مصر والمشروع الصهيوني 1947 – 2019


مقدمة
في إطار الحوارات التي تمَّت للتحضير للذكرى المئوية لثورة 1919 والبحث في التطورات التي لحقت بمصر على امتداد قرن من الزمان (1919 – 2019)، تمَّ استعراض مختلف الرؤى والآراء في تقييم 23 يوليو 1952 وما بعدها، والتي يذهب بعضها إلى أن النظام الحاكم في مصر منذ 1952 وحتى اليوم هو نظام سياسي واحد بمواصفات وخصائص واحدة، محورها هو الاستبداد السياسي والحكم العسكري والاستئثار بالسلطة. بينما تذهب آراء أخرى، وهو الرأي الذى أتبنَّاه، إلى أنه على الرغم من تماثُل الاستبداد السياسي على امتداد السبعة عقود الماضية من عبد الناصر إلى السيسي، إلا أن هناك فرقًا جوهريًّا بين المرحلة الوطنية في ثورة يوليو (1952 – 1973) وبين مرحلة التبعية للولايات المتحدة والصلح مع العدو الصهيوني (1974 – 2019)، وأنه لا يصحُّ من الناحيتين الوطنية والموضوعية المساواة بينهما.
وعليه اقترح المشرفون الكرام على فصلية “قضايا ونظرات” أن أقوم بالكتابة في هذا الموضوع لشرح هذه النقطة وتوضيح وجهة نظري فيها. ومن هنا جاءت الدراسة المختصرة التي بين أيديكم الآن.
نتناول في هذه الدراسة التغيرات والمنعطفات والارتدادات التي طرأت على مواقف مصر الرسمية من الصراع العربى الصهيونى خلال الفترة منذ قرار التقسيم في 1947 حتى اليوم، وملخَّصها أن مصر تبنَّتْ وانطلقتْ من الثوابت الوطنية الفلسطينية والعربية الرافضة للاعتراف بإسرائيل أو الصلح معها منذ عام 1948 إلى ما بعد حرب 1973، وبالتحديد منذ 1974 حين حدث انقلاب كامل في الموقف المصرى على المستوييْن المبدئي والإستراتيجي: فعلى المستوى المبدئى نجح العَدوَّان الأمريكي والصهيوني في تحقيق نصر مبدئي (عقائدي) تمثَّل في انتزاع اعتراف مصري رسمي بمشروعية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين ومن ثم الاعتراف بشرعية دولة إسرائيل.
وعلى المستوى الإستراتيجى نجحا في تحقيق نصرٍ استراتيجي تمثَّل في خلع مصر من الصراع لتنفردا بمواجهة وتصفية باقي أطراف المقاومة العربية وعلى رأسها المقاومة الفلسطينية.
وقد قمنا بتناول هذا الموضوع عبر المحاور الآتية: المحور الأول- أهداف هذه الدراسة ورسائلها. المحور الثاني- لماذا تمَّ البدء بمصر والتركيز عليها؟ المحور الثالث- قراءة سريعة لموقف مصر الرسمية في الفترة من 1947 وحتى 1973. المحور الرابع- صفقة إخراج مصر وكيفية تنفيذها.المحور الخامس- النتائج. وسيتم تفصيل هذه المحاور على النحو التالي:
المحور الأول- لماذا هذه الدراسة؟
تعدُّ هذه الدراسة دعوة إلى تصحيح الرواية السائدة والمتداولة والمعتمدة التي يتمُّ الترويج لها داخل “قطاعات” واسعة من التيار الإسلامي، من طمس أي دور وطنيٍّ لمصر في الفترة ما بين 1952 إلى 1973، واختزال التجربة في عنصر واحد فقط هو العصف بالحياة الديمقراطية وعلى الأخصِّ بالإخوان المسلمين، لأنها رواية تجافي الوقائع التاريخية الثابتة وتفتقد للمصداقية، وهي في حقيقتها أقرب إلى المكايدات السياسية منها إلى الدراسات التاريخية الموضوعية الرصينة.
وذلك مع التأكيد بطبيعة الحال على الأهمية القصوى لقضايا الحريات والديمقراطية، وإلى النتائج المدمِّرة التي ترتَّبت على غيابها والعصف بها.
هذا بالإضافة إلى أن هناك تيارًا معارضًا أصيلًا وعريضًا في مصر والأمة العربية، ينتمي إلى هذه التجربة الوطنية ويرفع راياتها ويتبنَّى مبادئها التي ينطلق منها ليخوض جنبًا إلى جنب مع كافَّة تيارات الأمة وفي القلب منها التيار الإسلامي، ذات المعارك اليومية في مواجهة منظومة التبعية والصهيونية والتطبيع والاستبداد والاستغلال والفساد والإفقار والتخلُّف، ممَّا يفرض على الجميع، من باب الشراكة الوطنية والتقدير والاحترام المتبادل، تقديم قراءة صادقة وعادلة وموضوعية لتجربته التاريخية، مع أهمية أن نضع نصب أعيننا دائمًا السؤال التالي: لماذا بعد كل هذه العقود والسنين، لا تزال هناك قطاعات واسعة من النخب والجماهير العربية تدافع عن هذه التجربة وتتبنَّى أيديولوجيَّتها، وتستشهد بها في مواجهة الأنظمة العربية التابعة والمطبِّعة، خاصة من مواطني الأقطار العربية الشقيقة التي لم تحكمْها سلطة يوليو 1952؟
كما أن في تشويه التجربة واختزالها في قضية واحدة وإنكار وجهها الوطني، حرمان مفكِّري وقيادات وقواعد التيار الإسلامي أنفسهم من الدروس الهامة المستفادة من التحديات والتهديدات والمخاطر والمعارك والانتصارات والهزائم وأسباب النجاح أو الفشل التي شهدتها مصر 1952 – 1973 على كافَّة المستويات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية، وهي دروس بالغة الثراء والأهمية، لا يمكن لأي تيار فكري أو سياسي في مصر أو فلسطين أو في أي قطر عربي الاستغناء عنها. ومن هذا المنطلق دائمًا ما كنت أدعو الإخوة والأصدقاء في فصائل المقاومة الإسلامية إلى تأمُّل ودراسة تجربة منظمة التحرير الفلسطينية 1964 – 1987، بدلًا من الاستغراق في إدانتها والهجوم عليها، للتعرُّف على كيفية سقوطها وتحوُّلها 180 درجة من المقاومة إلى الاعتراف بإسرائيل والتنسيق معها أمنيًّا، تحت الضغوط الدولية والعربية، هادفًا من ذلك أن يتجنَّب هذا الجيل من المقاومة ذات المصير، خاصة وهم يعيشون منذ سنوات طويلة تحت ذات الضغوط التي تعرَّضت لها منظمة التحرير الفلسطينيَّة التي أدَّتْ إلى كسر إرادتها وإخضاع قيادتها.
وبذات المنطق يتوجَّب على أي سياسي وطني مهموم بمستقبل مصر وأيًّا كانت مرجعيَّته الفكرية، أن يدرس كيف تمكَّنت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من انتزاع مصر من ريادة العالم العربي ودعم المقاومة الفلسطينية وثورات التحرُّر العربية وقيادة الصراع العربي الصهيوني، وتحويلها إلى مجرَّد نظام تابع ضعيف غارق في الديون صديق وحليف لإسرائيل، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وأخيرًا -وهو الأهم على الإطلاق- فإنه يجب على كل المهمومين بقضية التغيير في مصر، لكي ينجحوا في مسعاهم، أن يتعرَّفوا على قصة مصر الحقيقية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. والتي يأتي على رأس عناصرها قضية الاستقلال والتحرُّر الوطني ومواجهة المشروع الصهيوني وتحرير الاقتصاد المصري من سيطرة الرأسمالية العالمية ومؤسَّساتها الدولية ووكلائها من الرأسمالية المحلية، وهي المعرفة التي كانت غائبة ومفتقدة بشدَّة في برامج كل القوى الرئيسية المشاركة في ثورة يناير، ممَّا كان له دور كبير في هزيمة الثورة وإجهاضها والعصف بثوَّارها. فلقد اكتفينا جميعًا بمطالب الحريات والديمقراطية وببرنامج الإصلاح السياسي والدستوري (البنية الفوقية للنظام، إذا ما استعرنا المصطلحات الماركسية)، وتجاهلنا قضايا التبعية وكامب ديفيد والنهب الاقتصادي الغربي واستئثار الطبقة الرأسمالية المصرية بمقدَّرات البلاد (البنية التحتية)، بل حرصنا على طمأنة كل هؤلاء، لنكتشف بعد فوات الأوان، كيف كانوا جميعًا هم أركان الثورة المضادة الذين يتربَّصون ويخطِّطون منذ اللحظات الأولى للانقضاض على الثورة.
المحور الثانى- لماذا كانت مصر في صدارة الدول المستهدفة غربيًّا وأمريكيًّا وإسرائيليًّا؟
لقد ثبت تاريخيًّا أن النجاح في تحقيق أي مشروعات استعمارية في الأمة العربية يجب أن يبدأ أولًا بإخضاع مصر وعزلها عن محيطها العربي وإليكم بعض الأمثلة:
- كانت تجربة مصر 1952 – 1973 والتى سنتعرَّض لها لاحقًا بشيء من التفصيل في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني أكبر دليل على هذا المعنى، فصمودها بعد عدواني 1956 و1967 أدَّى إلى صمود الموقف العربي بشكل عام، والموقف الفلسطيني على وجه الخصوص، ورغم التفوُّق العسكري والانحياز الغربي والدعم الأمريكي لإسرائيل، ظلَّ المشروع الصهيوني معزولًا وفاقدًا للشرعية ومحاصرًا على المستوى الدولي.
- وقبل ذلك بأكثر من قرن رفضت القوى الاستعمارية بقيادة بريطانيا وفرنسا السماح لمحمد علي باشا أن يستمرَّ في محاولة بناء دولة عربية كبرى تخلف وترث الدولة العثمانية، وقيَّدوه بمعاهدة لندن عام 1840 (كامب ديفيد الأولى) التي بموجبها أعطوه الحق في أن يحكم مصر هو وأولاده من بعده ولكن مع منع تام لأيِّ توجُّهات له خارجها في محيطها العربي، فيما عدا السودان التي قامت بريطانيا بانتزاعها من السيادة المصرية فيما بعد.
- وخلال الحقبة الاستعمارية الواقعة بين تجربتي محمد على وعبد الناصر، نجحت الدول الاستعمارية في إلحاق أكبر أضرار تاريخية بالمنطقة لا نزال نعاني منها حتى الآن من خلال مخططي التجزئة وزرع (إسرائيل) في ظلِّ انشغال مصر وباقي الأقطار العربية بالكفاح من أجل نيْل استقلالها الوطني القُطري، وغياب أيِّ مشروع قومي.
- وقبل تجربة محمد علي مباشرة وفي عام 1798 كان لاختيار نابليون بونابرت لمصر كمدخل إلى حملته على الشرق -في إطار صراعه مع بريطانيا- نفس الدلالة على ما نقوله.
والحقيقة أن الوعي الاستعماري بأهمية مصر وضرورة عزلها عربيًّا يعود إلى خبرات قديمة متراكمة منذ الحروب الصليبية الأولى، وقد يكون شيئًا من التذكرة مفيد:
- في عام 1187 نجح صلاح الدين الأيوبي بعد أن وحَّد مصر وسوريا وشمال العراق في أن يحرِّر القدس وعكا ويافا وصيدا وبيروت وعسقلان.
- وبين أعوام 1217 و1221 فشلت الحملة الصليبية الخامسة في احتلال مصر.
- ثم في عام 1244 نجح الصالح أيوب “حاكم مصر” وبجيش عربي في تحرير القدس مرة أخرى بعد أن كان قد أُعيد احتلالها في عهد السلطان الكامل عام 1228.
- وفي عام 1249 فشلت الحملة الصليبية الأخيرة بقيادة لويس التاسع في احتلال مصر وتمَّ أسْر الملك الفرنسي.
- ثم نجح قطز “حاكم مصر” وبجيش عربي عام 1261 في هزيمة التتار في معركة عين جالوت بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية عام 1258.
- ثم في عام 1286 حرَّرَ السلطان بيبرس “حاكم مصر” أنطاكية والكرك وقيسارية وأرسوف ويافا.
- عزَّزَ السلطان قلاوون “حاكم مصر” هذا التوسُّع في عام 1289 حين استولى على إمارة طرابلس واللاذقية.
- وفي عام 1291 حرَّرَ السلطان الأشرف خليل بن قلاوون “حاكم مصر” صور وحيفا وبيروت وعكا لتتحرَّر بذلك آخر إمارة صليبية.
تدلُّ هذه الأحداث التاريخية التي عرضنا لبعضها فيما سبق على أهمية الدور العربي لمصر عبر العصور، وإدراك العقلية الاستعمارية الغربية لهذا الدور، وكيف استمرَّ هذا الإدراك في العصر الحديث وكان أساسًا للمشروع الأمريكى الصهيوني الأخير الهادف لانتزاع مصر من محيطها العربي.
المحور الثالث- موقف مصر من الصراع العربي الصهيوني في الفترة من 1947 إلى 1973
تأتي أهمية التعرُّف على مواقف مصر الرسمية خلال هذه الفترة من مقارنتها بما تلاها بعد حرب أكتوبر، في الكشف عن أن الصفقة التي عقدها السادات مع أمريكا و(إسرائيل) في اتفاقيات كامب ديفيد واستمرَّ عليها نظامي مبارك والسيسي، سبق أن رفضتْها مصر على امتداد ما يقرب من ربع قرن في ظلِّ ظروف دولية مشابهة بعد 1952 وحتى في ظلِّ ظروفٍ دولية أسوأ قبل 1952. بل في ظلِّ هزيمتي 1948 و1967، وفيما يلي استعراض لأهمِّ ملامح هذه المرحلة:
- رفض قرار التقسيم:
برغم هزيمة مصر وباقي الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948 وبرغم تبعيَّتها لإنجلترا، إلا أن الموقف الرسمي لمصر كان هو الموقف العربي المبدئي من قضية فلسطين وهو رفض الاعتراف بمشروعية الاغتصاب الصهيوني ورفض قرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة عام 1947 المشهور بالقرار 181، والمشاركة مع باقي الأقطار العربية في حرب 1948 ضدَّ الميليشيات الصهيونية، والتمسُّك بموقفها المبدئي حتى بعد الهزيمة.
- إجماع عربي على رفض الصلح المنفرد مع إسرائيل:
أصدر مجلس جامعة الدول العربية في 1/4/1950 قرارًا ضدَّ عقد صلح منفرد مع (إسرائيل) هذا ما جاء في مادته الأولى:
“لا يجوز لأية دولة من دول الجامعة العربية أن تتفاوض في عقد صلح منفرد أو أي اتفاق سياسي أو عسكري أو اقتصادي مع إسرائيل أو أن تعقد فعلا مثل هذا الصلح أو الاتفاق. وأن الدولة التي تقدم على ذلك تعتبر على الفور منفصلة عن الجامعة العربية طبقًا للمادَّة 18 من ميثاقها”.
- العدوان على غزة:
في فبراير 1955 شنَّت إسرائيل عدوانًا على غزة، فطلبتْ مصر سلاحًا من الولايات المتحدة التي اشترطت أن يتمَّ الدفع نقدًا ومقدَّمًا، فردَّت مصر في 27/9/1955 بعقد صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا.
- السد العالي وتأميم قناة السويس وحرب السويس:
1- أعلنت الخارجية الأمريكية في 17/12/1955 أن بريطانيا وأمريكا ستمدَّان مصر بسبعين مليون دولار كمرحلة أولى لبدء العمل في السد العالي. وأعلن البنك الدولي بعدها أنه سيعطي مصر قرضًا قيمته 200 مليون دولار للسبب نفسه.
2- لكن في 19/7/1956 سحبت أمريكا عرضها وتلتْها بريطانيا.
3- ثم سحب البنك الدولي عرضه في 23/7/1956.
4- فردَّتْ مصر بتأميم قناة السويس في 26/7/1956.
5- فصدر بيان ثلاثي (أمريكي بريطاني فرنسي) يدين التأميم في 23/8/1956.
6- أعقبه في 29/10/1956 بداية العدوان الإسرائيلي على سيناء.
7- ثم نزلت القوات البريطانية والفرنسية بورسعيد في 5/11/1956.
8- في 7/11/1956 انسحبت جيوش إنجلترا وفرنسا من مصر بعد ضغط دولي من أمريكا والاتحاد السوفيتي.
9- وأخيرًا في مارس 1957 انسحبتْ (إسرائيل) بعد ارتكابها جرائم القتل والتدمير والتخريب.
- مصر ضدَّ (إسرائيل) وضدَّ حلف بغداد:
في مواجهة مشروع حلف بغداد وفي 9 سبتمبر 1957 أوضح الرئيس جمال عبد الناصر موقف مصر من سياسة الأحلاف قائلا: “كان الإجماع العربي أن إسرائيل هي الخطر الحقيقي على الدول العربية. وحاولت أمريكا بشتَّى الوسائل أن تجرَّ العرب إلى صلح إسرائيل. فلما فشلت هذه الوسائل جاء دور الوسائل الجديدة: خلق أخطار أخرى، حتى ولو كانت أخطارًا صناعية، حتى يتفتَّت الإجماع العربي. بدأت نغمة الخطر الشيوعي… تخويف الملوك والرؤساء من الخطر الشيوعي، تخويف الملوك والرؤساء من أن هذا الخطر محدق قريب. تخويف الملوك والرؤساء من أن هذا الخطر أنشب مخالبه بالفعل في بلد من بلادهم وأوشك أن ينقضَّ منها على غيرها ما لم يتصدُّوا له… ولقد اختبرت السياسة الأمريكية خلال خمس سنوات طويلة، والنتيجة التي وصلت إليها أن هذه السياسة تجاه العرب تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف:
- تصفية مشكلة إسرائيل على أساس الأمر الواقع.
- فرض تنظيم دفاعي يخدم المصالح الأمريكية وحدها.
- الانحياز إلى السياسة الأمريكية في جميع المشكلات الدولية بحيث تتحوَّل الدول العربية بالفعل إلى منطقة نفوذ لأمريكا”.
- مصر ضدَّ (إسرائيل) وضدَّ مبدأ أيزنهاور:
وفي معرض تحديد موقف مصر من مبدأ أيزنهاور الصادر في 5/1/1957 قال الرئيس عبد الناصر في نفس حديثه السابق الإشارة إليه والذي أدلى به لجريدة الأهرام يوم 9/9/1957 “ثم كانت آخر الوسائل هي الخطة الأمريكية الجديدة التي بدأت بمشروع أيزنهاور… ما هو مشروع أيزنهاور في صلبه وصميمه؟ إنه محاولة جديدة لتحقيق نفس الأهداف الثلاثة للسياسة الأمريكية في الشرق الاوسط، أما فيما يتعلَّق بإسرائيل فإن الخطوات التي تمَّت لتطبيق هذا المشروع حاولت أن تحقِّق ما يلي:
- تحويل الأنظار عن إسرائيل.
- خلق أخطار وهمية من بعض العرب على البعض الآخر.
- إعطاء سلاح لا يخيف إسرائيل إلى بعض الدول العربية.
4- ربط بعض الدول العربية في نطاق واحد مع إسرائيل. نطاق تقوم به أمريكا بدور التوفيق والتنسيق في جميع نواحي العسكرية. ذلك أن إسرائيل لم تعدْ في الحقيقة عدوًّا لهذا البعض من الدول العربية، بل أصبحت زميلًا لها في حلف. وما مشروع أيزنهاور في صميمه إلا حلف عسكري. ذلك لأنه يشمل النواحي العسكرية. فهو إذن بديل لمشروع الدفاع عن الشرق الأوسط الذى رُفض عام 1951 وهو أيضًا تكملة لحلف بغداد يقصد منها أن تبعث فيه الحياة”.
- رفض الاستسلام بعد عدوان 1967:
خطَّطَتْ إسرائيل للحرب منذ أمدٍ بعيد بناءً على دوافعها التوسُّعية، وأعدَّتْ القوى اللازمة وانتظرت الوضع الملاءم لتحديد ساعة الصفر الأفضل لشنِّ الحرب، ثم أعلن رئيس وزراء إسرائيل في شهر مايو 1967 بأن “أمن إسرائيل يعتمد في حمايته على وجود الأسطول السادس في البحر الأبيض”؛ وبناء على ذلك رفضت مصر طلب أمريكا للإذن لبعض قطع الأسطول الأمريكى السادس بزيارة مواني الجمهورية العربية المتحدة في 12/5/1967.
ثم في 16/5/1967 حشدت مصر قوَّاتها في سيناء لتخفيف ضغط الحشود الإسرائيلية على الجبهة السورية. وفي 17/5/1967 طلبت مصر من السكرتير العام للأمم المتحدة سحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء؛ فاستجابت الأمم المتحدة للطلب المصري في 18/5/1967. ثم أغلقت مصر خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية في 22/5/1967.
وفي 27/5/1967 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة يو ثانت في تقريره إلى مجلس الأمن تأكيدات مصر أنها لن تكون البادئة بأي عمل هجومي. وفي 28/5/1967 عقد عبد الناصر مؤتمرًا صحفيًّا صرحَّ فيه بأن إغلاق المضايق يعتبر تصحيحًا للأوضاع التي نجمت عن حرب 1956. وقال عبد الناصر في نفس المؤتمر: “طبعًا باين من الكلام أن العلاقات بيننا وبين أمريكا علاقات سيئة جدًّا.. مفيش اتصالات بيننا وبين الولايات المتحدة في الوقت الحالي، إحنا بنعتبر أمريكا متحيزة وواخدة جانب إسرائيل 100%، طبعًا هذا يؤثر على العلاقات بيننا وبين أمريكا.. مفيش مشكلة بيننا وبين أمريكا في الأمر القائم. المشكلة بيننا وبين إسرائيل. إيه اللى دخل أمريكا في الموضوع؟.. لأسباب طويلة نعرفها وللأصوات اليهودية في أمريكا وللأسباب التاريخية المعروفة تحيزت أمريكا تحيزًا كاملًا لإسرائيل، وتجاهلت تجاهلًا كاملًا حقوق العرب المشروعة. أمريكا كأكبر دولة.. كأقوى دولة.. كأغنى دولة.. يجب أن تكون عادلة في معاملتها للعالم حتى ينظر إليها العالم بثقة واحترام”.
وفي 4/6/1967 قال وزير العمل الإسرائيلي إيجال آلون في مؤتمر عام: “إن عبد الناصر أعلن الحرب علينا فعلًا ونحن اليوم نريد رفع الحصار”. ثم بدأ العدوان الإسرائيلي في اليوم التالي مباشرةً 5/6/1967 بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أوقع هزيمة فادحة بثلاث دول عربية هي: مصر وسوريا والأردن، وقام باحتلال سيناء والجولان وغزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وهي الهزيمة التي لا نزال نسدِّد أثمانها الفادحة حتى اليوم.
قرَّرتْ مصر في 6/6/1967 -من خلال بيان أذاعته وزارة الخارجية المصرية- قطع العلاقات مع الولايات المتحدة وقد نصَّ على ما يلى: “بعد أن أثبتت الحوادث والأدلة اشتراك حكومة الولايات المتحدة والحكومة البريطانية اشتراكًا فعليًّا في العمليات الجوية مساندة للعدو الإسرائيلي وتدعيمًا لأهدافه وذلك بنشر مظلَّة جويَّة واقية فوق أرض العدو، والاشتراك الفعلي في العمليات الجوية ضدَّ الأردن على نطاق واسع بواسطة حاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية في البحر الأبيض إلى جانب استعمال قواعد للبلدين قريبة من مناطق جبهات القتال ، فإن الجمهورية العربية المتحدة وبعد اتصال برؤساء الدول العربية، تعتبر أن الحكومة الأمريكية والحكومة البريطانية قد قامتا بعمل عدواني فعلي ضدَّ الأمة العربية كلها وضدَّ أمنها وسيادتها الإقليمية.
وبناء على ذلك فقد اتخذت الجمهورية العربية المتحدة قرارًا بقطع العلاقات السياسية بينها وبين حكومة الولايات المتحدة”.
في 9/6/1967، وفي مجال حديثه عن تعلُّم درس النكسة، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر أن هناك حقائق حيويَّة في هذا الصدد لا بد من بيانها:
1- “إن تدمير الإمبريالية في العالم العربي سوف يترك إسرائيل لقوتها بمفردها.
2- إن إعادة توجيه المصالح العربية في خدمة الحقوق العربية ضمان أساسي. فالأسطول الأمريكي كان يتحرَّك ببترول عربي. وهناك قواعد في أراض عربية وضعت في خدمة العدوان الإسرائيلي وبرغم إرادة الشعوب العربية”.
- مؤتمر الخرطوم “لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف”:
بعد نكسة 1967 ظلَّ الموقف المصري والعربي صامدًا، وصدر قرار الجامعة العربية المشهور من الخرطوم في 1/9/1967 وهذا نصُّه:
اتَّفق الملوك والرؤساء على توحيد جهودهم في العمل السياسي على الصعيد الدولي والدبلوماسي لإزالة آثار العدوان وتأمين انسحاب القوات الإسرائيلية المعتدية من الأراضي العربية المحتلَّة بعد عدوان 5 يونيو / حزيران / جوان، وذلك في نطاق المبادئ الأساسية التي تلتزم بها الدول العربية، وهي عدم الصلح مع إسرائيل أو الاعتراف بها وعدم التفاوض معها والتمسُّك بحق الشعب الفلسطيني في وطنه.
- قبول قرار مجلس الأمن رقم 242:
في 22/11/ 1967 صدر القرار 242 من مجلس الأمن، ونصُّه: “إن مجلس الأمن.. إذ يعبِّر عن قلقه المستمر للموقف الخطير في الشرق الأوسط؛ يؤكِّد عدم شرعية الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب، والحاجة إلى سلام عادل ودائم تستطيع أن تعيش فيه كل دولة في المنطقة، وإذ يؤكِّد أيضًا أن جميع الدول الأعضاء عندما قبلت ميثاق الأمم المتحدة التزمتْ بالتصرُّف وفقًا للمادة الثانية منه.
1- يعلن أن تطبيق مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط وهذا يقتضي تطبيق المبدأين التاليين:
أ) انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلَّتها (في النص الإنجليزي”من أراضٍ احتلَّتها”) في النزاع الأخير.
ب) أن تنهي كل دولة حالة الحرب، وأن تحترم وتقرَّ الاستقلال والسيادة الإقليمية والاستقلال السياسي لكلِّ دولة في المنطقة، وحقها في أن تعيش في سلام في نطاق حدود مأمونة ومعترف بها متحررة من أعمال القوة أو التهديد بها.
2- ويؤكِّد المجلس الحاجة إلى:
- ضمان حرية الملاحة في الممرات الدولية في المنطقة.
- تحقيق تسوية عاجلة لمشكلة اللاجئين.
- ضمان حدود كل دولة في المنطقة واستقلالها السياسي عن طريق إجراءات من بينها إنشاء مناطق منزوعة السلاح.
3- يطلب من السكرتير العام أن يعين ممثلاً خاصًا إلى الشرق الأوسط لإقامة اتصالات مع الدول المعنية بهدف المساعدة في الجهود للوصول إلى تسوية سلمية ومقبولة على أساس النصوص والمبادئ الواردة في هذا القرار.
4- يطلب من السكرتير العام أن يبلغ المجلس بمدى تقدم جهود المبعوث الخاص في أقرب وقت ممكن” (انتهى نص القرار).
كان قبول هذا القرار في تصوُّري أول بادرة مصرية وعربية تحمل شبهة التراجع عن الموقف العربي المبدئي من قضية فلسطين بما تضمَّنه القرار من حقِّ دول المنطقة بما فيها (إسرائيل) في العيش بسلام، ولكن السياق العام للموقف المصري الرسمي في اتجاه إعادة بناء القوات المسلحة تجهيزًا للحرب القادمة وإدارة حرب استنزاف ناجحة كان ينفي شبهة التراجع.
ولكن ممَّا لا شكَّ فيه أنه بعد وفاة عبد الناصر وبعد حرب 1973 كان القرار 242 هو الثغرة التي اخترقت منها أمريكا وإسرائيل والسادات وعددٌ من الأنظمة العربية صلابة الموقف العربي القديم وتمَّ تغيير الموقف الرسمي العربي 180 درجة.
- السادات ضد أمريكا و(إسرائيل):
اخترت هذا العنوان الفرعي في ختام تقييم المرحلة السابقة على حرب 1973 لنفي أي مجال للحديث عن حسن النوايا فيما سيُعقد لاحقًا من صفقات:
قال السادات في خطبته في أسيوط يوم 10يناير1971: “إن أمريكا تقف خلف إسرائيل بأن لا تجلو من أي شبر… الأمريكان هم الأعداء الأصليين وليس الإسرائيليين، لأن إسرائيل خط الدفاع الأول لمصالح أمريكا في المنطقة”. وقال فى11 من يناير 1971 في خطاب بالمدينة ذاتها: “أمريكا تعطي السلاح وتريد أن تذلَّ كرامتنا”.
ونقلت جريدة الأهرام يوم 2 أبريل 1972 قوله: “نحن نعرف أين تقف أمريكا وما هي سياستها وأهدافها، أمريكا تدعم إسرائيل لتحافظ على استغلالها لثروة العرب”. وقال في خطابه في الإسكندرية يوم 27 يوليو 1972: “إن موقف أمريكا هو عملية استدراج لكي نسلِّم، ولكن أمريكا بعساكرها ليست ربنا”.
وقال السادات أمام مجلس الشعب في 11/11/1971: “إن الأهداف الأمريكية في المنطقة هي:
1- إخراج الاتحاد السوفيتي من المنطقة.
2- عزل مصر عن الأمة العربية.
3- ضرب التجربة الاشتراكية في مصر.
المحور الرابع- الصفقة
- حرب أكتوبر 1973:
في 6و7و8 أكتوبر 1973 عبَرت القوات المسلحة المصرية قناة السويس ونجحت في تحرير شريط بعمق متوسِّط من 10 إلى 12 كم شرق القناة، محقِّقة هذا النجاح بواسطة 80 ألف مقاتل وبخسارة 280 شهيدًا فقط.
ثم أصدر السادات قرارًا بتطوير الهجوم في 11 أكتوبر لتخفيف الضغط على سوريا، وتم تنفيذ هذا القرار في 14 أكتوبر، وذلك بدفع الفرقتين المدرَّعتين 4 و21 الاحتياطيَّتين، فقام العدو باستغلال الوضع الجديد ونجح في خلق ثغرة بين الجيشين الثانى والثالث في 16 أكتوبر وعبر بقواه إلى الضفة الغربية للقناة وحاصر الجيش الثالث، وقد رفض الرئيس السادات تصفية الثغرة خوفًا من تهديد كيسنجر له طبقًا للتصريح الذي أعلنه لاحقا في 8/8/1975 لمجلة الحوادث اللبنانية، وفي 20 أكتوبر طلب السادات وقف إطلاق النار، ثم أصدر مجلس الأمن في 22 أكتوبر قرارًا بوقف إطلاق النار، ولم يلتزم العدو بالقرار وظلَّ يكسب أرضًا جديدة من 22 إلى 28 أكتوبر، حيث تمَّ الإيقاف الفعلي لإطلاق النار، ثم وقَّعتْ مصر مع إسرائيل في 18 يناير 1974 وتحت رعاية أمريكية الاتفاق الأول لفضِّ الاشتباك والذي بموجبه وافقَ السادات على الآتي:
1- سحب 70 ألف جندي مصري من شرق القناة وإبقاء 7000 جندي فقط.
2- سحب أكثر من 1000 دبابة من شرق القناة وإبقاء 30 دبابة فقط.
3- منع وجود أي صواريخ بعمق 30 كم غرب الخط المصري.
وقد سجل الجمسى اعتراضه ولكن تمَّ توقيع الاتفاق في النهاية.
وفي 1 سبتمبر 1975 وقَّعَ السادات اتفاق فض الاشتباك الثاني مع العدو الصهيوني، والذى كان أهم ما جاء فيه:
1- إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل وذلك باتفاق الطرفين على أن النزاع بينهما لا يتمُّ حلُّه بالقوة المسلحة طبقًا للمادَّتين الأولى والثانية من الاتفاق.
2- قبول مصر بدخول مراقبين أمريكيِّين مدنيِّين إلى سيناء لأول مرة لمراقبة تنفيذ الاتفاق، وهو ما أصبح مقدِّمة لما حدث فيما بعد في اتفاقية السلام، حيث أُسندت مهمة الإشراف على القوات المتعدِّدة الجنسية الموجودة في سيناء حتى تاريخه إلى الولايات المتحدة الأمريكية (خرج الصهاينة ودخل الأمريكان).
الانقلاب الكبير:
بعد حرب 1973 مباشرة انقلب موقف السادات 180 درجة، وقَبِل الصفقة المعروضة عليه من أمريكا و(إسرائيل) ومضمونها: “أن يتم انسحاب مصر من الصراع العربي-الصهيوني تمامًا، في مقابل إعادة سيناء إلى السيادة المدنية المصرية وبسيادة عسكرية منقوصة -كما سنرى- وفي مقابل أن تتعهَّد أمريكا بكفِّ يد (إسرائيل) عن مصر وفي مقابل أن تتولَّى أمريكا تعويض مصر اقتصاديًّا عن الأض رار التي قد تترتَّب من مقاطعة المحيط العربي”.
ولقد قَبِلَ السادات الصفقة، ونفَّذَ التزاماته فيها بحماس شديد وبإدراك وقبول كامليْن لحقيقة الدور المطلوب منه. لم يكن المطلوب منه مجرَّد قرار سياسي وإنما كان المطلوب تجريد مصر من المقدرة على العودة إلى قتال (إسرائيل) مرة أخرى، وإعادة صياغة الدولة المصرية والنظام والمجتمع بشكل يضمن تحقيق هذه النتيجة. وللأسف مرَّت الصفقة بنجاح كبير وتحقَّقت النتائج المرجوَّة منها.
ولقد عبَّر الرئيس السادات عن ذلك صراحة حين قال بعد المقابلة مع الرئيس الأمريكي جيمي كارتر: “سأوقِّع على أي شيء سيقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه” طبقًا لما جاء في كتاب محمد إبراهيم كامل “السلام الضائع”. إلا أننا لسنا في حاجة إلى مثل هذا التصريح الدالِّ من الرئيس السادات لكي نتعرَّف على حقيقة الصفقة التي تمَّتْ لإخراج مصر من الصراع، لأننا سنجد ذلك واضحًا وجليًّا في بنود معاهدة الصلح بين مصر و(إسرائيل) الموقَّعة في 26 مارس 1979، والتي تضمَّنت عددًا من القيود المحدَّدة المصاغة بذكاء شيطاني لمنع مصر بحكوماتها المتعاقبة من الخروج من الصفقة.. والعودة إلى حلبة الصراع.
أهم قيود المعاهدة:
1) القيد الأول- تمَّ وضعه لتجريد دولة مصر من المقدرة على تنفيذ التزاماتها كعضو في جامعة الدول العربية وكطرف في معاهدة الدفاع العربي المشترك.
أما عن المعاهدة العربية المذكورة فقد تمَّ توقيعها في يونيو 1950 وأصبحت نافذة في 22 أغسطس 1952، وقد تضمَّنت المبادئ والأحكام التالية:
“المادة الثانية: اعتبار كل اعتداء مسلَّح يقع على أية دولة أو أكثر منها، أو على قواتها، اعتداءً عليها جميعًا، ولذلك فإنها عملًا بحقِّ الدفاع الشرعي الفردي والجماعي على كيانها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المعتدَى عليها وبأن تتَّخذ على الفور، منفردة ومجتمعة، جميع التدابير، وتستخدم جميع ما لديها من وسائل، بما في ذلك استخدام القوة المسلَّحة لردع الاعتداء ولإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما.
المادة الثالثة: تتشاور الدول فيما بينها، بناءً على طلب إحداها، كلَّما هدِّدت سلامة أراضي أية واحدة منها أو استقلالها أو أمنها. وفي حالة خطر حرب داهم أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، تبادر الدول المتعاقدة على الفور إلى توحيد خططها ومساعيها في اتِّخاذ التدابير الوقائية والدفاعية التي يقتضيها الموقف”.
وفي مواجهة هذا الالتزام الصريح الواضح الذي نصَّت عليه معاهدة الدفاع العربي المشترك، نصَّت المعاهدة المصرية-الإسرائيلية في الفقرة الخامسة من المادة السادسة على ما يلي: مع مراعاة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة يقرُّ الطرفان بأنه في حالة وجود تناقض بين التزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأي من التزاماتها الأخرى، فإن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة هي التي تكون ملزمة ونافذة”.
إذن وبناءً على ما سبق تكون للمعاهدة الإسرائيلية-المصرية أولويَّة على معاهدة الدفاع العربي المشترك، وللأسف فإن القانون الدولي يدعم ذلك، فتنصُّ الفقرة 4 من المادة 40 من اتفاقية فيينا للمعاهدات على التالي:
“فيما بين الدولة الطرف في كلتا المعاهدتين والدولة الطرف في واحدة منها فقط تخضع حقوق الدولتين والتزاماتهما للمعاهدة التي تكونان معًا طرفين فيها”.
الخلاصة أنه تمَّ تجريد مصر من الحقِّ في ممارسة التزاماتها العربية تجاه أي عدوان إسرائيلي على أي بلد عربي وتمَّ في نفس الوقت تجريد الدول العربية هي الأخرى من إمكانيات وقدرات مصر الدولة.
وكان هذا هو القيد الأول على دور مصر العربي.
2) أما القيد الثاني- فلقد وضعه المفاوض الصهيوني خوفًا من أن تحاول مصر التحايل فيما بعد على المعاهدة الإسرائيلية-المصرية فتقوم بتوقيع معاهدات أخرى مع أيِّ طرف عربي كالفلسطينيِّين أو غيرهم، فنصَّت في المعاهدة على أن ما ورد فيها له هو الآخر الأولوية على أيِّ التزامات ناشئة عن أيِّ معاهدة سبق توقيعها مثل المعاهدة مع (إسرائيل). في مواجهة هذا الاحتمال ولمنع مصر من التحايل أوردت (إسرائيل) في الفقرة الرابعة من المادة السادسة من المعاهدة الإسرائيلية-المصرية ما يلى: “يتعهَّد الطرفان بعدم الدخول في أيِّ التزام يتعارض مع هذه المعاهدة”.
وبالتالي وبموجب هذا البند تمَّ تجريد مصر من الدخول مستقبلًا في أيِّ التزامات تتناقض مع طبيعة الصفقة التي تمَّت، وتخضع التزاماتها لمراقبة صارمة. ولذلك حين تدَّعي الحكومة الإسرائيلية أن مصر تقدِّم دعمًا لا توافق عليه (إسرائيل) للفلسطينيِّين، فإن جميع الأطراف يتعاملون مع مثل هذه الادِّعاءات بمنتهى الجدِّيَّة، فينفيها المصريون، ويؤكِّدها الإسرائيليُّون، ويقوم الأمريكيون بتحذير مصر وإنذارها من أن يكون هذا نهجها بالفعل.
لماذا؟
لأن هناك التزامات واضحة متَّفق عليها وموقَّع عليها من الطرفين، بموجبها لا يجوز لحكومة مصر فعلًا أن تقدِّم يدَ المساعدة والدعم للفلسطينيِّين أو أن تنحاز لها في صراعها مع دولة الاحتلال الإسرائيلية.
في نفس الاتجاه جاء نصُّ الفقرة الثانية من المادة الثالثة من الاتفاق الرئيسي للمعاهدة الإسرائيلية-المصرية إذ جاء فيها: “يتعهَّد كلُّ طرف بأن يكفل عدم صدور فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية وأفعال العنف أو التهديد بها من داخل أراضيه أو بواسطة قوات خاضعة لسيطرته أو مرابطة على أراضيه ضدَّ السكَّان أو المواطنين أو الممتلكات الخاصَّة بالطرف الآخر، كما يتعهَّد كل طرف بالامتناع عن التنظيم أو التحريض أو الإثارة أو المساعدة أو الاشتراك في فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية أو (النشاط الهدَّام) أو أفعال العنف الموجَّهة ضدَّ الطرف الآخر في (أي مكان)، كما يتعهَّد بأن يكفل تقديم مرتكبي مثل هذه الأفعال للمحاكمة.
وكذلك تنص الفقرة الثالثة من المادة الخامسة من الملحق الثالث على التالي: “يعمل الطرفان على تشجيع التفاهم المتبادل والتسامح ويمتنع كل طرف عن (الدعاية المعادية) تجاه الطرف الآخر”.
ليس ذلك فحسب، بل إن مصر ملزمة بتعريب السلام (التسوية)، وإن لم تفعل فإنها تكون قد أخلَّتْ بالتزاماتها الواردة في المعاهدة، فتنصُّ الفقرة الثانية من المادة الخامسة من الملحق الثالث على التالى: “يتعاون الطرفان في إنماء السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة، وتوافق كل منهما على النظر في المقترحات التي قد يرى الطرف الآخر التقدُّم بها تحقيقًا لهذا الغرض”.
كانت هذه بعض القيود الموضوعية التي تؤثِّر في مقدرة مصر الدولة على العودة إلى موقعها السابق في الصراع. ولكن ماذا لو أرادت الدولة المصرية التحرُّر من هذه القيود وقرَّرت ضرب عرض الحائط بالتزاماتها تجاه (إسرائيل) وَسَعَتْ إلى استعادة دورها الطبيعي في الصراع؟
لم يستبعد الصهاينة والأمريكان هذا الاحتمال، ولذلك وضعوا نوعين من التدابير الأمنية في المعاهدة الإسرائيلية-المصرية لتأمين الكيان الصهيوني ضدَّ مخاطر تراجع مصر مستقبلًا عن التزاماتها تجاه إسرائيل، نتناولهما فيما يلي:
3) القيد الثالث- هو التدابير الواردة في الملحق الأول من الاتفاقية (الملحق العسكري) والتي تتلخَّص في نزع سلاح ثلثي سيناء المجاورتين لفلسطين، إلا بإذن إسرائيل. مع تحديد وتحجيم سلاح الثلث الباقي المجاور لقناة السويس بفرقة مشاة ميكانيكي واحدة، وبما لايزيد عن 22 ألف جندي مصري، ووضع قوات متعدِّدة الجنسية خاضعة للإدارة الأمريكية، وليس للأمم المتَّحدة، للمراقبة والتفتيش.
وفي هذا الشأن فإنه تجدر بنا الإشارة إلى الملاحظات الآتية:
– بالمقارنة مع حرب 1973 فإن قواتنا المسلحة كانت قد عبرت القناة بعدد 5 فرق وعدد 5 ألوية مدرَّعة، وكان عددها شرق القناة في 22 أكتوبر 1973 -أيْ عند صدور قرار وقف إطلاق النار- كالآتي: 1000 دبابة و77000 جندي مصري شرق القناة (ذكرنا فيما سبق أنه بقي منها 30 دبابة و7000 جندي فقط بناءً على اتفاقية فضِّ الاشتباك الأولى مع العدو الصهيوني، وأعيد الباقي إلى غرب القناة، وكانت هذه هي الواقعة التي قيل إن الجمسي قد بكى فيها).
– يرى بعض الخبراء العسكريِّين في تحليلاتهم أن القيود العسكرية المفروضة على مصر في سيناء، تجرِّدها من إمكانية الدفاع وصدِّ عدوان مماثل -لا قدَّر الله- للعدوانين اللذين قامتْ بهما إسرائيل عامي 1956 و1967. وهو ما يجعل من سيناء رهينة دائمة خاضعة للتهديد الإسرائيلي، ويضع القيادة السياسية المصرية طول الوقت تحت ضغوط هائلة، تؤثِّر إلى حدٍّ كبير على استقلاليَّة قرارها في كلِّ ما يتعلَّق بالمصالح الأمريكية والمطالب الإسرائيلية.
– ولقد صرَّح بذلك صراحة وزير الأمن الداخلي الأسبق “آفي ديختر” حين قال في إحدى محاضراته عام 2008 إن إسرائيل انسحبت من سيناء بضمانات أمريكية للعودة إليها في أيِّ وقت إذا تغيَّر النظام في مصر لغير صالح إسرائيل، وإن هذه الضمانات هي تجريد ثلثي سيناء من القوات والسلاح، بالإضافة إلى وجود الحليف الأمريكي هناك لمراقبة القوات المصرية.
– ولقد سبق للرئيس الراحل أنور السادات نفسه إبداء تخوُّفه من هذا الوضع قبل أن يتراجع ويغيِّر موقفه: فقد صرَّح في حديثه لمجلة “التايم” في عددها الصادر في 19 مارس 1974 بالآتي: “إن الحديث الدائر في إسرائيل عن نزع سلاح سيناء يجب أن يتوقَّف. فإذا كانوا يريدون نزع سلاح سيناء فسوف أطالب بنزع سلاح إسرائيل كلها. كيف أنزع سلاح سيناء.. إنهم يستطيعون بذلك العودة في أيِّ وقت يريدون خلال ساعات”!!!
إذن الخلاصة أن المعاهدة الإسرائيلية-المصرية قد جرَّدتْ مصر واقعيًّا من إمكانية الدفاع عن سيناء ضدَّ أيِّ نوايا عدوانية إسرائيلية جديدة، وهو واقع تدرك إسرائيل جيِّدًا أنه يمثِّل رادعًا قويًّا ضدَّ أيِّ تغيُّر مصري في السياسات أو الانحيازات أو المواقف، لا ترضى عنه الولايات المتحدة أو إسرائيل.
4) القيد الرابع- لم تكتفِ إسرائيل بهذا النوع من التدابير الأمنية، بل أصرَّت على أن تأخذ من الولايات المتحدة ضمانات صريحة أخرى ضدَّ أيِّ انتهاك محتمل من مصر للمعاهدة، ضمانات لانحياز أمريكا الكامل لإسرائيل فيما لو تغيَّرت السياسة المصرية مستقبلا. واستجابت أمريكا ووقَّعا معًا مذكرة عرفت باسم “مذكرة التفاهم الأمريكية-الإسرائيلية”، حيث أرسل الرئيس الأمريكي كارتر خطابًا بها إلى كلٍّ من رئيس الوزراء المصري مصطفى خليل ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين وذلك قبل يوم واحد من توقيع مصر على الاتفاقية، أيْ في 25 مارس 1979، وقد جاء التأكيد فيها على:
1) حق الولايات المتحدَّة في اتِّخاذ ما تعتبره ملائمًا من إجراءات في حالة حدوث انتهاك لمعاهدة السلام أو تهديد بالانتهاك، بما في ذلك الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية.
2) تقدِّم الولايات المتحدَّة ما تراه لازمًا من مساندة لما تقوم به إسرائيل من أعمال لمواجهة مثل هذه الانتهاكات، خاصة إذا ما رُئِيَ أن الانتهاك يهدِّد أمن إسرائيل بما في ذلك على سبيل المثال تعرُّض إسرئيل لحصار يمنعها من استخدام الممرَّات المائية الدولية وانتهاك بنود معاهدة السلام بشأن الحدِّ من القوات أو شَنِّ هجومٍ مسلَّح على إسرائيل، وفي هذه الحالة فإن الولايات المتحدة الأمريكية على استعدادٍ للنظر بعين الاعتبار وبصورة عاجلة في اتِّخاذ إجراءات مثل تعزيز وجود الولايات المتحدة في المنطقة وتزويد إسرائيل بالشحنات العاجلة وممارسة حقوقها البحرية لوضع حدٍّ للانتهاك.
3) سوف تعمل الولايات المتحدَّة بتصريح ومصادقة الكونجرس على النظر بعين الاعتبار لطلبات المساعدة العسكرية والاقتصادية لإسرائيل وتسعى لتلبيتها”.
وعندما اعترض رئيس الوزراء المصري آنذاك، ردَّتْ أمريكا بأنَّ هذا جزءٌ من الضمانات التي طلبتْها (إسرائيل)، والتي كانت مصر تعلم بوجودها منذ البداية، وانتهى الأمر عند هذا الحدِّ، واعتُبرت المذكرة المشار إليها جزءًا لايتجزَّأ من المعاهدة.
إذن نحن أمام حلف أمريكي-إسرائيلى في مواجهة مصر، هذا الحلف يمثِّل تهديدًا حقيقيًّا لأمن مصر في حالة أيِّ ادِّعاء من (إسرائيل) بأن مصر قد انتهكت المعاهدة.
- إعادة صياغة مصر:
عرضنا فيما سبق للقيود التي وضعتْها معاهدة السلام على الإرادة المصرية فيما إذا حاولت العودة إلى الصراع. ولكن لم تكن نصوص المعاهدة كافية من منظور الأمريكان والصهاينة، فكان لا بدَّ من الضغط في اتِّجاه إعادة صياغة مصر دولة ونظامًا ومجتمعًا لكي تتلاءم مع الصفقة المعقودة. كان مطلوبًا تكوين قوى سياسية وقوى اجتماعية تتبنَّى النهج الجديد وتدافع عنه وتحميه، كان مطلوبًا تفكيك الاقتصاد الوطني المخطَّط وخلق اقتصاد سوق تابع وعاجز في نفس الوقت عن دعم المجهود الحربي، كان مطلوبًا خلق وعي شعبي ضدَّ الحرب ومع السلام حتى لو كانت خلفيَّاته انهزاميَّة تطرح حججًا مثل أن مواجهة (إسرائيل) هي مواجهة للولايات المتحدة الأمريكية ومواجهة الأخيرة والانتصار عليها عملية مستحيلة، ومن ثم لا بديل عن قبول ما تعرضه علينا.
ودعونا نقرأ معًا شهادة شاهد من أهلها، فلقد صرح د/ مصطفى خليل لجريدة الشرق الأوسط اللندنية في عددها الصادر في 6 يوليو 2002، وذلك في معرض إشارته إلى الإصلاحات التي تطلبها واشنطن حاليًّا من السلطة الفلسطينية: “إن الولايات المتحدة طلبت من مصر قبل إقامة اتفاقية السلام مع إسرائيل إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية.. وأن الرئيس المصري السابق أنور السادات طلب مني الإشراف على لجنة تضع تصورًا للمستقبل السياسي في مصر”، مشيرًا إلى أن لجنته انتهتْ إلى ثلاث توصيات هي: عمل تعدُّدية حزبية، ودعم المنابر البرلمانية، وإجراء إصلاحات اقتصادية والتحوُّل عن النظام الاشتراكي إلى الرأسمالي (الانفتاح الاقتصادي).
وهذا فعلًا ما تمَّ تنفيذه لاحقًا لانتزاع مصر من مشروعها الوطني إلى المشروع الأمريكي، من خلال خطوات وسياسات محسوبة ومحدَّدة تمَّتْ تحت قيادة السادات مثل:
♦ طرد الخبراء السوفييت في 1972 لعزلها عن الاتحاد السوفيتي كشريك استراتيجي وإضعاف موقفها التفاوضي.
♦ التمهيد للصلح مع (إسرائيل) -كما ذكرنا سابقًا- باتفاقيتي فضِّ الاشتباك الأولى في 28 يناير 1974، وفض الاشتباك الثانية في أول سبتمبر 1975؛ بما أسفر عنهما من وضع سيناء لأول مرة تحت الرقابة الأمريكية.
♦ في 22/2/1974 طلب السادات من الدول العربية إيقاف سلاح البترول.
♦ في 28/2/1974 عادت العلاقات المصرية-الأمريكية التي كانت مصر قد قطعتها في 6/6/1967.
♦ في 18/3/1974 قرَّر وزراء البترول العرب رفع حظر تصدير النفط عن أمريكا.
♦ في 29/3/1974 أعلن السادات أن رفع الحظر تمَّ بناءً على طلب مصر، حيث قال: “أرجو أن أكون واضحًا، ونظريَّتي في هذا أنني كلَّما تقدَّمَتْ أمريكا خطوة، علينا نحن أن نتقدَّم أيضًا خطوة، لم تعد السياسة نوعًا من التعنُّت أو الجمود.. المصالح كلها مشتركة وما دام هناك تغيير في موقف الولايات المتحدة، فيجب أن يكون هناك تغيير أيضًا في موقفنا بنفس القدر”.
♦ إصدار قانون الانفتاح الاقتصادي في 25/7/1974 بقصد تفكيك اقتصاد الحرب وخلق قوى اجتماعية رأسمالية تتبنَّى التوجُّه المصري الجديد إلى أمريكا، وتدافع بحكم المصالح عن السلام مع إسرائيل، وكذلك تحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد تابع.
♦ تعمير مدن القناة لخلق رأي عام شعبي مصري ضدَّ الحرب، خوفًا على أمن الأهالي والسكَّان هناك.
♦ فتح قناة السويس لخلق مصلحة دولية ضدَّ استمرار القتال أو تجدُّده.
♦ إصدار قانون الأحزاب في 10/2/1977بشكله المقيِّد بهدف تأسيس حزب حاكم يتبنَّى النهج الأمريكي والسلام مع (إسرائيل) بغضِّ النظر عن استمرار أو رحيل هذا الرئيس أو ذاك.
♦ زيارة القدس في 19/11/1977 مع الاهتمام بإخراجها مسرحيًّا على الشكل الذي ظهرت به على أنها وليدة فكرة عبقرية هبطت فجأة وبدون مقدِّمات على السادات كالوحي.
♦ توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17/9/1978.
♦ توقيع معاهدة الصلح مع إسرائيل في 26/3/1979.
♦ الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية مع الولايات المتحدة وعلى رأسها المعونة الأمريكية في 1977.
♦ خلق شخصيات ومنابر ثقافية تدافع عن التوجُّه الجديد، كان أشهرها دعوة توفيق الحكيم المبكِّرة بعد الحرب مباشرة إلى حياد مصري في الصراع العربي-الإسرائيلي شبيهًا بالحياد السويسري في الحروب الأوروبية. وكان أهم معالم التوجُّه الجديد: مهاجمة فترة عبد الناصر، والإفراج السياسي عن خصومه السياسيِّين والتحالف معهم، والهجوم على العرب عامة وعلى الفلسطينيِّين على وجه الخصوص، مع التضخيم من قوة أمريكا وقدراتها، والدعوة إلى صداقتها والانحياز لها كطوق وحيد للنجاة.
وهكذا رويدًا رويدًا بدأت إعادة صياغة مصر على كافَّة المستويات لتتواءم مع المشروع الأمريكي-الصهيوني، ونجحت الصفقة نجاحا كبيرًا وأسْفرت عن تحقُّق مجموعة من النتائج غيَّرت وجه المنطقة لعقود قادمة.
المحور الأخير- أهم نتائج كامب ديفيد
1- الاعتراف ولأول مرة من أكبر دولة عربية بمشروعية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين. ومنذ ذلك الوقت بدأ الخطاب الرسمي العربي تدريجيًّا يتحوَّل إلى الحديث عن فلسطين 1967 باستبعاد واضح أو ضمني لفلسطين 1948، وبمعنى آخر تمَّ قبول رسمي عربي لقرار التقسيم.
2- ضرب وحدة الصف العربي التي كانت تجمعها دائمًا -رغم الخلافات- وحدة الموقف من قضية فلسطين الذي تجلَّى في أرقى صوره في مقرَّرات الخرطوم بعد 1967 وفي أثناء حرب 1973.
3- تمَّ تخفيف وإلغاء المقاطعة الدولية لإسرائيل، فلقد رأى عدد من الدول الصديقة للدول العربية والمناصِرة لقضاياها، أنه بعد اعتراف مصر بإسرائيل، لا يوجد مبرِّر لأن تكون ملكية أكثر من الملك، واستجاب العديد منها للضغوط الأمريكية في إعادة العلاقات التي كانت قد قُطعت بعد عدوان 1967.
4- على المستوى الداخلي أدَّى نهج كامب ديفيد إلى نتائج خطيرة تمسُّ المعتقدات المبدئية الوطنية لعامَّة الناس؛ فغاب اليقين الوطني، وماعت القضايا، واختلط الأصدقاء مع الأعداء، وتضاءلت قيمة التضحيات التاريخية في الحروب السابقة وفقدت معناها. والنتيجة أن كفَّ معظم الناس عن الاعتقاد في جدوى أيِّ مشروع وطني، وانفضَّ الناس عن الدعاة الوطنيِّين، واقتصر اليقين على المعتقدات الدينية فقط فهي الملاذ الأخير.
5- انتشر الفكر الطائفي ودعاوى الانفصال والتفتيت في المنطقة، وكان ذلك من أخطر آثار كامب ديفيد؛ حيث أدَّى اعتراف مصر بمشروعية إسرائيل ” كدولة لليهود” إلى إغراء القوى الانفصالية في الوطن العربي وبدعم وتشجيع صهيوني من السعي لتكرار النموذج الإسرائيلي، فبدا الحديث عن دويلات طائفية مارونية وشيعية وسنية وقبطية وكردية وبربرية وزنجية.. إلخ.
6- وجَّهت كامب ديفيد أقوى ضربة للوحدة الوطنية المصرية؛ فانشقَّت الصفوف، وغاب الشعور بالمشروعية، وأنا لا أستخدم هنا مصطلح “الوحدة الوطنية” بمعناه التقليدي الخاص بوحدة عنصري الأمة من المسلمين والأقباط. فالوحدة الوطنية التي أقصدها هي توحيد الموقف من الاستقلال الوطني ومن العدو الخارجي. وما حدث فعليًّا عندما قامت مصر الرسمية بالتصالح مع العدو ضدَّ المصالح الوطنية والقومية هو أنها نزعت عن نفسها المشروعية الوطنية، ممَّا كان السبب الرئيسي وراء كثير من الصدامات والعنف الذي شهدتْه مصر منذئذ وحتى الآن.
7- وأخيرًا نجحت كامب ديفيد في تحقيق الهدف الرئيسي منها وهو الانفراد بالوضع العربي في غياب مصر وإعادة ترتيبه طبقًا للمصالح الإسرائيلية: فاقتحمت قوات العدو الصهيوني بيروت في يونيو 1982 وطردت قوى المقاومة الفلسطينية خارج لبنان بعيدًا عن حدود قطره، مما أسفر عن تغيير جذري في موازين القوى أدَّى بعد سنوات إلى انتزاع اعتراف من القيادة الفلسطينية بمشروعية دولة (إسرائيل).
ناهيك عن عمليات العربدة الإسرائيلية في المنطقة، وتصاعد عمليات العدوان والتأديب اليومية لباقى الأطراف العربية: فتضرب (إسرائيل) المفاعل النووي العراقي في يونيو 1981، وتضرب مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس عام 1985، وتغتال أبو جهاد، وتعربد كما يحلو لها في الأرض المحتلَّة… والقصة مستمرَّة حتى يومنا هذا.
8- ولكن يظل الأخطر والأهم هو ما أسفرتْ عنه كامب ديفيد من خضوع مصر بشكل كامل للولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أصبحت راعية للسلام وضامنة له وصاحبة الفضل في كفِّ أيدي (إسرائيل) عن مصر، وأصبح الجهد الرسمي الرئيسي لمصر هو تنفيذ الإصلاحات الداخلية السياسية والاقتصادية المطلوبة أمريكيًّا، وضبط التوجُّهات والأدوار الخارجية بناءً على التوجيهات الأمريكية.
وهو الوضع الذي لا تزال تعيش فيه مصر منذ ما يزيد عن 40 عامًا، لم تنجح في التحرُّر منه، حتى في ظلِّ الشهور الذهبية القليلة لثورة يناير، بل إنه في السنوات الأخيرة توطَّدتْ العلاقات المصرية-الإسرائيلية بشكلٍ غير مسبوق، بحيث أصبحت (إسرائيل) هي البوابة الرئيسية لاستجلاب الاعتراف والدعم الأمريكي والدولي لنظام الحكم في مصر، وهو ما سبق أن كتبنا عنه دراسة تفصيلية بعنوان “فلسطين بين الثورة والثورة المضادَّة” تمَّ نشرها في العدد السابع من فصليَّة “قضايا ونظرات” عدد أكتوبر 2017.
*****
- فصلية قضايا ونظرات- العدد الخامس عشر ـ أكتوبر 2019