عرض نقدي لدراسة “شروق الشرق وغروب الغرب: انزياحات القوى الدولية ومصائر العالم الإسلامي”

مقدمة

بدأت قراءة دراسة “شروق الشرق وغروب الغرب انزياحات القوى الدولية ومصائر العالم الإسلامي” استعدادًا لعرضه في الندوة التي أقامتها مجموعة الفكر الاستراتيجي يوم 20 يوليو افتراضيًا على برنامج زووم وبحضور الباحث نفسه د محمد المختار الشنقيطي[2]. وقد انطلقت دراسته من باحث مهموم بفضائه الحضاري الإسلامي، في ظل نظام دولي يتشكل من جديد بعد أن كان أحادي القطب في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، وفي سياق ظهور قوى دولية كبرى تنافس الهيمنة الأمريكية الدولية ورد الفعل الأمريكي على صعود تلك القوى، وأثر ذلك كله على العالم الإسلامي. تأتي هذه الدراسة مقسمة لجزئين رئيسيين يعرض الباحث في أولها دلائل وعلامات الصعود الآسيوي الصيني والروسي وعلامات أفول الغرب الأمريكي الأوروبي، ثم في جزئه الثاني يعرض الكاتب مكان وإمكان العالم الإسلامي من ذلك كله، وينهي دراسته باقتراحه لما عرضه من خطر يتهدد العالم الإسلامي.

تنبع أهمية الدراسة من كونها تأتي في فترة زمنية تشهد متغيرات دولية (الحرب الروسية الأوكرانية والتوتر الأميركي الصيني في بحر الصين الجنوبي)، وإقليمية (صعود إيران وتركيا كقوتين إقليميتين). وتأتي الدراسة لتحليل عوامل الصعود الآسيوي والتراجع الغربي وآثاره على العالم الإسلامي عمومًا والشرق الأوسط منه خصوصًا وبالتحديد منطقة الخليج الغنية بالنفط. ويأتي هذا التحليل منطلقًا من المنظور الحضاري، ومستخدما منهجية الجغرافيا السياسية ليبرز للعالم الإسلامي مميزات مكانه وإمكانه. ثم يطرح الباحث طرحًا جريئًا كمخرج للعالم الإسلامي مما يتهدده إزاء هذا الانزياح في القوى الدولية؛ فيطرح فكرة إنشاء قوة دولية إسلامية. وجديرٌ بالذكر أن الباحث عرض المشكلة والحل في دراسته من البعد الاستراتيجي. ومن عوامل أهمية الدراسة العملية كونها دراسة تعتمد الحلول العملية؛ فانطلق الباحث يؤكد الرابطة الثقافية والتاريخية والمظلة الحضارية التي تربط المسلمين ببعضهم البعض، دون القفز على ما أسماه “فعل الزمان وتباعد المكان”[3]، كـ”خيار تكتيكي للتقارب مع الصين دونًا عن الغرب”[4]، الذي وصفه بأنه يمتلك وسائل اختراق استراتيجية للعالم الإسلامي[5]. وعلى الصعيد العلمي تعد هذه الدراسة مهمة من حيث تناولها لقضية العالم الإسلامي من وجهة نظر الجغرافيا السياسية، ومنظور الفضاء الحضاري المشترك، وتحديد المشاكل وطرح حلول عملية تكتيكية واستراتيجية دون الصدع بشعارات رنانة، كما فتحت هذه الدراسة المجال لكثير من الدراسات للإجابة عما طرحته من تساؤلات عن الفرص المتاحة لدول العالم الإسلامي لتقتنصها في ظل هذا الانزياح في القوى الدولية.

وأما عن مضمون الدراسة فتنقسم إلى قسمين أساسيين: القسم الأول يطرح وجهات النظر الدالة على الصعود الآسيوي، والأفول الغربي، وفي هذا السياق فقد طرح الباحث وجهة نظر كيشور محبوباني المفكر السياسي السنغافوري والمنحاز آسيويًّا، والذي يرى بأن الصراع الأميركي الصيني يتخذ شكل التنافس الاستراتيجي في سياق الصعود الصيني الذي لا بد منه، ووجهة نظر جون ميرشايمر الذي يرى حتمية الصراع العسكري بين القوتين نظرًا لاستحالة سماح الغرب للصين بالصعود السلمي، في حين يطرح وجهة النظر المحايدة للمفكر السياسي الاسترالي كيفن راد والذي يرى بأنها حرب يمكن تجنبها. أما القسم الثاني من الدراسة فيعرض فيه الكاتب تحليلا جيوسياسيا للعالم الإسلامي، ثم يطرح حلولا تكتيكية واستراتيجية، كما يفتح الباب للبحث النظري في الإمكانات المتاحة أمام دول العالم الإسلامي لتمنع نفسها ضرر كونها منطقة صراع للدول الكبرى، وفي هذا السياق سنعرض لمضمون الدراسة وفق العناوين التي وضعها الباحث.

القوتان الصاعدة والسائدة

يعرض الباحث في سياق النهضة الاقتصادية الصينية في العقدين الأخيرين ما صاغه المفكر السياسي الأمريكي جراهام أليسون من نظرية أسماها شراك ثوسيديدس، والتي تقول بحتمية المواجهة بين القوى الصاعدة والقوى السائدة، وانعكاس تلك النظرية على واقع العلاقة بين أمريكا باعتبارها قوة سائدة والصين باعتبارها قوة صاعدة، ومآل هذه العلاقة إلى الصراع حتى وإن لم ترغب القوتان في ذلك، حيث لن ترضى أمريكا بصعود الصين كما لن تتنازل الصين عن طموحها للهيمنة العالمية.

وأما عن رأي الباحث فقد ظهر من خلال عرضه لما نبه عليه جمال حمدان من نظريات جغرافية سياسية. فقد قدم عرض حمدان لنظريتين: “قلب الأرض” و”حافة الأرض”. فنظرية “قلب الأرض” صاغها البريطاني هالفورد ماكيندر، وتقول بأن من يسيطر على أوروبا الشرقية فقد سيطر على قلب الأرض، ومن سيطر على قلب الأرض فقد سيطر على العالم، ونظرية “حافة الأرض” صاغها الأمريكي نيكولاس سبيكمان، وتقول بأن من سيطر على حافة الأرض المحيطة بالقلب الذي ذكره ماكيندر -وهي المنطقة التي تشمل الهلال من شمال غرب أوروبا مرورًا بالشرق الأوسط وصولًا إلى جنوب شرق آسيا-  أن من حكم حافة الأرض فقد حكم أوراسيا؛ ومن ثمَ حكم العالم. ثم عرض الباحث ما نبه عليه جمال حمدان من أن القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى كثيرا ما تجعل العالم الإسلامي -لا سيما إقليم الشرق الأوسط- منطقة صراع ونفوذ، لما تتميز به من خصائص المكان والإمكان التي تجعلها وكأنها قارة وسيطة تتوسط شرق العالم وغربه، كما أنها تزخر بالإمكانات من غاز وبترول وغيرها مما يجعلها مطمعًا للقوى البرية والبحرية الكبرى، وأيضًا مفتاح الصراع بينهما من فاز بها فاز بالصراع.

قبول ما ليس منه بد

تحت هذا العنوان يعرض الباحث أطروحة المفكر السياسي السنغافوري كيشور محبوباني، والذي تدور أطروحاته حول التراجع الغربي والصعود الآسيوي لا سيما الصيني منه، كما يرى بأن الإنسان الآسيوي تحول من دور منفعل بالمبادرات الغربية إلى دور الفاعل في صناعة التاريخ الحديث، وعليه ينصح محبوباني الغرب بقبول ما ليس منه بد؛ وهو الصعود الآسيوي بالتحديد الصيني، وعليه تقبل أن تحدد القوة الآسيوية الصاعدة مصائر العالم في المستقبل، كما يتبنى محبوباني الرؤية الرامية إلى تفكك حلف شمال الأطلسي “النيتو” حيث نصح أوروبا بأنها إن كانت قوة كبرى فلا ينبغي لها أن تدور في فلك قوة كبرى أخرى، وعليها الاستقلال عن الفضاء الأمريكي، كما قدم ذات النصيحة لأستراليا التي تبعد 12,000 كيلو متر عن أمريكا، في حين لا يفصلها عن آسيا سوى القليل، وفي طرح محبوباني تهديد ضمني للغرب لقبول الصعود السلمي للصين.

وقد أظهر محبوباني اهتمامًا إيجابيًا بالعالم الإسلامي باعتباره أحد المكونات الثلاثة لآسيا: وهي الصين والهند والعالم الإسلامي. غير أن الباحث تحفظ على هذا الطرح ورأى “ضرورة اعتبار العالم الإسلامي حيزًا حضاريًا واحدًا وكتلة جيوستراتيجية متميزة عن غيرها”[6]، وفي هذا السياق يحاجج الباحث بأن العالم الإسلامي أكبر من جناحه الشرقي في آسيا، وجناحه الغربي في أفريقيا، وما بينهما، ثم ذكر سبق المفكر الماليزي المسلم أنور إبراهيم بالتبشير بالصعود الآسيوي. وفي سياق محاججته بالتمايز بين العالم الإسلامي والهوية الآسيوية ذكر الباحث الخلاف السياسي القديم بين محمد إقبال والمهاتما غاندي، فالأول دعا لتكون العقيدة والثقافة أساس الاجتماع السياسي، في حين دعا الثاني لتكون الرابطة القومية هي أساس الاجتماع السياسي؛ وهو ما أدى لاستقلال باكستان عن الهند.

منطق الواقعية الهجومية

وفي مقابل الطرح السابق يطرح الباحث هنا آراء غربيين يرون الصعود الصيني مهددًا للغرب وخصوصًا أمريكا، حيث عرض نظرية “الواقعية الهجومية” لجون ميرشايمر والتي تندرج ضمن المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية وتقول النظرية “إن أي قوة عظمى تسعى لتعظيم قوتها على حساب القوى الأخرى”[7]، ثم استعرض ميرشايمر مثالا لذلك ما قامت به الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر من قيامها بالسيطرة على إقليمها فيما يسمى بعقيدة مونرو، ثم قيام الولايات المتحدة في القرن العشرين  بالهيمنة العالمية وتدمير أو إضعاف القوى الكبرى الأخرى، كما فعلت مع اليابان الإمبراطورية وألمانيا النازية، وفي هذا السياق يتنبأ ميرشايمر أن الصين ستسعى للسيطرة على إقليمها -بحر الصين الجنوبي- ومن ثم تمنع القوى الدولية الأخرى وتعمل على إضعافها. ما يهم الباحث هنا هو تأثير ذلك على العالم الإسلامي عموما ومنطقتي جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط خصوصًا لا سيما الخليج العربي منه والذي يشتمل على مقدرات ثمينة، ويذهب الباحث إلى صحة ما طرحه ميرشايمر من توقعه بأن تكون خطوط الملاحة البحرية بين الصين والشرق الأوسط ساحة للمواجهة بين الصين وأمريكا لا سيما مضيق مُلقه الواقع بين ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا.

صحوة روسيا الأوراسية

يقدم الباحث عن روسيا صورة تبدأ من حلم غورباتشوف بانضمام الاتحاد السوفيتي للكتلة الأوروبية الغربية، حيث كرر مفهوم البيت الأوروبي المشترك في كتابه، والذي يشمل الاتحاد السوفيتي مع أوروبا الغربية، ويرى الباحث أنه حلم بعيد المنال، ذلك أن أمريكا ما كانت لتسمح بتحالفٍ إن حدث فسيكون الاتحاد السوفيتي هو المهيمن في إقليمه، وليس الولايات المتحدة المهيمنة على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك بحكم بعدها الجغرافي عن أوروبا.

ثم يطرح الباحث أن استمرار توسع الناتو جاء مناقضًا للمنظور الاستراتيجي الروسي للأمن، والذي يرى بأن أمنه الاستراتيجي يتحقق بمبدأ النواة والغلاف، وفي حالته النواة الصلبة هي القومية السلافية وغلافها باقي الدول والقوميات المكونة للاتحاد السوفيتي والتي تدور في فلكه. ثم جاء صعود بوتين عام 2000م ليعمل على تدعيم النواة السلافية الصلبة واستعادة ما يستطيعه من الغلاف الاستراتيجي المفقود إثر انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه. فقد جاء بوتين متبنيًا أفكار المفكر الروسي ألكسندر دوغين المتأثر بسلفه بيوترسيفيتيسكي، والذي يدعو روسيا للتوجه شرقا وجنوبا أي للأتراك والصينيين، حيث هناك رابطة ثقافية مشتركة بينهم وبين الروس، ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية فعززت التوجه الروسي للصين واستنزفت الغرب في الوقت نفسه؛ وهو ما جعل وكأن أمريكا قدمت روسيا إلى الصين على طبق من ذهب؛ فالصين ما كانت لتترك روسيا تسقط بيد الغرب وهي التي بينها وبين الصين حدود أربعة آلاف كيلو متر، فتصبح الصين مكشوفة الظهر، بالإضافة لاستفادة الصين من انحسار النفوذ الروسي في آسيا الوسطى نتيجة الحرب لصالحها، ويرى الباحث بأن هذه الحرب مسرع لعملية انزياح القوى من الغرب إلى الشرق.

وإلى هنا ينتهي قسم شروق الشرق وغروب الغرب، وفيما يلي نعرض ما طرحه الباحث من أثر تلك الانزياحات على مصائر العالم الإسلامي.

مورفولوجية العالم الإسلامي

يرى الباحث أنه كان للفضاء الحضاري الإسلامي وحدة معنوية وتناصر سياسي، ويدلل على ذلك برحلة ابن بطوطة التي جاب فيها الأرض شرقًا وغربًا، فكان كأنه في بلده  أينما حل من بلاد المسلمين. ثم قدم نظرية لجمال حمدان كان قد دعاها “مورفولوجية العالم الاسلامي”؛ أي بنيته الجغرافية ومعالمها الأساسية[8]؛ حيث يرى حمدان أن العالم الإسلامي قارة وسطى بين الشرق والغرب، وأن لها شكل الهلال والنجمة أو القلب والجناحين؛ والقلب هنا هو المحيط الهندي، والجناحان هما جنوب آسيا وشمال أفريقيا. ويرى الباحث أن نظرية حمدان ليست دقيقة لوجود انقطاع جغرافي كبير بين دول جنوب شرق آسيا وباقي العالم الإسلامي بوجود الهند والصين. وهنا يقسم الباحث العالم الإسلامي إلى عالمين؛ هما: العالم الإسلامي البحري، والعالم الاسلامي البري. ويرى الباحث أن العالم الإسلامي البري يتخذ شكل طائر عملاق، رأسه الأناضول، وجناحه الأيمن الدول الإسلامية جنوب آسيا، وجناحه الأيسر الدول الإسلامية شمال إفريقيا، وقلبه الجزيرة العربية، في حين أن العالم الإسلامي البحري هو ذلك المنفصل عن جسم الجغرافيا الإسلامية الأساسي ويتألف من: بنغلاديش وإندونيسيا وماليزيا وبروناي وجزر المالديف. كما يرى الباحث بأن إقليم الشرق الأوسط يشكل طيرًا صغيرًا بالشبه بالنسبة للعالم الاسلامي ككل، وهو يتضمن مقدسات المسلمين وخمس مضائق بحرية عالمية من أهم المضائق في العالم، بل ذهب إلى أن العالم الإسلامي كله يتضمن سبع مضائق من أهم ثمان في العالم، إذا اضفنا مضيقي ملقه وجبل طارق ويتبقى مضيق بنما ليس في الحدود الجغرافية للمسلمين.

ثم عرض الباحث أهمية إقليم الشرق الأوسط من عدة منظورات؛ فمن المنظور التاريخي فهو مهد الحضارة البشرية وعدد من الديانات العالمية، ومن المنظور الجغرافي تحيط به أهم البحار والمضائق العالمية، ومن المنظور الاجتماعي فإن شعوب الشرق الأوسط فتيّة تغلب فيها نسبة الشباب، ومن المنظور الاقتصادي فتشتمل المنطقة على ثروات استراتيجية. وهكذا يرى الباحث أن هذه المنطقة تشكل القلب من العالم الإسلامي والعالم أجمع.

الحزام الإسلامي المتصدع

يرى الباحث أن انهيار الدولة العثمانية -والتي كانت “آخر مظلة سياسية جامعة”[9]، لجزء كبير من الفضاء الحضاري الإسلامي الواحد- أدى إلى دخول العالم الإسلامي مرحلة صعبة من الشتات والتفكك والانكشاف الاستراتيجي أمام الخارج؛ وهو ما وصفه الباحث بالحزام الإسلامي المتصدع؛ حيث يطلق وصف الحزام المتصدع في علم الجغرافية السياسية لمناطق من العالم تتسم بالهشاشة والتمزق الداخلي مع الاستباحة من القوى العظمى في الوقت ذاته[10].

وللدلالة على كلامه ذكر الباحث سبع نظريات في الجغرافية السياسية المعاصرة تظهر مقدار الاستباحة للمكان والإمكان لدى المسلمين؛ وهي نظرية “منطقة التنازع” للأمريكي ألفريد ماهان، ونظرية “قلب الأرض” للبريطاني هالفورد ماكيندر، ونظرية “حافة الأرض” للأمريكي نيكولاس سبيكمان، ونظرية “المنطقة الوسطى” لليوناني ديميتري كيتسيكيس، ونظرية “لوحة الشطرنج العظمى” للأمريكي زبيغنيو بريجنسكي، ونظرية “صراع الحضارات” للأمريكي صامويل هنتنغتون، و”النظرية الأوراسية” التي يروج لها الروسي ألكسندر دوغين[11]، وهذه النظريات تتضمن كل منها استباحة جزء من العالم الاسلامي بشكل او بآخر. ثم يحلل ويعلل الباحث أسباب ضعف العالم الاسلامي؛ فيذكر بعض مظاهر الضعف المزمنة من الماضي والتي لا تزال قائمة، ولكنه لا يوضح ما هي تلك المظاهر، وأيضًا ثقافة التميز القومي التي ورثتها المنطقة من المستعمر.

بناء المناعة الذاتية:

في سياق ما سبق عرضه من حالة العالم الإسلامي -بوصفه الحزام المتصدع-، وخطر استمرار العالم الإسلامي “منطقة ارتطام” في ظل صراع قوى الشرق والغرب[12]، يناقش الباحث الحل الذي عنونه ببناء المناعة الذاتية؛ بالدعوة إلى بناء قوة دولية إسلامية تمنعه أن يكون “منطقة ارتطام” أو حزاما متصدعا. ومنطقة الارتطام “مصطلح استخدمه عالم الجغرافيا السياسي البريطاني جيمس فيرغريف لوصف “المناطق الهشة من العالم التي تتكالب عليها القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى”[13]. ولبناء هذه المناعة الذاتية -التي يرى الباحث أنها صعبة التحقق- ذكر شروطًا لها؛ وهي تجاوز عدد من المعضلات البنيوية داخل الدول الإسلامية، وأيضًا تحقيق استقلال القرار الاستراتيجي لدوله المحورية، بالإضافة إلى تعميق التعاون بينها على نحو ما حدث في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

ولدعم طرحه -الذي يدرك الباحث الفجوة بينه وبين الواقع- فإنه يقدم مثال الولايات المتحدة التي -وعلى الرغم من مناعتها الجغرافية بمحيطين هما الأطلسي والهادئ- فقد سعت لتكوين حلف عسكري -النيتو- مع دول أوروبا التي تجمعها روابط دينية وثقافية مختلفة، ويضرب مثالا آخر بالتعاضد الروسي الصيني، ثم يكمل محاججته بأن الاتحاد الأوروبي كان حلمًا وتحقق. وفي هذا السياق ذكر ثلاث رؤى سادت في ذلك الوقت حول شكل الاتحاد الأوروبي؛ وهي: اتحاد فيدرالي، أو اتحاد كونفدرالي، ومدرسة وظيفية فضلت البدء بتوحيد قطاعات اقتصادية عابرة للدول، ثم تحققت رؤية المدرسة الوظيفية. وفي هذا المثال يعمم الباحث نجاح الاتحاد الأوروبي ليشمل الدول المرتبطة بأوروبا ثقافيا وسياسيا؛ وهو ما أسماه بالفضاء الحضاري الغربي، فبالرغم من بعدها الجغرافي مثل أمريكا ونيوزيلندا وأستراليا، فكلهم موحدون في فضاء حضاري غربي واحد.

ولتفسير ظاهرة الفضاء الحضاري الغربي الواحد رغم التعددية الثقافية والقومية والبُعد الجغرافي، يرى الباحث أنها تأتي بسبب قيام الدول الأوروبية بتوحيد قرارها الاستراتيجي مع الحفاظ على الاستقلال السياسي لدولها.

وفي هذا السياق، يقول الباحث بأن مسألة وحدة الإرادة الاستراتيجية للعالم الإسلامي لها شروط ومتطلبات؛ وهي أن تكون هناك إرادة سياسية وأساس ثقافي وأن تكون طوعية وعملية[14]. وفي شرط العملية هذا يطرح الباحث ثلاث رؤى عملية لثلاث مفكرين مسلمين؛ حيث إن ما سبق كان تأسيسا نظريا للباحث ليقدم ثلاثة تنظيرات إسلامية لشكل الوحدة الحضارية للفضاء الإسلامي؛ وهي كما يلي: أولًا- ما استلهمه المفكر عبد الرحمن الكواكبي من الوحدة الفيدرالية الأمريكية والألمانية فدعا لتكوين اتحاد إسلامي تضامني تعاوني. وثانيًا- ما استلهمه المفكر عبد الرزاق السنهوري من مثال عصبة الأمم التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ فدعا لإنشاء عصبة أمم شرقية للشعوب المسلمة. وثالثًا- ما طرحه المفكر مالك بن نبي مما استلهمه من الكومنولث البريطاني فدعا لتأسيس كومنولث إسلامي.

إن جوهر الفضاء الحضاري الجامع بحسب الباحث “هو الاشتراك في رؤيه واحدة للكون والإنسان وأمهات القيم، وفي تجربة تاريخية خاصة كما هي حال العالم الإسلامي، فإن انضاف إلى ذلك الامتداد الجغرافي الواحد كان ذلك ادعى لتبلور وحدة استراتيجية”[15].

ثم يعمل الباحث على الدفاع عن رؤيته للفضاء الحضاري الجامع للأمة الإسلامية وتوكيدها؛ فيذكر الاتحاد الأوروبي الذي لديه 24 لغة رسمية، كما يعرض ما قاله ابن خلدون في مقدمته أن النسب أمر وهمي لا حقيقة له، ثم يختم بما ذكره مالك بن نبي: “إن التاريخ لا يتحدد ضرورةً باللغة أو بالجنس، فإن الحضارة الغربية التي اتخذناها مقياسًا في هذا الميدان ليست ثمرة لغة أو جنس… وإمكان الحل موجود مع اختلاف اللغات أو الأجناس”[16].

وجدير بالذكر ما يتعلق برأي الباحث في منظمة التعاون الإسلامي؛ التي أبدى فيها رأيه من خلال طرحه رأي مالك بن نبي فيها؛ بأنها لا تعدو كونها عملا عاطفيا وارتجاليا.

مركز الثقل الاستراتيجي

بناء على ما تقدم، يطرح الباحث سؤالين جوهريين؛ وهما:

أين مركز الثقل الاستراتيجي في العالم الإسلامي؟

وهل يمكن للعالم الاسلامي أن يكون له مركز ثقل استراتيجي واحد أم عدة مراكز؟

وللإجابة عن هذين السؤالين يطرح الباحث ثلاثة تحليلات لثلاثة مفكرين تناولوا الموضوع من زوايا مختلفة؛ فيقدم تحليل مالك بن نبي ذا الطبيعة الاجتماعية، والتي ترى بأن باكستان والهند وإندونيسيا وماليزيا -أي دول شرق وجنوب شرق آسيا المسلمة- هي الدول ذات الثقل بما تتمتع به من نمو اقتصادي وكثافة سكانية. ثم يعرض ما طرحه المفكر الإسلامي السوري محمد المبارك الذي رد على رؤية مالك بن نبي في تقديمه لكتاب الأخير “وجهة العالم الإسلامي” بأن الثقل الاستراتيجي هو للعالم العربي في الفضاء الإسلامي؛ بحكم ارتباط اللغة العربية بالدين، ويضيف الباحث هنا لما ذكره المفكر محمد المبارك “لوجود المقدسات الاسلاميه”[17]. ثم يعرض نظرية صامويل هانتنغتون التي تختلف عن المنظور الاجتماعي الذي تبناه مالك بن نبي، كما تختلف عن المنظور الثقافي الذي تبناه محمد المبارك، حيث ينظر للقضية من منظور أن الفضاء الحضاري المشترك، ويعتمد على ما دعاه “بالقربى الثقافية”[18]، والتي تشمل العاملين الثقافي والديني، ولا تعتد باللغة والقومية في مسألة الوحدة.

ثم يعرض الباحث ما استعرضه هنتنغتون في نظريته لست دول إسلامية يمكن لها الاضطلاع بدور دول المحور أو المركز؛ وهي: السعودية وإيران ومصر وباكستان وإندونيسيا وتركيا. ثم يناقشه؛ فيستبعد السعودية لضعفها بسبب قلة عدد سكانها وضعف حصانتها الجغرافية، ويستبعد إيران لاختلافها المذهبي عن جمهور المسلمين، ويستبعد مصر لفقرها للموارد (حسب هنتنغتون)، ثم يستبعد باكستان لعدم استقرارها السياسي، في حين يستبعد إندونيسيا لبعدها الجغرافي عما أسماه الباحث العالم الإسلامي البري أو الكتلة الكبرى في العالم الاسلامي، وفي النهاية توصل هنتنغتون إلى أن تركيا هي المرشحة الأفضل لتكون دولة المركز للعالم الإسلامي.

وجديرٌ بالذكر أن الباحث قد أضاف دولة الجزائر للست دول، كما أنه لا يرى أن هناك تناقضا بين النظريات الثلاث، بل يرى أنها تكمل بعضها الآخر؛ حيث تنظر للفضاء الحضاري الإسلامي من منظورات مختلفة. ويميل الباحث للرأي القائل بأن تركيا مؤهلة اليوم أكثر من غيرها لتكون دولة المركز في العالم الإسلامي.

وللإجابة عن سؤاليه يقول الباحث:

فهذه الدول السبع قد تتحول في المستقبل المنظور رافعات إستراتيجية متوازية لنهضة إسلامية جديدة إذا حققت ما يكفي من النضج السياسي الداخلي والوعي الإستراتيجي الخارجي[19]. ثم يحاجج بأن أوروبا -على صغرها- مقارنة بالعالم الإسلامي تعتمد ثلاثة مراكز ثقل هم فرنسا وألمانيا وبريطانيا؛ وبالتالي فالعالم الإسلامي أكبر من أن تقوم به دولة ثقل واحدة.

خلاصات للزمن الآتي

تسرع حرب أوكرانيا من الصراع وعملية انزياح القوى بين القوى البرية والبحرية الكبرى، هذا والعالم الإٍسلامي اليوم لازال في دور المنفعل، بالرغم أن موقع العالم الإسلامي الجغرافي وإمكاناته تعطيه ميزة استراتيجية كبرى. في هذا السياق، فإن الظروف الدولية السائدة قد تعطي فرجة للعالم الإسلامي للتحرك التكتيكي لصالح طرف أو آخر لحساب مصلحته الخاصة، لا سيما فيما يتعلق بمنع الاستباحة الخارجية. وفي هذا السياق يرى الكاتب بأن الصين أقرب للعالم الإسلامي من الغرب الذي يصفه بأنه “يملك من وسائل الاختراق الاستراتيجي في العالم الإسلامي ما يعظم خطره”[20]، كما يرى بأنه لا يعكر صفو علاقة العالم الإسلامي بالصين سوى “تعاملها الفظ” مع الأفلية الإسلامية فيها. وبالنسبة لروسيا فهو يرى بأنها مثل الغرب في اختراقها للعالم الإسلامي وتدخلها في أفغانستان في الثمانينيات وسوريا في العقد الأخير وإن كانت أقل من الغرب.

كما يعود الباحث ليؤكد أهمية الوحدة الإستراتيجية لإرادة الأمة الإسلامية، وخطر كونها منطقة ارتطام؛ ما يتطلب منها وعيًا استراتيجيًا لمكانها وإمكانها، ثم إرادة استراتيجية موحدة تمنعها من الخطر المحدق بها. ومن الجدير بالذكر ما قاله الباحث: “فلا تزال القدس في قلب الصراع بين العالم الإسلامي والغرب؛ حيث يصر الغرب على تهشيم البيئة الإستراتيجية الإسلامية المحيطة بالدولة اليهودية التي أسَّسها ورعاها، وإبقاء العالم الإسلامي خصوصًا مهده العربي في وضع الحزام المتصدع إلى الأبد”[21]. حيث يضع القضية الفلسطينية بوصفها قضية مركزية للأمة الإسلامية عامة والعربية بوجه خاص، ثم يفتح الباحث الباب أمام الباحثين والمفكرين لتلمس الطريق لتلك النهضة الإٍسلامية بسؤاله العام عن أي سبيل يفيد الأمة في هذا المسعى.

الخاتمة

“شروق الشرق وغروب الغرب” عنوان لافت، اقتبسه د.محمد الشنقيطي من مقال للكاتب المصري أحمد حسن الزيات يدافع فيه عن فلسطين، وعني فيه الشرق الإسلامي؛ وهو مجاز استخدمه الباحث هنا للتعبير عن انزياحات القوى العالمية وانتقال مركز الثقل الاستراتيجي أو مركز القوة العالمية من الغرب إلى الشرق. بيد أنني -خلال عرضي لهذه الورقة- لا أستطيع إغفال استخدام الباحث لمجاز من كتاب عن فلسطين ثم ختامه بذكر القدس< ما يشير لمكانة القضية الفلسطينية في فكر ووجدان الباحث وربطه بين أزمة القدس وأزمة الأمة؛ وهو ما يعني بأن حل قضية القدس مرتبط بنهضة الأمة الإسلامية.

لقد عرض الكاتب الدراسة في قسمين: الأول دراسة الانزياحات الدولية للقوى الكبرى، والثاني أثره على مصائر العالم الإسلامي؛ وفيه طرح رؤيته العملية للحل بعيدًا عن الشعارات العاطفية وأحلام دولة المركز أو الخلافة المصورة في صورة دولة واحدة مركز. فهو يرى بأن الأمة الإسلامية تحتاج لعدة دول مركز ودول ثقل إستراتيجي تقوم بدور الرافعات المتوازية لنهضة إسلامية.

وفي هذه الدراسة عرض الباحث عددا من المفاهيم المهمة كمفهوم الفضاء الحضاري المشترك للأمة الإسلامية، ومفهوم بناء المناعة الذاتية الذي طرح فيه دعواه لتشكيل قوة إسلامية دولية؛ الطرح الذي أراه جريئًا في الوقت الراهن، ولكنه منطقي وفق الظروف الدولية السائدة وما يتهدد العالم الإسلامي من آثار انزياحات القوى الكبرى.

ولكن من الجدير بالذكر إغفال الباحث لمؤتمر القمة الإسلامية المصغر الذي عقد في كوالالمبور في 2019، وحضره كل من ماليزيا وتركيا وإندونيسيا وقطر فيما اعتذرت باكستان وإندونيسيا[22]؛ حيث مثل المؤتمر فرصة لتكوين تحالف لدول محور تعمل بالتوازي للإقلاع الحضاري الذي يطمح له المسلمين اليوم، كما أنه –برأيي- فقد قلل الباحث من الفظائع التي ترتكبها الصين بحق أقلية الإيغور المسلمة والتي لا زالت تعاني.

شرحت هذه الدراسة -بمنهجية الجغرافيا السياسية ومن قريحة باحث مهموم بأمته- مكان وإمكان العالم الإسلامي في عالم اليوم، وتصورا عمليا للوحدة الإسلامية والإقلاع الحضاري؛ ابتداءًا بالمناعة الذاتية لمواجهة تحديات تغير النظام الدولي الحالي وما يصاحبه من آثار خطيرة.

غير أن هذه الدراسة -وإن كانت تمثل إسهاما أوليًّا وأساسيًّا مهمًّا في طريق الدرس النظري للفرص والإمكانيات المتاحة أمام العالم الإسلامي للنهوض- فإن الكاتب قد ذكر (في محاضرة افتراضية على زووم مع مجموعة التفكير الاستراتيجي والتي كانت حول هذه الورقة) قد ذكر أنه سيكملها لتكون كتابًا، كما أنه في ختام الدراسة وجه انتباه الباحثيين المسلمين للحاجة لمزيد من العمل في هذا المسار، وكشف كل السبل المتاحة والفرص أمام العالم الإسلامي للنهوض. ولا شك في أهمية دور الباحثين المعنيين بنهضة شعوبهم وأمتهم؛ بوصفهم أفرادًا يعملون في مراكز الدراسات؛ والتي هي بحق خزانات فكر استراتيجي لا غنى لأمة متقدمة اليوم عنها لتلمس الطريق الصحيح لنهضة الأمة وتقدمها.

_______________

الهوامش

  •   محمد الشنقيطي، شروق الشرق وغروب الغرب انزياحات القوى الدولية ومصائر العالم الإسلامي، دورية لباب للدراسات الاستراتيجي، مركز الجزيرة للدراسات، العدد 18، مايو 2023، https://studies.aljazeera.net/ar/magazines/book-1563، زيارة بتاريخ: 2 أغسطس 2023.

[2] وهو أستاذ الأخلاق السياسية بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق جامعة حمد بن خليفة في قطر، مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، جامعة حمد بن خليفة، وأستاذ الشؤون الدولية المشارك، قسم الشؤون الدولية، جامعة قطر، يوليو 2023، الموقع: https://www.cilecenter.org/ar/node/1040 . وانظر: المرجع السابق.

[3] المرجع السابق، ص57.

[4] المرجع نفسه، ص55.

[5] المرجع نفسه، ص56.

[6] المرجع نفسه، ص21.

[7] المرجع نفسه، ص23.

[8] المرجع نفسه، ص33.

[9] المرجع نفسه، ص41.

[10] المرجع نفسه، ص41.

[11] المرجع نفسه، ص41-43.

[12] المرجع نفسه، ص45.

[13] المرجع نفسه، ص45.

[14] المرجع نفسه، ص47.

[15] المرجع نفسه، ص48.

[16] المرجع نفسه، ص49.

[17] المرجع نفسه، ص49.

[18] المرجع نفسه، ص52.

[19] المرجع نفسه، ص54.

[20] المرجع نفسه، ص56.

[21] المرجع نفسه، ص56.

[22] قمة كوالالمبور:هل تنازع تركيا السعودية زعامة العالم الإسلامي، 22 ديسمبر 2019، موقع bbc news عربي، بتاريخ 2 أغسطس 2023، رابط: https://www.bbc.com/arabic/interactivity-50886412.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى