة “ياسر أبو شباب” لنهب المساعدات وقتل المدنيين الفلسطينيين قرب نقاط توزيع المساعدات الغذائية؛ حيث ربط بشكل واضح وصريح بين التجويع والقتل المباشر، وأصبح القتل والقنص هو المصير الذي يلقاه المجوعون الذين يبحثون عن المساعدات.
وقد أقرّ نتنياهو صراحةً بتعاون إسرائيل مع “عناصر قبلية” لـ”تسهيل إيصال المساعدات عبر مؤسسة غزة الإنسانية”، إلا أنها في الحقيقة تنهب المساعدات، بما في ذلك شاحنات تابعة للأمم المتحدة، عبر عمليات سطو مسلح تجري تحت حماية طائرات “كوادكابتر” إسرائيلية، قبل نقل المواد المنهوبة إلى مناطق خاضعة لسيطرة الاحتلال، حيث تُباع بأسعار باهظة. ومنطلق الدعم الإسرائيلي لهذه الميليشيات هو إيجاد البديل الذي يمكن أن يتولى القيادة السياسية لغزة بعد انتهاء الحرب ويكون حليفا لها.
وأبرز العناصر القبلية التي تتلقى الدعم من الاحتلال: ميليشيا تُعرف باسم “القوات الشعبية” يقودها ياسر أبو شباب في رفح؛ والتي بدأت العمل بشكل علني في أواخر مايو 2025. كما تعمل ميليشيتان إضافيتان مع إسرائيل في غزة؛ إحداهما بقيادة رامي خليل، وهو زعيم عائلة كبيرة في مدينة غزة وينتمي إلى حركة فتح، والأخرى بقيادة ياسر خنيدق، وهو شخصية محسوبة على فتح ويعمل في خان يونس. إلا أن إسرائيل تقدّم دعمًا ماديًا أكبر لفصيل أبو شباب مقارنة بالمجموعتين الأخريين، ما يمكّن “القوات الشعبية” من العمل بقدرة شبه عسكرية[23].
وقد وجّهت حماس اتهامات مباشرة إلى هذه العصابات المسلحة المدعومة من إسرائيل والتي تنهب المساعدات الإنسانية الشحيحة التي تدخل إلى غزة وتقتل الجائعين. وتزيد هذه العصابات من عمق الكارثة الإنسانية بتحويلها المساعدات إلى وسيلة قمع، إذ تقتل مباشرةً من يحاول الحصول عليها، أو تستولي عليها وتعيد بيعها للسكان بأسعار باهظة، وهو ما يسهل هدف الاحتلال في إحداث التغيرات الديمغرافية والاجتماعية[24].
خامسا- محاولات كسر حصار غزة وإنهاء سياسة التجويع الممنهج:
بعد أكثر من عام ونصف من الحصار المشدد على قطاع غزة والتجويع المتعمَّد لمواطنيها، تكثّفت المحاولات الشعبية والدولية والمبادرات الإنسانية سواء من داخل غزة وخارجها لكسر الحصار وإيقاف سياسة التجويع الممنهجة التي تمارسها إسرائيل ضد سكان القطاع. في حين لم تتحرك الدول على نحو فعال ومؤثر لإنهاء الحصار وسياسة التجويع، وأكثر ما تقوم به الدول هو التنديد بأفعال وقرارات الاحتلال ومطالبته بإدخال المساعدات وإتاحة مساحات عمل للمنظمات الإغاثية الدولية في غزة[25].
ولما كانت الدول عاجزة أو متواطئة، قام بعضها بإنزال المساعدات جوًّا كنوع من تهدئة الرأي العام العالمي الذي أصبح مشحونا يوما بعد يوم تجاه المجاعة التي تنتشر صورها والحديث عنها من خلال الإعلام المحلي والدولي. ففي الفترة من 26 يوليو حتى 11 أغسطس الماضي، أسقطت بعض الدول 1,218 طردًا فقط من المساعدات إلى داخل غزة، إلا أن ما يحتاجه سكان غزة يعادل 18,000 طرد يوميا من أجل وقف المجاعة وبدء عملية التعافي، وبالتالي فإن الطرود التي أُسقطت خلال تلك الفترة لا تمثل سوى 0.4% فقط من الاحتياج الفعلي[26].
أما المحاولات الشعبية المستمرة؛ فمن ضمنها محاولات الأساطيل البحرية والسفن المدنية للوصول إلى شاطئ غزة وكسر الحصار وتوصيل المساعدات. ففي أبريل 2024، أُعلن عن انطلاق أسطول الحرية باتجاه غزة، لكنه لم يسلم من الضغوط الإسرائيلية؛ إذ أجبرت حكومة الاحتلال غينيا بيساو على سحب علمها من على سفن الأسطول، في محاولة لنزع الشرعية القانونية عنه قبل انطلاقه.
وفي 2 مايو 2025، انطلقت سفينة “الضمير العالمي”، إحدى سفن أسطول الحرية، باتجاه غزة بهدف إيصال مساعدات إنسانية إلى غزة في ظل سياسة التجويع المتصاعدة، إلا أنها تعرضت لهجوم مباشر في المياه الدولية قبالة سواحل مالطا، من قِبل طائرات مسيّرة إسرائيلية. وتعرضت سفينة “مادلين” للاعتداءات الإسرائيلية أيضا بعدما أبحرت في يونيو 2025[27].
وجاءت آخر المحاولات البحرية لكسر الحصار في 31 أغسطس؛ حيث أبحر “أسطول الصمود العالمي”، الذي يضم أكثر من 50 سفينة ومئات النشطاء من 44 دولة، من مدينة برشلونة، حاملا مساعدات إنسانية حيوية تشمل الغذاء والأدوية وحليب الأطفال، بهدف “فتح ممر إنساني ووضع حد للإبادة المتواصلة نحو الشعب الفلسطيني”، وقد التفتت أنظار العالم إليه وحظي بدعم المنظمات الدولية والشعبية، رجاء أن يقوم هذا الأسطول بكسر الحصار وتغيير المعادلة[28].
سادسا- هندسة المقاومة لمواجهة هندسة التجويع:
في مواجهة هندسة التجويع التي تتّبعها إسرائيل كأداة استراتيجية لتركيع المجتمع الفلسطيني في غزة، تظهر ضرورة بناء نموذج مقاومة يمكن تسميته بـ”هندسة المقاومة”، لترد بشكل استراتيجي على التجويع الممنهج، وتضع الأسس لتحصين المجتمع الفلسطيني على المدى القريب والبعيد.
إن مقاومة سياسات التجويع تبدأ بالاستجابة الطارئة والفورية للمجاعة في غزة بكل وسيلة ممكنة، لكنها لا تتوقف عند حدود هذه الاستجابة. فمواجهة التجويع الممنهج لا تكتمل بدون مقاومة المشروع الأعمق الذي يحمله في طياته، وهو مشروع تفكيك المجتمع الفلسطيني وإعادة تشكيله بما يخدم الرؤية الإسرائيلية طويلة المدى. فكما أن التجويع الممنهج سياسة إسرائيلية استراتيجية طويلة المدى، فإن المقاومة يجب ألا تكون مجرد ردّ فعل عاطفي أو لحظي، بل منظومة متكاملة من السياسات والخيارات الشعبية والمجتمعية والدولية الواعية التي تتعامل مع التجويع بوصفه جزءًا من مشروع استعماري ممتد.
وبالتالي، يمكن القول إن “هندسة المقاومة” فعل متكامل لا يقتصر على المقاومة العسكرية في غزة، بل يشمل الصمود الشعبي، والتحرك الجماهيري العربي والدولي، والدور الحيوي للمؤسسات والدول. وتتكامل هذه الأدوار على مستويين: المستوى الأول فوري وعاجل، والثاني طويل الأمد.
المستوى الأول: وهو ما يحدث حاليا داخل القطاع؛ فرغم القصف والنزوح وندرة الطعام، تأتي العديد من المبادرات المحلية لتوزيع المساعدات بعدالة، وتبادل الطعام والماء بين الأُسر. ويحتاج هذا أن يُدعم من الشعوب الأخرى والمنظمات والمؤسسات الدولية بكل ما يمكن من حملات إعلامية وإغاثية وقيود قانونية لتوجيه الأنظار للخطر الماثل في غزة والذي يحتاج إلى تحرك فوري وسريع. هناك حاجة ملحة لخطاب أكثر وعيًا وجذرية، يُحمّل الاحتلال ومن يدعمه المسؤولية الكاملة، ولا يكتفي بمناشدات إنسانية موجهة للفراغ.
المستوى الثاني، وهو طويل الأمد، ويركز على مواجهة الأهداف الأوسع لسياسات التجويع والقتل، فلا يمكن للأمر أن ينتهي بتقديم المساعدات -سواء بموافقة الاحتلال أو بضغط عليه-، بل لا بد من استرداد غزة حقها في السيادة على غذائها وقرارها واستقلالها الاقتصادي.
ومن ناحية أخرى، لا بد أن تنطلق المبادرات الشعبية والمنظمات الدولية والحملات الإعلامية من خطاب وسردية تؤكد أن التجويع الممنهج ليس مجرد “كارثة إنسانية” قابلة للاحتواء عبر المعونات والمساعدات كما تفعل بعض المنظمات الدولية والمنصات الإعلامية، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات استعمارية استيطانية ستستمر في الحدوث -كما حدثت من قبل في غزة- ما لم يكن هناك محاولات أعمق للمواجهة والتفاعل وردع قانوني حاسم للاحتلال وعقوبات تُطبق بالفعل عليه.
خاتمة:
تناول هذا التقرير سياسات التجويع الممنهجة التي يتعرض لها قطاع غزة من خلال استعراض آليات التجويع المتعمد، وقد تبيّن أن هذه السياسات لا تُستخدم بمعزل عن السياق الأوسع للصراع، بل تُوظَّف كأداة استعمارية بهدف إخضاع السكان وكسر إرادتهم الجماعية وتهجيرهم قسرا وإبادتهم.
وفي هذا السياق، لا تزال محاولات كسر الحصار والمواجهة الإنسانية لهذه السياسات، رغم شجاعتها وضرورتها، غير قادرة على مضاهاة حجم التخطيط والفاعلية التي تقوم عليها سياسات التجويع، فجهود الإغاثة والضغط الحقوقي والإعلامي والمبادرات الشعبية بقيت مشتتة ومحدودة الأثر، وتحتاج إلى عامل حاسم إضافي -سواء كان تحوُّلا سياسيًّا فلسطينيًّا داخليًا، أو تصعيدًا شعبيًا خارجيًا، أو ضغطًا دوليًا منظمًا- لكي تُشكِّل قوة مضادة حقيقية.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن استمرار سياسات التجويع قد يُنتج آثارًا عميقة وخطيرة على المستويات كافة. فعلى المستوى الإنساني داخل القطاع، سيتفاقم انعدام الأمن الغذائي، وتنتشر الأمراض المرتبطة بسوء التغذية، وتتدهور الصحة العامة، وقد تزيد معدلات الوفاة خاصة بين الأطفال وكبار السن. أما على المستوى الاجتماعي، فقد تؤدِّي سياسات التجويع المستمرة إلى ضغط معيشي يسهم في تفكك النسيج المجتمعي، وازدياد العنف الأسري، وارتفاع معدلات النزوح القسري. وسياسيًا، قد تفقد الفصائل والسلطات المحلية قدرتها على الحفاظ على التماسك الداخلي، مما يُفضي إلى فقدان الثقة أو ظهور بدائل مدعومة من قِبل الاحتلال.
في المقابل، قد تقود سياسة التجويع، على المدى الطويل، إلى نتائج عكسية على سلطات الاحتلال؛ إذ أن توثيق معاناة السكان وتجريم استخدام الجوع كسلاح حرب يساهم في تحوّل الموقف الدولي، ويُعزز من مشروعية القضية الفلسطينية، ويزيد من عزلة الاحتلال الذي يمارس الحصار والتجويع المتعمد على مرأى ومسمع من الجميع. كذلك، فإن وعي الشعوب وتنامي التضامن العالمي، خاصة في سياق الرقمنة وانتشار المعلومات قد يُعيد رسم خريطة التحالفات، ويجعل من التجويع المتعمد دليلا دامغًا على فشل السياسات القائمة في تحقيق الاستقرار في المنطقة.
لذلك، فإن الأثر المستقبلي لسياسات التجويع في غزة لن يتوقف على حدود القطاع، بل قد يمتد ليؤثر في ديناميكيات الصراع الفلسطيني والإقليمي الأوسع. فمن جهة، قد تُفضي هذه السياسات إلى انفجار اجتماعي وأمني داخل غزة يتجاوز حدود الجغرافيا ويُهدد الاستقرار الهش في المنطقة، خاصة إذا تراكم الغضب الشعبي وتلاقت أسبابه في الداخل والخارج. ومن جهة أخرى، قد تتحوّل غزة إلى بؤرة ضغط سياسي وأخلاقي تُجبر المجتمع الدولي، ولو متأخرًا، على مراجعة مواقفه والاعتراف بأن استمرار التجويع المتعمد يُنتج مزيدًا من الفوضى لا الحلول، وبالتالي فتح الباب أمام مقاربات جديدة تُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية والعدالة كمدخل لأي حل دائم. إن التجويع، وإن بدا أداة ضغط فاعلة، قد يتحوَّل إلى عامل استنهاض تتولَّد عنه مقاومة أكثر صلابة، ووعي عربي وعالمي أشد عمقًا، ورغبة أكبر في كسر المعادلة القائمة.
—————————————–
الهوامش:
⁕ باحثة في العلوم السياسية.
[1] للتوضيح: في المرحلة الثالثة التي تُسمى “الأزمة”؛ تعاني الأسر من فجوات كبيرة في استهلاك الغذاء، ما ينعكس في ارتفاع أو زيادة غير معتادة في سوء التغذية الحاد، أو تكون الأسر بالكاد قادرة على تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية، لكن من خلال استنزاف أصول سبل العيش الأساسية أو عبر استراتيجيات التكيف في الأزمة. أما في المرحلة الرابعة “الطوارئ”؛ فتعاني الأسر من فجوات كبيرة في استهلاك الغذاء، مما يؤدي إلى مستويات عالية جدًا من سوء التغذية الحاد وارتفاع معدل الوفيات، أو تكون قادرة على التخفيف من هذه الفجوات الكبيرة فقط باستخدام استراتيجيات الطوارئ للعيش وتصفية الأصول. وفي المرحلة الخامسة “الكارثة/المجاعة”؛ تعاني الأسر من نقص حاد في الغذاء و/أو الاحتياجات الأساسية الأخرى حتى بعد استخدام جميع استراتيجيات التكيف، وتظهر علامات المجاعة مثل الجوع الشديد، الوفاة، التشرد، ومستويات حرجة للغاية من سوء التغذية الحاد.
انظر:
How to help Gaza as famine unfolds, International Rescue Committee, September 2025, accessed at September 2025, available at: https://2u.pw/JF2bCH
[2] دينا عطا الله، سلاح التجويع الممنهج فى غزة.. وتصنيف “المرحلة الخامسة”، السياسة الدولية، 4 أغسطس 2025، تاريخ الاطلاع: 25 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/7Ss8J
[3] المصدر السابق.
* تُعرَّف السلع ذات الاستخدام المزدوج بأنها سلع أو برمجيات أو تقنيات تُستخدم في التطبيقات المدنية والعسكرية، وتشمل المواد أو المكونات أو الأنظمة الكاملة المستخدمة في إنتاج أو تطوير السلع العسكرية وأسلحة الدمار الشامل. ومن الأمثلة على ذلك أنظمة الرؤية الليلية، والمظلات، ومسببات الأمراض النباتية، والبكتيريا، ومكونات الإلكترونيات مثل الترانزستورات. انظر على سبيل المثال:
What Are Dual Use Items?, 31 March 2022, available at: https://2h.ae/QCaI
[4] Mohamad AlAli, Starvation as a Method of Warfare: A Qualitative Study on the Use of Starvation in the Case of Gaza, Masters Thesis, (Utrecht University, 2024(, pp. 28, 29.
[5] حمدي علي حسين، مؤسسة غزة وإسرائيل: تساؤلات حول علاقة الإنساني بالسياسي، مركز الجزيرة للدراسات، 12 يوليو 2025، تاريخ الاطلاع: 22 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/3ZVe8n
[6] Israeli-induced starvation in Gaza kills 185 in August, 13 more in 24 hours, AlJazeera, 2 September 2025, accessed: 5 September 2025, available at: https://shorturl.at/2qLyY
[7] Mohamad AlAli, Starvation as a Method of Warfare, op. cit., pp. 31, 32.
[8] Ibid., pp. 37, 38.
[9] هبة ضرغام نصار، التجويع كسلاح.. قراءة في مأساة غزة ومساراتها الإستراتيجية، الجزيرة، 25 يوليو 2025، تاريخ الاطلاع: 26 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/B9HsE
[10] حسام شاكر، التجويع المنهجي ذروة السياسات الوحشية الحديثة، الجزيرة، 4 أغسطس 2025، تاريخ الاطلاع: 26 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/ZuIOt
[11] استخدام التجويع كسلاح: المجاعة التي افتعلتها إسرائيل في غزة، حلول للسياسات البديلة، 8 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 10 سبتمبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/5883g
[12] إيهاب محارمة، التجويع في أثناء الإبادة الجماعية: سلاح إسرائيل لترسيخ الاستعمار الاستيطاني في قطاع غزة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وحدة الدراسات السياسية، 26 أغسطس 2025، تاريخ الاطلاع: 30 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/U0Sxn
[13] هديل رزق، هندسة التجويع: استخدام جهود الإغاثة سلاحَ ضغط على الفلسطينيين، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 143، صيف 2025، تاريخ الاطلاع: 30 أغسطس، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/tgBUIt
[14] حمدي علي حسين، مؤسسة غزة وإسرائيل: تساؤلات حول علاقة الإنساني بالسياسي، مرجع سابق.
[15] What is the Gaza Humanitarian Foundation, and why has it been criticised?, AlJazeera, 20 May 2025, accessed at: 25 August 2025, available at: https://shorturl.at/TWELJ
– رغم حظرها في جنيف … مؤسسة غزة الإنسانية تواصل نشاطها كالمعتاد، swissinfo، 8 يوليو 2025، تاريخ الاطلاع: 25 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط: https://shorturl.at/ks3Zk
[16] Mariel Ferragamo, Famine Declared in Gaza: What to Know, Council on Foreign Relations, 25 August 2025, accessed at: 30 August 2025, https://2u.pw/oBdBg5
[17] مؤسسة غزة الإنسانية تكشف تلقيها تمويلا من دول أوروبية، الجزيرة، 15 أغسطس 2025، تاريخ الاطلاع: 25 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/yvftx
[18] عسكريون متقاعدون وضباط مخابرات سابقون…الجانب الخفي لمؤسسة غزة الإنسانية، France 24، 9 يوليو 2025، تاريخ الاطلاع في 7 سبتمبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/fUD1C
[19] غزة: قتل إسرائيل فلسطينيين يحاولون الحصول على الطعام جريمة حرب، Human Rights Watch، 1 أغسطس 2025، تاريخ الاطلاع: 15 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/4njJr0y
[20] Khalil E. Jahshan, The GREAT Trust for Gaza: A Blueprint for Dispossession, Not Reconstruction, Arab Center Washington DC, 4 September 2025, accessed at: September 2025, available at: https://shorturl.at/IaxU1
[21] هديل رزق، هندسة التجويع: استخدام جهود الإغاثة سلاحَ ضغط على الفلسطينيين، مصدر سابق.
[22] إيهاب محارمة، التجويع في أثناء الإبادة الجماعية، مصدر سابق، ص10.
[23] Neomi Neumann, Israel’s “Tribal” Approach in Gaza: A Short-Term Response to a Long-Term Challenge, Washington Institute, 15 July 2025, accessed at: 13 August 2025, available at: https://shorturl.at/T8NLV
[24] ليبرمان: إسرائيل تسلح عصابات في غزة بأمر من نتنياهو، 5 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع في: 25 أغسطس 2025، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/48srFDu
[25] World reacts as UN-backed body declares famine in Gaza, Al Jazeera, 2 August 2025, accessed at 10 Septmeber 2025, available at: http://bit.ly/48voY4b
[26] Why Israel’s airdrops on Gaza are just an illusion of aid, Euro-Med Human Rights Monitor, 12 August 2025, accessed at: 20 August 2025, available at: http://bit.ly/428sn58
[27] من الحرية إلى الصمود.. أساطيل نحو غزة لكسر الخذلان العالمي، بوابة تونس، سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 10 سبتمبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/MvIsd
[28] UN experts stand in solidarity with the Global Sumud Flotilla, demand full protection of all passengers, United Nations, 9 September 2025, accessed at 10 September 2025, available at: http://bit.ly/46uVyAC




