عرض كتاب «المقاومة والتغيير في السياسة العالمية»

مقدمة

يمثل التغيير ركيزة وسمة أساسية للمسرح السياسي العالمي؛ فمع حركات الصعود والهبوط بين القوى العالمية والتغيرات في النماذج الكبرى المهيمنة، تنتج حركات تغيير ومقاومة بشكل مستمر تتفاوت في طبيعتها وحدتها ومدى تطرفها وراديكاليتها، وكذلك تتنوع أساليب إحداث التغيير ذاته والآثار المترتبة عليه. وفي هذا السياق نعرض كتاب “المقاومة والتغيير في السياسة العالمية”[1]، وهو كتاب أكاديمي لمجموعة من المؤلفين، يعد بمثابة إسهام في تقديم إطار نظري منطلق من النظرية النقدية في العلاقات الدولية لفهم طبيعة المقاومة، وبناءً على ذلك يناقش نماذج متعددة من صور المقاومة عبر فصوله مع بيان عوامل وشروط نجاح المقاومة في إحداث التغيير المنشود من عدمه.

الفصل الأول: الاقتراب من الانشقاق الدولي: المفاهيم والحالات والأسباب

يضع هذا الفصل خلفية تأسيسية نظرية لطبيعة التغيير على المستوى الدولي ومراحل حدوثه والمفاهيم المرتبطة به، وبناءً على ذلك، يسعى إلى إعادة صياغة عدد من مفاهيم العلاقات الدولية بهدف تعزيز التفسير النظري لكيفية وأسباب حدوث التغيير في النظام العالمي، وفي هذا الإطار يبدأ بتوضيح مفاهيم النظام الحاكم (Ruling order)، والمعارضة (Opposition)، والانشقاق (Dissidence).

ثم يحدد النهج العام تجاه الموضوع، والأساليب المستخدمة، والحالات المختارة للدراسة، ثم ينتقل إلى الأسباب المحتملة للانشقاق والآليات التي من خلالها إما أن تترسخ أو تتلاشى.

يعتمد الكتاب هنا مفهوما أكثر رحابة وسعة للنظام الدولي والفاعلين فيه بخلاف النظرية الواقعية؛ حيث يرى أن النظام الدولي متعدد المراكز وليس هرميًا، وينشأ هذا من علاقات القوة المتعددة التي تؤثر في جميع الجهات الفاعلة العابرة للحدود الوطنية والدولية، سواء من الناحية التأسيسية أو السلوكية والتي تتجلى في الأنظمة الرسمية وغير الرسمية والفاعلين الدوليين وغير الدوليين، وفي توزيع القدرات المادية. وبناءً على هذه الطبيعة قد تتكشف المقاومة من داخل عدد من أنظمة السلطة، والتي قد يتداخل بعضها أو يتنافس بعضها، وبالتالي فإن النظام الدولي الحاكم قد يتعرض للتحدي من زوايا وجبهات متعددة، ويكون التغيير في النظام الدولي ممكنا ومتاحا طوال الوقت ولكنه يعتمد على الظروف والسياقات المحيطة. ومن هنا ينتقل الفصل لمحاولة تقديم الأسباب والظروف التي تساهم في نجاح التغيير أو فشله، ويرى الكتاب أن المقاومة، حتى في بعض الحالات في شكلها الراديكالي (الانشقاق)، ضرورية للتطور السياسي.

وفي إطار المنهج الذي يطرحه الكتاب لدراسة التغيير، يميز بين نوعين من المقاومة: تلك التي تحدث من داخل المعايير والإجراءات والمؤسسات السائدة، وتسمى”المعارضة” (opposition)، وتلك التي تعمل خارج هذه المعايير، وتسمى “الانشقاق” (dissidence). ومن ثم فإن المعارضة -على هذا النحو- تسعى إلى توفير خيارات سياسية بديلة من داخل النظام، وعندما تطمح إلى الاستيلاء على السلطة فإنها تقبل “قواعد اللعبة” الراسخة التي تحكم بالفعل ولا تسعى إلى تغييرها جذريًا، وذلك بعكس الانشقاق الذي يسعى لتغيير الأسس والقيم الأساسية التي يقوم عليها النظام. وفي هذا السياق يفرِّق النموذج النظري المطروح بين نوعين من الانشقاق؛ أحدهما الانشقاق الذي يقوم على محفِّز خارجي (dissidence by Ascription)، والآخر الانشقاق القائم على اختيارٍ وإرادةٍ من فاعليه (dissidence by choice).

وتعرض باقي فصول الكتاب مجموعة من حالات المقاومة على المستوى الدولي، تتبع جميعها النموذج المطروح في هذا الفصل الذي يتكون من جزأين؛ أحدهما وصفي والآخر تفسيري. يتتبع القسم الوصفي الانشقاق باعتباره بناءً اجتماعيا؛ حيث تقوم كل حالة على تعارض قائم في المعايير، إما في شكل معيارين متضاربين: بمعنى أن يواجه المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه النظام الحاكم تحديًا من الجهات المنشقة التي تروج لمبدأٍ معياري بديل، أو يكون التعارض في تفسيرات مختلفة لمعيار واحد موجود. ثم يأتي القسم التفسيري الذي يقف على أسباب وظروف نجاح أو فشل الانشقاق. وبناءً على منهج الكتاب، يعتبر الانشقاق ناجحًا عندما يحدث تغيير في النظام المعياري (normative order).

ويعرض الكتاب بشكل نظري الدوافع والأسباب المؤدية لحدوث الانشقاق وكذلك عوامل نجاحه وفشله في إطار النموذج التحليلي الذي ستتم دراسة الحالات القادمة في الكتاب بناءً عليه، ومن ثم يقسم الكتاب الأسباب المؤدية إلى حدوث الانشقاق إلى:

أ- أسباب تتعلق بالمصالح

ب-أسباب تتعلق بالهوية

ج-أسباب تتعلق بالقيم والمعايير

د- أسباب تتعلق بديناميات ذاتية الاستدامة

ثم أسباب نجاح أو فشل الانشقاق:

أولا- ما يتعلق بالسياق المعياري:

– الخصائص المعيارية

– نوع الصراع المعياري

– طبيعة السياق المعياري

ثانيًا- ما يتعلق بالخصائص والاستراتيجيات:

– سمات وخصائص الفاعلين

– السلوكيات والاستراتيجيات

ثالثا- ما يتعلق بالتغير في السياقات والظروف المحيطة:

– التطورات والأحداث الخارجية

– التطور التكنولوجي

الفصل الثاني: الصحة قبل براءات الاختراع: تحدي أولوية حقوق الملكية الفكرية

هذا الفصل يبدأ بتطبيق المنهج النظري؛ حيث يتناول أول دراسة حالة من حالات التغيير والمقاومة لأحد السياسات الحاكمة في النظام الدولي، التي تتعلق بأولوية حقوق الملكية الفكرية على حقوق المرضى في الحصول على الأدوية.

يتناول هذا الفصل التعارض بين الحماية الدولية لبراءات الاختراع والحق في الصحة، مبيِّنًا أن عددًا من الدول الناشئة (تحديدًا: الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا، تايلاند والفلبين) وحلفاءهم من المجتمع المدني، قد شنوا حملة ناجحة ضد القواعد التي تحكم حماية الملكية الفكرية على النحو المحدد في اتفاقية تريبس (TRIPS) عام 1994، المتعلقة بالجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية، وفي أعقاب هذه المواجهة تم الاتفاق على تغيير نظام تريبس في المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في الدوحة عام 2001. ومنذ ذلك الحين، منحت قواعد التجارة العالمية الحق في الصحة الأسبقية على الحق في الملكية الفكرية. وقد ساهمت أزمة فيروس نقص المناعة البشرية، وإمكانيات التعبئة لدى المنظمات غير الحكومية، والقوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل، فضلا عن الخطاب المعياري الجديد، وخاصة في الغرب، في هذا التغيير في سياسات الصحة العالمية.

وبالنظر إلى ما تقدم في الفصل الأول من نموذج تحليلي، فإن هذه الحالة قامت بتغيير على مستوى المعايير والقيم؛ حيث تم تغيير تراتبية القيم بإعطاء الأولوية لما هو إنساني على ما هو مادي وتجاري.

ويقدم الفصل عملية التغيير من خلال بيان مرورها بعدة مراحل من الصراع؛ ابتداءً بالطعن في النظام القائم على أساس معياري، مرورًا بنزع الشرعية عن المفاهيم المعيارية المنحرفة، وصولا إلى الاعتراف بشرعية الطرح الجديد ومن ثم إعادة تشكيل النظام. وهذه المراحل في مجموعها تمثل نموذجًا لتغيير النظام المعياري الناتج عن الانشقاق الدولي، وهذا ما تم بشكل عملي في القضية التي نحن بصددها؛ حيث قام الفاعلون الدوليون وغير الدوليين بالطعن -من منظور أخلاقي- في النظام القائم على أساس رأسمالي الذي يعلي من قيمة المادة على حساب حق الإنسان في الصحة والحصول على الدواء، ثم إدخال بعض التعديلات على هذا النظام ممثلا في اتفاقية تريبس بحيث تتغير تراتبية المعايير.

وتمثل هذه الحالة أحد حالات التغيير التي حققت نجاحًا نسبيًا، ويُرجِع الكتاب هذا النجاح -حسب النموذج التفسيري الذي طرح في الفصل السابق- في جزء كبير منه إلى العنصر الأول من أسباب نجاح الانشقاق أو فشله (السياق المعياري)، وذلك من خلال قيام أصحاب الدعوة بجعل دعوتهم في التغيير والقيم التي ينادون بها تتخذ شكلا عالميا وليس محليًا. ثانيًا أن التغيير لم يهدف إلى الهدم التام للنظام القائم ثم إعادة بنائه من الصفر، وإنما تمت إعادة هيكلةٍ وتعديلٍ في النظام بحيث يعاد رسم موضع المعايير والقيم في سلم الأولويات دون إنكار أو تحييد تام لأي منها. ثالثًا أسهم الجانب الأخلاقي للمسألة في تعزيز خوف المؤسسات الموكل بها الأمر من السمعة السيئة، ومن ثم فإن إقحام الأبعاد الأخلاقية لأي قضية يجعلها أكثر عرضة للحصول على قبول عام. رابعًا أسهمت الظروف والعوامل الخارجية في إنجاح عملية التغيير، وذلك من خلال استغلال القائمين على عملية التغيير الأمراض الوبائية كوسيلة ضغط لتحقيق مشروعهم.

الفصل الثالث: تحدي سيادة وسيطرة الدولة على أعمال العنف البحري؟

تعد السيادة واحتكار الدولة لاستخدام القوة من بين الخصائص المميزة للدولة القومية، ولكن منذ نهاية الحرب الباردة بدأت الجهات الفاعلة غير الحكومية -ـوخاصة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة- في لعب دور مهم في الحوكمة الأمنية الوطنية والدولية. وتنشط الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أيضًا في البحر، في حماية السفن من هجمات القراصنة. وعلى الرغم من التردد في البداية في إسناد مهمة حماية السفن التجارية إلى الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، فقد أدخلت العديد من الدول الآن لوائح تنظيمية تنص على استخدامها، أو على الأقل تتسامح معها. وقد ساعد فشل الدولة في حماية السفن وأطقمها، وفي المقابل بناء التحالفات الاستراتيجية من قِبل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، على تأمين مكان لها في إدارة الأمن البحري. وفي هذا السياق يقوم هذا الفصل بدراسة هذه الحالة الناجحة في تحدي احتكار الدولة القومية لاستخدام القوة وإحداث تغيير هيكلي يجعل الدولة القومية ذاتها تسمح للشركات الخاصة والفاعلين غير الدوليين بالتدخل في الشؤون الأمنية (الأمن البحري نموذجًا) ووضع اللوائح المنظمة لهذه العملية التي تم شرعنتها وتقنينها. وبناءً على هذا يسلط الفصل الضوء على مراحل التغيير: كيفيتها والأسباب والظروف التي ساهمت في نجاحها.

يشير الكتاب إلى أن عودة ظهور القرصنة كتهديد للأمن الدولي في التسعينيات هي التي أدت إلى عودة الحديث عن الحماية المسلحة للسفن التجارية. فقد بلغ القلق الدولي ذروته عام 2000 بسبب تصاعد هجمات القراصنة في مضيق ملقا ذي الأهمية الاستراتيجية الذي يربط المحيط الهندي ببحر الصين الجنوبي؛ حيث بدأ حينها عدد صغير من مالكي السفن في الاستعانة بخدمات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، الأمر الذي ظل طي الكتمان إلى حد ما نتيجة عدم وجود قوانين دولية واضحة تنظم عملها، ولكن مع تزايد عمليات القرصنة تزايدت هذه الشركات وبدأت تُحدِث تحولات حقيقية مع قيام دول العلم (flag states) بإدخال تشريعات وطنية تسمح باستخدام الشركات الأمنية الخاصة على السفن التجارية (وفي بعض الحالات سفن الصيد) التي ترفع عَلَمها.

ويمثل هذا النموذج من الانشقاق النوع الأول منه وهو الانشقاق القائم على الإسناد أو المحفز خارجي؛ فالقائمون به شركات الأمن البحري الخاصة إلا أن هذه الشركات لم تقُم بإحداث التغيير بشكل مباشر وإنما ساهم فيه تزايد عددها وفاعليتها القائمة على توظيف أصحاب السفن التجارية واستخدامهم لخدماتها، ومن ثم فإن الفاعلين المباشرين الموكلين بهذه العملية من التغيير يستندون في الحقيقة إلى فاعلين آخرين وظروف خارجية محفزة جعلتهم في صدارة الموقف.

وفي نهاية الفصل يأتي تحليل العوامل المؤدية لنجاح هذا النموذج؛ حيث تنقسم إلى عوامل معيارية تتعلق بالقبول العام الدولي لدور الفاعلين غير الدوليين في القيام بمهام كانت تعتبرها الدول مساحات محاطة بالخطوط الحمراء وتقوم بها على سبيل الاحتكار مثل المجال الأمني، ثم عوامل تتعلق بالفاعلين والاستراتيجيات المتبناة التي تتعلق باعتماد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة المعنية بمكافحة القرصنة ومالكي السفن نهجًا مزدوجًا في الدفع بقضيتهم، بالإضافة إلى الاستراتيجية القائمة على إبراز فكرة أن الخدمات التي تقدمها تلك الشركات تخدم سيادة الدول ولا تتحداها بأي شكل عن طريق التواصل الدائم مع المؤسسات والوكالات الحكومية، وأخيرا العوامل المتعلقة بالظروف الخارجية المتمثلة في زيادة خطر عمليات القرصنة وفشل الحكومات في أكثر من حادثة من صدها مما أتاح الفرصة لشرعنة وتقنين خدمات الشركات الخاصة التي أثبتت فاعليتها في تحقيق الأمن البحري.

الفصل الرابع: حركات التحرر الوطني والأمم المتحدة: فوز وخسارة؟

يتناول هذا الفصل دراسة أبعاد الصراع بين مبدأ حق تقرير المصير ومبدأ سيادة الدولة وأثر ذلك على حركات التحرر في جميع أنحاء العالم؛ حيث يحاول الإجابة عن سؤالين رئيسيين: (أ) كيف كان من الممكن، في وقت ما، لحركات التحرر الوطني أن تحصل على الاعتراف وتنجح في الحصول على حقها في تقرير المصير؟ (ب) وكيف يمكن -من ناحية أخرى- لمؤيدي الحكم أن يحظوا بالاعتراف ويتمكن النظام حينها من نزع الشرعية عن هذه الحركات؟ وبعد الإجابة عن هذين السؤالين في ظل تحديد الإطار المعياري الذي يتم فيه نزع الشرعية عن حركات التحرر الوطني، يركز الكاتب على خطاب الجمعية العامة للأمم المتحدة حول هذه الحركات.

في سياق محاولة الكاتب الإجابة عن السؤالين السابقين، يعرض أولا بصورة تحليلية الأسباب التي أدت إلى وجود صراع وتوتر بين مبدأ حق تقرير المصير ومبدأ سيادة الدول، وذلك بالعودة إلى جذور ظهور المبدأين وتأكيد أن كلا منهما يرتكز على مفهوم مختلف جوهريًا للنظام العالمي؛ ففي حين أن سيادة الدولة تعتمد على فكرة ويستفاليا القائلة بأن السلام والأمن الدوليين لا يمكن ضمانهما إلا من خلال الالتزام بمبادئ عدم التدخل والسلامة الإقليمية، فإن تقرير المصير متجذر في فكرة أن الشعوب لديها الحق في أن تقرر بحرية كيف تُحكَم.

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا المبدأ قد برز في سياق حركات التحرر من الاستعمار، ومن ثم -وبالنظر إلى موقف الجمعية العامة للأمم المتحدة- فإننا نجد أن القرارات الصادرة عنها منذ الستينيات كانت ترجح كفة أحد المبدأين وفقًا للسياقات المحيطة وأجندة المصالح؛ ففي أثناء إنهاء الاستعمار، اعترف المجتمع الدولي بأن سعي حركات التحرر الوطني إلى الحرية أمر شرعي ولكن بمجرد إنهاء الاستعمار بدأ مبدأ حق تقرير المصير في التراجع تدريجيًّا، وبدأت حركات التحرر تفقد شرعيتها ويتم استبعادها ولم يعُد هناك حديث عن حركات المقاومة والتحرر على الرغم من شرعية مطالبها، بل أصبح هناك مفردات جديدة مثل: مجموعات مسلحة، إرهابيين…إلخ.

في سياق تفسير الكاتب لهذا التحول فإنه يبدأ بالخصائص والسمات المعيارية؛ حيث يبين أن إضفاء الشرعية على حركات التحرر ومبدأ حق تقرير المصير في مقابل سيادة الدولة أو العكس إنما يعود إلى مدى موافقتها إلى الإطار المعياري القائم. ففي فترة إنهاء الاستعمار في أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت مبادئ الحرية والمساواة تسود المناخ العالمي وفي نفس الوقت كانت تلك الحركات تخدم مبدأ سيادة الدولة ولا تتحداها، ولكن بمجرد انتهاء فترة إنهاء الاستعمار بدأ تصوير حركات التحرر الوطني باعتبارها قوى مدمرة تهدد الأساس المعياري للنظام السياسي الدولي القائم على مبدأ السيادة بشكل أساسي.

أما على صعيد العنصر الثاني المتعلق بخصائص الفاعلين والاستراتيجيات التي تم تبنيها، يفصِّل الكاتب في مسألة أن حق تقرير المصير كان هو المهيمن في زمن إنهاء الاستعمار وارتبط بذلك وفي ذلك الوقت كانت الأمم المتحدة والدول الكبري تقدم كافة أشكال الدعم للحركات التحررية مما أسهم في قوتها ونجاحها، ولكن الدول القومية التي نشأت في أعقاب هذه الحقبة وضعت أمنها وسلامتها في كفة ووجود حق خارجي لتقرير المصير في كفة أخرى واعتبرت أي تدخل خارجي بمثابة التعدي على سيادتها؛ ومن هنا بات النظام الدولي يضع مبدأ السيادة فوق كل المبادئ وكل الحقوق.

كما حاول المجتمع الدولي إشراك أكبر عدد ممكن من الجماعات المتمردة في مفاوضات السلام، وهو الاتجاه الذي ساهم في تفتيت حركات التحرر الوطني حيث تنافست الجماعات المختلفة مع بعضها البعض للحصول على الاعتراف الدولي.

أخيرًا وعلى صعيد الظروف والسياقات الخارجية المحيطة، والتي كان أبرزها الحرب الباردة، فإن كلا من الأمريكيين والسوفييت كان على استعداد لدعم الحركات التحررية لتعزيز نفوذها في العالم الثالث. ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة وبداية موجة الحرب على الإرهاب خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدأت عمليات سحب الشرعية من هذه الحركات ووصمها بالإرهاب والتمرد.

الفصل الخامس: نزع الشرعية حسب الطلب: تسمية “الدولة المارقة” كوسيلة لتحقيق الاستقرار في نظام منع انتشار الأسلحة النووية

يقوم هذا الفصل بدراسة فكرة “الدولة المارقة” باعتبارها تسمية أمريكية ووصما يتم إطلاقه بشكل انتقائي ينافي المعايير التي وُضِعت لأجلها. وفي هذا الإطار يبدأ الفصل بتوضيح مفهوم “الدولة المارقة” كمثال على الانشقاق عن طريق الإسناد، وبعد تتبع تطور هذه الفكرة لتصبح واحدة من السمات المميزة للسرد الأمريكي في فترة ما بعد الحرب الباردة في السياسة الخارجية والأمنية، فإنه يدرس التجاوزات المعيارية الرئيسية التي يتم بموجبها تعريف “المحتالين” المزعومين على هذا النحو، ثم يوضح الطريقة الانتقائية والتعسفية التي يتم بها تطبيق تسمية “المارقة”، وتقييم مدى (عدم) قابلية تطبيق المعايير الفردية في حالة كل من “الدول المارقة”؛ بناءً على هذا يرى مطلقو هذا الوصف “المارق” أنه وسيلة لتحقيق استقرار النظام الدولي الحاكم.

ويركز هذا الفصل على معيار منع الانتشار النووي باعتباره أحد المعايير التي توصف الدولة وفقا لها بأنها مارقة، ويتم في سياقه الوقوف على تعسفية وانتقاء تطبيق وصف “المارقة”. وفي هذا الإطار يشير الكاتب إلى تعريف النجاح على الجانبين المؤيد والمعارض على النحو التالي: “يعتبر الفريق الداعم للنظام الدولي نزع الشرعية عن طريق الوصم ناجحًا إذا تم الحفاظ على تسمية “الدولة المارقة” لفترة طويلة وتم حرمان الدولة الموصومة من الوصول إلى التكنولوجيات النووية أو اضطرارها إلى وقف برنامج أسلحة الدمار الشامل الخاص بها (مثل ليبيا والعراق)؛ أما من وجهة نظر الدول الموصومة، فإن النجاح يتحقق إذا أسقط أنصار النظام الحالي تسمية “المارقة” أو أظهروا بعض الاستعداد للاعتراف بحق الدول المعنية في الوصول إلى التقنيات النووية المذكورة (مثال إيران وكوريا الشمالية)”.

وبالانتقال إلى الجزء التفسيري لهذه الحالة فإن الكاتب يركز على عنصر سمات الفاعلين والاستراتيجيات أكثر من العنصرين الآخرين ويري أنه محوري في سياق تناول نجاح كلا الجانبين؛ فنجاح الفريق الداعم للنظام الدولي -أو بالأحرى الولايات المتحدة- في إطلاق هذا الوصم إنما يعود لسمات الفاعلين أنفسهم من حيث القوة والهيمنة العالمية والقدرة العسكرية في مقابل ضعف الطرف المقابل، ولذلك نجح الأمر في حالة ليبيا والعراق وظل مستعصيا في حالة إيران وكوريا الشمالية. وهذا ينطبق أيضًا على صعيد نجاح الاستراتيجيات؛ فالعقوبات والعزلة الاقتصادية باعتبارها أبرز الاستراتيجيات التي يتم بها معاقبة الدول المعنية للرضوخ جعلت الاقتصاد الليبي على سبيل المثال على حافة الهاوية، أما في حالة إيران فإن العقوبات لم تكن كافية لردعها، فضلا عن قوة عامل التحالفات الدولية في حالة إيران وكوريا الشمالية في ظل صعود الحليف الصيني والروسي.

وعلى صعيد عنصر الإطار المعياري أشار الكاتب إلى أن إيران فقط من نجحت في الحصول اعتراف غير مباشر بحقها في المشاركة في التخصيب، على النحو المنصوص عليه في الاتفاق النووي المبرم في يوليو/تموز 2015، وذلك بالتركيز على الاستحقاق كمعيار ومبدأ. أما على صعيد العوامل والظروف الخارجية يشير الكاتب إلى أن ظروف فترة ما بعد الحرب الباردة والانتقال إلى نظام أحادي القطب مكَّن الولايات المتحدة من إضفاء الشرعية على كل تعاملاتها الراديكالية والانتقائية مع كل ما من شأنه تهديد هيمنتها العالمية.

الفصل السادس- حماية الدين: المعارضة الإسلامية والمقاومة ضد التمثيلات الغربية للإسلام

يناقش هذا الفصل حالة الصراع الدائرة بين حماية الأديان من حملات التشويه والإهانة وبين ما يسمى بحرية التعبير، وهنا نقف عند استخدام الكاتب مصطلح “حرية التعبير” -وفق تعريفه الغربي- لوصف أعمال مجلة شارلي ايبدو ضد الإسلام وضد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وغيرها ممن الممارسات المشينة ضد الإسلام والمسلمين، لنضع سؤالا حول صحة هذه التسمية من الأساس!

ينطلق هذا الفصل من الوقوف على موجات الاحتجاج التي يقوم بها المسلمون منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين باعتبارها شكلا من أشكال المقاومة الراديكالية ضد النظام العالمي الليبرالي العلماني الغربي، التي جاءت كرد فعل على أحداث متتالية من تشويه الإسلام في المجتمعات الغربية، والتي كان يُنظر إليها على أنها إهانة للإسلام وتشويه سمعته. ومن ناحية أخرى، عملت منظمة التعاون الإسلامي كمدافع عن مخاوف المسلمين العالمية بشأن تزايد كراهية الإسلام في الغرب وحاولت الحصول على حق حماية الأديان -أو بالأحرى حماية الإسلام باعتباره هو المستهدف الأول من هذه الحملات- من التشهير والإهانة كمعيار جديد في سياق نظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ولكن هذه المحاولات فشلت في إحداث أي تغيير حقيقي في معايير النظام الدولي المهيمن.

وفي هذا السياق يعرض الفصل أولا حملة منظمة التعاون الإسلامي من أجل حظر “تشويه صورة الأديان” كشكل من أشكال معارضة النظام الليبرالي العلماني، ثم يقف على الدوافع وراء مبادرة منظمة التعاون الإسلامي وأسباب نجاحها في وضع هذه القضية على جدول أعمال الأمم المتحدة، ثم ينتقل لعرض صور المعارضة المتزايدة لتصوير الإسلام والنبي محمد في وسائل الإعلام الغربية في 2005/2006 عندما اندلع الجدل حول الرسوم الكاريكاتورية إلى احتجاجات عابرة للحدود الوطنية وأعمال عنف وانقسامات دبلوماسية.

وبالانتقال إلى الجزء التفسيري من الفصل، يشير الكاتب إلى العوامل الرئيسية التي أدت إلى النجاح الجزئي في البداية ثم الفشل النهائي في تغيير النظام المعياري العالمي المهيمن الذي يعطي الأولوية للحق في حرية التعبير على حساب حماية الأديان من التشهير والإهانة. فعلى صعيد السياق المعياري، نجد أن منظمة التعاون الإسلامي عندما تناولت هذه القضية باعتبارها حارسًا مؤسسيًا لها على المستوى الدولي حاولت صياغة مبادرتها بطريقة تهدف إلى الارتباط بإطار حقوق الإنسان الحالي كإطار قيمي معياري داخل الأمم المتحدة، ولكن التعارض الصريح -حسب تفسير الكاتب- بين قيمة حماية الأديان أو “حماية الإسلام” وقيمة حرية التعبير أدى إلى فشل هذه المبادرة في تحقيق أهدافها.

أما على صعيد العنصر الثاني المتعلق بسمات وخصائص الفاعلين واستراتيجياتهم، نجد أن الهوة بين منظمة التعاون الإسلامي وبين المحتجين في جميع أنحاء العالم الإسلامي (الذين تم تصويرهم بنهم إرهابيين ومخربين) تعد من أبرز أسباب الفشل، وكذلك الافتقار إلى أي تماسك وتنظيم حيث كانت الاحتجاجات في الغالب تعبيرات عفوية عن الغضب ومتفرقة جغرافيًا، بالإضافة إلى ربط محاولة منظمة التعاون للحد من الإسلاموفوبيا بمعاداة السامية. وأخيرًا يأتي عنصر العوامل والظروف الخارجية، وهنا يُرجِع الكاتب فشل هذه الحالة من المقاومة إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبداية موجة الحرب على الإرهاب التي جعلت الإسلام مرتبطا ذهنيا بالإرهاب والعنف مما مثل عائقًا أمام أي جهود للحد من ممارسات الكراهية للإسلام بشتى صورها.

الفصل السابع: الطغيان الجاهز؟ النضال من أجل نظام رقمي جديد

تنتشر الشبكات والاتصالات الرقمية الآن في كل مجالات الحياة، ونتيجة لذلك اكتسبت الإدارة السياسية للانترنت أهمية أيضًا، سواء باعتباره جزءًا من البنية التحتية التقنية أو باعتباره “فضاءً إلكترونيًا” يتم تشكيله بشكل تواصلي. ورغم أن أساليب “عدم التدخل ” كان يُنظر إليها على أنها الطريقة الوحيدة للعمل في المراحل الأولى من التطور الرقمي، فإنها لا تحظى الآن سوى بعدد قليل جدًا من المؤيدين. إلا أن عملية إنشاء نظام رقمي جديد لا تزال بعيدة عن الاكتمال؛ حيث يعد تشكيل المعايير على شبكة الانترنت عملية متنازعا عليها. وفي هذا السياق، يتناول الفصل تطور محاولات السيطرة على الفضاء الرقمي سواء من قبل الدولة أو من قبل الفاعلين غير الدوليين من مقدمي الخدمات الرقمية، وفي المقابل رصد مراحل مقاومة هذه المحاولات. وبناءً على ذلك يصف الكاتب تطور النظام الرقمي الجديد، ودوافعه وخصائصه الرئيسية، ثم يربط ذلك بظهور الانشقاق ومظاهره المختلفة.

انطلاقًا من وهم الحياد الرقمي، يشير الكاتب إلى أن محاولات السيطرة على العالم الرقمي سواء على مستوى بنيته التحتية التقنية أو على مستوى المحتوى قائمة بين أطراف عدة، وأنه أيا من كان الذي سيفوز بذلك في النهاية فإن ما يهمنا حقًا هو ما سيؤول إليه الأمر من إغلاق بنية الاتصالات المفتوحة للانترنت.

ويعرف الكاتب بالطرف المنشق أو المعارض، والذي يتمثل هنا في المعارضة الرقمية ضد أشكال التغييرات المعيارية التي تستهدف البنية التحتية للانترنت، ويشير إلى خصوصية هذه الحالة من حيث الحكم على مقاومتها بالنجاح أو الفشل؛ حيث يؤكد على الطبيعة المختلفة للسياسة الرقمية التي ما زالت كمجال في بداياته وموضوعاته متنوعة ومتعددة للغاية، هذا فضلا عن أن الجانب الذي يتمتع بموارد أكبر، والذي يسعى إلى نقل الوضع الراهن للعالم غير الرقمي بشكل شامل قدر الإمكان إلى البيئات الرقمية، لا يتمتع بالقيادة والتخصص فى مجال التقانة مما جعله في مواجهة أنواع عديدة من المقاومة.

وبناءً على ما سبق ينتقل الكاتب إلى الجزء التفسيري لهذه الحالة الجدلية، ويبدأ -كعادة الكتاب- بالإطار المعياري، ويعيد الأمر إلى غياب المؤسسات القوية القادرة على اتخاذ قرارات وتنفيذها على المستوى العالمي نظرًا لأن طبيعة العالم الرقمي متجاوزة للحدود الوطنية، فالمنشقون الرقميون يفتقدون مثل هذه القوة خاصة على المستويات العليا المتعلقة بتنظيم الفضاء الإلكتروني. أما خصائص الفاعلين واستراتيجياتهم فتتمثل بشكل رئيسي في استغلال الساحات الرقمية لتكوين رأي عام مضاد سواء لسيطرة الدولة أو حتى الشركات التجارية الخاصة على الفضاء الرقمي. وفيما يتعلق بالظروف والمحيط الخارجي يتحدث الكاتب عن عاملين رئيسيين عملا على إتاحة فرصة أكبر للسيطرة الخارجية على الفضاء الرقمي: أولهما الهجمات الإرهابية التي تتخذ منها الدول ذريعة للمزيد من المراقبة، بالإضافة إلى عامل التطور التكنولوجي ذاته الذي قد يتيح بمستجداته فرصا أكبر لجمع البيانات وممارسة أعمال الحظر والحجب والمراقبة وغيرها.

الفصل الثامن- الهجرة تحت السيطرة: السيادة وحرية الحركة واستقرار النظام

يتناول هذا الفصل قضية الهجرة وحرية الحركة واللجوء، فعلى الرغم من تطور حركة البشر والسلع بين البلدان، إلا أنه ما زالت مسألة حرية الحركة تقع ضمن تحكم الدول؛ فمراقبة الحدود تعتبر تجسيدا لسيادة الدولة. وقد سعى القانون الدولي إلى التوفيق بين هذين المبدأين في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي منح للأفراد حرية التنقل بين الدول وأكد حق كل شخص في مغادرة أي دولة والدخول إلى أخرى، ورغم ذلك لا يقابل هذه الحقوق في أي مكان حق عام لدخول دولة أخرى، وبالتالي فإن التنقل عبر الحدود يظل خاضعًا لتقدير الحكومات وليس الأفراد، فالسيادة تتفوق على حرية الحركة، ومن ثم يكون الانتقال من بلد لآخر محاطا بالكثير من القيود واللوائح والقوانين ويستلزم إجراءات معقدة تتنافى في كثير من الأحيان مع الأبعاد الإنسانية خاصة فيما يتعلق بحاجة الأفراد إلى هذا النوع من حرية الحركة كاللاجئين أو النازحين أو من لهم أحوال مشابهة.

على صعيد الانشقاق والمقاومة نجد أن المنشقين متنوعون؛ فبعضهم منشق عن طريق الإسناد وهم المهاجرين غير الشرعيين، والفريق الآخر يضم كل المتعاطفين معهم من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية غير الحكومية وهؤلاء يعرفهم الكاتب بأنهم منشقون بالاختيار. وفي هذا السياق يبدأ الفصل بالوقوف عند المبدأين المعياريين في مسألة الهجرة، وهما السيادة وحرية الحركة، ثم يصف التطورات في التنظيم الدولي للهجرة، مع التركيز بشكل خاص على أوروبا وعلى الفترة منذ التسعينيات، ثم ينتقل إلى تناول الأشكال المختلفة لمقاومة هذا النظام، بدءًا من صور الانشقاق المحلي والعابر للحدود الوطنية، وصولا إلى معارضة جماعات حقوق الإنسان الدولية، وأخيرًا يناقش أسباب فشل المنشقين في إحداث تغيير حقيقي في النظام الحاكم.

فعلى صعيد الإطار المعياري هناك عدة قيم ومعايير واتجاهات متضاربة؛ حيث نجد على صعيد النظام الدولي أن الحق في حرية الحركة لا يحظى أبدًا بقيمة توازي قيمة مبدأ السيادة كمبدأ حاكم مهيمن، بالإضافة إلى أن مبدأ حرية الحركة لا تعارضه فقط الحكومات بل العديد من الفئات داخل المجتمعات وهذا يظهر بوضوح في أوروبا مع صعود اليمين، حتى على صعيد اللاجئين وكل من لديهم أسباب إنسانية في الانتقال من دولة لأخرى -وهذا أكثر ما يعول عليه المنشقون في مطالبهم- عادة ما ترفض الكثير من الدول التي من المفترض أن تستقبلهم أن تتحمل مسئولية المعاناة التي يتعرضون لها وتحملها للمتسبب الأصلي ويظل الحال على ما هو عليه ويظل الأمر حبيس القوى غير المتكافئة. وبالإنتقال إلى عنصر الفاعلين والاستراتيجيات نجد نفس الإشكال تقريبًا، فالمنشقون أو دعاة الحدود المفتوحة يفتقدون لقوة مكافئة للطرف الآخر خاصة وأنهم لا يملكون تنظيما مؤسسيا قويا يستطيع أن يجعل أهدافهم أمرًا واقعًا، وعند الحديث عن أية تسهيلات لتمتع الأفراد بحرية الحركة فإن المهاجرين غير الشرعيين دائمًا مستثنون من هذا، بالإضافة إلى أن الدول المستقبلة -وهي عادة دول الشمال أو دول العالم الغربي- لا تهتم كثيرًا بجعل حرية التنقل لمواطني دول العالم الثالث بشكل عام أولوية، وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية.

وبالنظر إلى العنصر الأخير المتعلق بالظروف الخارجية، نجد على الناحية الإيجابية أن التطور الرقمي أسهم في رفع صوت المحتجين على نظام الهجرة وحرية الحركة في العالم اليوم، ولكن على الصعيد الآخر فإن الظروف الخارجية أسهمت في إدخال تعديلات قانونية عززت من ضوابط الهجرة ورفعت من قيودها؛ من ذلك على سبيل المثال “أزمة اللجوء” في التسعينيات، التي شهدت عددا غير مسبوق ممن تقدموا بطلبات للحصول على اللجوء في أوروبا، هذا بالإضافة إلى صعود موجة الحرب على الإرهاب حيث تم وضع الإرهاب على قائمة التهديدات المرتبطة بالتحركات عبر الحدود.

وفي نهاية الكتاب يأتي الفصل الأخير كخاتمة تنظر لكل ما سبق طرحه من حالات بعدسة نظرية في محاولة للوصول إلى قواعد وأطر عامة لصور المقاومة والانشقاق وآلياتهما وأسباب النجاح والفشل، وذلك بربط الدراسات العملية التي تم تناولها بالإطار النظرى التحليلي الذي تم عرضه في الفصل الأول من الكتاب.

خاتمة:

قدم هذا الكتاب مجموعة جيدة من الدراسات التي تمثل في مجموعها أمثلة مختلفة لحالات مقاومة تُعارِض الكثير من أسس النظام الدولي الحالي، وتسعى إما لإحداث تغييرات جذرية في مرتكزاته الأساسية والقيم التي أُسِّس عليها أو لإدخال تعديلات على ما هو قائم بالفعل. وبالنظر إلى مجموع أهداف هذه النماذج، نجد أن البعد الأخلاقي والإنساني يظهر فيها بوضوح، ولكن على صعيد النظام الدولي فإن ما يظهر بجلاء هو أن طبيعة النظام الدولي الحالي ومنظماته وشعاراته ما زالت تعتمد في الواقع على مفهوم القوة والمصلحة، في حين أن ما يتعلق بحقوق الإنسان والأبعاد الأخلاقية لم يتعدى تأثيره سوى إضفاء صورة من صور الشرعية على طبيعة هذا النظام ومؤسساته. ولقد قام الكتاب بعرض جيد لهذه الصورة خاصة بتركيزه على مركزية المعايير في عملية التغيير، ولكن النموذج الغربي ومقولاته وإن كانت محل نقد في صفحات الكتاب إلا أننا نجد أن لها سطوة تحيزية عند المؤلفين بشكل كبير؛ ويظهر هذا بقوة عند تكرار الحديث عن الإرهاب كعامل ثابت في إفشال الكثير من عمليات المقاومة دون الوقوف عند حقيقته وصوره المتنوعة وبيان كيف أنه جزء من حرب فكرية بصناعة غربية.

وفي الختام نقول أننا في عالمنا الإسلامي نحتاج، خاصة في ظل مرور الأمة بمرحلة مفصلية، إلى إثراء تصوراتنا عن المقاومة وآليات نجاحها والمؤثرات الخارجية التي قد تؤثر عليها سلبًا أو إيجابًا، والعمل على بناء نماذجنا الذاتية عبر الاستفادة من تجارب الآخرين وذلك على المستوى النظري والعملي على السواء.

 

________________

هوامش

[1] Svenja Gertheiss, Stefanie Herr, Carmen Wunderlich, Klaus Dieter Wolf (eds.), Resistance and Change in World Politics: International Dissidence, (Wakefield: Palgrave Macmillan, 2017).

 

  • نُشر عرض الكتاب في فصلية قضايا ونظرات- العد الثاني والثلاثون- يناير 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى