منظمة الصحة العالمية: إدارة الأزمة بين الصحي والسياسي

مقدمة:

يواجه العالم تحديا جسيما منذ إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا “وباءً عالميًا”؛ نظرا لأن الأزمة لم تترك تداعياتها على الجانب الصحي فقط بل كانت لها آثار بالغة على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، بل إن بعض الدراسات تناولت تأثيرها على السياسة الدولية.

وقد كانت قيادة الأزمة عالميا بيد منظمة الصحة العالمية التي بذلت جهودا في هذا الصدد أيدها البعض بينما اعترض عليها آخرون، بل واتهموا المنظمة بغياب الشفافية وبتضمنها لممارسات فساد في هذه الأزمة، فيما يلي نستعرض بشيء من التفصيل دور منظمة الصحة العالمية في إدارة الأزمة ما بين الجانبين الصحي والسياسي.

أولًا- تداعيات جائحة كورونا

  • التداعيات الاقتصادية:

تأثر الاقتصاد العالمي بقرارات الحكومات بالإغلاق التام لكافة المطارات والموانئ والمتاجر وغيرها من منافذ الخدمات، وتأثر العرض والطلب تأثرا بالغا انعكس في أزمة تضرب الأسواق المالية ناتجة عن أزمتي العرض والطلب؛ إذ إن التحولات الكبرى في أسواق الأسهم من حيث الشراء والبيع يمكنها التأثير على العديد من الاستثمارات خاصة المعاشات التقاعدية وحسابات التوفير الفردية، وقد تجلى ذلك في انخفاض مؤشري داو جونز DJI وفتسي FTSE إلى أدنى قيمة منذ عام 1987م، ويؤثر ذلك على المستثمرين الذين تتعاظم مخاوفهم من تدمير النمو الاقتصادي وعجز الإجراءات الحكومية عن معالجته، وقد اتجهت البنوك المركزية إلى محاولة احتواء هذا الأمر بتخفيض أسعار الفائدة أملا في تقليل تكلفة الاقتراض وبالتالي تشجيع الإنفاق ثم تعزيز حالة الاقتصاد[1].

ولأن العرض والطلب والأسهم تتأثر ببعضها البعض فإن تأزمها مجتمعة يسهم في ديمومة الأزمة، فانخفاض أرباح الناس بسبب القيود على الإنتاج يصدهم عن طلب منتجات أخرى مما يخلق أزمة طلب وهكذا دواليك.

وأما بالنسبة للاقتصاد العالمي فقد شهد مطلع هذا العام توقعات متفائلة حيث توقع تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي أن يرتفع معدل النمو الإجمالي من 2.9% عام 2019م إلى ما يقارب 3.3 % عام 2020م، غير أن هذه التوقعات تبددت مع بوادر انتشار الجائحة حيث توقعت تقارير صادرة عن منظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (يونكتاد) أن الاقتصاد العالمي سيخسر تريليون دولار أمريكي نتيجة لانتشار الفيروس مع تراجع معدل النمو العالمي لما هو دون 2.5%. ولعل ما يصعب تداعيات هذه الأزمة على الاقتصاد العالمي أن الدول المتأثرة به تتمتع بنصيب كبير في الاقتصاد العالمي، حيث تسهم هذه الدول -ومنها الصين ومجموعة الدول السبع- بأكثر من 60% من إجمالي الناتج العالمي، و65% من الناتج الصناعي، و41 % من إجمالي الصادرات المصنعة[2].

كما تؤثر الجائحة على الناس تأثيرا غير مباشر من خلال التأثير على وظائفهم، حيث تقدر منظمة العمل الدولية عدد الوظائف التي يمكن فقدها بـ 195 مليون وظيفة، كما يتوقع البنك الدولي انخفاضًا في التحويلات يبلغ 110 مليار دولار أمريكي هذا العام؛ مما قد يعني أن 800 مليون شخص لن يتمكنوا من تلبية احتياجاتهم الأساسية[3].

ونظرا لهذه التداعيات الجسيمة للجائحة فقد حاولت العديد من الدول والمنظمات درءها عن نفسها من خلال ثلة من السياسات الاقتصادية التوسعية المتعلقة بالمنح والقروض أو من خلال زيادة الإنفاق الحكومي والتوسع في الإعفاءات الضريبية وتخفيض أسعار الفائدة، فمثلا أعلن صندوق النقد الدولي عن اعتزامه تقديم 50 مليار دولار بهدف مساعدة الدول منخفضة الدخل والأسواق الناشئة لتجاوز الجائحة.

بينما أقدمت حكومات أخرى على تقديم حزم مالية أو تقديم مساعدات مالية للأفراد أو الفئات المتضررة من هذه الأزمة ومنها الولايات المتحدة وحكومة بريطانيا.

لم تكن آثار فيروس كورونا سيئة في المطلق، إنما كان هناك بعض الفوائد والمستفيدين من الأزمة، حيث تراجعت معدلات انبعاث ثاني أكسيد الكربون نتيجة لتراجع النشاط الصناعي العالمي، كما استفادت بعض الصناعات الأخرى مثل الأدوية والاتصالات وشركات التجارة الإلكترونية مثل شركة أمازون[4].

  • التداعيات الصحية:

تشمل الآثار الصحية للجائحة عدة أبعاد في مقدمتها مسألة الوفيات والمرضى والتي تشكل أثرا مباشرا، كما تشمل أيضا بعض الآثار غير المباشرة مثل الأمن الغذائي؛ حيث أوردت تقارير منظمة الأمم المتحدة للزراعة والغذاء وبرنامج الغذاء العالمي أن الأمن الغذائي سيتأثر بالجائحة وتحديدا فيما يتعلق بتوافر الأغذية والحصول عليها واستخدامها واستقرار إمداداتها[5].

يعد التحدي الأبرز الذي يمثله انتشار فيروس كورونا هو السؤال المتعلق بمدى جاهزية الأنظمة الصحية للتعامل مع الوضع؛ أي مدى يبدو تمتعها بالقدرة الاستيعابية الكافية لمعالجة المرضى عموما والحالات الحرجة خصوصا إذا ما تعذر تطبيق الإجراءات اللازمة لمنع انتشار المرض بصرامة[6].

وإلى جانب هذا التحدي، فهناك تحدٍ آخر متعلق بتفاوت قدرات الفئات والدول المختلفة على التعامل مع الأوضاع التي يفرضها انتشار الجائحة؛ إذ تعد فئات المهاجرين –على سبيل المثال- من الفئات الأكثر تضررا مقارنة بفئات أخرى؛ وذلك لعدة أسباب منها أن أمانهم الصحي بخطر نظرا لأن الإجراءات الوقائية قد لا يقدرون عليها بل قد تعد ضربا من الرفاهية، هذا فضلا عن مواجهتهم مخاطر كبرى فيما يتعلق بأمنهم الوظيفي، كما أن أسر هؤلاء المهاجرين قد تعاني –تبعا لذلك- من مخاطر شديدة، حيث يشير تقرير جديد للبنك الدولي إلى أنه من المتوقع انخفاض التحويلات بنسبة 19.7% إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل في 2020م، كما أن إجراءات الوقاية من الفيروس قد تسبب اضطرابات جديدة لأرباب العمل والشركات ولقطاعات بأكملها[7].

كما يؤثر الوباء على الصحة النفسية فضلا عن الصحة الجسدية، لا سيما مع الإغلاق الذي قد يؤثر على المستويات الاقتصادية ويسبب عسرا ماليا بالإضافة إلى العزلة التي تفاقم من حالات التوتر والاكتئاب، نظرا لخطورة الأمر فقد حدد بعض الباحثين ثمان فئات اعتبروها هي الفئات الأكثر تضررا بالأمر وهي:

  • الأطفال وصغار السن والعائلات (من حيث إغلاق المدارس، والعنف الأسري).
  • المسنون ومن يعانون مشكلات صحية (لا سيما مع العزل والوحدة واحتمالات الفقد القائمة دوما).
  • من لديهم اضطراب في الصحة النفسية (يتفاقم الأمر مع التوقف عن العلاج وحدوث انتكاسات).
  • الصفوف الأمامية من الطواقم الطبية (حيث تتزايد الضغوط النفسية عليهم في ظل المخاوف من إصابتهم بالعدوى والتوتر بسبب العمل).
  • من يعانون من صعوبات في التعلم.
  • أصحاب الدخول المتدنية.
  • السجناء والمشردون واللاجئون[8].

وأما بالنسبة للآثار الجسدية فإنها تنقسم إلى الآثار قصيرة المدى مقابل نظيرتها طويلة المدى، فأما الآثار قصيرة المدى فمعروفة غالبا، بينما لا تزال الآثار بعيدة المدى مجهولة نسبيا وإن كان العلماء يحاولون قياسها على فيروس السارس الذي انتشر عام 2003م وترك آثاره لاحقا وكان منها عجز معظم من أصيبوا به عن الاستمرار في أعمالهم بدوام كامل كما كانوا قبل الإصابة به، غير أن بعض الخبراء يتوقعون أن تكون هناك عدة آثار طويلة المدى وأبرزها “مرض الرئة ما بعد فيروس كورونا” ولا زالت الدراسات جارية حول هذا الأمر[9].

  • التداعيات المتعلقة بالأبعاد الإنسانية

كان تأثير الجائحة على الأبعاد الإنسانية كبيرا، غير أننا هنا سنركز على الأمن الإنساني لا سيما الأمن الغذائي وأمن فئات محددة قد تتضرر بصورة أعظم، وقد تناول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس ذلك في عدة تصريحات له، حيث صرح أن الجائحة ستهدد الأمن الغذائي بيد أن تأثيرها سيكون أشد وطأة على الدول التي كانت لديها أزمة غذاء بالفعل ومنها دول القارة الأفريقية، ويعود ذلك لعدة أسباب؛ منها: أن التدابير المتخذة لمواجهة الجائحة يمكن أن تعطل الأنظمة الغذائية؛ ومن ثم فإن لم يكن هناك تحرك عاجل فقد يواجه العالم طوارئ غذائية عالمية[10].

كما قد يعزى الأمر إلى أزمة أخرى تتعلق بأزمات المناخ والتي قد تضاعف حدة أزمة الغذاء هي الأخرى؛ لأنها قد تؤدي إلى تناقص المواد الغذائية، فضلا عن ارتفاع مستويات البطالة وخسارة الدخل بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية؛ وبالتالي يصبح الحصول على الغذاء أمرا غاية في الصعوبة[11].

كما رأى الأمين العام أن الجائحة ستكون أشد تأثيرا على فئات الأطفال مقارنة بغيرها من الفئات العمرية؛ حيث إن هناك ما يزيد عن 820 مليون شخص لا يحصلون على ما يكفي من الغذاء لسد جوعهم، كما يعاني حوالي 144 مليون طفل دون الخامسة من التقزم[12]؛ ومن ثم فقد دعا إلى توفير حماية أكبر تخصص للأطفال المتأثرين بفيروس كورونا؛ نظرا لأن رفاهية أطفال العالم يجب أن تحظى بقدر أكبر من الأهمية، وفي ذات السياق قال إن الدول الأفريقية بحاجة إلى ما يزيد عن 200 مليار دولار لتتمكن من مواجهة الفيروس؛ وهو ما يعني احتياج صندوق النقد الدولي إلى موارد أكبر خاصة في ظل توقعات بزيادة عدد المنتمين إلى فئة الفقراء فقرا مدقعا حوالي 49 مليون شخص بسبب الجائحة، واقترح جوتيريش تعليق ديون البلدان النامية والبلاد الأشد فقرا كي نخفف من حدة الأزمة[13]. كما أكد لاحقًا على أهمية العناية بالمشهد السوري لا سيما في ظل عجز القطاع الصحي عن التعامل مع الفيروس تماما[14].

كما صرح الأمين العام بخطر آخر قد يهدد الموارد البشرية خاصة في ظل توقف الطلاب عن الذهاب إلى المدارس، مما يهدد بإهدار الموارد البشرية وعرقلة التقدم وزيادة التمييز القائم، ومن ثم يجب اعتبار “إعادة الطلاب إلى المدارس أولوية قصوى”.

وقد عزَّز وجهة نظره ببعض الإحصائيات؛ حيث قال إن المدارس أغلقت في حوالي 160 دولة حتى منتصف يوليو، ويطال تأثير ذلك حوالي مليار تلميذ أو أكثر، وقد كان هناك ما يقرب من 250 مليون طفل خارج التعليم منذ ما قبل الجائحة[15].

ثانيًا- استجابة المنظمة لظهور الجائحة

تجدد منظمة الصحة العالمية على موقعها الإلكتروني جدول الأنشطة التي قامت بها بشكلٍ دائمٍ منذ بدء الأزمة وحتى تاريخ كتابة البحث وذلك على موقعها[16]؛ فقامت المنظمة بعد أنشطة كما يلي:

أصدرت المنظمة 74 جلسة إحاطة إعلامية، بالإضافة إلى 23 جلسات إحاطة إعلامية وتداول معلومات بين الدول الأعضاء، كما عقدت المنظمة اجتماعات لشبكات من الخبراء في كافة التخصصات الطبية والصحية المرتبطة الأمر في كافة أنحاء العالم، ومنها علم الفيروسات وعلم الأوبئة المصلي وغيرها، وقد عُقِدَت 60 ندوة تقنية من قبل شبكة المعلومات عن الأوبئة التابعة لمنظمة الصحة العالمية، كما توجد منصة تدريب مفتوحة تدعىOpen WHO بلغ عدد مرات التسجيل فيها حوالي 3.7 ملايين؛ ومنهم حوالي80% التحقوا بدورات خاصة بفيروس كورونا.

كما اجتمعت المجموعة الاستشارية التقنية المعنية بالأخطار المعدية STAG-IH حوالي 35 مرة، كما أن المنظمة في دورتها الـ 73 وافقت على تشكيل لجنة لتقييم الأداء في مواجهة كورونا، وفي ذات الدورة تعهّد الرئيس الصيني بدفع مساهمة قدرها مليارا دولار على مدى عامين من أجل دعم مواجهة الوباء، كما أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنه لا يمكن تعويض منظمة الصحة العالمية مؤكدا على أنها بحاجة إلى موارد أكبر لتقديم الدعم للبلدان النامية[17]. وقد مرت المنظمة بعدة مراحل ومحطات مهمة منذ ظهور الفيروس وحتى تاريخ كتابة البحث، وذلك كما يلي:

  • ظهور الفيروس وانتشاره

شهدت الصين في أواخر ديسمبر 2019م ظهور حالات “التهاب رئوي فيروسي” مجهول السبب في ووهان بالصين، فطلبت منظمة الصحة العالمية من السلطات الصينية المعلومات بشأن ذلك، وردّت السلطات بالمعلومات بعد مماطلة، كما نشرت المنظمة بعد حصولها على المعلومات أول تقرير لها بشأن انتشار هذا الالتهاب تناول معظمه الحالات المصابة والتدابير التي اتخذتها الصين، وبعد صدور التقرير ببضعة أيام أعلنت أن الأمر سببه فيروس كورونا، ومن ثم بدأت عقد الاجتماعات مع الخبراء.

كما شهد هذا الوقت إعلان السلطات الصينية سقوط أول حالة وفاة بسبب الفيروس، وكذلك انتقاله خارج الصين وتحديدا في تايلاند على يد شخص قادم من ووهان، إضافة إلى اليابان على يد شخص زار ووهان أيضا، ثم الأمريكتين، ثم فرنسا، وبالتالي تأكدت شكوك المنظمة حول احتمالية انتقال الفيروس من شخص لآخر داخل ووهان.

  • منظمة الصحة تتقصى الأمر بنفسها

آنذاك لم تعد المنظمة تكتفي بالمعلومات التي ترسلها لها السلطات الصينية، فأوفدت بنفسها في 27 يناير 2020م وفدا رفيع المستوى ترأسه المدير العام للمنظمة والتقى حينها بالرئيس الصيني وتبادلوا النقاشات حول المعلومات المتوافرة حول الفيروس وسبل مواجهته، وقدم مدير عام المنظمة المعلومات بعد عودته المعلومات التي حصل عليها للدول الأعضاء عن الاستجابة للفيروس، ودعا لانعقاد لجنة الطوارئ المعنية باللوائح الصحية الدولية التابعة للمنظمة للكشف عما إذا كان الأمر يمثل قلقا عالميا، وتقرر بعدها أن الأمر يعد جائحة عالمية.

  • المنظمة تشرع في مواجهة الفيروس

آنذاك أعدت المنظمة الصيغة النهائية لخطتها الاستراتيجية للتأهب للفيروس والاستجابة له، كما طلب المدير العام للمنظمة تفعيل سياسة الأمم المتحدة لإدارة الأزمات وذلك في فبراير 2020م، وواصلت المنظمة التواصل مع الخبراء من الشركات أو الباحثين الأكاديميين المختصين بدراسة الفيروسات للكشف عن طبيعة هذا الفيروس وسماته، كما تشكلت بعثة مشتركة بين المنظمة والصين لمتابعة تطورات الفيروس أولا بأول. كذلك عينت المنظمة ستة مبعوثين خاصين بفيروس كورونا المعروف بـ”كوفيد-19″ ليتولوا تقديم الاستشارات عالميا.

  • خطورة التعامل مع الفيروس

أعلنت البعثة المشتركة بين المنظمة والصين نتائج صادمة، حيث قالت إن العالم ليس في أتم الاستعداد لمواجهة الفيروس وذلك على مستوى الإمكانات المادية والعقلية؛ وبالتالي فحتى الإرشادات التوجيهية التي سبق للمنظمة إطلاقها للتعامل مع الجائحة لن يكون في الإمكان تطبيقها جميعا، وكان هذا الإعلام في 24 فبراير 2020م، كذلك فقد أصدرت البعثة المشتركة تقريرا تضمن أهم التدابير الواجب اتخاذها للتعامل مع الفيروس.

  • انتشار الفيروس على نحو صارخ رغم الإجراءات

تخطى عدد الإصابات بالفيروس عتبة 100 ألف حالة رغم كافة التدابير المتخذة وذلك في مارس 2020م، كما دعا المجلس العالمي لرصد التأهب –وهو هيئة مستقلة رفيعة المستوى أنشأتها المنظمة والبنك الدولي لتكون مسؤولة عن رصد التأهب العالمي للطوارئ الصحية- إلى ضخ ثمانية مليارات دولار أمريكي على الفور من أجل الاستجابة لكوفيد-19 وتعزيز قدرات المنظمة في هذا الأمر.

كما تم إعلان أوروبا بؤرة للجائحة في 13 مارس 2020م، وبالتوازي أطلقت المنظمة ومؤسسة الأمم المتحدة والشركاء صندوق الاستجابة للجائحة لتلقي التبرعات من الأفراد والشركات والمؤسسات، وتم جمع ما يزيد على 70 مليون دولار أمريكي في خلال 10 أيام فقط، وتوزعت مصارفها بين دعم القطاع الصحي وعلاج المرضى ودعم البحث العلمي.

وإضافة إلى ما سبق كانت المنظمة حريصة على رصد الممارسات الخاطئة أثناء مواجهة الجائحة، ومنها مثلا استخدام منتجات صحية مزورة اكتشفتها المنظمة وأصدرت بيانات تحذير منها.

  • عدد المصابين يتجاوز مليون فرد والمنظمة تطلب تبرعات

أبلغت المنظمة عن ثبوت الأدلة على انتقال الفيروس من المرضى إلى الأصحاء، كما أعلنت تجاوز عدد حالات الإصابة مليون فرد وذلك في أبريل 2020م؛ ومن ثم فإن الخطورة تكمن في تضاعف عدد الإصابات عشرة أضعاف تقريبا في غضون شهر.

واستجابة لهذا الخطر أعلنت المنظمة للمرة الأولى تعليقا يتصل بتدابير الصحة العامة والتدابير الاجتماعية وذكرت منها “الإغلاق الشامل” والذي قيد الحركة لأبعد حدٍّ ممكن.

ونظرا لخطورة الأمر وتراجع قدرات المنظمة عن احتوائه بمفردها فقد حاولت المنظمة جمع التبرعات لأنشطتها بكافة السبل والوسائل؛ ومنها إقامة حفلات لجمع التبرعات أو توجيه نداءات للمؤسسات والوكالات المانحة لتقديم الدعم العاجل لها وذلك في أبريل 2020م، وتكرر الأمر في مؤتمر القمة العالمي بشأن اللقاحات الذي عقد في يونيو 2020م واستضافته المملكة المتحدة، وتم فيه جمع التبرعات اللازمة لمواجهة كوفيد-19.

  • المنظمة تستعين بالأمم المتحدة لمواجهة الفيروس

تكلفت الأمم المتحدة 6.7 مليارات دولار لتحديث خطة الاستجابة الإنسانية العالمية للفيروس استهدفت بها 63 بلدا من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، كما حولت الهدف من التعافي التام من الفيروس إلى تفادي أعراضه الأشد خطرا وكان ذلك في 7 مايو 2020م.

شكلت منظمة الصحة العالمية في 10 يوليو 2020م، لجنة مستقلة لتقييم إدارتها لأزمة انتشار جائحة كورونا على خلفية الانتقادات الموجهة لها، أعلن المدير العام للمنظمة أن اللجنة ستخضع لرئاسة كل من هيلين كلارك رئيسة الوزراء النيوزيلاندية السابقة وإيلن جونسون سيرليف الرئيسة الليبيرية السابقة، وأكد أنه يعول على كفاءتهما ونزاهتهما للقيام بهذه المهمة[18].

  • المنظمة تسعى للتوصل إلى لقاحات

تعمل المنظمة على التوصل إلى بعض اللقاحات التي قد تفيد في معالجة الفيروس، وتواصل التأكيد على حاجتها للدعم المالي. وأكدت المنظمة –بناءً على تجارب سريرية أجرتها المملكة المتحدة- أن الديكساميثازون يمكن أن يفيد من يعانون من مضاعفات حرجة لمرض كوفيد؛ وذلك في المنتدى العالمي للبحث والابتكار الذي انعقد في 16 يونيو 2020م.

لاحقا وتحديدا في 26 يونيو 2020م أعلنت المنظمة ضرورة توفير 31.3 مليار دولار أمريكي خلال الأشهر الاثني عشر المقبلة لتكون المنظمة قادرة على القيام بمسئولياتها[19].  ومما سبق يتضح أن المنظمة كانت في حالة معاناة مالية دائمة، كما أنها تباطأت قليلا في اتخاذ بعض الإجراءات ومن أبرزها الحصول على معلومات بشأن الفيروس.

ثالثا- تمويل المنظمة وأزمة تهديدات ترامب

تعد الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر مساهم في تمويل المنظمة حيث بلغ مقدار تمويلها للمنظمة في مارس 2020 ما يقدر ب 115 مليون دولار أمريكي، بينما بلغ نصيب الصين من التمويل 57 مليون دولار فقط، وتليها اليابان بمقدار 41 مليون دولار أمريكي، ثم ألمانيا 29 مليون دولار[20].

تبادرت الاتهامات إلى منظمة الصحة العالمية بشأن إدارتها لأزمة انتشار الجائحة، وقد عبر عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي لم يكتف بذلك بل أصدر اتهامات إلى الصين يدينها فيما يتعلق بانتشار الوباء، ولاحقا دعا الاتحاد الأوروبي إلى “تقييم محايد ومستقل وشامل” للتعامل ما الوباء بالنظر إلى تداعياته الإنسانية من حيث إصابة 4.8 ملايين شخص ووفاة ما يربو على 318 ألف شخص[21].

وقد سبقت دعوة الاتحاد الأوروبي مطالبة عدة دول أوروبية؛ وعلى رأسها  ألمانيا وبريطانيا وكذلك أستراليا من الصين دفع تعويضات لها نظير إدارتها السيئة للفيروس مما فاقم من تبعاته[22].

ولعل مما شكل خطرا على المنظمة آنذاك هو مقارنة ترامب في تصريحاته بين حجم التمويل الأمريكي للمنظمة مقابل التمويل الصيني واستنكاره ما اعتبره “تسييس” المنظمة لصالح الصين وتقديمها على المصالح الأمريكية، مما دفعه للإعلان عن قطع المعونات الأمريكية للمنظمة كليا[23].

وفقا لما سبق فإن تهديد الولايات المتحدة بقطع معونتها يعد خطرا كبيرا على المنظمة؛ إذ إن إسهامها خلال العامين الماضيين (2018م-2019م) بلغت حوالي 893 مليون دولار أمريكي أي ما يزيد عن 14% تقريبا من إجمالي ميزانية المنظمة[24].

وقد هدد الرئيس الأمريكي ترامب بقطع المعونات عن المنظمة إن لم تعدل عن نمط تعاملها الحالي مع الأزمة؛ وذلك لسببين في رأيه: أولهما- أن المنظمة كانت لطيفة للغاية في تعاملها مع الصين، وثانيهما- أنها تقاعست عن مواجهة الفيروس مما ساهم في تحوله إلى جائحة، وإن كانت الولايات المتحدة قد خففت حدة لهجتها لاحقا، ولعل ذلك يعود لعدة أسباب؛ منها: أن الدول الأعضاء في المنظمة لم تكمل سداد رسومها في عام 2020م وهذه ليست المرة الأخرى؛ إذ إن الرسوم التي كان يفترض دفعها في يناير هذا العام ظلت ثلاثة أشهر لم تدفع، بل إن الولايات المتحدة أحيانا تؤجل دفع الرسوم للعام اللاحق، بينما هناك دول أخرى دفعت نصف الرسوم فقط مثل ألمانيا[25].

وعلى الرغم من أهمية البعد الاقتصادي فإن المنظمة لا تزال تراعي البعد السياسي لا سيما ما يتعلق بتوجيه الاتهامات للصين بشأن انتشار الفيروس، وهو جانب شديد الحساسية من قبل الصين، ولعل هذا الحرص قد أثمر تعاون الجانب الصيني مع المنظمة وتزويدها بالمعلومات حول الفيروس والسماح لفريق خبرائها أن يطأ أراضيها في منتصف فبراير 2020م، بينما رفض استقبال الوفد الذي أرسلته الولايات المتحدة الأمريكية[26].

لا يقتصر مراعاة المنظمة للأبعاد غير الاقتصادية على الدول العظمى فقط بل تدعم دولا صغيرة كذلك؛ ومنها البوسنة والهرسك التي دعمها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كي لا تغلق شركاتها أبوابها، إضافة إلى أفغانستان ذات السلام الهش والتي يؤثر البعد الاقتصادي فيها على الحماية الاجتماعية للفقراء والضعفاء[27].

خاتمة:

بالنظر إلى ما سبق عرضه، وإذا كنا نحاول تبين تعامل منظمة الصحة العالمية مع الجائحة وإدارتها للأزمة، فإن إدارة الأزمة بالأساس تكمن في التعامل مع ظرف جديد صعب لم يكن قائما من قبل، وتوكل هذه الإدارة إلى أفراد أو مجموعات وتتم في سياق يحدد لها الفرص والقيود.

وقد اتهمت المنظمة بشبهات فساد في تعاملها مع الأزمة، حيث اتهمت الإدارة وعلى رأسها رئيس المنظمة تيدروس، والذي اتهم بالتستر على أزمة فيروس كورونا المستجد 2020م وزادت الشكوك بالنظر إلى مواقفه في حوادث شبيهة سابقا، فعلى سبيل المثال أوردت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا يتهم تيدروس بالتستر سابقا على وباء الكوليرا في بلده الأم إثيوبيا ثلاث مرات، في أعوام 2006م و2009م و2011م، حين كان وزيرا للصحة في حكومة قمعية ديكتاتورية، وتساءلت عما إذا كان قد تستر على الصين في هذه الجائحة أيضا[28].

وأكد المتهِمون للمنظمة أن هذه ليست المرة الأولى التي تنصاع فيها المنظمة لاعتبارات أخرى مقدمة على الصحة العامة بل سبقتها حوادث أخرى منها إنتاج شركة نستلة NESTLE لحليب الأطفال الضار صحيا وتوجيهه إلى أسواق الدول الفقيرة، استجابت المنظمة حينها للضغوط الأمريكية، كذلك موقفها من إنفلوانزا الطيور والخنازير[29]، وهو ما يعزز الشكوك القائمة ضد المنظمة.

وأما عن السياق الذي أحاط بالمنظمة، فلعل من أبرز المعوقات التي أحاطت بالمنظمة كان البعد الاقتصادي المتعلق بالتمويل والبعد الآخر المتعلق بشفافية تبادل المعلومات حول الجائحة، فأما عن البعد الاقتصادي فالمنظمة ليست مستقلة في تمويلها ويؤثر ذلك على عدم استقلال أجندتها وسياساتها وخضوعها أحيانا لإملاءات الممولين وذلك معلوم بالضرورة منذ تأسيسها على أنقاض عصبة الأمم في خضم تأسيس النظام العالمي الحديث؛ ومن ثم فإن استيعاب هذه النقطة يجعلنا نقيم دور المنظمة في حدود قدراتها ولا نحملها فوق ما تحتمل.

وأما البعد الآخر فيتعلق بعدم شفافية تبادل المعلومات؛ إذ تباطأت المنظمة في الضغط على الصين للحصول على المعلومات، كما أن المعلومات المتاحة معظمها يتعلق بالإرشادات والحالات السريرية، بينما أصل الفيروس وتطوراته وتاريخه وغيرها من المعلومات الهامة لا تزال طي الكتمان، ويعد غياب الشفافية من أبرز عوامل تفاقم الأمور.

كما أكدت الجائحة على ظروف التمايز وعدم العدالة عالميا؛ إذ بادرت حكومات الدول الكبرى بحماية مواطنيها واتخاذ التدابير الاحترازية، بينما أهملت حكومات دول أخرى من دول العالم الثالث مواطنيها، كما اتضحت عدم العدالة أيضا في تعامل المنظمة التي لم تستجب للضغوط الدولية لتقييم أدائها إلا مع المطالبة بذلك من قبل الدول الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي زمام هذا الأمر.

*****

هوامش 

[1] لورا جونز، ديفيد برون، دانيال بالميو، فيروس كورونا: دليل تداعيات الوباء على الاقتصاد العالمي، BBCNews، نشر بتاريخ 1إبريل 2020م، تم الاطلاع عليه بتاريخ 15 يوليو 2020م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/m2Gsk

[2] هاني عبداللطيف، آثار كورونا الاقتصادية: خسائر فادحة ومكاسب ضئيلة ومؤقتة، الجزيرة نت، نشر بتاريخ 24 مارس 2020م، تم الاطلاع عليه بتاريخ 15 يوليو 2020م ، متاح عبر الرابط  التالي: https://cutt.us/WwY9e

[3] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، جائحة كوفيد 19،  متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/VIlAn

[4] هاني عبد اللطيف، مرجع سابق

[5] عاصم أبو حطب، جائحة كورونا.. الآثار الاقتصادية وتداعيات الأمن الغذائي، الشروق، نشر بتاريخ 19 مايو 2020م، تم الاطلاع عليه بتاريخ 15 يوليو 2020م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ma07v

[6] لويس إيفيرس، الآثار الصحية العالمية لفيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، المستشفى العام بماسوشيتش، نشر بتاريخ 20 إبريل 2020م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/5kD9q

[7] ماورو تيستافيردي، الحماية الاجتماعية للمهاجرين أثناء جائحة فيروس كورونا: الخيار الصحيح والذكي، أصوات، نشر بتاريخ 28 إبريل 2020م، تم الاطلاع عليه بتاريخ 21 يوليو 2020م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/MgmXK

[8] فيليبا روكسبي، فيروس كورونا: علماء يحذرون من آثار الوباء على الصحة النفسية، BBC، نشر بتاريخ 16 إبريل 2020م، تم الاطلاع عليه بتاريخ 15 يوليو 2020م، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/hJ326

 [9]The long term health effects of Covid 19, Gavi, published at 19 June 2020, accessed at 15 July 2020, available at: https://cutt.us/J1jsX

[10] أية سمير، أهم 7 تصريحات للأمين العام للأمم المتحدة عن أزمة كورونا، أخبار اليوم، نشر بتاريخ 10 يونيو 2020م، تم الاطلاع عليه بتاريخ 5 أغسطس 2020م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/qH4DF

[11] المرجع السابق.

[12] يورونيوز، غوتيريش يحذر من أزمة غذائية عالمية بسبب كورونا، Euronews، نشر بتاريخ 9 يونيو 2020م، متاح عبر الرابط  التالي: https://cutt.us/6rSB8

[13] ريهام عبدالله، أنطونيو جوتيريش يدعو قادة العالم لتوفير حماية أكبر للأطفال المتأثرين بكورونا، اليوم السابع، نشر بتاريخ 17 إبريل 2020م ، متاح عبر الرابط التالي:   https://cutt.us/UOumc

[14] الأمم المتحدة تتوقع “تأثيرا مدمرا” لفيروس كورونا في سوريا،  Sky News عربية،  نشر بتاريخ 31مارس 2020م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/WwGEQ

[15] الأمم المتحدة تحذر من كارثة تمتد لأجيال،  Sputnik News، نشر بتاريخ 4 أغسطس 2020م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/XSnoA

[16] التسلسل الزمني لاستجابة منظمة الصحة العالمية لجائحة كوفيد-19، منظمة الصحة العالمية، 30 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Dv5IZ

[17] منظمة الصحة العالمية تعقد دورتها الـ73 لتقييم الأداء في مواجهة كورونا، الميادين نت، 18 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/OOi0g

[18] لجنة لتقييم أداء المنظمة الصحة العالمية خلال أزمة كورونا، موقع 218 TV، نشر بتاريخ 10 يوليو 2020م، تم الاطلاع عليه في 17 يوليو 2020م،  متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/NwEJU

[19] التسلسل الزمني لاستجابة منظمة الصحة العالمية لجائحة كوفيد-19، مرجع سبق ذكره.

[20] Niall McCarthy, The Biggest Financial Contributors To The WHO, Statista,  8 Jul, 2020, available at: https://cutt.us/WoD0b

[21] كورونا.. العالم يحقق بأداء منظمة الصحة وإندونيسيا تخاطب السعودية بشأن الحج وخمس دول أوروبية قد تفتح الحدود، الجزيرة نت،  نشر بتاريخ 19 مايو 2020م، تم الاطلاع عليه بتاريخ 17 يوليو 2020م، متاح على الرابط  shorturl.at/bgvD4

[22] إسماعيل عرفة، سجل غير نظيف.. هل توغل الفساد في منظمة الصحة العالمية؟، ميدان، نشر بتاريخ 9 يوليو 2020م، تم الاطلاع عليه بتاريخ 17 يوليو 2020م، متاح على الرابط shorturl.at/cAGZ0

[23] المرجع سابق

 [24]Facing Covid-19: The World Health Organization in crisis mode, DW,  available at:   shorturl.at/cAGZ0

[25] المرجع السابق

[26] Facing COVID-19, World Health Organization in crisis mode, DW,  18 may 2020, available at:   https://cutt.us/AURTm

[27] COVID-19 pandemic Humanity needs leadership and solidarity to defeat the coronavirus, UN, available at: https://cutt.us/0cDAJ

[28] إسماعيل عرفة، مرجع سابق

[29] Facing Covid-19: The World Health Organization in crisis mode, Op.Cit.

  • نشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن عشر – يوليو 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى