كورونا ومآل الجيل الثاني من الانتفاضات العربية

مقدمة:

أثبت ما يمكن وصفه بالموجة الثانية من الانتفاضات الشعبية العربية (أو الثورات على خلاف في الوصف) أنَّ العالمَ العربيَّ أضحى “منطقة بركانية سياسيًّا”، وعرضةً للتفجُّر في أي موضع وأي وقت؛ تفجُّرا من أدنى لأعلى وعلى الأجناب. يمكن أن تقاس أشكال وسمات الحراك الشعبي على ما للبراكين من أنواع وخصائص يتحدَّث عنها حقل الفولكانولوجي volcanology ضمن جيولوجيا السياسة العربية. فمعظم تفاعلات البركان تتم قبل تفجُّره في باطن الأرض في جزء منه يسمى “الحوض البركاني”؛ حيث تتلاقى “عوامل الإلهاب والتفجر” غير المرئي، ثم تتحرك “الصهارة” الغاضبة ضمن “عنق” أو مدخنة؛ باحثة عن جزء ضعيف من “القشرة الأرضية” لتنقب فيه “فوهة” تندفع منها “الحمم” السائلة والصخور الصلبة الملتهبة إلى ما فوق، محدثةً “غبارا” أو دخانًا كثيفًا؛ ما “ينتج” عنه -بعد استقرار البركان- تغييرٌ في “تكوين سطح المنطقة” وشكله: بشكل هرمي أو هضبي جديد أو غيره بحسب تفاعلات الاندفاع من باطن الأرض مع البيئة والتكوينات على السطح، ثم في نهاية الحدث البركاني إما أن “تؤول” الأمور إلى تخصيب تربة المكان جيدًا ويستأنف الإنسان عيشه فيها (أثرًا حسنًا)، أو يتعذر المقام والعيش في هذه المنطقة حال عدم استقرارها ومناسبتها (أثرًا سيئًا). ومعلوم أن من طبائع المناطق البركانية صعوبة توقع مكان أو زمان انفجارها، وأن نوعية الثَّوَران ومساره ونتائج الانفجار غالبًا ما تختلف من حالة إلى أخرى لعوامل تتميَّز بها كل حالة، وإن كانت الأسباب العامة لاحتدام البراكين معروفة ومكرَّرة([1]).

من هذا النموذج يمكن أن نراجع الموجة الثانية موصولة بمآلات الموجة الأولى من الانتفاضات العربية التي يكتمل عقدها الأول هذه الأيام([2]). فعقب نحو خمس سنوات من تراجع البركان الأول الذي تفجَّر بين ديسمبر 2010-مارس 2011، بدت معالم موجة ثانية منه تتوالى في عدد آخر من الدول غير الأولى؛ في: الأردن، ثم السودان فالجزائر، ثم العراق ولبنان، (فضلاً عن رجَّات زلزالية متنوِّعة في تونس ومصر وسوريا وفلسطين وغيرها، وهي من خصائص الحالة البركانية نموذجيًّا)، وذلك من أواخر العام 2018 فــ2019 متمدِّدة في العام الحالي 2020، وذلك في صورة حراكات شارع متنوعة الأحداث والممارسات، والأسباب والمطالب، والمسارات والتفاعلات، والنتائج والمآلات، وقد هدأ بعضها بينما لا تزال الأخرى تفور وتمور، لكن الفاعلينَ الرئيسيينَ في كل منها ظلُّوا كما هم: شعوب عزلاء، أمام أنظمتها العتيقة وجيوشها أو بالأدق ما يسمى بالدولة العربية العميقة([3])، بالإضافة إلى الفاعل الخارجي متنوع الأدوار والتأثيرات([4]). ولا تزال هذه الموجة تحتاج إلى مزيد من المراجعة للوقوف على عبرتها بالنسبة لواقع ومستقبل الأمة العربية القريب.

هذا، وقد دخلت جائحة كورونا العالمية([5]) على أتون هذه الحراكات وأثَّرت في مساراتها وأثرت في سياسات الحكومات لمواجهة الأزمة السياسية والعامة؛ ما أفرز أثرين متقابلين متزامنين: ضغطًا على المدِّ الانتفاضي نفسه مكَّن الأنظمة من تهدئته وامتصاصه من جهة، ومن الجهة الأخرى مضاعفة مبرِّرات السُّخط الشعبي نظرًا للإجراءات المثقلة على الأحوال المعيشية على نحو ما سيتبيَّن؛ الأمر الذي يطرح التساؤل حول أثر مثل هذه الأزمات المتجددة على وضع منطقة بركانية سياسيًّا كعالمنا العربي وخاصة بالنسبة للمستقبل القريب!

وإذا كان النموذج البركاني بعناصره المتكاملة (الحوض البركاني، الصهارة، العنق/المدخنة، الفوهة، الحِمم، الغبار/الدخان البركاني، الشكل البركاني الناتج، الآثار والمآلات السلبية والإيجابية) يمكن أن يساعد في تحليل وتفسير ظاهر هذه الموجة، فإن التقييم الكلي للمشهد العربي الراهن من هذه الزاوية يستدعي تفعيل فقه حضاري يكشف عن القيم والمقاصد الكامنة في التفاعلات، والسُّنن المحرِّكة لها والمنتجة لمآلاتها. وهذا ما تحاول هذه الورقة فعله([6]). فما الجديد في هذه الانتفاضات بين 2018-2020 قياسًا على الموجة الأولى؟ وما دلالاتها بالنسبة للمستقبل السياسي العربي في تدافع الشعوب المرهَقة والأنظمة المعتَّقة؟ وما دلالة تأثرها بأزمات من قبيل جائحة كورونا التي اجتاحت العالم من بدايات العام 2020 بأثريها المتقابلين المشار إليهما؟

في هذا الإطار ولدواعي الإيجاز والإجمال الذي تفرضه المساحة المحددة، تنقسم الورقة إلى عنصرين وخاتمة: يحاول أولهما تصوير المسار الذي اتخذته حراكات الموجة الثانية وعناصرها الرئيسية، ويتابع الثاني آثار جائحة كورونا وسياسات مواجهتها صحيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا على هذه الموجة، ثم الخاتمة عن الدلالات الحضارية لعموم هذه الموجة بين مقاصدها ووسائلها وقيمها الحاكمة في سياق تحولات إقليمية وعالمية جارية.

أولًا- مسار الموجة الثانية وجديدها

في أعطاف الثورات العربية الخمس الكبيرة (الموجة الأولى) 2010-2011، تزلزلت الأرض في عدد آخر من الدول: كالبحرين، الكويت، المغرب، العراق، الأردن، موريتانيا، وغيرها في الفترة 2011-2017. ويمكن القول إنه لم تفلت دولة عربية من أثر هذه الزلزلة وتوابعها، لكنها بدت في أغلبها ذات آثار محدودة وتم احتواؤها عن قريب ولم يترتب عليها في الظاهر لنا تغييرات فارقة.

ولقد ساعدت موجة الثورة المضادة في تسكين هذه الرجَّات والتراجُع عنها بصورة ملحوظة، لكن الأمر لم يلبث إلا يسيرًا حتى ضربت المنطقةَ موجةٌ ثانيةٌ من الانتفاضات منذ العام 2018؛ جاءت الساحة الأردنية في مطلعها استكمالاً لقلاقل سابقة لكن على منوال الهبَّات المحدودة التي سرعان ما كانت تـخبُو، ثم تتابعت بعدها تفجُّرات البركان واحدة تلو الأخرى في: السودان فالجزائر، فالعراق ولبنان.

ويمكن تتبع مسارات هذه التفجرات وخطوطها الرئيسية توثيقا ورسما للصورة العامة على النحو الآتي:

  • الأردن

في أواخر مايو 2018 اضطربت الساحة الأردنية حين بدأت احتجاجات في عَمَّان وعدد من المدن الأردنية ضد مشروع قانون لرفع ضريبة الدخل، مع استمرار ارتفاع الأسعار خاصة أسعار الوقود والكهرباء، لتذكِّر باحتجاجات أكتوبر 2012 القوية التي قادتها عدة نقابات لنفس السبب المعيشي (العنق) ولكن على أصداء الموجة الثورية العربية الأولى، وأيضًا هذه المرة قادتها نقابات عديدة مع تصعيد الهتافات والمطالب: الشعب يريد إسقاط الحكومة، لن نركع، لم نخلق لنعيش بذلٍّ… إلخ؛ في إشارة إلى ما سُمِّيَ بسياسة التركيع بالتجويع، وأدَّى اشتداد واتساع الاحتجاجات إلى استقالة رئيس الوزراء هاني الملقي 4 يونيو وتجميد العاهل الأردني عبد الله الثاني للقرارات الضريبية([7])، لكن الأحداث كشفت عن بعضٍ ممَّا يعتمل في باطن الأحداث([8]).

فالمملكة التي تُعدُّ من الشريحة العليا في البلدان العربية متوسِّطة الدخل وتعاني شحًّا كبيرًا في الموارد الطبيعية، تشكو عجزًا كبيرًا في الميزانية، وضغطًا من تراكم الديْن العام البالغ 94% من الناتج القومي، مضطرَّة على الأقل منذ 2015 إلى اتباع سياسة تقشُّف وفق توجيهات صندوق النقد الدولي الذي طالب المملكة بإصلاحات اقتصادية تمكِّنها من الحصول على قروض جديدة لسداد ديونها المتفاقمة التي تجاوزت الـ35 مليار دولار. وقد ذكرت الإحصاءات الرسمية منذ 2018 أن 20% من الأردنيِّين صاروا تحت خطِّ الفقر([9]). هذه الحالة هي وقود الضجر الشعبي في أغلب البقاع العربية وصهارة الغضب الراهن.

والنتيجة أنه تم تغيير الحكومة وكلف الملك عبد الله أحد وزرائها عمر الرزاز بتشكيل حكومة جديدة من 5 يونيو 2018، ومما ذكر عاهل الأردن في كتاب تكليف الرزاز: “إن التحدي الرئيس الذي يقف في وجه تحقيق أحلام وطموحات الشباب الأردني هو تباطؤ النمو الاقتصادي، وما نجم عنه من تراجع في فرص العمل خاصة لدى الشباب. وعليه، فإن أولوية حكومتكم يجب أن تكون إطلاق طاقات الاقتصاد الأردني وتحفيزه ليستعيد إمكانيته على النمو والمنافسة وتوفير فرص العمل… وعليه، فإن على الحكومة أن تقوم بمراجعة شاملة للمنظومة الضريبية والعبء الضريبي بشكل متكامل، ينأى عن الاستمرار بفرض ضرائب استهلاكية غير مباشرة وغير عادلة لا تحقِّق العدالة والتوازن بين دخل الفقير والغني، ويرسم شكل العلاقة بين المواطن ودولته في عقد اجتماعي واضح المعالم من حيث الحقوق والواجبات”([10]). فهل تحقَّق هذا التكليف بصيغته الفضفاضة هذه؟

إذا علمنا أن هذه الاحتجاجات بدأت تنفث أبخرتها منذ يناير 2018 وأنها سُبقت بمثيلات لها وأشد منها منذ 2011/2012 عرفنا أن أسباب الانفجار راسخة وقابلة للتنشُّط الذاتي كل حين أمام أي منشِّط، وأن دور الحكومة في كل مرة لا يعدو محاولة التبريد المؤقت إما بتراجعات شكلية أو تحايلات على المحتجِّين الغاضبين.

والأنظمة العتيقة تعرف جيدًا أن الأزمة مستحكمة ولكنها تديرها وتدير بها فيما يبدو. فخلال لقاء التكليف ذاته حذر الملك عبد الله من أن الأردن (وقِسْ عليها معظم بلداننا) يقف أمام مفترق طرق؛ فإما “الخروج من الأزمة” وإما “الدخول في المجهول”، وقال إن “الأردن يواجه ظرفًا غير متوقع(!)، ولا توجد أي خطة قادرة على التعامل بفعالية وسرعة مع هذا التحدي(!)“. وفي ملمح خطير يشير العاهل الأردني إلى أن “المساعدات الدولية للأردن انخفضت رغم تحمل المملكة عبء استضافة اللاجئين السوريِّين“! (فوق 600 ألف وفق المفوضية العليا لشئون اللاجئين و1.4 مليون وفق التصريحات الأردنية)([11]).

ويعتمد الأردن على المساعدات الخارجية خصوصًا الأمريكية والخليجية، كما شهد في السنوات الأخيرة ضغوطًا اقتصادية ثقيلة نتيجة الأوضاع الإقليمية؛ حيث أغلق المعابر الحدودية مع كل من العراق وسوريا؛ ما أفضى إلى شلل في الحركة التجارية، هذا مع انقطاع الغاز المصري الذي كلَّف المملكة -وفق تصريحات عاهلها نفسه- أكثر من أربعة مليارات دينار (5.6 مليار دولار)، والكلفة الإضافية والكبيرة لتأمين حدودها([12]).

وللحقيقة لم يقتصر العاهل الأردني على مساءلة الخارج لكنه اكتفى بإدانة الحكومة (القابلة وحدها للتغيير) “بالتقصير في التواصل” مع الأردنيين بخصوص سياساتها؛ ومنها الزيادة الضريبية. ومن الجدير بالذكر أن الخارج لم يتدخل في هذه الاحتجاجات اللهم إلا بالدعوة للتهدئة والاستجابة لنداء الجماهير بغير ضغوط، وإن كانت الولايات المتحدة أبدت حرصها على طمأنة النظام الأردني بأنها تسانده وتدعوه للحوار مع المحتجِّين؛ لأنه من محور الاعتدال([13]).

وبناء على أن الحوض البركاني لم يبرد تمامًا، فإن سنة تقريبًا فصلت الوزارة الجديدة عن هبّةٍ أخرى أفرزتها الفوهة الاقتصادية المتردِّية ذاتها؛ وتمحورت حول حقوق المعلمين وحول نقابتهم التي ستصبح عبر عام كامل الضاغط الأبرز على الحكومة الأردنية وبمثابة العنق الانتفاضي. ففي الثالث من سبتمبر 2019 دعت نقابة المعلمين إلى اعتصام قرب مقرِّ رئاسة الوزراء للمطالبة بعلاوة 50% على أجورهم بعد رفض الحكومة ومماطلتها رغم المهلة التي منحها إياها نقيب المعلمين ناصر النواصرة، ونتيجة مصادمات الشرطة بالمعلمين ومنعهم من الاعتصام أعلنت النقابة بدء إضراب مفتوح في المدارس الحكومية (نحو 3000 مدرسة) بدءًا من 5 سبتمبر 2019، ونفذ نحو 80 ألف مدرس الإضراب حتى تعتذر الحكومة وتعطيهم حقوقهم. ورغم محاولات الحل الودِّية والوساطات، ولجوء الحكومة بعد أسبوعين إلى التهديد بالعقوبات استنادًا إلى قرار قضائي فقد تحايلت النقابة على القرار حتى اضطر الرزاز في النهاية إلى تقديم اعتذار علني للمعلمين في يوم المعلم الخامس من أكتوبر، ليتم الاتفاق مع النقابة على شرائح العلاوات للمعلمين بحسب درجاتهم، ومن ثم إنهاء الإضراب([14]). لكن هذه القلاقل لم تتوقف حتى اليوم، ولذا يركِّز النظام الأردني على تفكيك ذلك العنق البركاني المتمثل في النقابات وخاصة نقامة المعلمين.

على هذا المنوال العام مع اختلافات مُهمَّة، تدفَّقت موجة ثورات في المنطقة أدَّت إلى إسقاط وتغيير رئيسي دولتين وعدد من رؤساء حكومات، مع استمرار فوهات البركان في إصدار نفثات مخيفة كل حين، وفي بقاع عدَّة.

  • السودان

فقبل نهاية العام نفسه بدأت احتجاجات السودانيِّين في التاسع عشر من ديسمبر 2018 في بعض المدن في الشمال والوسط ثم تركيزًا في العاصمة، تطالب بتوفير الخبز. دعا إليها تجمع المهنيِّين (جمعية تضمُّ 17 نقابة سودانية مختلفة)([15]) والذي صار المنسِّق الأول لها حتى قفزت قوى سياسية أخرى محلها.

ومن المهم تأمُّل مسار البركان السوداني؛ فقد بدأت الاحتجاجات معيشية رويدًا قبل أن تتحوَّل بمرور أيام قليلة إلى ثورة سياسية تطالب بإسقاط نظام عمر البشير وتهاجم مقرات حزب المؤتمر الوطني الحاكم وتحرق عددًا منها. وقد واجهتها الحكومة أولاً بمحاولة القمع وبقرارات تقييدية ما أسفر عن أعداد محدودة من القتلى والجرحى ثم المعتقلين (وبعضهم رموز حزبية)، مصحوبة بخطاب نظرية المؤامرة على ألسنة بعض كبار المسئولين (نسبة الحراك إلى إسرائيل وقوى أخرى)، وبحديث عن المندسِّين والمخرِّبين من الداخل. وكما تفعل سائر الأنظمة منذ ثورة تونس ومصر، حاول عمر البشير تهدئة الأوضاع بالإحالة إلى انتخابات 2020 الرئاسية والبرلمانية، لتتراجع التظاهرات أياما قليلة ثم لا تلبث أن تتصاعد وتشتد أكثر بفعل عنق بركاني جديد سينقل الاحتجاج من المعيشي إلى السياسي ويؤجج مزيدا من التفجُّر.  ففي يناير 2019 برزت قيادة للحراك فيما عرف بقوى إعلان الحرية والتغيير “قحت” (تجمع سياسي من عدد من الأحزاب المعارضة وتجمع المهنيين)([16]).

وبخلاف حالة الأردن السابقة وحالة الجزائر التالية، أسرعت الدول الغربية بإدانة العنف الحكومي وتأييد الحراك السوداني بصوت واضح ومحرِّض؛ حيث حذَّرت الولايات المتحدة -على سبيل المثال- من أن العنف المفرط لقمع الاحتجاجات يمكن أن يهدد محادثات شطب الخرطوم من قائمة واشنطن للدول الراعية للإرهاب([17]).

وبعد ثلاثة أشهر بلا جدوى من الحراك في ظل تصدُّر البشير -وحده تقريبًا- للردِّ عليه، تخيَّرت قوى التغيير يوم السادس من أبريل (ذكرى إسقاط حكومة جعفر نميري 1985) للدعوة إلى تظاهرات حول قصر الضيافة (الرئاسي)، تلك التظاهرات التي سرعان ما احتضنها الجيش عقب رسوِّها فيما عرف بـ“اعتصام القيادة العامة” في محيط قيادة الجيش نفسه بالخرطوم، ووفَّر لها الجيش الحماية حتى من قوات الأمن نفسها (حيث قُتل خمسة جنود من الجيش ونُسب قتلهم إلى الشرطة). وفي غضون أيام خمسة من هذا الاعتصام، أعلنت قيادة الجيش عزل ثم اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير في 11 أبريل 2019 (بعد 114 يومًا من بدء الاحتجاجات)، وتعليق العمل بالدستور، وتشكيل مجلس عسكري لإدارة انتقالية للبلاد لمدة سنتين بقيادة الفريق أحمد عوض بن عوف (نائب البشير ووزير دفاعه)، وحلَّ مجلس الوزراء والبرلمان وحكومات ومجالس الولايات، والإعداد لانتخابات “حرة ونزيهة”. وفي اليوم التالي 12 أبريل وأمام استمرار الاحتجاج المنظم وتحدِّي حظر التجول تنحَّى بن عوف وحلَّ محله المفتش العام للجيش الفريق عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان، وتم تعيين اللواء محمد حمدان دقلو-حميدتي (قائد قوات التدخُّل السريع) نائبًا له([18]).

لم تُوقف هذه الإجراءات الحراك الذي تقوده “قحت” بقدر ما نقلته إلى التدافع مع بقية نظام البشير حول طبيعة النظام القادم وموقع المدنيين والعسكريين فيه، وبدأ مسار تفاوض بين الطرفين بوساطة إثيوبيا ورعاية الاتحاد الأفريقي منذ مايو 2019، مع استمرار اعتصام القيادة العامة غيرَ معترِف بالمجلس العسكري وتصاعد المطالب بإسقاطه ونقل السلطة لحكومة مدنية أو ذات أغلبية مدنية. وعقب زيارتين من رئيس المجلس العسكري البرهان إلى مصر فالإمارات، وزيارة من نائبه حميدتي إلى السعودية، أقدمت قوات الجيش على الفض العنيف للاعتصام في 3 يونيو 2019، ما أسفر عن مقتل العشرات([19]) وإصابة المئات من المعتصمين؛ وعرفت بمجزرة اعتصام القيادة العامة.

ومن ثم استمرَّت التظاهرات في مدن عديدة وصولًا إلى ما عرف بمليونية 30 يونيو 2019 التي أثبتت قدرة (قحت) على الحشد والضغط على المجلس العسكري([20])؛ ما حثَّ السير في التفاوض بين الطرفين وأسفر عن اتفاق اقتسام السلطة (22 بندًا) في 17 يوليو وتمَّ التوقيع عليه في 4 أغسطس 2019. وتناول الاتفاق التناوب على رئاسة «مجلس سيادي» يحكم البلاد لفترة انتقالية تستمر ثلاثة أعوام؛ ويتشكَّل من 11 عضوًا؛ هم خمسة عسكريِّين يختارهم المجلس العسكري وخمسة مدنيين من اختيار قوى الحرية والتغيير وشخصية مدنية تُختار بالتوافق. ويترأس مجلس السيادة عسكريٌّ لمدة 21 شهرًا ثم مدنيٌّ لمدة 18 شهرًا وتجرى بعدها انتخابات عامة. وجاء في ستة فصول: «المبادئ المرشدة»، «الترتيبات الانتقالية»، «المجلس التشريعي»، «لجنة التحقيق»، «مهام المرحلة الانتقالية»، و«المساندة الإقليمية والدولية»([21]).

وبعد مفاوضات لنحو شهر تشكَّلت يوم 8 سبتمبر 2019 أول حكومة بعد الثورة والانقلاب برئاسة الاقتصادي عبد الله حمدوك وعضوية 18 وزيرًا. وعبر عام كامل من هذا التوقيت توالت إجراءات اعتقال قيادات النظام السابق وتفكيك مؤسساته، والأهم: العمل على تغيير الأيديولوجية الحاكمة بالانتقال من الإسلامية إلى بدائل علمانية في التعليم والإعلام والثقافة وبعض القوانين([22])، في ظل انحياز صريح إلى معسكر مصر-الخليج، وتفاهم واضح مع القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.

ومن قبل اقتسام السلطة في يوليو، استقبل المجلس العسكري ثلاثة مليارات دفعة أولى من السعودية والإمارات أعقبتها دفعات أخرى لتعزيز حالة الاقتصاد السوداني، في الوقت الذي جرت فيه مقاطعة قطر وقناة الجزيرة منذ البداية وتسريب أخبار غير مؤكَّدة عن إنهاء المجلس العسكري لاتفاق سواكن مع تركيا الأمر الذي نفتْه الخارجية التركية([23])، ومن ناحيتها أعلنت الولايات المتحدة استعدادها لشطب السودان من الدول الراعية للإرهاب، وفي المقابل أعلنت وزيرة الخارجية الجديدة أسماء محمد عبد الله (استقالت مؤخرًا) استعداد السودان لتطوير العلاقات مع إسرائيل في المستقبل إذا حُلَّ الصراع مع الفلسطينيِّين: “بالطبع من حيث المبدأ… لمعظم الدول العربية علاقات بطريقة أو بأخرى. السودان هو أحد الدول العربية، ولكن الآن ليس هو الوقت المناسب”. جاءت تصريحات أسماء عبد الله بعد أيام من دعوة وزير الشؤون “الدينية” السودانية، نصر الدين مفرح، لليهود بالعودة إلى السودان: “قد يكونوا غادروا البلاد، ولكننا ندعوهم من هنا إلى أخذ حقهم في أن يصبحوا مواطنين ونحضهم على العودة إلى هذا البلد”([24]). وفي أغسطس 2020 تتكرَّر ذات المواقف خاصة على وقع إعلان الاتفاق الإماراتي-الصهيوني من أجل التطبيع الشامل برعاية ترامب.

وعقب أقل من عام بدأت أمارات التململ في الشارع السوداني جرَّاء استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية لاسيما مع هجمة وباء كورونا وإجراءاته التقييديَّة، وتعطُّل تحقيق كثير من مطالب الثورة، وبالأخص محاسبة الذين باشروا وتسبَّبوا في مقتل المتظاهرين وفي مقدِّمتهم معتصمو القيادة العامة 3 يونيو 2019. ولذا خرجت جموع كبيرة في 30 يونيو 2020 للتذكير بذلك والتنديد بأداء الحكومة الانتقالية؛ ما حدا بالأخيرة إلى إحداث تغيير جزئي بتغيير ستة من الوزراء في 8 يوليو 2020.

لقد تيبَّست القشرة الأرضية الضعيفة التي يقف عليها نظام عمر البشير، فلم تعُد تأبه لما يجري في باطن الأرض، وهي لا تملك له تبريدًا ولا استيعابًا؛ ومن ثمَّ واجه البشير الاحتجاجات بحشود رمزية مقابلة وخطابات رنانة واتهامات ووعود، وطبول ورقصات.. انتهت به إلى سجن كوبر الشهير بالخرطوم. إن إحراق المعايش بنيران التدهور الاقتصادي لا يتوقَّف عند حدود الحوض الاجتماعي الاقتصادي حتى يصهر ويحرق المسافات مع السياسي ويتحوَّل من المطالبة بالخبز وخفض الضرائب وتوفير الأشغال إلى إسقاط المسئولين عن ذلك بدءًا بالموظفين فالرئيس فالنظام برمَّته، والدعوة لشكل سياسي جديد.

ولقد كان ذلك في السودان، غير أن مدخلات داخلية وخارجية استبقت حراك البركان واستطاعت توجيه فوهته إلى ضرب القوى السياسية الإسلامية السودانية، وإعادة توجيه التوجُّه الخارجي للسودان لينضمَّ إلى معسكر الثورة المضادة الإقليمي والدولي وصولًا إلى خطوات التقارب مع الكيان الصهيوني الذي كان السودان من أبعد الأقطار العربية عنه. وهكذا بدأت الأمور صغيرة ولكن عبر الوقت المهدر آلتْ إلى منظومة بديلة تقودها نخبة مدنية علمانية في كنف المؤسسة العسكرية وعلى تواصل حميم مع الخارج المضاد للموجة الأولى من الثورات.

  • الجزائر

وفي غضون التطورات السودانية وقبل إسقاط البشير، تحرَّكت الحمم العربية غربًا باتجاه الجزائر، وتسابقت الحالتان حتى سقط الرئيسان البشير وبوتفليقة في شهر واحد أبريل 2019، ولكن حراك الجزائر بدا سياسيًّا محضًا، خاصة مع تعزيز الصادر والعائد النفطي للحالة الاقتصادية الجزائرية نوعًا.

فمع إعلان أحزاب الموالاة وحزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم) ترشيحهم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية (عهدة) خامسة بعد عشرين عامًا في الحكم (أربع ولايات وكل ولاية خمس سنوات منذ 1999)، وفي ظل إعاقته الصحية الخطيرة والمُقعِدة([25])، اندلعت التظاهرات الكبيرة في أنحاء عدَّة من الجزائر وأخذت نمط “الجُمع/الأسبوعيات” الذي عرفته ثورات الموجة الأولى في مصر وسوريا واليمن، مع الحرص على السلمية التامَّة وعلى البقاء في الشارع الأسبوع كاملا، بحيث تبدأ الفعالية من الأحد وتتعاظم إلى يوم الجمعة حين تتحوَّل إلى مليونيات منتشرة في مدن عديدة بأنحاء الجزائر.

وفي البداية ومثل البشير -ومن قبلهما بن علي وحسني مبارك- حاول بوتفليقة احتواء الحراك قبل أن ينفجر بإعلانه تأجيل الانتخابات الرئاسية عن أبريل 2020، ثم تعهده بعدم الترشُّح فيها، ثم استعداده لتعيين حكومة جديدة من التكنوقراط، ما نقل المطالب من إسقاطه هو إلى الشعار الأشهر (الشعب يريد إسقاط النظام)؛ أي حل نظام جبهة التحرير الوطني الحاكم لأكثر من نصف قرن، ومحاسبة الفاسدين في هذا النظام ومقرَّبيه. ويمكن اعتبار التجميد السياسي الذي أحدثه نظام جبهة التحرير عقب العشرية السوداء بمثابة الحوض البركاني الذي جثم على صدور الجزائريِّين، وأن الترشُّح للعهدة الخامسة كان الفوهة التي انطلق منها الاحتجاج الشعبي الغاضب والواسع؛ ومن ثم تبقى لهذا الحراك الكبير العنق الموجِّه له (القوى القائدة للحراك)، ولم يكن متوفرًا!

وأمام غياب تلك القوى، تصدر -وحده- رئيس أركان “الجيش” نائب وزير الدفاع الفريق أحمد قائد صالح لمواجهة الموقف وتوجيهه، وفي أواخر مارس وعقب شهر من اندلاع التظاهرات والدعوة لإضراب عام، أعلن صالح أن المخرج يكمن في تطبيق المادة 102 من الدستور والتي تنصُّ على ضرورة اجتماع المجلس الدستوري وجوبًا في حالة ما استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه (بسبب مرض خطير ومزمن مثلًا) واختيار رئيس مجلس الأمَّة للقيام بمهام رئيس الدولة لمدة أقصاها تسعون يومًا؛ تنظَّم خلالها انتخابات رئاسية ولا يَحق لرئيس الدولة المعيَّن بهذه الطريقة أن يترشَّح لرئاسة الجمهورية([26]). ورغم رفض الشارع ونخب سياسية غير منظمة ولا مجمعة لهذا الطرح، إلا أن قايد صالح أصرَّ ومضى في هذا السبيل وبغير مقاومة مؤثِّرة.

ومن ثم -وعقب جمعة (يتناحاو قاع: أي ليتنحوا جميعا) السادسة- أعلن الرئيس بوتفليقة استقالته في الثاني من أبريل 2019، وقدم اعتذارًا للشعب في اليوم التالي، وفي 9 أبريل أعلن البرلمان الجزائري رئيسه عبد القادر صالح رئيسًا للدولة لمدة 90 يوما وفقا للمادة 102([27]).

هذا التقدُّم الظاهري فتح المجال أمام الحراك لمطلب أعلى؛ وهو: إسقاط كل رموز النظام وبدءًا بالباءات الثلاثة بعد بوتفليقة: عبد العزيز بلعيز رئيس المجلس الدستوري (الذي سارع بإعلان الاستقالة)، وعبد القادر بن صالح رئيس مجلس النواب (الذي أصبح الرئيس المؤقَّت!)، ونور الدين بدوي رئيس الحكومة التي عيَّنها بوتفليقة بعد اندلاع الحراك مباشرة، وعلت المطالب برحيل جميع الزمرة الحاكمة ومحاسبة فاسديها([28]).

وفي هدوء متَّصل أدار قايد صالح بقية المشهد؛ بين استجابة محدودة للشارع من جهة وتسيير لعملية الانتقال الرئاسي داخل نطاق الدولة من الجهة الأخرى؛ فتوالت عمليات الاعتقال لبعض قيادات النظام ورموزه من عسكريِّين وسياسيِّين ورجال أعمال. ففي 4 مايو على سبيل المثال تم اعتقال الجنرالين السابقين في المخابرات بشير طرطاق ومحمد مدين بالإضافة إلى سعيد بوتفليقة أخي الرئيس المستقيل لتتمَّ محاكمتهم بتهمة التآمر ضد الدولة؛ حيث كان قايد صالح قد أعلن عن “اجتماع مشبوه” حضره مدين وسعيد ودُعي إليه الأمين زروال الرئيس الجزائري الأسبق، وفي 9 مايو استدعيت لويزة حنون رئيسة حزب العمال الجزائري لمحكمة البليدة وتم احتجازها في نفس قضية السعيد بوتفليقة؛ حتى صدرت الأحكام على عدد كبير؛ منهم رئيسا وزراء سابقان (أحمد أويحيى وعبد المالك سلال)([29]).

تدافع قايد صالح مع الحراك لسدِّ فوهته أو تبريد حممه، وبعد تحديد يوليو موعدًا لانتخابات الرئاسة تراجع أمام الرفض الشعبي لكن لا لتُلغى الانتخابات ولكن لتُؤجَّل إلى ديسمبر؛ حيث انعقدت فعلًا في 12 ديسمبر رغم معارضة الشارع “غير المنظم وغير المقود بقيادة تعبر عنه”، وأُعلن رسميًّا عبد المجيد تبون رئيسًا للبلاد في 16 ديسمبر، ثم لم يلبث بعدها بأسبوع أن أُعلنت وفاة رئيس الأركان ومدير المرحلة الانتقالية أحمد قايد صالح في 23 ديسمبر 2019 في صمت مريب!

يبدو أن الدولة العميقة في الجزائر استلهمت التجربة المصرية والطريقة التي وظَّف بها الجيش هناك الاحتقان الشعبي لتعزيز سلطاته. فالرئيس الجديد عبد المجيد تبون لا يكف عن الثناء على الحراك الشعبي، ويؤكِّد أنه “لولاه (الحراك) لانهارت الدولة الوطنية وأن الشعب أوقف المؤامرة التي حيكت ضد البلاد في وقتها”، ويضيف في لقاء بثه التلفزيون الرسمي: “من يواصلون الحراك للاحتجاج يمارسون حقهم في التعبير عن رأيهم بحرية لأن هذا أساس الديمقراطية، وهي ظاهرة صحية“. بل إن تبون دأب على تبني العديد من شعارات الحراك، وهو ما يرى فيه كثير من المراقبين التفافًا على مطالب التغيير الجوهري والعميق الذي يطالب به المحتجُّون، فبعد عام من الحراك عادت الواجهة المدنية للمرادية (قصر الرئاسة) وعاد معها المشهد السياسي إلى مربعه الأول، بينما يقبع الجيش هادئًا في الخلفية بلا تغيير جوهري في موقعه([30]).

اتَّسم الحراك الجزائري بالسلمية والصمود والتدرُّج في المطالب، لكنه من ناحية أخرى افتقد التنظيم والقيادة والقدرة على تقديم البدائل السياسية، فأفرز النظامُ نفسُه تعديلًا ذاتيًّا على النحو الذي ذكرناه؛ ومن ثم يعمل الآن تبون على استعادة الأمن ويجري اعتقال بعض النشطاء الأشبه بتوابع البركان؛ ما يعيد بعضًا من موجات الحراك الضعيفة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، ولكن الأكثرين يرون أن النتيجة لم تكن بقدر الصمود السلمي الذي قدَّمه الجزائريون لنحو من عام كامل أو لعدد 52 جمعة متتالية، وأن الهرم السياسي الجزائري عاد كما كان بل بشرعية مجدَّدة([31]).

وإذا كان الخارج قد قفز في سفينة السودان مبكرًا، فقد بدا حذرًا مع حالة الجزائر وبصورة خاصة لافتة وتحتاج إلى تفسير؛ فقد حرصت القوى المختلفة -حتى فرنسا والاتحاد الأوروبي- على اعتبار الحراك وتداعياته شأنًا داخليًّا لا يتدخَّلون فيه؛ ولعل السبب في ذلك أن اتجاه المباراة لم يكن واضحًا، وأن ميزان القوى بدا متعادلًا بين الشعبي والعسكري، كما يبدو أن قايد صالح لم يكن يُظهر ميلًا للتداخل مع أي من قوى الخارج بل ربما أغلق الباب في وجوه الجميع، حتى الجامعة العربية أشبهت الاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة في التصريح بأن ما يجري في الجزائر “شأن داخلي” وأنه ينبغي للأطراف أن تتحاور وتحل الإشكال سلميًّا وحسب([32]).

  • العراق

وفي قلب أتون الشأن الجزائري وقبل تهدئته، وفي الأول من أكتوبر 2019، يتفجر بركان العراق الأعنف بين انتفاضات العرب في الموجة الثانية (مظاهرات، مسيرات، وقفات احتجاجية، اعتصامات، إضرابات، عصيان مدني، اقتحامات، مصادمات، إحراقات، مئات القتلى، آلاف الجرحى والمعتقلين). بدأ الأمر -كما في الأردن والسودان- من الحوض الاقتصادي الذي اجتمعت فيه سوء الأحوال المعيشية والبطالة مع تدهور الخدمات الأساسية بما فيها مياه الشرب (المالحة) والكهرباء إلى جانب شيوع الفساد المالي والمحسوبية في الإدارة الحكومية بصورة طافحة، وفي ظل أفق مغلق -بعد حراكات عديدة في الشمال والجنوب لم تجدِ شيئا منذ 2011- ومع استحكام التشرذم الحزبي المعزز بميليشيات عديدة تفرض نوعا من التقسيم العقيم للقوة السياسية والاجتماعية لا يعالج سياسات ولا يأبه بغير تقسيم العراق جهويًّا وطائفيًّا.. غالبًا، لهذه الحزمة من العوامل جاءت الانتفاضة العراقية شديدة وعنيفة بدءًا من محافظات الجنوب فالوسط ومدنها الرئيسية (البصرة، الناصرة، السماوة، العمارة، الديوانية، الكوت، الحلة، النجف، كربلاء، بغداد).

ولم تبدُ الانتفاضة العراقية طائفية مطلقًا، ويكاد لا يُعرف للانفجار فوهة محدَّدة من قرارات اقتصادية أو أحداث معينة، فقد اندلع الحراك في المناطق التي تقطنها أغلبية شيعية ضد الحكومة ذات الأغلبية والقيادة الشيعية وهاجمت الجموع مقرات الأحزاب والحركات الشيعية، بل تصاعدت أهداف الحراك مبكرًا ضدَّ إيران الشيعية وقام المتظاهرون بمهاجمة وإحراق أكثر من قنصلية لها في الناصرة والبصرة والنجف، فضلًا عن إحراق مقرات كثيرة للتيارات والأحزاب المتعددة (حزب الدعوة، حركة بشائر الخير، عصائب الحق، ائتلاف النصر، سرايا الخراساني، منظمة بدر، حزب الفضيلة، تيار الحكمة، كتائب حزب الله العراقي، كتائب سيد الشهداء، …) التي حملها المحتجون مسئولية كبيرة في تدوير عجلة الفساد والاستئثار بالسلطة والأموال([33]).

حكومة عادل عبد المهدي التي كان قد مضى عليها في أول أكتوبر 2019 سنة تامة (تولَّت 2 أكتوبر 2018) واجهت ذلك الحراك بعنف شديد ومتصاعد حتى سقط يوميًّا عشرات القتلى ووصل عددهم في نحو شهرين إلى نحو 700 قتيل ونحو من 22000 جريح، مع آلاف من المعتقلين وعشرات من المختطفين، لكن الحكومة ظلت تعلن أن مجهولين ومندسين يقومون بمواجهة المتظاهرين ويتسببون في إصاباتهم وإصابة رجال الأمن، كما أعلنت أكثر من مرة عن تحويل عدد من الضباط والجنود إلى التحقيق القضائي لتسببهم في مقتل أو إصابة متظاهرين، وكذلك عزل بعض ولاة الأقاليم الذين اتهموا بالعنف المفرط([34]).

وفي بغداد حاول المتظاهرون الوصول إلى المنطقة الخضراء (الحي الحكومي والدولي المحصن في بغداد)، وفي البصرة اقتحموا موانئ ومصافي البترول، وفي المدن المختلفة خرج أعضاء النقابات العديدة (العمال والفلاحين والمحامين والصحافيين…) وطلاب الجامعات والمدارس كحالة الأردن والسودان، وتم قطع الإنترنت وحجب وسائل التواصل الاجتماعي وهاجمت قوات الأمن مقرات قنوات سعودية وإماراتية كالعربية والحدث في بغداد.

ولتبريد البركان، انطلقت وعود الحلبوسي (رئيس البرلمان) وعبد المهدي بإجراءات لمكافحة الفساد وتحسين الأحوال المعيشية وتوزيع أراض للسكن ورواتب للأسر فاقدة العائل، وحل مجالس الأقضية والنواحي والمحافظات، وإلغاء امتيازات الرئاسيات الثلاث والنواب والوزراء وكبار الموظفين، وتشكيل لجنة لتعديل الدستور خلال أربعة أشهر، واستجواب وزراء النفط والصناعة والزراعة خلال شهر، ورفع الحصانة عن أي نائب يتهم بالفساد، بل تقدَّمت أربع كتل برلمانية بمذكرة لاستجواب عبد المهدي نفسه، وبالفعل صدرت عشرات القرارات باستقدام وتوقيف نواب ومسئولين محليين متهمين بالفساد وهدر المال العام، لكن هذا لم يكن كافيًا؛ فتصاعدت المطالب إلى إقالة الحكومة وحل البرلمان([35]).

وبالفعل استقال عبد المهدي في 30 نوفمبر 2019 بعد شهرين من بداية الحراك الذي لم يتوقَّف؛ ومن ثم اتَّجه الحراك إلى المطالبة بتغيير الدستور لإلغاء المُحاصصة الطائفية والعرقية والتعجيل بانتخابات شاملة، وإكمال قانون الانتخابات وجدول الدوائر العادل بحسب أحجامها، وأن يكون رئيس الحكومة القادم مستقلًّا مؤقَّتًا وخارج المحاصصة([36]).

وبالرغم من التغيير الحكومي وإعلان حكومة مصطفى الكاظمي -بعد خلاف واسع- في 20 مايو 2020، وتوالي إجراءات عقابية ضدَّ بعض الشخصيات المتَّهمة بالفساد ووقوع أحداث خطيرة مثل مقتل الإيراني قاسم سليماني وانفتاح العراق للصراع الأمريكي والإيراني، وبالرغم من هجوم وباء كورونا فإنه حتى ساعة كتابة هذه الورقة، لم تتوقف الاحتجاجات بالعراق وتزايدت معها عمليات القتل والاغتيال حتى اليوم ولم يقترب أحدٌ من محاولة تحجيم الميليشيات المتناثرة في أنحاء البلاد والتي تهاجم التظاهرات وتختطف أعدادًا من المحتجِّين.

والحاصل أنه على منوال الحراك العربي العام، تحركت المطالب من الحوض الاقتصادي إلى السياسي بالمطالبة برحيل حكومة عبد المهدي والطبقة السياسية الحاكمة، وحضر الخارج فيها باستدعاء الداخل له اعتراضًا على حضوره في الحياة السياسية والوطنية العراقية لا سيما إيران والأمريكان وصراعهما في (وعلى) العراق، كما تداخل الديني والسياسي والعرقي، أكثر من الطائفي، في هذا الشأن. ولكن مرة أخرى افتقد الحراك إلى تناسق وتنسيق وخبرة القوى المنضمَّة إليه، فكان عنق البركان يعمل للتسيير والتفجُّر أكثر من التوجيه والقيادة إلى مكاسب سياسية حقيقية؛ ومن ثم أعاد النظام تدوير ذاته وترتيب ملفاته بلا تغيير حقيقي!

 

  • لبنان

وفي وقت التفجُّر العراقي ذاته أو بعده بأسبوعين انفتحت فوهة أخرى في لبنان في السابع عشر من أكتوبر 2019 إثر الإعلان عن خطط حكومية لفرض المزيد من الضرائب على البنزين والتبغ، إضافة إلى استحداث ضريبة على استخدام تطبيقات المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت مثل واتساب، والتي قُرِّرَ التصديق عليها في 22 أكتوبر 2019، ثم توسَّعت الاحتجاجات حيث بدأ المتظاهرون بالمطالبة بإسقاط الرئاسات الثلاث في لبنان.

اعتمل في الحوض البركاني سياسات فاشلة وفشل سياسي وإداري متراكم (المعترف به من الجميع بغير أفق للخروج منه) وتكثفت الأزمات المتراكمة خلال أسابيع قبل الانفجار؛ بدءًا من أزمة العملة إلى محطات الوقود وحرائق الغابات التي سببها هو سوء إدارة الحياة البرية، وفرض ضريبة على البنزين والقمح ثم على المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت، فارتفاع غير مسبوق في الأسعار مع طفح الفساد السياسي والمحاصصة الطائفية.

تداعت- الأحداث وبدأ مسلسل التراجعات والتنازلات الحكومية على النمط المعروف، فأعلن وزير الاتصالات محمد شقير منذ اليوم الأول إلغاء الضريبة على الواتساب، وفي اليوم التالي 18 أكتوبر هاجم متظاهرون في النبطية و‌طرابلس مكاتب حزب الله و‌حركة أمل والأحزاب السياسية التابعة للتيار الوطني الحر وخربوها وحاول آخرون اقتحام مبنى البرلمان، لكن قوات الأمن أوقفتهم باستخدام الغاز المسيل للدموع، وأقام متظاهرون حواجز على الطرق الرئيسية مستخدمين إطارات محترقة وصناديق قمامة. وأعلن موظفو الخدمة المدنية عن إضراب فوري من خلال رابطة موظفي القطاع العام، وكان من المقرر عقد اجتماع لمجلس الوزراء في فترة ما بعد الظهر، لكن وزراء حزب القوات اللبنانية أعلنوا أنهم لن يحضروا، ودعا زعيم القوات، سمير جعجع، إلى استقالة رئيس الوزراء؛ بسبب “الفشل الذريع في وقف تدهور الوضع الاقتصادي للبلد”، ثم انسحب بعد ذلك من الحكومة بمقاعده الأربعة. ودعا زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، إلى تحرك “هادئ وسلمي” ضد ولاية الرئيس ميشال عون، كما أعرب بيير عيسى من الكتلة الوطنية عن رأي مشابه([37]).

في مساء اليوم نفسه، ألقى سعد الحريري خطابًا للأمة، حيث أعطى “شركاءه في الحكومة” 72 ساعة لدعم الإصلاحات؛ محذرًا أنه إذا لم يتوصَّلوا إلى اتفاق فسيتخذ “نهجًا مختلفًا”. وأعلن الحريري عن تدابير اقتصادية تهدف إلى: خفض العجز، وخفض أجور السياسيين إلى النصف، وتقديم مساعدة مالية لأولئك الذين يعانون من الفقر، وأنه سيستقيل إذا لم يتم إقرار الإجراءات. رفض المتظاهرون إصلاحات الحريري ووصفوا أعضاء حكومته بـ”اللصوص”. وفي الليل، حاول العديد من راكبي الدراجات النارية ممن يرفعون أعلام حزب الله وحركة أمل التسلل إلى الاحتجاجات في بيروت، لكن الجيش اللبناني تمكَّن من إحباط محاولتهم. بعد بضع دقائق، نفى حزب الله وحركة أمل تورُّطهما في هذا الحادث. ثم أصبح هذا الحادث متكرِّرًا كل يوم تقريبًا([38]).

وإذا كان الخارج تدخَّل في الحالة السودانية وتنازع الساحة العراقية وأظهر الحياد في حالة الجزائر فإنه بجميع قواه متمددٌ في الساحة اللبنانية وكأن لبنان ملكٌ مشاعٌ بين الجميع، وهكذا بدا تعامل القوى اللبنانية مع الخارج باعتباره من الداخل!! ففي يوم 22 أكتوبر التقى الحريري بسفراء الولايات المتحدة، روسيا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا و‌الاتحاد الأوروبي، إلى جانب ممثلين عن الصين و‌الأمم المتحدة و‌جامعة الدول العربية، وناقشهم الإصلاحات المخطط لها وشدَّد على أهمية التعبير السلمي عن المحتجين. وأعرب ممثلو فريق الدعم الدولي للبنان عن دعمهم للإصلاحات الاقتصادية وحماية المتظاهرين، وحثُّوا قادة لبنان على الدخول في حوار مفتوح مع مواطني البلاد([39]).

توالت دعوات الحريري والرئيس اللبناني ميشيل عون للحوار مع المتظاهرين والمراجعة من خلال مؤسسات الدولة مع سيل من الوعود في محاولة لتبريد الحالة البركانية المتصاعدة، ولكن المتظاهرين واجهوا ذلك كله بالتصعيد والمطالبة باستقالة الحكومة ثم الرئاسات الثلاث، وتغيير النخبة الحاكمة على غرار مطالب السودانيين والعراقيين والجزائريين في الآونة نفسها.. وقد ضاعف من اشتعال الموقف استمرار تردِّي المؤشرات والأوضاع والسياسات الاقتصادية. ففي الأسبوع الأخير من أكتوبر 2019 صنف تقرير صادر عن شركة الخدمات المالية ستاندرد آند بورز، لبنان في الفئة السلبية والضعيفة بسبب تدنِّي الجدارة الائتمانية، وقد استمرَّ إغلاق بنوك البلاد بسبب المخاوف من الاحتجاجات ما زاد الطين بلة([40]).

وفيما كانت قوى تنفخ في النار وفي مقدِّمتها حزب القوات اللبنانية ورئيسه سمير جعجع محملا الحكومة مسئولية عدم الاستجابة لمطالب المحتجِّين، كانت مجموعات من حزب الله اللبناني تصطدم بالمتظاهرين ودعا أمين عام الحزب حسن نصر الله أنصاره وغيرهم لترك الشوارع والحذر من استغلالهم من قبل العملاء المحليِّين والأجانب لبدء حرب أهلية داخل البلاد([41]).

وقبل انتهاء الأسبوع الثاني للحراك وفي 29 أكتوبر 2019 أعلن سعد الحريري استقالة حكومته، بينما دخلت الرئاستان الباقيتان في سجال مع المحتجين الذين كثَّفوا حراكهم ونوَّعوا فعالياته وأغلقوا معظم شوارع بيروت ومدن أخرى مثل صور وطرابلس وأغلقوا الجسور والطرق بين المدن وأشعلوا كمًّا هائلًا من الإطارات الجلدية، وحاصروا مبنى البرلمان لمنع انعقاد جلسة التصويت على قانون عفو عام يمكن أن يمنح الأعضاء الحاليِّين والسابقين الحماية من المقاضاة على جرائم مثل الفساد وإساءة استخدام الأموال العامة([42])!

هذا بينما واصل ميشيل عون في خطابات موجهة وحوارات متلفزة الهجوم على المتظاهرين والتسفيه من سلوكياتهم ومطالبهم؛ فاتهمهم “بطعن الشعب بخنجر”، وأن الذين أغلقوا الطرق قد قاموا “بانتهاك القانون الدولي”! ودعا إلى وضع حدٍّ فوري للاحتجاجات لمنع حدوث “كارثة”، وأنه “يمكن لأي شخص لا يجد ثقته في الحكومة اللبنانية الحالية أن يغادر لبنان ويعيش في مكان آخر“. هذا بينما حرص الشيخ حسن نصر الله على أن يمسك العصا من متتصفها ما بين مطالب الإصلاح ومطالب التهدئة([43]).

ومع حضور الجيش اللبناني في الشوارع في محاولة صدِّ تحرُّكات المحتجِّين ومنعهم من إغلاق الطرق ومحاصرة أو مهاجمة المنشآت العامة.. أقام المحتجون في ذكرى يوم الاستقلال 22 نوفمبر ما سمي بـ”عرض مدني” في مقابل العرض العسكري المعتاد من الدولة، وتكوَّن من فئات المهن المختلفة من الأطباء والمهندسين والمعلمين والموظفين العسكريين المتقاعدين والصيادلة وناشطات حقوق المرأة والمصرفيِّين والرياضيِّين وفناني الأداء، وتوالت العروض الفنية الغنائية والراقصة التي سلطت وسائل الإعلام الضوء عليها. وفي 24 نوفمبر أحرق أنصار حزب الله وحركة  أمل خيام أنصار المجتمع المدني وحطموا سياراتهم مما دفع الجيش اللبناني للتدخل بالغاز المسيل للدموع وقنابل الدخان اليدوية بعد ساعات، لتفريق واحدة من أكثر الأُمسيات عنفًا منذ بداية الاحتجاجات([44]).

في 25 نوفمبر أصدر يان كوبيتش، منسق الأمم المتحدة الخاص للبنان، تصريحات متعددة على موقع تويتر يحذر فيها من المواجهة المتصاعدة بين المحتجين وأنصار حزب الله/حركة أمل؛  في وقت بدأ فيه أنصار حزب الله وحركة أمل الموالين للحكومة بالتجول في جميع أنحاء بيروت وصور ومدن أخرى، على الدراجات البخارية وهم يهتفون بالاستهزاء بالمتظاهرين؛ ما أدى إلى اشتباكات جسدية ومواجهات استمرت بشكل متقطع. ومن هنا بدأ الحديث عن عنف طائفي في الحراك اللبناني!

ولكن الحقيقة أن الحراك من بدايته كان متجاوزًا للطائفية وحصصها ورفع الجميع علم لبنان تاركين الأعلام الفرعية التي لا حد لها. ورغم مواجهة حزب الله وحركة أمل الشيعيَّيْن بالأساس للحراك إلا أن ذلك لم يفرض المنطق الطائفي! وعلى غرار العراق كانت لبنان مجالا للتراشق الخطابي بين الخارجية الأمريكية والأوروبيين من جهة وإيران وحزب الله من الجهة الأخرى([45]).

وهكذا، تتبَّعنا مسارات الموجة الثانية من البركان العربي من بداياتها إلى نتائجها الأولية؛ من أحواضها الاقتصادية إلى فوهاتها السياسية التي قد تظهر لأهون الأسباب أو لأحداث غير متوقعة، لكن أعناقها بدت تفتقد إلى قوى سياسية قادرة على ترشيد الجهد الشعبي الكبير وحصاد ثمار التضحيات الثورية؛ ومن ثم جاءت نتائجها إما بالحفاظ على الشكل الهرمي أو الهضبي للنظام السياسي بغير تغيير حقيقي وجوهري، وإما بإعلان أن المنطقة دخلت حزام الزلازل والبراكين ومعرضة للانفجار في أي وقت ولأهون الأسباب. ولكن الأمر لا يزال بحاجة إلى مزيد من تأمل الدلالات السياسية والقيمية.

ثانيًا- سياسات مواجهة أزمة كورونا وآثارها على دول الموجة

بحلول جائحة كورونا في البلاد العربية امتزجت معضلة السياسة -كما في الانتفاضات- بإشكاليات السياسات العامة المتعلقة بالصحة والتعليم والاقتصاد وغيرها في حوض واحد؛ ووقفت الشعوب والأنظمة أمام اختبار مركب من ثنائية: الإصلاح السياسي أم الإنقاذ الإنساني والمجتمعي؟

فلقد شهدت فترة أزمة كورونا ضغوطا شديدة على الشعوب والحكومات العربية معا، لا سيما من الناحية الحياتية والاقتصادية مع استمرار وتراكم التحديات الأمنية والسياسية التي تحيط بالمنطقة وتتخلَّل أقطارها. ومن ثم توقَّعت بعض التقارير وقوع قلاقل في عدد من الدول التي كشفت كورونا عن ضعفها أو تضرَّر مواطنوها تضرُّرات بالغة، بل توقَّعت بعض التقارير موجة ثالثة من الثورات العربية([46]).

وانتقل وباء كورونا إلى الدول العربية منذ منتصف فبراير 2020 بداية من الإمارات فمصر ولبنان، ثم بقية دول الخليج: الكويت وسلطنة عمان والبحرين والعراق والسعودية، حتى انتشر في كل الدول العربية بدرجات مختلفة([47]). وتفاوتت طرق تعامل الحكومات العربية مع الوباء نظرًا لاختلاف ظروفها وأساليبها في الموزانة بين عناصر عدة: متطلبات الوقاية الصحية، وضغوط المطالب الاقتصادية، وقدرات كل دولة، والمخاوف الأمنية، والأوضاع السياسية، وتوقع مراقبون أن يكون الوضع أخطر في دول الموجة الثانية من الانتفاضات (السودان، الجزائر، العراق، لبنان)، ولكن المؤشرات لم تؤكِّد ذلك حتى اليوم.

ويمكن ملاحظة آثار هذه الأزمة على دول الموجة الثانية على مستويين: مباشر يتعلق بالسياسات الصحية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وغير مباشر يتعلق بالتغيير السياسي العام ومآلات الحراك الشعبي في كل منها. ومن ثم تعتمد الدراسة على مراجعة السياسات أكثر من متابعة المؤشِّرات؛ سواء المؤشِّرات العددية أو النسبية لأن الكثير منها يضلل أو لا يدل على شيء مؤكَّد إلا قليلا، مع استمرار الدراسة في محاولةاستجلاء أثر الجائحة على العلاقة بين السلطة والمجتمع وحالة الثوران السياسي العربي الفائر أو المكبوت.

أ) السياسات الصحية في مواجهة الأزمة

ظهر وباء كورونا في دول الموجة الثانية بين 17 فبراير (الجزائر) و13 مارس 2020 (السودان)، مرورًا بلبنان (21 فبراير)، فالعراق (24 فبراير)، فالأردن (2 مارس)، وتشابهت ظاهريًّا سياسات الدول الوقائية والعلاجية والرعائية في التعامل معها؛ الأمر الذي كان له أثره على حجم الأزمة وتأثُّر المواطنين بها، ولكن بعض الأنظمة تميز بأداءات إيجابية في الوقت الذي توجهت فيه انتقادات لسياسات أنظمة أخرى.

وقد اتخذت دول الموجة الثانية كلها تلك الإجراءات العامة الوقائية والعلاجية التي قامت بها جميع الحكومات تدريجًا؛ بداية من الحجر الصحي للقادمين من الخارج إلى تعطيل حركة الطيران الخارجي فالتنقلات الداخلية بين الولايات، ففرض إجراءات وقائية على المواطنين، وتخصيص مستشفيات ومراكز للحجر، ووسائل للكشف عن الإصابات، فإغلاق الكثير من المؤسسات وأماكن التجمع على التوالي، وصولًا إلى العزل المنزلي للمواطنين فحظر التجول لساعات وتوقيتات معينة، لكن بعضها تميز عن بعض في فعالية وكفاءة السياسات وسرعة الحركة والاستعداد لتحمل الأعباء المالية والاقتصادية لهذه الإجراءات.

ولعل تأخُّر ظهور الوباء في الأردن ولبنان وتضاؤل الإصابات والوفيات فيهما لشهور تالية يعزى إلى جودة وجدية بعض السياسات الاحترازية والعلاجية.

فقد اتخذت الأردن سياسات شديدة الصرامة من قبل ظهور أول حالة (ثاني حالة بعد الأولى بـ13 يومًا يوم 15 مارس)، وتلقَّت إشادات من تقارير منظمة الصحة العالمية وغيرها، وقام العاهل الأردني بدور مباشر في عمليات التوعية والطمأنة والتوجيه والمشاركة في إدارة الأزمة وتنفيذ السياسات؛ خطابًا وحركة([48]). واقترب من ذلك الأداء اللبناني لا سيما في اجتهاد حكومة حسان دياب التي أفرزها الحراك (19 ديسمبر 2019 وحتى 10 أغسطس 2020) في التواصل مع الشعب واعتماد خطاب توجيه حضاري، مع إجراءات عملية تقدَّمت حينًا وتأخَّرت حينًا.

فعلى سبيل المثال، اتخذت الأردن إجراءات حجر المسافرين منذ 23 فبراير ما قبل أول إصابة بثمانية أيام، ثم شرعت في إغلاق المطارات والموانئ ومعابر الحدود السورية فالمدارس والتجمعات المختلفة مبكرًا، ثم مع توالي اكتشاف إصابات تم تصعيد الإجراءات حتى شملت تفعيل قانون الدفاع الصادر سنة 1992 (ولم يكن مفعَّلًا منذ صدر) والذي تم بموجبه تعطيل جميع المؤسسات والإدارات الرسمية والقطاع الخاص باستثناء القطاعات الحيوية والقطاع الصحي، ومنع المواطنين من مغادرة المنازل إلا في حالات الضرورة القصوى.. إلى غيرها من الإجراءات المتكاملة والسريعة([49]).

وأظهرت الحكومة الأردنية كفاءة في إيجاد البدائل المتعلِّقة بالبيع والشراء بالدفع الإلكتروني وتوصيل احتياجات الناس إلى منازلهم خاصة في مدن أكثر خطورة، وخصصت الدولة ميزانية مخصوصة لمواجهة الأزمة ومنعت تصدير المعدات والأدوات الطبية التي تحتاجها مخزونا استراتيجيًّا، حتى بلغت درجة من التحكُّم بحركة الوباء؛ فشرعت تقدم المعونات للدول الشقيقة والصديقة([50]).

وفي 23 مارس 2020 كان الملك عبد الله الثاني قد ألقى خطابًا مسجَّلًا عبر التلفزيون الأردني مرتديًا الزي العسكري من أجل تشجيع المواطنين على تحمُّل الأزمة والتعامل معها بجدية؛ ومما قاله في الخطاب: “.. أطلب منكم بصوت الأب لأبنائه، عدم التنقل والالتزام بالتعليمات الرسمية.. فلنرتقي بمسؤولية حماية الوطن الذي نحب، ولنتفانَ في التضحية والعطاء،.. كان الأردني دائمًا لأخيه الأردني سندًا، وسيظل لوطنه درعًا([51]).

شكَّلت الحكومة الأردنية أيضًا “خلية أزمة” تعمل على مدار الساعة، لمتابعة التطورات المتعلِّقة بانتشار كورونا في الأردن، ولم توكل المواجهة إلى وزارة الصحة وحدها بل كلَّفت وزارات مثل السياحة والآثار بالتعاون معها، وخططت الحكومة -من خلال المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات– من البداية لتفعيل التباعد الاجتماعي والتحول للمنصات الرقمية بحيث لا تتعطل حياة المواطنين خلال فترة الحظر أو الحجر الصحي، وتمَّت الاستعانة بالقطاع الخاص ووزارة الاقتصاد الرقمي لهذا الغرض. تعدَّدت المنصات الرقمية التي أطلقتها الحكومة لتشمل المجالات الصحية والتعليمية وتوصيل المواد الغذائية وطلب تصاريح الخروج والتعليم عن بعد وحتى طلب الأدوية من الصيدليات أو وسائط نقل للحالات الطارئة وغيرها، وفي 6 أبريل، أطلقت الحكومة الأردنية موقع (www.stayhome.jo) على شبكة الإنترنت للسماح للمواطنين بطلب تصاريح لمغادرة منازلهم لأسباب طارئة. وبعد شهرين ونصف من النتائج الجيدة، شهدت البلاد ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الإصابات فأعلنت الحكومة الأردنية في 22 مايو عن فرض حظر تجول شامل ولمدة ثلاثة أيام، وسرعان ما جرى احتواء الأمر([52]).

قبل ذلك وفي 26 أبريل وصلت أول طائرة عسكرية أردنية تحمل معدات وطاقمًا طبيًّا إلى الكويت! حيث ذكر الملك عبد الله الثاني في مقابله له على شبكة «سي بي أس» الأمريكية “إنه يأمل أن تكون المملكة في الأسابيع المقبلة قادرة على تصدير المعدات الطبية للدول المتضررة من الأزمة وأن يتمكَّن الأردن من إرسال الأطباء والممرضين للدول التي هي بحاجة إلى الدعم الطبي في المنطقة أو حول العالم([53]).

وفي لبنان في 18 مارس 2020 نشرت منظمة الصحة العالمية تقريرًا على حسابها على “تويتر” مرفقًا بصور وبيانات توضح كيف أسهم لبنان -بفضل الإجراءات الوقائية مثل البقاء في المنزل- بتأخير انتشار الفيروس محليًّا منذ اكتشاف أول إصابة، وكشفت المنظمة أن عدد الإصابات بالفيروس يُقدَّر بـ133 حتى 18 آذار (أصبحت 149 إصابة في 19 مارس بحسب وزارة الصحة اللبنانية). أعلن المجلس الأعلى للدفاع التعبئة العامة من 15 مارس، وحذرت وزراة الصحة اللبنانية في بيان صادر في 21 مارس 2020 من أن بلوغ عدد الإصابات 206، يشير إلى بدء مرحلة الانتشار، وعليه شددت الوزارة على تطبيق جميع الإجراءات الوقائية خاصة الالتزام بالحجر المنزلي التام([54]).

بدأ المدخل الأساسي لسياسة الحكومة اللبنانية تفاهميًّا إقناعيًّا باعتبار الالتزام بالتعليمات مسؤولية أخلاقية فردية ومجتمعية واجبة على كل مواطن، ولكن مع تبيُّن تهاون كثير من المواطنين واستمرارهم بالاختلاط الاجتماعي تزايدت إجراءات الملاحقة القانونية والجزائية، وتعالت لهجة قوى الأمن الداخلي بالتحذير والتهديد بتطبيق العقوبات واستصدرت قرارات بتشديد عقوبات المخالفة أو التهاون، ثم تدخَّل الجيش مع وزارة الداخلية والبلديات بأعمال المراقبة على المؤسسات والأفراد وغلق الطرق ومخاطبة المواطنين بضرورة التزام التعلميات، ووصل الأمر إلى أن تحلِّق مروحيات تابعة للجيش فوق مناطق لبنانية عدَّة، داعية المواطنين إلى التزام منازلهم وعدم الخروج منها إلا للحالة القصوى([55]).

ومع التردِّي الذي يعانيه الاقتصاد اللبناني من قبل الجائحة لم يسهل الحكم على قدر الإمكانيات التي وفرتها الحكومة لمواجهة الأزمة طبيًّا واقتصاديًّا، غير أن بدايات أغسطس الجاري شهدت الانفجار المدمِّر لمرفأ بيروت وكسر الشارع اللبناني لما تبقَّى من الإجراءات الاحترازية ضدَّ كورونا ليتجدَّد بركان الرفض السياسي وتعاد مرة أخرى أحاديث الأزمة الاقتصادية والعامة في لبنان، وسط تدخُّل خارجي كبير من أطراف عدَّة ومتنافسة بذريعة المساعدة على تجاوز الأزمة، وهو ما يحتاج إلى موضع مخصوص.

وقد اشتدَّ أثر كورونا في الدول الثلاث الباقية، ففي العراق المتاخم لإيران (وظلت إيران ثاني أكثر البلاد انتشارًا للفيروس في بدايته بعد الصين) بلغ مجموع الحالات المؤكَّدة 211947 حالة من بينها 6596 وفيات حتى 25 أغسطس الجاري، حيث تدرجت بنوع من التردد إجراءات التباعد الاجتماعي في بلد يعج بالحوزات والحسينيات والمزارات الشيعية والمساجد السنية، وقد تمَّ حظر التجمُّعات الدينية في 13 مارس في حكومة إقليم كردستان ولكن لم يتم فرضها بشكل صارم حتى 4 أبريل حيث تم اكتشاف أن تجمع جنازتين في 21 و23 مارس كان مسؤولا عن ثلث جميع الحالات في مدينة أربيل.

ومن ثم انزلقت معدلات الإصابة والوفاة من آحاد فعشرات حتى أواخر مايو، إلى مئات آلاف الإصابات اليومية وأعداد كبيرة من الوفيات يوميًّا في يونيو فيوليو على التوالي. ومن ثم يمكن القول إن الإدارة الصحية للجاحة في العراق كانت سيئة.

ورغم تشكيل الحكومة العراقية “خلية الأزمة” لمتابعة الجائحة ومواجهتها بشتى السبل الممكنة، فقد لوحظ ضعف التنسيق بين الولايات والحكومة المركزية في بغداد: تمويلا، وخطة زمنية وإجراءات. وتميز تعامل السنة مع قضية المساجد وصلوات الجماعة والجمعة والأعياد عن اختلافات المراجع الشيعية واستجابة المصلين في الطائفتين للتعليمات الوقائية، مما كان له أثر أفضل في ولايات الشمال عن الوسط والجنوب، وخاصة مع كثرة الاختلاط بالإيرانيين في الأخيرة([56]).

ويرى هيثم عميرة أنه لا يمكن للإخفاقات المتعددة للعراق ولبنان “إلا أن تسوء مع وصول الجائحة الجديدة، في غياب القادة السياسيين ذوي الشرعية والقدرة على حل المشاكل الهائلة التي تواجه هاتين الدولتين المتآكلتين بسبب الطائفية. من ناحية، يعاني العراق من انخفاض حاد في عائدات النفط بسبب حرب الأسعار التي شنتها السعودية مؤخراً. ومن ناحية أخرى، يواجه لبنان العديد من الأزمات المتزامنة والعميقة، بدءًا بالأزمة المصرفية التي دفعت البلاد إلى الإعلان عن أول تخلف عن سداد الديون في تاريخها في 7 مارس. وقد أدَّى الانخفاض الحاد في قيمة الليرة اللبنانية (فقدت أكثر من 40٪ من قيمتها منذ أكتوبر الماضي) ونقص العملة الأجنبية إلى إغلاق شركات وفقدان وظائف وتضخم الأسعار وصعوبات كبيرة في استيراد السلع الأساسية بما في ذلك المواد الطبية والصحية. وحتى قبل اندلاع أزمة كوفيد-19 كان الوضع في لبنان على حافة الكارثة”([57]).

وظهرت جائحة كورونا في الجزائر ابتداء من 17 فبراير 2020، وقد بلغ مجموع الحالات المؤكدة حتى 22 أغسطس 2020،  41068 حالة من بينها 1424 حالة وفاة و28874 حالة تعافٍ فيما سجلت 10770 حالة نشطة. وقد أخذت حكومة عبد العزيز جراد وبإشراف الرئيس الجديد عبد المجيد تبون نحو شهر حتى بدأت إجراءات التعامل الجادة، ففي 21 مارس، عيَّن الوزير جراد لجنة متابعة ورصد وباء كورونا برئاسة عبد الرحمن بن بوزيد وزير الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات، وأصدر جراد مرسومًا تنفيذيًّا يحدِّد كيفيات تطبيق الإجراءات التي أقرَّها رئيس الجمهورية للوقاية من انتشار الوباء ومكافحته، وفي 23 مارس عقد رئيس الجمهورية اجتماع المجلس الأعلى للأمن لاتخاذ قرارات جديدة وتوالت هذه الآلية عبر الأشهر التالية؛ في تعامل تدريجي بدا متوانيًا أو متردِّدًا نظرًا للأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجزائر.

ولكن بخلاف حالة العراق خضعت الولايات والمستويات المحلية ومجالسها الشعبية في الجزائر لتوجيه مباشر من الرئيس وحكومته على الأقل في تنفيذ السياسة العامة الإغلاقية والوقائية وإجراءاتها، ومنها تشكيل لجان على مستوى الولايات لتنسيق نشاط القطاعات المختلفة في مواجهة الوباء([58]).

ومن ناحية أخرى وكما في العراق اهتمَّت الحكومة الجزائرية بالشأن الديني والفتوى بخصوص صلاة الجماعة ودفن موتى كورونا. ففي 17 مارس، صرح يوسف بلمهدي وزير الشؤون الدينية والأوقاف في الجزائر بأن لجنة الفتوى قررت تعليق صلاة الجمعة والجماعة، وغلق المساجد في جميع أنحاء البلاد. وفي 25 مارس أكدت لجنة الفتوى لدى الوزارة في بيان لها، «بما أن وزارة الصحة، أخذت على عاتقها التكفل بغسل الموتى المصابين بكورونا، وتكفينهم ودفنهم، ووضعت جملة من الإجراءات الوقائية الصارمة، فإنه يجب شرعًا احترام هذه الإجراءات والالتزام بها حفاظًا على الأنفس»، وقالت اللجنة إن جمهور العلماء اتفقوا على أن غسل الميت من فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقطت عن الآخرين؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. ومن ثم وضعت اللجنة ضوابط لذلك مفصلة، جمعت فيها بين الديني الصحي جمعًا متكاملًا. وفي 13 مايو، أفتت اللجنة الوزارية للفتوى بأداء صلاة عيد الفطر المبارك في البيوت جماعة بين أفراد الأسرة الواحدة أو فرادى، شارحة كيفيتها وتوقيتها وشروطها([59]).

وقد تمَّ تعليق هذه المظاهرات في الجزائر منذ 20 مارس بسبب الزيادة في حالات الكوفيد-19 ولتجنُّب خطر العدوى في بلد يعاني من بنية تحتية صحية سيئة، كما يشير هيثم عميرة فرناندث، فقد أظهر الحراك في الجزائر أن هناك “شعورًا واسع الانتشار بأن النظام السياسي متصلِّب وأنه يتطلب إصلاحات عميقة لبناء دولة مدنية ترتكز على الفصل بين السلطات والحكم الرشيد. عندما كان في استطاعة حكام الجزائر الحصول على عائدات عالية من بيع المحروقات، فقد تمكنوا وقتها من شراء السلام الاجتماعي من خلال دعم السلع التموينية وإعطاء المنح المالية. ولكن مع الانخفاض الحاد المتوقع في الإيرادات هذا العام، إلى جانب الانخفاض المقلق في احتياطيات النقد الأجنبي، فإن التوقعات بالنسبة للجزائر خلال السنوات القليلة المقبلة لا تبعث على الطمأنينة. كل هذا مع رئيس جديد للجمهورية (عبد المجيد تبون) الذي فاز في انتخابات مشكوك فيها أجريت في 12 ديسمبر. في الوقت الحالي لا يبدو أن شرعيته ورأس ماله السياسي سيكونان كافيين للمرحلة القادمة، والتي يمكن أن تشهد صعوبات متزايدة بسبب الاضطرابات الناتجة عن جائحة فيروس كورونا”([60]).

أما بالنسبة للسودان، فقد تراجعت الأحوال المعيشية والاقتصادية العامة فيه قبل التغيير الأخير ولم تحقِّق السياسات الاقتصادية الحكومية أي نوعٍ من التحسين، رغم دعوات حوار مجتمعي أو سياسي غير مجدية ولا جادة، واتسمت إدارة البشير بالتهاون والتهوين، الأمر الذي ينسحب على معالجة المشكلات الأمنية مع الجماعات المسلحة ومع شكاوى المناطق من التمييز العرقيِّ والمناطقيِّ.

وابتداءً من 13 مارس 2020، بدأ فيروس كوفيد-19 يظهر في مدينة الخرطوم، وحتى الأول من أغسطس 2020 بلغ مجموع الحالات المؤكدة في السودان 11738 من بينها 752 وفاة (بنحو 6.4%) و6137 حالة شفاء. وقد اتَّخذت الحكومة السودانية عددًا من تدابير الاحتراز والمواجهة لكورونا للحدِّ من انتشاره حتى يونيو 2020، حتى أعلنت لجنة الطوارئ الصحية عن تخفيف الإجراءات الصحية بالبلاد اعتبارًا من 8 يوليو 2020 وتقليل ساعات حظر التجوال؛ وتهيئة بيئة العمل بما يتوافق وحالة الطوارئ الصحية، ووضع البرتوكولات وتوفير المعينات الطبية لضمان الحد من انتقال المرض وانتشاره([61]).

لكن الأمر الذي شغل الرأي العام في السودان وخارجه في غضون هذه الجائحة تمثل في تصريحات وزير الصحة السوداني أكرم علي التوم الذي اختلفت حوله الآراء بين تأييد لما وصف بالشفافية أو معارضة لما وصف بالاستخفاف بمعاناة المواطنين. وكان كلام الوزير قد جاء في أحد إيجازاته اليومية، حين حذَّر المواطنين من انتشار فيروس «كوفيد – 19»؛ إذ قال: “هذا مرض لا علاج له، كل ما نفعله هو أن نصرف لك محاليل وريدية (دربات) ومسكِّن للألم (بنادول)، وإذا اختنقتَ نعطيك أكسجين، وإن ضاقت عليك فستموت([62]).

ونظرًا لإشكالية المواقف من الوضع السوداني الجديد ما بين التأييد والرفض في الداخل والخارج فقد تبارت الأنظار إلى السياسة الحكومية في مواجهة جائجة كورونا؛ بين وسائل إعلام وكتاب يرون أن “فيروس كورونا فضح القادة الجدد للسودان”، مع الإشارة إلى تصدُّر السودان في أواخر مايو 2020 قائمة دول شرق أفريقيا من حيث عدد حالات الإصابة (أكثر من 2000 حالة) والوفيات (حوالي 100 حالة)، وتصريحات الوزير التوم الإشكالية مثل قوله في مارس: “إذا كنا قد استطعنا التخلُّص من عمر البشير، فكيف لا يمكننا السيطرة على هذا الفيروس الصغير”؟ وقوله: “فيروس كورونا صار يركض أمامنا”.

ففي 23 مايو 2020 قال الوزير دكتور أكرم التوم إن بعض التقصير شاب تطبيق القوات النظامية والولايات والسلطات المحلية للإجراءات الاحترازية التي تهدف إلى مواجهة فيروس كورونا في البلاد، وإنه يتفق مع من يرى أنَّ عدد المصابين في السودان بكورونا أكبر من العدد المعلن عنه حاليًّا. واستهجن الوزير حوادث الاعتداء التي تعرَّضت لها بعض الكوادر الطبية بالخرطوم، مشيرًا إلى سعيه لاكتمال حزمة من الإجراءات الرامية لتوفير الحماية للطواقم الصحية وتحسين ظروفهم المعيشية والمهنية، أوضح أن ضعف تطبيق الإجراءات الاحترازية دفع بالبلاد لأن تكون “خلف الفيروس الذي صار يركض أمامنا“.

وإذا كان من شيء اجتمعت على الاضطراب أمامه سياسات معظم حالات الموجة الثانية للانتفاضات العربية؛ فهو ما يتعلق بمواعيد رفع أو تحفيف الحجر الصحي المفروض على المواطنين وعلى الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وحركة النقل والمدارس واالمساجد وما شابه، فقد تعجَّلت معظم الحالات ثم تراجعت كما في الجزائر والعراق، وضغط المواطنون باتجاه الخروج من الحجر كما في السودان ولبنان، بينما بدت الأردن أكثر حذرًا وتريُّثًا وحسمًا. وقد أدَّى التردُّد والاضطراب في هذا الأمر إلى خسائر صحية ومن الإصابات بالفيروس والوفاة بأعداد أكبر مما قبلها.

ب) الآثار الاقتصادية والاجتماعية للوباء

من ناحية الدول فرادى، توقع تقرير للبنك الدولي أن يبلغ الدين العام في الأردن مستوى يزيد عن 107% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر للعام الحالي؛ بسبب تأثيرات أزمة جائحة كورونا. وتوقع التقرير أيضا أن يستمر نمو الدين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي وصولا إلى 108.5% خلال العام المقبل. أدَّت الجائحة أيضًا إلى ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلك (التضخم) خلال الثلث الأول من العام الحالي بنسبة 1.55% مقارنة مع ذات الفترة من 2019. كما وصلت خسائر القطاع العقاري إلى 200 مليون دينار بسبب الإغلاقات التي طالت المؤسسات الحكومية. وبلغت قيمة تراجع إيرادات دائرة الأراضي والمساحة ما يقارب 40 مليون دينار منذ بداية الجائحة. كما انخفض الدخل السياحي بنسبة 10.7% خلال الربع الأول من العام الحالي مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي([63]).

اقترضت الحكومة الأردنية أيضًا ما يقارب 1.2 مليار دولار لتلبية احتياجاتها التمويلية بسبب تأثير أزمة كورونا على الاقتصاد الأردني وماليته العامة، وأظهرت بيانات صندوق استثمار أموال الضمان عن ارتفاع في حجم اقتراض الحكومة من الصندوق لتصل إلى 6,377 مليار دينار، وبنسبة 59.4% من إجمالي موجودات الصندوق الاستثماري التي تبلغ 11 مليار دينار، كما أعلنت وزارة العمل عن أن 4652 عامل وعاملة فقدوا وظائفهم خلال الجائحة. وكشفت معطيات إحصائية عن تراجع قيمة الصادرات إلى نحو 235 مليون دينار مقابل 342 مليون دينار للفترة نفسها من العام الماضي.

توقَّع وزير المالية محمد العسعس انكماش اقتصاد الأردن بنسبة 3.4% حيث انخفضت الإيرادات المحليَّة بقيمة 602 مليون دينار واصفًا جائحة فيروس كورونا بأنها أكبر تهديد لاقتصادات العالم منذ أزمة الكساد الكبير عام 1929. وصرَّح وزير المالية أيضًا بأن مرحلة الإغلاق التام التي شهدها الأردن كلَّفت الاقتصاد المحلي 100 مليون دينار (141 مليون دولار) عن كل يوم لا عمل فيه([64]).

قدَّم الاتحاد الأوروبي 200 مليون يورو مساعدات إضافية للأردن للمساعدة في معالجة الأزمة والتخفيف من أثرها الاجتماعي والاقتصادي، كما قدَّمت اليابان دعمًا ماليًّا بقيمة 2.2 مليون دولار أميركي لدعم أعمال منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) في الأردن، وقدَّمت أيضًا الوكالة الدولية للطاقة الذرية دعمًا لوزارة الصحة الأردنية عن طريق تزويدها بأجهزة تشخيص مبكِّر لفيروس كورونا، وتلقَّى الأردن دعمًا ماليًّا من صندوق النقد العربي بقيمة 38 مليون دولار لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية والهيكلية التي تضرَّرت بسبب الجائحة، و396 مليون دولار كتمويل فوري من صندوق النقد الدولي لتلبية الاحتياجات لميزان المدفوعات الناشئة عن الجائحة([65]).

وقد كان لهذه المآلات تأثيرات اجتماعية ونفسية على المواطنين كما أوضح استطلاع “مركز الدراسات الاستراتيجية” منذ مارس 2020([66]).

وكانت الآثار الاقتصادية في العراق وخيمة مثل الحالة الصحية حيث ارتفعت الأسعار بصورة جنونية، وكان الأسوأ ما يتعلق باللوازم الوقائية للمواطنين. فبعد الإعلان عن أول حالة إصابة مؤكدة في العراق ارتفع سعر رزمة الكمامات الطبية من 2000 دينار إلى أكثر من 12000 دينار، بينما ارتفع سعر الكمامة N95 من 1500 دينار إلى 10000 دينار، وكذلك نفدت الكميات وعانى السوق من قلة المعروض وارتفاع الطلب، وارتفع سعر القفازات الطبية من 5000 دينار إلى أكثر من 7500 دينار، وارتفع سعر علبة الكحول الطبي (إيثانول، إيزوبروبانول) من 2000 دينار إلى أكثر من 4000 دينار، وارتفع سعر أنابيب الأوكسجين من 80000 إلى أكثر من 150000 دينار، ومنظم أنبوبة من 15000 إلى أكثر من 55000 دينار([67]).

ومن ثم طلبت الحكومة المركزية وحكومات الولايات تقديم تبرعات للإسهام في التعامل مع الأزمة؛ الأمر الذي لقي استجابات نسبية. فبعد طلب وزير الصحة والبيئة التبرع، فتح البنك المركزي العراقي حسابات بالدينار والدولار واليورو لغرض إيداع تبرعات الأفراد والمؤسسات الخاصة والعامة داخل وخارج العراق. وفي يوم 24 مارس أعلن البنك المركزي عن وصول مجموع التبرعات (44 مليار دينار عراقي) لمكافحة فيروس كورونا تبرَّعت بها عدد من المصارف والشركات العراقية. وأعلنت بعثة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق عن تقديمها 30 جهاز اختبار لكشف فيروس كورونا إلى الحكومة العراقية سلمت إلى أربعة من مختبرات الصحة العامة العراقية في أربيل وبغداد والنجف والبصرة، لتمكن الحكومة من إجراء اختبارات على 2724 عينة، و800 مقياس حرارة ومواد مطهرة وعبوات خاصة لنقل العينات إلى صحة نينوى. وأعلنت حكومة إقليم كردستان العراق عن وصول مجموع التبرعات أكثر من 14 مليون دولار لمكافحة كورونا في الإقليم، تبرَّع بها عدد من الشركات والأغنياء([68]).

وتوقَّع الخبراء انخفاضًا في نمو الاقتصاد الجزائري بأكثر من 5٪ في 2020 تأثرًا بهذه الجائحة؛ حيث انخفضت عائدات المحروقات حتى نهاية فبراير (وكانت متوقعة بستة مليارات دولار) بواحد مليار دولار لتستقر عند خمسة مليارات؛ وحيث تمثل عائدات المحروقات 90٪ من إيرادات الدولة الجزائرية، ووفقًا لأحدث التقديرات من أوبك والوكالة الدولية للطاقة من المرجح أن تنخفض دخول الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي بنسبة 50٪-85٪ إذا استمرت الأزمة الاقتصادية العالمية في سياق انتشار هذه الجائحة.

من الجهة التجارية ومنذ بداية الوباء في الصين، تكَّبدت شركات الاستيراد والتصدير والتوزيع الجزائرية خسائر فادحة بسبب اعتمادها على الواردات من الصين بـ25٪ من إجمالي واردات الجزائر (أي ثمانية مليارات دولار). وكانت القطاعات الأكثر تضررًا كانت البناء والأشغال العامة. كما ارتفعت أسعار الخضر والفواكه بشكل حادٍّ وسجَّلت المحال التجارية عبر الجزائر نقصًا في القمح والدقيق بسبب التوافد الكبير للمواطنين.

ونظرًا للأثر الاقتصادي أعلنت المديرية العامة للضرائب مبكرًا في 17 مارس عن تأجيل تقديم الإقرارات ودفع الرسوم والضرائب، مضيفة أن هذا الإجراء استثنائي ولن تترتَّب عليه أيُّ عقوبة تأخير.

ولا يعاني السودان من أزمة في القطاع الصحي فحسب، بل في القطاع الاقتصادي أيضًا. وتتضارب الآراء في هذا الصدد. فيشير الخبير الاقتصادي محمد شيخون، إلى أن أزمة كورونا استنزفت الكثير من الجهود وأعاقت التقدُّم في القضايا الأساسية، التي حدَّدها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في أول مؤتمر صحفي بعد أداء القسم في سبتمبر 2019، والتي كان أهمها ملفا السلام والمشكلة الاقتصادية؛ فالوضع الموروث من النظام السابق معقَّد ولا يمكن إصلاحه بعصا سحرية، وربما تأخُّر استكمال بناء مؤسسات المرحلة الانتقالية أثَّرَ كثيرًا في عدم حصول الإنجاز بمعدَّلات كبيرة لأن السلطة التشريعية لم تستكمل واستعيض عنها طوال الفترة الماضية بآلية تقوم على اتخاذ القرارات عبر اللقاءات المشتركة بين مجلسي السيادة والوزراء([69]).

ويلخص عادل خلف الله، القيادي في قوى الحرية والتغيير، نجاحات الحكومة الانتقالية خلال فترة الأشهر (سبتمبر-أبريل) في: الكشف عن فساد النظام السابق وقرارات “لجنة إزالة التمكين” التي شملت استرداد أعداد ضخمة من العقارات والأصول المنهوبة إضافة إلى إلغاء بيع وتمليك العديد من المؤسسات والفنادق المهمة، لكنه يعود ليكرِّر ما يدافع به مؤيدو النظام الراهن من أن الأزمة الموروثة وحجم الخراب والفساد لا يمكن علاجه بضربة قاضية وإنما بالصبر وقدرة الشعب على حماية ثورته وضمان استمرار حيويتها لمواجهة مخططات قوى الثورة المضادة! أما بالنسبة للعقبات فوفقـًا لخلف الله فقد أدَّى عدم استكمال هياكل الحكم الانتقالي، لاسيما تعيين الولاة وتشكيل المؤسسة التشريعية، إلى تفاقم الأوضاع المعيشية والسيولة الإدارية والأمنية، التي ساعدت قوى الثورة المضادة في إيجاد الأزمات والـنُّدرة وتعطيل انسياب السلع وارتفاع أسعارها([70]).

وتشير الإعلامية، درة قمبو، إلى العقبات المرتبطة بملفي الاقتصاد والأمن. وتقول قمبو إن المشكلة الاقتصادية ستظل هي حجر العثرة ومفتاح الحل في آن واحد، وكذا محور النجاح أو الفشل للحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، لكن قمبو لا تستبعد إيجاد حلول بالنظر لتحسن علاقات البلد الخارجية وأيضًا الخطط التنموية والاقتصادية المعلنة للحكومة في ظل حماسة الشارع للتغيير الجذري([71]).

وتتزايد الوفيات في العاصمة الخرطوم، وخاصة كبار السن، بسبب أمراض مختلفة؛ لأن عشرات المراكز الصحية -بما فيها المستشفيات- أغلقت أبوابها بعد تفشِّي فيروس كورونا في مارس، ورفض العديد من الأطباء العمل، واشتكوا من نقص معدات الحماية الشخصية، وتجاهل البعض قواعد التباعد الاجتماعي.

وتجاوز معدل التضخُّم مئة في المئة، مما جعل حياة الملايين من الناس في غاية الصعوبة. وقد تفاقمت محنتهم بسبب الإغلاق الذي تركهم بدون مصدر دخل، وتنقل تحقيقات صحفية شعور كثيرين بخيبة أمل بسبب عدم ظهور رئيس الوزراء ووزير المالية علانية -ولو لمرة واحدة- للإعراب عن تعاطفهما مع محنة الناس، فما بالك بتقديم العون المالي لهم. ويرى البعض ذلك دليلا على فشل القيادة الحالية؛ وهو شيء لم يتوقعوه من الأشخاص الذين حملوا على عاتقهم آمال الحركة الثورية في الحكم بعد الإطاحة بالبشير في أبريل 2019([72]).

أما في لبنان فتقول لمياء المبيض بساط: “جاءت هذه الأزمة لتُفاقم الوضع مع الصعوبات والتحديات القائمة بالفعل التي تواجهها الحكومة اللبنانية والشعب اللبناني”.

فالانكماش الحاصل في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ١٢٪ بحسب تقديرات وزارة المالية من المتوقَّع -كما تشير المبيض- “أن يتواصل في السنوات الثلاث القادمة ليصل إلى نسبة تراكمية قد تتخطَّى ٣٠٪. ارتفاع الأسعار سوف يُفتِّت القدرة المعيشيَّة للمقيمين ويوسِّع بشكل متسارع نسب وجغرافية الفقر التي تصيب نصف إجمالي عدد السكان فيما نسبة من يعيشون تحت خط الفقر المُدقع تتوسَّع بوتيرة متسارعة (٢٢ في المئة من الإجمالي نفسه). عدد كبير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتي تشكِّل أكثر من ٩٠ في المئة من المؤسسات والتي كانت أساسًا تواجه صعوبة في الصمود وتتكل على مبيعاتها في السوق للحصول على السيولة المفقودة في المصارف، مهدَّد بالإفلاس أو بالإقفال. الزيادة القياسية في نسبة البطالة التي تعدَّت نسبة الـ ٣٦ في المئة (للعمالة النظاميَّة) تُنذر بالارتفاع مع إقفال المرافق التجارية والسياحية وبعض الصناعات. ومن المتوقَّع أن تعاني الطبقة الوسطى بشكل كبير من هذه الأزمة وانعكاساتها([73]).

بقي أن نجمع هذه البيانات العامة المتفرِّقة، وأن نتوقَّف عند دلالاتها بالنسبة للواقع والمستقبل العربيَّيْن، وبالأخص فيما يتعلَّق بالمسافة بين الشعوب المنخنقة اقتصاديًّا والموقوذة فكريًّا والمتردِّية نفسيًّا جرَّاء سياسات وطنية وقومية عامة ممتدة عبر عقود تربو على نصف القرن، وبين أنظمة حاكمة تضم قوى متعدِّدة المستويات، ونظم عمل قوامها الاستبداد المغلق متزايد الغلق، والتبعية للخارج متزايدة الانبطاح والاستسلام إلى صورة “التصهين العربي الأخير” التي نعيشها بكل أسف.

وجماعُ ما سبق أن السياسات الرسمية والأيادي الخارجية -بقصد مختلف- تشعل أوار البركان العربي الأعمى فاقد البوصلة. فالإفقار، وكبت الحريات، وتسليط الأضواء على المشوشات الفكرية، وتشجيع تفكيك الأسر والمجتمعات، مع الإهمال المتعمد للتعليم وللمستوى العام للصحة العامة، وإهدار الموارد والثروات في تجارب تنموية أو تسييرية طويلة العمر لم تؤدِّ إلَّا إلى مزيد من الضعف.

إن مقاصد العمران العربي الأصيلة صارت رهينة استبداد الحكومات ووهن الشعوب؛ فأين هي المشكلة التي تقع وراء هذه الحالة؟ وأين تلك القنوات التي تنقل التردِّي بين السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، والداخلي والخارجي؛ وما طبيعة ذلك التفاعل الذي لا يزيد الضعف إلا ضعفًا ولا التجزئة إلا تقسيمًا وتفتيتًا، ولا صراع المصالح والرؤى إلا صراع وجود وحياة أو موت؟!! ومن ثم أين يمكن أن يكون “الأمل” ولو بصيصًا؟

ج) الآثار السياسية والمستقبلية للموجة الثانية والوباء

يستدعي الاستعراض السابق لديناميات الانتفاض العربي المتكرِّر وما فيه من تنوُّع وسياسات مواجهته ثم هجمة جائحة كورونا وقفة تأمُّلية في العديد من عناصره؛ سواء من زاوية النموذج البركاني ودلالاته السياسية أو من المنظور الحضاري وعناصره القيمية والمقاصدية، خاصة مع إلحاح السؤال عن نجاح أو فشل هذه الحراكات والمآلات التي أفْضت إليها، وأثر الأزمات على العلاقة بين المجتمع والدولة في العالم العربي.

وعلى الرغم من تضاؤل أعداد الإصابات والوفيات في العالم العربي قياسًا على مناطق أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ حيث سجَّلت الدول العربية الـ 22 مجتمعة -حتى يوم 31 أغسطس 2020- 1.28 مليون حالة إصابة، و23200 حالة وفاة ناجمة عن فيروس كورونا. يبلغ معدل الوفيات 1.8٪ مقابل متوسط ​​عالمي يبلغ 3.36٪([74])، فإن المنطقة هي أكثر الأقاليم عرضة للاضطراب السياسي والمزيد من التدهور العام وفق تقارير شتَّى.

ويدعونا ذلك إلى مراجعة دلالات المؤشرات العريضة للأحوال العامة للدول العربية وفي قلبها؛ دول الموجة الثانية: مؤشرات مستوى المعيشة التي يعبر عنها معدل الدخل القومي، مؤشرات الأمان والسلام العام والاستقرار السياسي، مؤشرات الشفافية ومكافحة الفساد، مؤشرات الاتصال السياسي والحريات والحقوق، ومؤشرات التماسك والاستقرار الاجتماعي. فهذه المؤشرات تدلُّ على حال الحوض البركاني من جهة ومن ثم إمكانيات اضطراب القشرة السياسية، كما توضِّح السياق الذي تتجلَّى فيه قيم المجتمع العربي ومقاصده الراهنة.

بين أيدينا عدد ضخم من التقارير عن المنطقة العربية وأحوالها الراهنة من جوانب عديدة؛ وبالأخص ما يتعلَّق باحتمالات تطور حالة عدم الاستقرار السياسي بأشكالها المختلفة وأسبابها المتعددة والمتباينة بين أقطارها. وللأسف الشديد أغلب وأدق هذه التقارير غير عربي المصدر، إنما تصدره حكومات خارجية، ومنظمات ومؤسسات سياسية واقتصادية دولية، أو مراكز أبحاث.

فيستقصي تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة “كيفية وضع إطار لتقييم المخاطر في البلدان العربية” عددًا كبيرًا من محركات المخاطر التي يعتقد أنها هامة في المنطقة العربية؛ وعلى رأسها: التصورات والمشاعر المتعلقة بعدم المساواة والمظالم، والعجز عن الحوكمة، فضلًا عن عوامل اقتصادية وديمغرافية وأمنية.

وفي هذا الإطار يشير التقرير إلى أن الشعوب العربية تواجه صعوبة في الوصول إلى الموارد الحكومية، والتعبير عن الرأي بحرية، ومحاسبة السلطات عن تجاوزاتها أو تقاعسها، والقدرة على التأثير في عملية صنع القرار الحكومي. وتشير البيانات التابعة للبنك الدولي إلى أن المؤسسات في المنطقة العربية تتَّسم بعدم قدرتها على التأثير والمساءلة، مع تباين واضح بين البلدان العربية في هذا الصدد. ومن ناحية أخرى فإن ضآلة القدرة على تنفيذ السياسات العامة يجعل من تجاوز فترات عدم الاستقرار السياسي أمرًا بالغ الصعوبة. ويمكن لصنَّاع السلام وبناة الاستقرار صياغة اتفاقيات من هذا القبيل ووضع خطط سياسية متقنة ومحبوكة ببراعة، إلا أن عجز الدولة عن تنفيذها سيفرغ هذه الأطر السياسية من مضمونها الحقيقي. إن ضعف الدولة يجعل من الصعب على الحكومات في مرحلة ما بعد الحرب تقديم جد التزامات موثوق بها للمتمردين أو المتمردين المحتملين بتنفيذ برامج إصلاحية أو اتفاقيات سلام([75]).

ومن ناحية ثالثة، فإنه خلال مناقشتهم للعوامل المسببة للانتفاضات العربية، عزا كاميت وآخرون الأسباب الجذرية لتلك الانتفاضات إلى: “نقص فرص العمل، وضغوط سوق العمل التي تفاقمت بفعل طفرة الشباب، وابتعاد أهداف النظم التعليمية عن احتياجات سوق العمل، وتضاؤل كميات المياه، والاعتماد بشكل متزايد على استيراد المواد الغذائية، والتقهقر المستمر للقطاع العام، والتفاوت في سجل التحرير الاقتصادي، وأزمة الإسكان المتنامية في المناطق الحضرية، وصعود الإسلام السياسي في جميع أنحاء المنطقة”. فقد أدَّى استشراء الفساد والمحسوبية، وانحسار أنظمة الرعاية الاجتماعية، وعدم تكافؤ الفرص، وتصورات انعدام الأمن، إلى تفاقم المظالم الشعبية، التي حرَّكت الاحتجاجات الشعبية عام 2011 أو إلى تحرُّكات شعبية اجتماعية في عدد من البلدان العربية.

وفي مفارقة الأمن والسياسة -لفظًا ومعنى ووسيلة ومقصدًا في الحالة العربية- يحاجج بيلين بأن الحكم الاستبدادي في المنطقة العربية يتَّسم بالمتانة؛ وذلك تحديدًا بسبب قدرة قطاع الأمن وتصميمه على “قمع المبادرات الديمقراطية” التي تنشأ في المجتمع. فمن جهة، تستند قدرة بعض قطاعات الأمن العربية على قمع الانشقاقات إلى عاملين؛ وهما: الموارد المالية الهامَّة التي تتاح للأجهزة القمعية، والتي تستمد من عائدات النفط والغاز والريوع الاستراتيجية الهائلة والتحالفات القائمة مع القوى الغربية، والعامل الآخر هو الروح المؤسساتية والمهنية الضعيفة لديها، والدعم الوثيق الذي تقدمه الأنظمة الحاكمة إلى القطاعات الأمنية؛ وضعف التعبئة الجماهيرية الذي يمنعها من تحدي سطوة الأجهزة الأمنية([76]).

وأمام هذه التحليلات تأتي مبادرة من الأمم المتحدة في يوليو الماضي قدَّم فيها الأمين العام للمنظمة غوتيريش رؤية مهمة وجديرة بالتأمل في هذا الصدد؛ حيث دعا فيها إلى اعتبار الوباء فرصة لحل النزاعات طويلة الأمد ومعالجة نقاط الضعف الهيكلية في جميع أنحاء المنطقة. وقال غوتيريش: “لقد كشفت جائحة COVID-19 عن خطوط التصدع والانقسامات والهشاشة في المجتمعات والاقتصادات في جميع أنحاء العالم؛ والمنطقة العربية ليست استثناءً([77]).

(تأثير COVID-19 على المنطقة العربية: فرصة لإعادة البناء بشكل أفضل) هي أحدث مبادرة لسياسات الأمم المتحدة لمساعدة البلدان على التعامل مع الوباء، حيث تقدِّم أفكارًا للحكومات حول كيفية معالجة عواقب الأزمة. وترى الأمم المتحدة أن الدول العربية -التي يزيد عدد سكانها عن 430 مليون نسمة- تشهد انخفاضًا حادًّا في عائدات النفط والتحويلات والسياحة، في ظلِّ توقُّع أن ينكمش الاقتصاد الإقليمي بنسبة تزيد عن خمسة في المئة، بما يعادل خسارة إجمالية قدرها 152 مليار دولار، وأنه نتيجة لذلك قد ينتهي الأمر بربع السكان إلى الفقر. ومن ثم حذر الأمين العام للأمم المتحدة من أنه في منطقة مليئة بالفعل بالتوترات وعدم المساواة كالمنطقة العربية، “سيكون لذلك عواقب وخيمة على الاستقرار السياسي والاجتماعي([78]).

وتحت شعار “اغتنم لحظة“COVID-19  وعلى الرغم من هذه التحديات، اعتبر غوتيريش أن أزمة كورونا فرصة لإحداث تغيير في المنطقة العربية، قائلًا إنه “يمكن أن يكون أيضًا لحظة لحل النزاعات طويلة الأمد ومعالجة نقاط الضعف الهيكلية”. وقد اقترح أربع مجموعات من الأولويات لتوجيه الاستجابات، مع التركيز الفوري على إبطاء انتشار المرض، وإنهاء الصراع، ودعم الأشخاص والفئات الأكثر ضعفًا. وهذا يعني إعطاء الأولوية للرعاية الصحية المنقذة للحياة لضحايا COVID-19، واتخاذ خطوات لتخفيف الديون وتعزيز التجارة وتوسيع الإغاثة، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى زيادة الاستثمار في الصحة العامة والتعليم والحماية الاجتماعية والتكنولوجيا. قال السيد غوتيريش: “حان الوقت الآن لإعطاء الأولوية لحقوق الإنسان ، وضمان مجتمع مدني حيوي ووسائل إعلام حرة وإنشاء مؤسسات أكثر خضوعًا للمساءلة من شأنها زيادة ثقة المواطنين وتقوية العقد الاجتماعي”([79]).

إن مراجعة التقارير العديدة عن مجمل ومفصَّل الحالة العربية الاقتصادية والسياسية والثقافية والصحية، وفي ضوء النموذج البركاني والمنظور الحضاري، فإن ثمَّة عنصرين مهمَّين: أولهما- ليست كل البراكين شرًّا، لا سيما من زواية مآلاتها وموازين المصالح والمفاسد، بل قد تكون عامل تغيير للأفضل ولإعادة تخصيب أرض تعرَّضت لتجريفٍ شديد؛ الأمر الذي لا يبدو مقبولًا في تقارير تسمِّي عمليات التغيير الشعبية اليائسة اضطرابات وأعمال عنف وعدم استقرار؛ متبنِّية التوصيفات الشكلية المعتادة. النقطة الثانية- أهمية ترتيب مقاصد الحراك ومقاصد الشعوب والأنظمة -قبل وسائل كل منها- ضمن رؤية تميِّز بين الضروري من وجهة نظر ثقافة المنطقة العربية والحاجي والتكميلي، فالتقارير الغربية لا تميِّز وتقدِّم قضايا مثل المساواة الجندرية مثلًا في مقام قضايا مثل الفقر وتراجع المعايش أو تقدُّم حرية الرأي على الأمان الشخصي وما إليه.

وبناء عليه، فإن المستقبل السياسي العربي القريب رهين قائمة من القوى والعلاقات والتفاعلات، وتعبر عنه جملة من القضايا والتصوُّرات والمشاعر التي تتراوح بين الأنظمة التي جعلت مقصدها الأعظم الاستمرار في السلطة، والشعوب التي تقصد إلى الانعتاق من القلق المعيشي أولًا ثم الحرية والعدالة ثانيًا. وقد أظهر وباء كورونا وسياسات التعامل معه أن الحكومات تنشط في مواجهته بالقدر الذي لا يجعل منه خطرًا على بقائها، وتقدِّم من التنازلات والوعود ما يفعل ذلك، ثم تتجه إلى العنف والقمع كلما اقتربت أقدام المحتجين من كراسيها. وفي المقابل تنفجر الشعوب حين تتأزَّم معايشها أولًا ثم حين تتحيَّن فرصة لنيْل قدرٍ أكبر من الحرية أو للتخلُّص من قيد من قيود الأنظمة.

إن واقع قيم النظام العربي العليا تتضارب ليس فقط فيما بين الحكومات (الاستقرار السلطوي الاستبدادي) والشعوب (الأمان المعيشي فالتحرُّر وامتلاك الحق في توجيه السياسات ومساءلة المؤسسات والمراقبة عليها، والعدالة)، ما يجعل الحراكات أمرًا مشروعًا ومفهومًا من جهة، ولكن تتضارب هذه القيم مرتين مع كلٍّ من الخطابات والسياسات القادمة من الخارج: فالخارج يتحدَّث بألسنة الشعوب التائقة للتحرُّر ويتبنَّى هتافاتها، لكنه في الممارسة يضبط مصالحه مع الاستبداد ويقدِّم المساعدات المالية وغيرها لكي تتجاوز محنها.

وأمام هذه المعادلة وبناءً على المؤشِّرات العديدة السابقة، فيبدو أن المستقبل العربي القريب ليس بالهادئ الساكن، بل إن زلازل وبراكين في انتظار بقاع عديدة منه.

خاتمة:

صفوة القول فيما سبق؛ أن الشعوب العربية لا تزال تبحث عن مخرج من باطن تاريخها الحديث الذي تعتمل فيه عوامل الاستبداد والفساد والإفساد والإفقار والإضعاف والتمييز والتجزئة والتبعية في المجالات كافة، مع عجز القشرة الحاكمة عن إحداث أية نقلة حقيقية في الاقتصاد والإنتاج والمعايش أو في القدرات الدفاعية والأمنية أو في الحريات السياسية؛ ما أحال الأقطار العربية إلى مشروعات براكين قابلة للتفجر في أي حين، وقد دلت المتوالية الانتفاضية العربية على أن التغيير الذي تخرجه فوهة البركان هنا أو هناك لا يعدو إعادة إنتاج القشرة الحاكمة في أشخاص وأثواب جديدة.

وفي هذا الإطار، يمكن أن نقف على بعض الملاحظات عن مجمل تلك المسارات الانتفاضية المشار إليها أعلاه من زاويتي الموجة الانتفاضية الثانية والموجة الوبائية القاتلة:

  • بدا “البركان” نموذجا تفسيريا ذا كفاءة ولياقة منهجية في قراءة المشهد السياسي العربي الراهن بعناصره المتعددة. فالعلاقة بين المجتمع والدولة تـمرّ بمرحلة حرجة أشبهَ بحال القِشرة الأرضية الضعيفة، بينما تعتمل في المسافة بين الطرفين إشكاليات عدّة على رأسها الأزمات الاقتصادية المعقدة التي تتسم بديناميكية سلبية خطيرة؛ حيث يزداد طلب المجتمع والدولة كل منهما على ما يملكه الآخر من سياسات عامة أو صفو عام، بينما تتراجع قدرة كل منهما على الوفاء بهذا الطلب. فالمجتمع يئنّ تحت نيْر الضرائب والأسعار والتراجع في قيمة العملة؛ ومن ثم تدني الأجور الحقيقية والقدرة على الوفاء بالتزاماته المعيشية فضلا عن دوره في الادخار والاستثمار ودفع الضرائب وفق المؤشرات الكثيرة، بينما تقف الدولة مدينة للداخل والخارج ومدفوعة إلى مزيد من الاستدانة وعاجزة عن الوفاء بالالتزامات الخدمية والاستهلاكية فضلا عن الاستثمار العام. وبناء عليه تتوفر المنطقة العربية على عنصرين أساسيين من عناصر إحداث الانفجار الشعبي أو الانهيار الحكومي: الضجر الشعبي والعجز الحكومي.

لكنَّ -من ناحية أخرى- من المهمِّ مُلاحظة أنه في مقابل حوض الصهارة المجتمعي المشار إليه والمنذِر بالانفجار في أي وقت وأي حالة، فإن الدولة العميقة لا تزال تمتلك حوض جليد أو قوة نيران مقابلة، قادرًا على التعامل مع البركان: تبريدًا، أو توجيهًا، أو صدامًا.

  • عنصرٌ أساسيٌّ مفتقدٌ في الحراك السياسي العربي يتعلق بقنوات توصيله وتوجيهه إلى غايته؛ ما أسميناه بالعنق البركاني؛ وفي الحالة العربية فإن هذا العنصر يسهم في توقف البركان عند حد احتدامه في باطن المجتمع أو يوصله إلى نتائج أولية لا أكثر. ونظرا لخطورته عليها تعمل الأنظمة على تقييده أو تحييده أو الإطاحة به كيما تتفادى الانفجار المجتمعي السياسي. ووهذه هي أزمة النخبة والكيانات الوسيطة وأزمة تمكين المجتمع في الواقع العربي والتي تحتاج إلى تأمل وتدبر مستمرين بغير انقطاع.
  • ثمة أربعة نماذج مهمة في دور الكيانات الوسيطة: ففي حالة السودان ثم تكوين كيان وسيط تحالف مع الجيش والخارج لبناء نظام جديد ضد الحركة السياسية الإسلامية، وفي العراق آثر الإسلاميون عدم الظهور حتى لا تستغل الدعاية ضدهم لضرب الحراك وتجاهل الحراك الكيانات الحزبية فيما بدا أنه افتقاد للثقة فيها، وفي العراق ولبنان مال التوجه إلى تجاوز بل مهاجمة الكيانات الوسيطة من الأحزاب والكيانات الجهوية والطائفية، أما في الأردن فقد أظهر النموذج النقابي فعالية تربو على النموذج الحزبي.

هذا الميل العام لتفادي تلك القوى السياسية أو تحميلها مسئولية مشتركة عما وصلت إليه السياسة العربية يعني أن المنطقة البركانية ستجد لها أكثر من موضع آخر في القشرة السياسية لكي تنفجر غير الموضع السياسي السلطوي المباشر، ولعل التفجر المجتمعي الراهن المتعلق بالدين –الإسلامي على وجه الخصوص- يشي بحنق شعبي وشبابي تجاه علماء الإسلام ودعاته، يؤازره انصراف عن الانتليجينسيا العلمانية التي لم تقدم جديدا دنيويا بقدر ما تلوك نقدا دينيا غير مُجدٍ، وكذلك التفكك الأسري الذي يعبر عن صراع أجيال وصدام مع الإطار الاجتماعي والقيمي والفكري المعهود. ومن ثم فإن الانتفاض العربي محتمل التجدد في أي بقعة وفي أي لحظة وضد قوى متعددة في الفضاءين السياسي الخاص والاجتماعي العام.

ومع ضرب القوى السياسية ذات المرجعية الدينية في أقطار عربية عديدة وإعلان الحرب العامة عليها قطريا وإقليميا ودوليا، وضم السلمي منها إلى المسلح، فقد اختفت هذه القوى عن الموجة الثانية بل كانت في الحالة السودانية في مرمى الحراك والقشرة التي أطاح بها البركان. وقد حرصت معظم الجماهير على الدخول إلى السياسي بالاقتصادي أولا، جمعا بين حفظ النفوس وحفظ الفلوس (المال)، ومطالبة بحفظ الكرامة الإنسانية للمواطنين (حفظ العرض/النسل..)، لكن غياب العناية بحفظ الدين/المرجعية وحفظ العقل/الوعي، قد فوت الكثير من فرص النجاح.

  • بدت مقاصد الحراكات متطورة؛ تشعلها أزمة اقتصادية في الغالب الأعم، أو سياسية (في حالة الجزائر خاصة على غرار الموجة العربية الأولى 2010/2011)، ثم تذهب بها استجابات الحكومات إلى الإداري والسياسي الداخلي، فالخارجي، فالبحث عن تغيير شامل وجذري وعاجل، مع انعدام الثقة في وعود الأنظمة بالإصلاح والتغيير على نطاق واسع. وفي النهاية تتراجع الحكومات خطوة للوراء تتعلق باللحظة والقشرة السياسية وتقدم مسكنات اقتصادية وسياسية ثم لا تلبث أن تبحث عن سدادة لغلق فوهة البركان وضمان عدم تجدده. وتبدو قدرة الحراكات على الصمود والتأثير الحقيقي غير كبيرة، فيما تبدو الأنظمة أكثر قدرة على امتصاص الصدمة وإعادة ترتيب الأوضاع بما يحافظ على جوهرها المتمثل في “الدولة العميقة”. إن تفجر البركان العربي لا يغير حتى الآن سوى القشرة، ولعل الموجة الأولى التي استهدفت هذا العمق أضحت عبرة لمن ولما يأتي بعدها. ولكن بركنة الواقع العربي تومئ أيضا باحتمالات كبيرة لانتفاضات غير منتهية.
  • مقاصد الأنظمة معروفة: الحفاظ على الأوضاع الاستبدادية وضمان عدم التعرض للمحاسبة الشعبية وذلك كله باسم الاستقرار والأمن القومي. وقد حققت الأنظمة العميقة هذا المقصد حتى الآن. فالموجة الثانية من الثورات العربية لم تأت على حين غفلة تامة من الأنظمة الحاكمة بعد تنبيه الموجة الأولى لها؛ ومن ثم استطاعت الأنظمة مواجهتها وامتصاصها وإعادة توجيهها باتجاهات جزئية لا تنال من جوهر الأنظمة الحاكمة وباستخدام قدر متحكم به من العنف؛ ومن ثم يبدو أن نتائجها العامة محبطة بالنسبة للشعوب، ولكن –من منظور جدلي- فإن هذا الإحباط نفسه يبدو عاملا مساعدا على الاشتعال مع تجدد الأزمات؛ لا سيما في الجانب المعيشي على نحو ما غلب على هذه الموجة (الأردن، السودان، العراق، لبنان بخلاف حالة مثل الجزائر التي ينبغي تقريبها –مع الفارق- من النموذج الخليجي الخالي من الزلازل تقريبا).
  • ومن ثم تتحول الحالة البركانية إلى حالة تنفيس وتنفيث أكثر منها تغييرا حقيقيا. وقد حار المراقبون في مآلات الحراك الجزائري -مثلا- بعد سنة من الصمود في الشارع لهذا السبب، وكذلك ما قدمه العراقيون من تضحيات لم تزد عن تغيير رئيس الوزراء وبداية محاسبة بعض العناصر المنتقاة من المتهمين بالفساد ووعود لا تتحقق لاحتياجها إلى مدى زمني لا تطيقه الطاقة الاحتجاجية.

أما الحالة السودانية فتعد نموذجا مختلفا عن غيره وأشبه بالثورة المضادة منه بالثورة الحقيقية، فالحراك برز له عاجلا من يقوده ويتحدث باسمه باسم قوى الحرية والتغيير التي ضمت عددا من الأحزاب الصغيرة غير ذات الشعبية الكبيرة، وسرعان ما دخل هذا الكيان في مفاوضات مع قلب النظام السابق: المؤسسة العسكرية، واتفق المدني العلماني مع العسكري الاستبدادي (الذي ظل ثلاثين عاما تحت عباءة مرجعية دينية)، اتفقا على عدو مشترك (النظام السابق)، وهدف مشترك (اقتسام السلطة)، وشغل حيز دولي مشترك (الثورة المضادة على الموجة الأولى من الثورات).. فهل اختار الشعب السوداني والأغلبية المحتجة ذلك؟ وهل أُعطيَ الحراكُ فرصة الاختيار عبر الوسائل الديمقراطية؟ هنا تبرز أهمية التجربة المصرية باعتبارها مقياسا لإعادة إظهار وتمثيل الإرادة الشعبية عبر تحالف عسكري مدني يواجه عدوا مشيطن وهي التجربة التي تمت في الحالة السودانية بصورة أكثر يسرًا وذكاء. ومن ثم يترجّح أن الحالة السودانية كانت مخططة وجرى فيها استغلال الغضب الشعبي الحقيقي والحراك المتفائل ثم الالتفاف عليه لتأسيس نظام مدني عسكري لا ديمقراطية ولا إرادة شعبية واضحة فيه.

  • الموقف الشعبي من الخارج والموقف الخارجي من الشعوب: كما سبق توضيحه في نهاية الدراسة فإن العلاقة بالخارج ممزقة بين خطاب يغازل الشعوب والنخب العلمانية المستقلة، وممارسات ترسخ من الاستبداد وأنظمته. ومن ثم يرتبط التحرر السياسي من نير التدخل الخارجي غير الصديق بشرط التحرر الفكري حضاري الأفق من ربقة الثقافة الغربية التي تصر على أن تتحكم بثقافتنا وتقتحم مفاهيمنا وتصوراتنا بل مشاعرنا وإحساسنا بأحوالنا الخاصة بنا.

لم تأتِ جائحةُ كورونا إلى العالم العربي إلا وهو واقع في جائحة أشد وأدهى وأطول عُمرًا؛ فإن جائحة الاستبداد العربي المتوحشة –كما تؤكد مسارات الموجة الثانية من الانتفاضات العربية- لا تزال هي الإطار الأبرز للانتكاس العربي الشامل ولأزماته المتتالية، وهي التي تعمّق الصدْع بين الحكومات والشعوب وبين مطلب الاستقلال وواقع التبعية للخارج؛ ومن ثم فقد انضمت أزمة كورونا وامتزجت بسياق وواقع بركاني وأشبهت واحدة من حممه التي اعتادت الشعوب عليها في السنوات الأخيرة، ونظر الأكثرون إليها كأزمة كاشفة لمزيد من سوءات الواقع العربي أكثر منها منشئة لواقع جديد، أو مقدمة لمستقبل مختلف!

 

*****

الهوامش

([1]) راجع في فكرة النماذج التفسيرية المركبة: عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الثاني، (القاهرة: دار الشروق، 2002)، ص ص 444-446. وسيف عبد الفتاح، مدخل القيم: نحو إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام؛ في نادية محمود مصطفى (إشراف)، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، الجزء الثاني، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).

([2]) في تحليل نموذج الثورات العربية في القرن الجديد، انظر: نادية مصطفى، الثورة المصرية نموذجًا حضاريًّا، ج 1، ج 2، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار البشر للثقافة والعلوم، 2011، 2013)، وانظر: نادية مصطفى وسيف الدين عبد الفتاح وآخرون، أمتي في العالم، العدد الحادي عشر: الثورة المصرية والتغيير السياسي والاجتماعي، (القاهرة: دار الشروق، 2013).

([3]) في مفهوم الدولة العربية العميقة، انظر: طارق البشري، حوارات مع طارق البشري، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، دار البشير للثقافة والعلوم، 2019)، ص ص 386-388.

([4]) حول علاقة الخارج بالثورات العربية خاصة في موجتها الأولى، انظر: نادية محمود مصطفى، الثورات العربية في النظام الدولي، (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2014).

([5]) في مراجعة تطورات الأزمة والمواقف منها، انظر: العدد 18 من فصلية “قضايا ونظرات”، على الموقع الإلكتروني لمركز الحضارة للدراسات والبحوث، يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/o2J0o

  • وانظر أيضًا: د.نادية مصطفى ومدحت ماهر، أزمة كورونا وحالة العالم: إدارة الأزمة ومستقبل النظام العالمي: ماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟، 5 مايو 2020، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/wCFO5

([6]) انظر: سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم، مرجع سابق. ومنى أبو الفضل، نحو منهجية علمية لتدريس النظم السياسية العربية، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006)، ص ص 16-20.  وحامد ربيع، مقدمة تحقيق سلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، (القاهرة: مطابع دار الشعب، 1980).

([7]) كيف اندلعت موجة الاحتجاجات في الأردن؟، بي بي سي عربي، 4 يونيو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/2DGtWPz

([8]) 10 أيام من الاحتجاجات كانت كفيلة بتحقيق مطالب الشعب.. والحياة تعود إلى طبيعتها بعد ترقب عالمي لما يحصل في الأردن بسبب قرارات الملقي، موقع قناة نور الأردن، 8 يونيو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://noorjonews.com/16002

([9]) رسالة تكليف ملك الأردن للرزاز.. حوار شامل بشأن الضريبة، سكاي نيوز عربية، 5 يونيو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/meWeB

([10]) العاهل الأردني يكلف رسميا الرزاز بتشكيل حكومة “رشيقة”، موقع العرب، 6 يونيو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Gs2fT

([11]) المرجع السابق.

([12]) المرجع نفسه.

([13]) كيف اندلعت موجة الاحتجاجات في الأردن؟، مرجع سابق.

([14]) الأردن.. أجراس المدارس تدق بعد إنهاء أطول إضراب للمعلمين باتفاق مع الحكومة، سي إن إن بالعربية، 6 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cnn.it/3m0Tbxt

([15]) تأسَّست في أكتوبر 2012، لكنَّها لم تُسجَّل رسميًّا حينها بسببِ الإجراءات الحكومية الصارمة ضدَّ النقابات قبل أن تُصبح رسميَّة في أكتوبر من عام 2016 بعد تحالفٍ بين لجنة أطباء السودان المركزية وشبكة الصحفيين السودانيين وتحالف المحامين الديمقراطيِّين. في ديسمبر 2018؛ دعا تجمُّع المهنيين الحكومة السودانية إلى الرفعِ من الحد الأدنى للأجور وتحسين الوضعيَّة الاقتصادية للشعب ثمَّ تطوَّرت الأمور بعدما شاركَ التجمع في الاحتجاجات في مدينة عطبرة؛ حتى إسقاط البشير.

([16]) قوى إعلان الحرية والتغيير هيَ مكوِّنات سياسيَّة سودانية تتشكَّل من تجمُّع المهنيِّين والجبهة الثورية وتحالف قوى الإجماع الوطني وكذا التجمع الاتحادي المُعارِض. تأسَّست قوى الحرية في يناير 2019 خِلال الاحتجاجات، وصاغت “إعلان وميثاق الحرية والتغيير” الذي دعا إلى إقالة الرئيس عمر البشير.

([17]) واشنطن تحاصر البشير بين القائمة السوداء وقمع المتظاهرين، ميدل إيست أون لاين، 20 فبراير 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/RPwG7

([18]) مجدي الجزلي، سقوط البشير: رسم خريطة قوى الاحتجاجات في السودان، موقع المبادرة العربية للإصلاح، 12 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/NAJpy

([19]) وصلت تقديرات القتلى إلى 128 في يوم واحد مقابل عدد لم يزد عن 52 في أعلى التقديرات من المعارضة في 114 يومًا حتى عزل البشير. انظر: الثورة السودانية بالأرقام: الضحايا ومبادرات التكافل الاجتماعي، موقع صحيفة العربي الجديد، 19 ديسمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/s7kNx

([20]) أزمة السودان: هل تغير مظاهرات 30 يونيو من موازين القوى؟، بي بي سي عربي، 30 يونيو 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/3hjwtx7

([21]) “لحظة تاريخية وحاسمة”.. ما هي بنود اتفاق تقاسم السلطة في السودان؟، مصراوي، 17 يوليو 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/wiGOT

([22]) السودان: غضب واسع بعد إقرار تعديلات قانونية تمس الشريعة، موقع الجزيرة مباشر، 12 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/8Podk

(([23] صفاء عزب، مصير جزيرة سواكن السودانية بعد انتهاء عصر البشير، موقع الصومال الجديد، 15 أغسطس 2019، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/hO0ZY

([24]) بعد تصريحات نتنياهو… حكومة السودان الجديدة تعلن موقفها من التطبيع مع إسرائيل،  موقع سبوتنيك، 10سبتمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/BvZlz

([25]) بدأ تدهور صحته مع بدايات ولايته الثانية 2005، ثم اشتدَّ وتحوَّل إلى جلطة دماغية في ولايته الثالثة البادئة 2010، حتى أقعدته العلل على كرسي متحرك منذ يوليو 2013، فدخل انتخابات ولاية رابعة وهو في أزمة صحية خطيرة ليظهر بعدها في أواخر أبريل 2014 يؤدي اليمين الدستورية لعهدة رابعة وهو على كرسي متحرك وقد قضى معظم الولاية الرابعة بين مستشفيات فرنسية حتى بلغت حالته الصحية أسوأ أحوالها في النصف الثاني من العام 2018، ومع هذا أعلن عزمه الترشح لعهدة خامسة في انتخابات أبريل 2019؛ الأمر الذي فجر الحراك ضد العهدة الخامسة. انظر: عبد القادر بن مسعود، القصة الكاملة لمرض الرئيس الجزائري بوتفليقة، على موقع: ساسة بوست، 20 سبتمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/337EGz7

([26]) رئيس أركان الجيش الجزائري: المادة 102 المخرج الوحيد لأزمة البلاد، سي إن إن بالعربية، 26 مارس 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cnn.it/35hG8BN

([27]) الجزائر: استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد عشرين عاما في الحكم، فرنسا 24، 4 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/4Q30o

([28]) الجزائر.. بعد استقالة “الباء الأولى” هل يبدأ تأثير الدومينو؟، سكاي نيوز، 16 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/H95b8

([29]) أحكام بالسجن على مسؤولين سابقين في الجزائر من بينهم رئيسا وزراء، بي بي سي عربي، 10 ديسمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/2GxDq0z

([30]) حسن زنيند، حيرة واستغراب ـ هكذا ينظر خبراء ألمان لحصيلة الحراك الجزائري، موقع دويتشه فيلله، 21 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/xjndL

([31]) بعد عام من انطلاقه، هل نجح الحراك الجزائري في تحقيق أهدافه؟، بي بي سي عربي، 22 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/3hjwLnH

([32]) لماذا فضَّل العالم الصمت أو الحياد حتى الآن تجاه ما يحدث في الجزائر؟، عربي بوست، بتحديث 30 مارس 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/fs8Ee

([33]) 8 أيام من التحركات الاحتجاجية في العراق.. ماذا حدث؟، موقع الجزيرة نت، بتحديث 9 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/6tATZ

([34]) ندوة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، احتجاجات العراق: مطالب الشارع وعنف السلطة، الدوحة: 27 أكتوبر 2019، على موقع المركز بتاريخ 27 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2FmaRT9

([35]) العراق: رئيس الوزراء يدعو لعودة الحياة لطبيعتها وسط استمرار الاحتجاجات، فرنسا 24، آخر تحديث: 4 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Ve0tz

([36]) بعد استقالة عادل عبد المهدي: إلى أين يمضي العراق؟، بي بي سي عربي، 1 ديسمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/2Rd6VXv

([37]) مظاهرات لبنان: سمير جعجع يعلن استقالة وزراء حزب القوات اللبنانية من الحكومة، بي بي سي عربي، 19 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/3jW7Lo3

([38]) المرجع السابق.

([39]) رئيس الوزراء اللبناني يلتقي سفراء مجموعة الدعم الدولية للبنان، موقع وكالة الأنباء السعودية، 22 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3ia5dCo

([40]) اقتصاد لبنان في ورطة.. “ستاندرد آند بورز” تخفض التصنيف، العربية.نت، تاريخ النشر: 16 نوفمبر 2019، آخر تحديث: 20 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/8Zfwt

([41]) لبنان: حسن نصر الله يطالب أنصاره بترك ساحات الاحتجاج ويحذر من “افتعال حرب أهلية”، فرنسا 24، نشرت وآخر تحديث في 25 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/dp3ep

([42]) استقالة سعد الحريري: ترحيب بين المحتجين في لبنان ومخاوف من “فراغ سياسي” محتمل، بي بي سي عربي، 30 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/3ibeKcj

([43]) مظاهرات لبنان: هل حان وقت رحيل الرئيس اللبناني ميشال عون بعد خطابه الذي أغضب المتظاهرين؟، بي بي سي عربي، 14 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/2R8owzS

([44]) استقلال لبنان.. عرض مدني للحراك واحتفال محدود للسلطة، العربية.نت، تاريخ النشر: 22 نوفمبر 2019، آخر تحديث: 20 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/fRcHD

([45]) وحدة الدراسات السياسية، انتفاضة لبنان: أسبابها وتداعياتها، تقدير موقف، 23 أكتوبر 2019، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الموقع الإلكتروني للمركز، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3jQxy0W

([46]) عبد الحليم قنديل، ثورات الموجة الثالثة، القدس العربي، 1 مايو 2020، على متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/zUAUb

([47]) جوناثان ماركوس، فيروس كورونا “قنبلة موقوتة” للشرق الأوسط، بي بي سي عربي، 1 أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/338NMM5

  • وانظر: استجابة البلدان العربية إلى كوفيد-19، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الدول العربية، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2R6XEjP

([48]) رحاب الزيادي، كيف واجه الأردن أزمة كورونا، المرصد المصري، التابع للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 12 أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://marsad.ecsstudies.com/27048/

([49]) المرجع السابق.

([50]) الملك للأردنيين: أطلب منكم بصوت الأب عدم التنقل، موقع رؤيا الإخباري، نشر بتاريخ: 23 مارس 2020، وآخر تحديث: 16 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://royanews.tv/news/209412

([51]) بإجراءات استباقية وخطة صارمة.. هكذا تمكن الأردن من وقف كورونا، سكاي نيوز، 6 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/r6L4j

([52]) المرجع السابق.

([53]) العاهل الأردني يأمل أن تتمكَّن بلاده من تصدير معدَّات طبية خلال الأسابيع المقبلة، القدس العربي، 19 أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ZRWhV

([54]) ممثلة منظمة الصحة في لبنان: بيروت من أكثر المدن التي ينتشر فيها فيروس كورونا والإمكانيات حتى الآن متوفرة لاستيعاب الحالات، أخبار الأمم المتحدة، 25 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2R45dIb

([55]) الجيش اللبناني يستخدم المروحيات العسكرية لحث السكان على الالتزام بمنازلهم وتجنب التجمعات، موقع جريدة الشروق، نشر وآخر تحديث في: 22 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3m5ek9y

([56]) أسبوعان آخران من حظر التجوال في العراق، موقع ارفع صوتك، 26 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/hfh1F

([57]) هيثم عميرة فرناندث، فيروس كورونا في الدول العربية: عاصفة عابرة، فرصة للتغيير أم كارثة إقليمية؟، موقع معهد إلكانو الملكي للدراسات الدولية والاستراتيجية في مدريد، 7 أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/2HH9w

([58]) وزير الصحة: قرار الحجر الصحي العام من صلاحيات رئيس الجمهورية، موقع النهار، 22 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2DFDw5g

([59]) أسماء بهلولي، تعليق صلاة الجمعة والجماعة بمساجد الجزائر بسبب كورونا، موقع جريدة الشروق الجزائرية، 17 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/h2FHi

([60]) انظر: هيثم عميرة، فيروس كورونا في الدول العربية: عاصفة عابرة، فرصة للتغيير أم كارثة إقليمية؟، مرجع سابق.

([61]) السودان يرفع «إغلاق كورونا» اعتبارًا من 8 يوليو، الشرق الأوسط، 28 يونيو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/QDa8c

([62]) أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار، الشرق الأوسط، 23 مايو 2020، العدد (15152)، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/pbstI

  • وانظر: فيروس كورونا: صراحة وزير الصحة السوداني أكرم علي التوم تثير موجة من الانتقادات، بي بي سي عربي، 1 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/3bDHg3E

([63]) البنك الدولي يتوقع ارتفاع مديونية الأردن إلى 107% من الناتج المحلي الإجمالي، العربي الجديد، 11 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3m1tUD7

([64]) لمراجعة رؤية الوزير، انظر: في قلب معركة الأردن لمكافحة كوفيد-19، صندوق النقد الدولي، 21 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3icL0eW

  • وانظر رأيًا أشد لنائب رئيس الوزراء الأسبق محمد الحلايقة: كيف يؤثر الإغلاق بسبب كورونا سلبا على اقتصاد الأردن؟، موقع الأسواق العربية، 8 أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ZOAtN
  • وانظر حوارًا مهمًّا للعسس مع موقع صندوق النقد الدولي، 21 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3icL0eW

([65]) في قلب معركة الأردن لمكافحة كوفيد-19، مرجع سابق.

([66]) الأردن والآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لأزمة كورونا، موقع مركز الدراسات الاستراتيجية (أردني)، 30 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3330mMI

([67]) تفشي الذعر والغضب في العراق بعد رفع أسعار مستلزمات الوقاية من فيروس كورونا، موقع قناة الحرة، 24 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/09iIw

([68]) جائحة ڤيروس كورونا في العراق 2020، موقع معرفة، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3m05Bpf

([69]) حكومة الثورة السودانية.. كشف حساب لـ250 يوما، سكاي نيوز عربية، 11 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي:https://cutt.us/jyHzY

([70]) المرجع السابق.

([71]) المرجع نفسه.

([72]) فيروس كورونا فضح القادة الجدد للسودان، بي بي سي عربي، 26 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/35hIyjR

([73]) لمياء المبيَّض بساط، قراءة في تداعيات فيروس كورونا على لبنان، موقع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، 4 يونيو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Xocjz

([74]) Bruna Garcia Fonseca, Arab countries see below-average deaths from Covid-19, Brazil-Arab News Agency, 31 August 2020, available at: https://bit.ly/3jQzoim

([75]) الاتجاهات السائدة أثناء النزاعات وتداعياتها، العدد 6: كيفية وضع إطار لتقييم المخاطر في المنطقة العربية، 2020، موقع الإسكوا، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/QwC8R

([76]) المرجع السابق.

([77]) انظر موقع منظمة الأمم المتحدة على الإنترنت، وكلمة الأمين العام:

  • COVID-19 provides opportunity to resolve conflicts, address weaknesses across Arab region: UN chief, 23 July 2020, available at: https://bit.ly/3bBvTJN

([78]) المرجع السابق.

([79]) المرجع نفسه، وانظر:

Bruna Garcia Fonseca, Arab countries see below-average deaths from Covid-19, Op. cit.

 

فصلية قضايا ونظرات- العدد التاسع عشر – أكتوبر 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى