عدم الاستقرار السياسي في أمريكا اللاتينية: أسبابه ودلالاته(*)

مقدمة:

أطروحة “ظاهرة عدم الاستقرار الرئاسي في أمريكا اللاتينية: دراسة مقارنة لكل من البرازيل والأرجنتين والإكوادور” تناقش “عدم الاستقرار السياسي” باعتباره ظاهرة ميَّزت الحياة السياسية في دول أمريكا اللاتينية خاصة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي وحتى نهايات العقد الثاني من القرن الحالي. ويُقْصَدُ بظاهرة عدم الاستقرار السياسي تكرار حالات عَزْلِ وسقوطِ رؤساء الدول المنتخبين ديموقراطيًّا، ليس بسبب انهيار النظام الديمقراطي والتحوُّل للحكم الاستبدادي، بل يحدث ذلك مع بقاء واستمرار النظام الديمقراطي المدني ولكن مع إجبار بعض الرؤساء على ترك مناصبهم قبل الموعد الدستوري المقرَّر لذلك.

ففي الفترة بين عامي 1979 و2019 أُجبر 21 رئيسًا على ترك مناصبهم قبل نهاية فترة ولايتهم الدستورية، ولم يحدث ذلك بفعل الانقلابات العسكرية، ولكن بفعل الصراع المتواصل بين البرلمان والرئيس بما يهدِّد استمرارَ الرئيسِ في منصبه، ومن ثم فإن الأزمة السياسية في أمريكا اللاتينية هي أزمة استقرار الحكومات وليس استقرار النظم الديمقراطية ذاتها.

وتُقارن الدراسة بين ثلاثة نماذج، هي البرازيل (1992، 2016)، والأرجنتين (2001)، والإكوادور (1997، 2000، 2005)؛ حيث تمثِّل هذه المراحل التاريخية السنوات التي وقعت فيها حالات عزْل الرؤساء عن مناصبهم في الدول الثلاث قبل انقضاء مدة ولايتهم الدستورية، وتتمثَّل المشكلة البحثية في محاولة تفسير واستقصاء العوامل المؤسسيَّة والمجتمعيَّة التي  قادتْ إلى حدوث عدم الاستقرار الرئاسي في البلدان الثلاثة.

  • المداخل النظرية للدراسة

اعتمد الباحث على اقترابات المؤسسية الجديدة والحركات الاجتماعية كإطار نظري لدراسته؛ حيث ترتبط ظاهرة عدم الاستقرار السياسي بطبيعة الترتيبات المؤسسية داخل النظام السياسي، والتي تتمثَّل غالبًا في قدرة البرلمانات على توجيه الاتهام للرؤساء وإجبارهم على مغادرة مناصبهم في حالة عدم حيازة حزب الرئيس للأغلبية في البرلمان. كما ترتبط بهذه الظاهرة أيضًا الاحتجاجات الشعبية والتظاهرات الرافضة للرئيس والمطالبة بعزْله والتي تقودُها حركات اجتماعية وقيادات شعبية فاعلة في المجتمع. ويستخدم الباحث مقولة بيريز لينيان عن “عدم الاستقرار الرئاسي” الذي هو جزء من “عدم الاستقرار السياسي”؛ والتي تفيد بأن نظرية عدم الاستقرار الرئاسي تنطلق من افتراض أن بعض القوى السياسية سواء مُثِّلَتْ داخل البرلمان أو الحركات الاجتماعية قد تمثِّل تحديًا للسلطة التنفيذية إذا ما تمكَّنت من خلق ظروف من شأنها تسهيل إنهاء حكم رئيس أو إدارة معيَّنة. وفي المقابل فإن القوى السياسية المؤيِّدة للرئيس داخل البرلمان أو على مستوى الحركات الاجتماعية بإمكانها تشكيل درعٍ يحمي الاستقرار الرئاسي. هذا فضلًا عن طبيعة سياسات الرئيس واستجاباته لمطالب البرلمان ومطالب الحركات والقوى المجتمعية المختلفة وقدرته على التعامل معها بما يضْمن منعَ الاحتقان الشعبي والتوتُّر السياسي ويحفظ استقرار حكمه وشرعيَّته خلال مدَّة ولايته.

  • أسباب عدم الاستقرار الرئاسي في دول أمريكا اللاتينية

1) إرث نضالي ثري لحركات الاحتجاج ضدَّ السلطوية:

القوى الاجتماعية الفاعلة بالمجتمع هي العامل الرئيسي في عدم الاستقرار الرئاسي في أمريكا اللاتينية؛ فكما سبقت الإشارة لم تكن ترتبط ظاهرةُ عدم الاستقرار الرئاسي بتدخُّلات المؤسسة العسكرية، وإنما بالصراع السياسي بين القوى المدنية ذاتها سواء كانت أحزابًا ممثَّلةً في البرلمان أو حركات اجتماعية واحتجاجية واسعة النطاق.

تستعرض الدراسة في الفصل الأول أبرز الملامح التاريخية لتشكُّل الحركات الاجتماعية المعاصرة في الدول الثلاث؛ وتشْرح أوجهَ التشابه والتقارب بينها فيما يتعلَّق بالطبقات الاجتماعية وعلاقات العمل ونمط الإنتاج منذ الحقبة الاستعمارية وبعد الحصول على الاستقلال والخضوع للحكم الملكي أو الإقطاعي وصولًا للحكم العسكري خلال منتصف القرن الماضي وقبل بداية الموجة الثالثة للتحوُّل الديمقراطي في النصف الثاني من القرن العشرين.

فعلى الرغم من تشكُّل بعض حركات المقاومة الشعبية للسلطات المحلية الإقطاعية وللسلطات الاستعمارية في الدول الثلاث؛ فإن هذه الحركات ظلَّت ضعيفةً وقابلةً للقمع والسيطرة، إمَّا نتيجة لنمط الإنتاج الذي كان يعتمد بالأساس على الإنتاج الزراعي في البرازيل والإكوادور والأرجنتين، خصوصًا في عهد الاستعمار والعصور الأولى في مرحلة ما بعد الاستقلال، أو نتيجة للعنف المفرط الذي مارستْه الحكومات العسكرية حتى في مراحل تزايُد قوة المجتمع المدني وحركات المقاومة مع تغيُّر نمط الإنتاج والتوجُّه نحو التصنيع وتكوُّن الطبقات العمَّالية الفاعلة في كلٍّ من الأرجنتين والبرازيل، أو ظهور التنظيم الحديث لحركة السكَّان الأصليِّين في الإكوادور منذ ثلاثينيَّات القرن العشرين. وقد أسْفر ذلك عن تكوين “إِرْثٍ ثَرِيٍّ” من النضال ضدَّ السلطات السياسية في البلدان الثلاثة، مثَّل لاحقًا أساسًا متينًا للحركات الاجتماعية الفاعلة في المجتمع والتي أسْهمت في موجة التحوُّل الديمقراطي وفي ظاهرة عدم الاستقرار السياسي اللاحق عليها في الوقت نفسه.

2) تحوُّل ديموقراطي وصفقات سياسية مع العسكريِّين:

في الفصل الثاني تتناول الدراسةُ دورَ الأزمات الاقتصادية والسياسية التي شهدتْها دول أمريكا اللاتينية في التحوُّل من النُّظم السلطوية إلى النظم الديمقراطية، وفي عدم الاستقرار السياسي في إطار الأنظمة الديمقراطية. حيث شهد عِقدي السبعينيَّات والثمانينيَّات من القرن الماضي انسحاب العسكريِّين من الحياة السياسية في البرازيل (1985)، والأرجنتين (1983)، والإكوادور (1979)، وذلك عقب الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي مَرَّتْ بها الكثيرُ من بلدان أمريكا اللاتينية والتي أضْعفت شرعيَّة الحكم العسكريِّ الذي كان يَعِدُ بتحقيق إنجازات اقتصادية ضخمة، كما تولَّد إدراكٌ لدى أفراد المؤسسة العسكرية أن السياسة والانغماس فيها له تأثيرٌ سلبيٌّ على وحدة صَفِّ القوَّات المسلَّحة واحترافيَّتها ومصداقيَّتها.

وفي المقابل أبْدت النُّخب المدنيَّة بما فيها التيارات اليسارية الراديكالية تفهُّمًا لمخاوف العسكريِّين من تبعات التحوُّل الديمقراطي، وهو ما أسْفر عن صفقات سياسية تقرَّر فيها العفوُ عن جرائم الماضي التي ارتكبَها عسكريُّون، وهو ما قَلَّلَ من التهديدات المتصوَّرة لأفراد المؤسسة العسكرية. وكان العامل الدولي من أهم العوامل في نجاح التحوُّل الديمقراطي في أمريكا اللاتينية؛ حيث كان السياق الدولي غير مرحِّب بالانقلابات العسكرية والحكم العسكري، ووصل الأمر إلى حَدِّ التهديد بالعقوبات الاقتصادية وفرْضها على الأنظمة العسكرية.

وعلى الرغم من نجاح بعض أنظمة الحكم العسكرية على الصعيد الاقتصادي، كما هو الحال في البرازيل التي حَقَّقَ فيها الحكم العسكريُّ تطوُّرًا اقتصاديًّا هائلًا وُصِفَ بـ”المعجزة”، كما استطاع القضاء على خطورة وتهديد التيار اليساري الراديكالي المسلَّح، فإن ذلك أيضًا اعتُبر عاملًا من عوامل انتهاء الحكم العسكري؛ إذْ أنجزَ النظامُ المهامَّ التي جاء من أجلها. وهو خلاف ما حدث في الأرجنتين مثلًا؛ التي نجح النظام العسكري فيها في القضاء على التهديد المسلَّح للراديكاليِّين اليساريِّين، ولكنه فشل على المستوى الاقتصادي ومارسَ عُنْفًا وإرهابًا شديديْن ضدَّ الطبقة الوسطى، فضلًا عن انتشار تقارير حول الفساد الرسمي داخل النظام، وفاقم من الأمر الهزيمة العسكرية التي مُني بها الجيش الأرجنتيني في حرب الفوكلاند في مواجهة الجيش البريطاني عام 1982. وقد أسْفر القمعُ الشديدُ الذي مارستْه الحكومةُ العسكريةُ في الأرجنتين عن تبلْور حركةٍ حقوقيةٍ قويةٍ داخل الأرجنتين تطالب بحقوق الإنسان بسبب ظروف الاعتقال الصعبة للمعارضين السياسيِّين، وأصبحت السِّمة الحقوقية هي السِّمة الأساسيَّة التي تميِّز الحركات الاجتماعية داخل الأرجنتين.

وبالتالي ثمة عاملان لانتهاء النظم العسكرية، الأول هو نجاح النظام العسكري في إنجاز مهمَّته، والثاني هو إخفاقه في فعل ذلك؛ وذلك في إطار سياق دولي داعم للانتقال الديمقراطي ورافض لاستمرار الحكم العسكري، وفي إطار سياق إقليمي من الانتقال الديمقراطي في الدول المجاورة.

وقد أسْفرت موجةُ التحوُّل الديمقراطي عن امتلاك الطبقات العمَّالية وتنظيماتها السياسية والنقابية قوةً هائلةً في مجتمعات أمريكا اللاتينية؛ وهو ما تعكسه الأعداد الضخمة من الإضرابات التي تمَّ تنفيذها في هذه الدول؛ والتي تدُلُّ على تحوُّل هذه الطبقة من “طبقة ضعيفة واهنة إلى واحدة من أقوى الفئات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية”.

3) النظم الحزبية وعدم الاستقرار الرئاسي في أمريكا اللاتينية:

تُعتبر طبيعة النظم الحزبية من أهم عوامل عدم الاستقرار الرئاسي في أمريكا اللاتينية؛ حيث تُعاني الأحزاب البرازيلية من ضعف وهشاشة شديديْن؛ بسبب عدم وجود صلات وجذور قويَّة بين أغلب الأحزاب السياسية من جهة، والمجتمع وفئاته وطبقاته المتنوِّعة من جهة أخرى، فضلًا عن ضعف أجهزة صنع القرار الداخلي بهذه الأحزاب، والضعف المؤسَّسي وغياب الانضباط الحزبي والأيديولوجي داخل الحزب الواحد، كما أن الانتماء الحزبي لا يُعَدُّ محددًا قويًّا للانتخابات في البرازيل؛ إذ يُعَدُّ المؤشِّرُ الأهم في نظر الناخبين هو شخصية المرشح وليس ولاؤه الحزبي؛ كما أثبتت استطلاعاتٌ للرأي افتقادَ الأحزاب للشرعية داخل المجتمع، واقتناعَ غالبية الشعب بإمكانية وجود نظام ديموقراطي بدون أحزاب. وتُعاني الحياة السياسية في البرازيل من حالة التفتُّت الحزبي والزيادة الكبيرة في أعداد الأحزاب الممثَّلة داخل البرلمان بما يُعيق قدرةَ اللاعبين السياسيِّين على تسْيير دفَّة الحكم، ويُعَدُّ ذلك من أهمِّ أسباب عدم الاستقرار الرئاسي في البرازيل.

وكما هو الحال في البرازيل، تُعاني الأحزاب السياسية في الإكوادور من ضعفٍ مؤسَّسي بالغٍ يمنح الحركات الاجتماعية خارج النظام الحزبي اليدَ العُليا في التحوُّلات السياسية في البلاد؛ حيث ينظر المواطنون للأحزاب السياسية كتجمُّعات مهتمَّة بتحقيق مصالح أعضائها وحسْب؛ فلا تتمتَّع الأحزاب بجذورٍ راسخةٍ داخل المجتمع، ولا تقوم بوظائفها التمثيلية كما ينبغي؛ وهو ما يدفع لإذكاء مشاعر السخط على الحكومات وانتظام الجماهير في حركات اجتماعية خارجة عن النظام الحزبي؛ ما ينتج عنه موجات من الاحتجاجات ضد الحكومات تنتج عنها ظاهرة عدم الاستقرار الرئاسي.

أمَّا النظام الحزبي في الأرجنتين فقد اتَّسم بالمؤسسية والاستمرارية مقارنةً بالبرازيل، بسبب هيمنة حزبيْن رئيسيَّين على الحياة السياسية في الأرجنتين لعقودٍ طويلة، وهما الحزب الراديكالي والحزب البيروني؛ ومع ذلك فإنه منذ تسعينيَّات القرن الماضي شهدتْ الأرجنتين أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية هائلة بلغت أوْجها في العام 2001؛ وكان من توابع هذه الأزمة انخفاض كبير في  الولاء الحزبي وصعود وهبوط الحظوظ الانتخابية للأحزاب الجديدة الأقل تأثيرًا، وتغيُّر في السلوك الانتخابي للمواطنين الذين تزايدت معدَّلات مقاطعتهم للعمليات الانتخابية. وانتهى الأمر بشبه انهيارٍ كبيرٍ للحزب الراديكالي أحد الحزبين الرئيسيَّيْن في البلاد؛ الذي أُطيح به من السلطة في عام 2001، ومُني بخسارة هائلة في انتخابات عام 2003 حيث حصل مرشَّحه للرئاسة على ما يقارب 2٪ فقط من أصوات الناخبين. واتَّجهت البلاد منذ 2004 إلى نظام سياسي يهيمن عليه حزبٌ واحدٌ هو الحزب البيروني الذي تمكَّن من الاحتفاظ بقوَّته رغم العواصف السياسية التي شهدتْها الأرجنتين بفضل شبكاته التنظيميَّة وصلاته القويَّة بالمجتمع واعتماده على إرث الزعيم الأرجنتيني السابق خوان بيرون.

4) انهيار التحالفات التشريعية وعدم الاستقرار الرئاسي في أمريكا اللاتينية:

تسلِّط الدراسةُ في الفصل الثالث الضوءَ أيضًا على بعض العوامل المؤسسية المؤدِّية لظاهرة عدم الاستقرار الرئاسي، وأبرزها في أمريكا اللاتينية ظاهرة انهيار التحالفات التشريعية وعدم قدرة الحزب الحاكم أو الرئيس على الاحتفاظ بقاعدة كبيرة مؤيِّدة له داخل البرلمان؛ بما يسبِّب عدم الاستقرار ومطالبة البرلمانات بعزْل الرؤساء وتوجيه الاتهام لهم في الأزمات الكبرى التي تواجه النظام السياسي.

ففي البرازيل في تسعينيات القرن الماضي واجهَ الرئيس كولور دي ميللو أزمةً كبيرةً حينما فشل في تعبئة تأييد البرلمان لصالح برنامجه للإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي كانت سَتُحَمِّلُ المواطنين تكاليف اجتماعية كبيرة، وانتهى الأمر بإعلان الرئيس عزل نفسه بعد تعطيل البرلمان لغالبية سياساته. ولم يكن الموقف الأيديولوجي أو الالتزام المبدئي هو السبب الرئيسي وراء رفض البرلمان لسياسات الرئيس؛ لأن الاتهامات والمعارضات لسياسات الرئيس جاءت حتى من أحزاب وشخصيات يمينيَّة لا تتعارض مع أجندة الرئيس، وإنما يرجع السبب في ذلك للمنظومة الحزبية والانتخابية في البرازيل والتي تتَّسم بهشاشة التكتُّلات الحزبية وسهولة انشقاق الأفراد عن أحزابهم بعد النجاح في الانتخابات؛ ومن ثم ضرورة احتفاظ الرئيس بعلاقات شخصية وسياسية قويَّة مع النُّخب المختلفة في البرلمان خاصة في ظلِّ عمله وحيدًا دون تكتُّل حزبي أو تحالُف تشريعي برلماني قوي.

وفي الأرجنتين انهار التحالف التشريعي بين الحزب الراديكالي وأحد أحزاب يسار الوسط بعد أن تمكَّن من السيطرة على البرلمان وإيصال مرشَّحه للرئاسة إلى رأس السلطة عام 1999، إلَّا أن أزمات عديدة وقعت داخل التحالف نفسه، والذي ثبت عدم تجانُسه اجتماعيًّا، حيث شملت قاعدته الاجتماعية تنوعًا هائلًا، ولم يكن يمثِّل أية قوة اجتماعية محدَّدة، وقد أفْضت هذه الأزمات لخسارة فادحة للتحالف في انتخابات التجديد النصفي التي أعادت الحزب البيروني المنافس للسيطرة على المجالس التشريعية في 2001 وإصابة الحكومة بشللٍ شبه كامل وانعدام قدرتها على تنفيذ أيَّة سياسات كانت قد وَعَدَتْ بها، قبل أن ينتهي الأمر لاحقًا بالانهيار شبه التام للحزب الراديكالي وهيمنة الحزب البيروني على السياسة في الأرجنتين كما سبقت الإشارة.لم يختلف الأمر كثيرًا في الإكوادور؛ حيث فشلت الحكومات المتعاقبة في الحفاظ على الائتلافات التشريعية والحكومية التي تشكَّلت هذه الحكومات على أساسها؛ وذلك بسبب عدم قدرة الرؤساء على استرضاء الأحزاب السياسية وحثِّها على البقاء في التحالف؛ وذلك منذ أن حَرمت التعديلات الدستورية في عام 1996 رئيس الدولة من استخدام سلطته لتخصيص موارد مالية لإقليم بعينه. وقبل ذلك كان سلاح المخصَّصات المالية أهمَّ أداة في أيدي الرؤساء من أجل  التفاوض حول التحالفات الحزبية والائتلافات التشريعية والحكومية.

  • لغز الرسوخ الديمقراطي في أمريكا اللاتينية رغم الأزمات؟!

وَيُعَدُّ سؤالُ: لماذا تحتفظ النظم السياسية في أمريكا اللاتينية بالديمقراطية رغم كلِّ ما تُعانيه وتُنتجه من أزمات وغياب للاستقرار السياسي؟ أحدَ أهمِّ الأسئلة التي تواجه الباحثين عند دراسة نظم أمريكا اللاتينية.

فمنذ الموجة الثالثة للتحوُّل الديمقراطي ترفض المؤسسات العسكرية في أمريكا اللاتينية فكرة التدخُّل المباشر في الحياة السياسية مجدَّدًا بحجَّة إنهاء عدم الاستقرار وإنشاء نظم تسلُّطية كما كان يحدث في الماضي، ومن ثمَّ لم تُفْضِ التجارب المتعدِّدة من عدم الاستقرار الرئاسي إلى ظهور نظم عسكرية سلطويَّة واحتفظتْ بلدان أمريكا اللاتينية بنظمها الديمقراطية رغم أزماتها. وفي الفصل الثالث تفسِّر الأطروحةُ التي بين أيدينا ذلك بعدم رغبة المؤسسة العسكرية في التورُّط في أية أعمال قمع أو عنف والحفاظ على سمعتِها لدى الرأي العام وتجنُّب الوقوع في شَرَكِ الانشقاقات السياسية، وأنها باتت تهدف في مراحل الأزمات إلى الحفاظ فقط على مصالحها المؤسسية والإنفاق العام على تدريبها وتسليحها ودفع مرتَّبات جيِّدة لأفرادها وحمايتهم من الملاحقات القضائيَّة، واقْتصر تدخُّل القوات المسلَّحة في أوقات الأزمات فقط على الحفاظ على الأمن في أوقات عجْز قوَّات الشرطة عن ذلك ومهامِّ التعامل مع الكوارث الطبيعية وغير ذلك، دون أيِّ تدخُّل سياسي مباشر في الخلافات والصراعات السياسية.

ويمكننا القول إن السبب في ذلك يعود إلى شيوع ورسوخ ثقافةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ لدى النُّخب والجماهير، بالإضافة إلى حسابات أخرى متعلِّقة بالرفض الدولي للانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية، فضلًا عن قوة المجتمع المدني والحركات الاجتماعية الفاعلة ببلدان أمريكا اللاتينية، ولم تتناول الأطروحة إشكالية غياب الاستقرار السياسي مع وجود ديمقراطية راسخة، وبأن الديمقراطية المدعومة من الخارج ليس من الضروري أن تحقِّق الاستقرار السياسي وهو أحد أهداف الأنظمة الديمقراطية من الأساس.

  • عدم الاستقرار الرئاسي وتداعياته السياسية والاجتماعية

يستعرض الفصل الرابع آراء متباينة لتقييم ظاهرة عدم الاستقرار الرئاسي وآثارها السياسية المختلفة؛ فينما يرى البعض أن هذه الظاهرة جد خطيرة نظرًا لتهديدها للمسار الديمقراطي وإمكانيَّة تغييب الثقافة الديمقراطية عن الشعوب وتفضيل الحكم السلطوي بدلًا منها، هذا فضلًا عن تسميم المناخ السياسي وإنهاك النُّخب في الصراعات السياسية حول بقاء الرئيس من عدمه بدلًا من التركيز على قضايا التنمية. ويرى آخرون أن الظاهرة ليست بهذا السوء وإنما تحمل بعض الأوجه الإيجابيَّة المتمثِّلة في تصحيح الديمقراطية لمسارها وعزْل الرؤساء الفاسدين والضعفاء وغير القادرين على صنع سياسات تكْفل استقرار أنظمتهم ونيْل القبول والشرعية لدى القطاعات الواسعة من الفاعلين السياسيِّين والاجتماعيِّين. وهو ما يحفِّز الرؤساء اللاحقين على تطوير سياساتهم والحرْص على بناء تحالفات سياسية قويَّة وجادَّة، وهو ما حدث بالفعل في البرازيل بعد عزْل كولر دي ميللو؛ حيث نجح الرئيس المؤقَّت الذي حَلَّ محلَّه في تكوين تحالفٍ برلمانيٍّ قويٍّ ضَمِنَ به الدعم للإصلاحات المالية الهامَّة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن فاعلية الحركات الاجتماعية داخل مجتمعات أمريكا اللاتينية وقدرتها على التأثير الكبير في السياسات ومحاسبتها ومراقبتها لأصحاب السلطة فيما يُعرف بـ”الاتهام الشعبي” لرئيس الجمهورية، يُعَدُّ في نظر الباحث من أهمِّ مؤشِّرات الديمقراطية داخل المجتمع؛ حيث يمثِّل ذلك تفعيلًا للمساءلة المجتمعيَّة للحكومات، ويتعلَّق ذلك بقضايا مهمَّة مثل حقوق الإنسان والفساد المالي وغير ذلك؛ ولكن في المقابل فإن استمرارَ الحراك الاجتماعي بصورة ثوريَّة دائمة لا تهدأ يمكنه تقويض الديمقراطية ذاتها؛ وهو ما عمل بعض القادة السياسيِّين في بعض دول أمريكا اللاتينية على تلافِيه من خلال تحقيق معدَّلات أكبر من الرضا الشعبي وتهدئة القطاعات الغاضبة ومراعاة مصالحها في السياسات العامة، فيما تُطْلِقُ عليه الدراسة “استعادة التوازن للنظام السياسي”.

وقد حدث ذلك بصورة واضحة في الأرجنتين التي نجحت فيها النُّخبة الحاكمة في عام 2003 من تقليل حِدَّةِ الاستقطاب السياسي وإجراء انتخابات بدون استقطاب وصراع كبير، وانتهى الأمر بترويض الاحتجاجات الاجتماعية واستعادة الاستقرار. وذلك خلافًا لما حدث في الإكوادور التي حاول فيها النظام الديمقراطي إدْماج الحركات الاحتجاجية القائمة على أُسُسٍ إثنيَّة وعرقيَّة في النظام السياسي، ولكنه فشلَ في صنع سياسات اقتصادية واجتماعية تقلِّل معدَّلات الفقر وتحقِّق المصالح الاقتصادية المباشرة للقطاعات المهمَّشة، ولذلك ظلَّت قدرةُ الإكوادور على احتواء الاحتجاج السياسي محدودة.

وفي البرازيل كان المحدِّد الأهم لاستعادة توازن الاستقرار الرئاسي هو نضْج النخب السياسية وتعلُّمها من الأخطاء التي عرفتْها التجربة الديمقراطية البرازيلية في بدايتها؛ حيث باتُوا منذ منتصف التسعينيَّات أكثر قدرة على صناعة التحالفات التشريعية والحزبية الأكثر قوة وتماسكًا من ذي قبل، وتتمثَّل الأداةُ الرئيسيةُ في ذلك في حيازة الرئيس لسلطات واسعة في مخصَّصات الموازنة العامة وفي توسيع الحقائب الوزارية، وتكون هذه السلطات أداته الرئيسية لتوسيع تحالفه التشريعي والسياسي الذي يمكِّنه من تمرير السياسات العامة التي يتبنَّاها.

خاتمة: أهمية التجارب اللاتينية للتحول السياسي العربي

تعتبر تجارب التحوُّل الديمقراطي في أمريكا اللاتينية ملهمةً للكثير من البلدان المتأخِّرة سياسيًّا في العالم العربي ودول الجنوب بشكل عام؛ حيث نجحت بلدان أمريكا اللاتينية في إحداث تحوُّل ديمقراطي في غالبية هذه البلدان ولم تتراجع نحو السلطوية العسكرية مجدَّدًا رغم ما تواجهه الأنظمة الديمقراطية من أزمات. فهل ثمة ما يمكن أن تتعلَّمه دول الجنوب والبلدان العربية من هذه التجارب اللاتينية؟

الإجابة على هذا السؤال ليست بسيطة؛ فليس ثمَّة حلول سحرية يمكن استلهامها من الحركات السياسية في أمريكا اللاتينية؛ وليس ثمَّة ممارسات وأشكال للفعل السياسي والتنظيم الاجتماعي وُجِدَتْ في أمريكا اللاتينية وغابتْ في العالم العربي؛ وإنما هي شروط الواقع والسياقات التاريخية التي أسْهمت في إحداث التحوُّل الديمقراطي ورسوخه في أمريكا اللاتينية، وهي الشروط والسياقات التي اختلفتْ بالنسبة للحالة العربية. خاصة فيما يتعلَّق بالدعم الدولي الكبير للتحوُّل الديمقراطي والضغط الهائل الذي مارستْه القوى الغربية على الأنظمة العسكرية من أجل التحوُّل نحو الديمقراطية في أمريكا اللاتينية.

وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى بعض أوجه النقد لأطروحة الدكتوراه التي نعرض لها في هذا التقرير، فعلى الرغم من ثراء الأطروحة بالمعلومات بالغة الأهمية، فإنه ثمَّة بعض المشكلات في طريقة عرض المعلومات وترتيب الفصول والمباحث بصورة تصعِّب من قراءة الأطروحة.

حيث تتداخل المعلومات الخاصَّة بالدول الثلاث محل الدراسة بشكل شبه عشوائي؛ فلم يخصِّص الباحث مباحث أو مطالب مستقلَّة داخل الفصول لشرح تفاصيل المعلومات والأحداث الخاصَّة بكلِّ دولةٍ على حدة، وفق خطِّ تحليلٍ واحدٍ يُفيد المقارنة بين حالات الدراسة؛ وبدلًا من ذلك لَجَأَ إلى الحديث عن كلِّ البلدان في كل المباحث والفصول ربما بهدف التركيز على الموضوعات محل البحث بدلًا من التركيز على الدول ونماذج الدراسة نفسها؛ إلَّا أن ذلك أنتج نصًّا غير متماسك وغير مرتَّب على الإطلاق، كما تفرَّقت المعلومات الخاصَّة بكلٍّ من حالات الدراسة بين الفصول والمباحث بشكلٍ يصعِّب على القارئ مهمَّة تتبُّع تطوُّر الأحداث داخل كلِّ دولة وفهمها بالشكل المناسب. هذا فضلًا عن مشكلات منهجية أخرى متعلِّقة بصياغة المشكلة البحثية وتساؤلات الدراسة، وكذلك مشكلات متعلِّقة بصياغة الفروض التي تسْعى الدراسة لاختبارها.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

__________________

الهوامش

 

(*)  تعرض هذه الورقة رسالة: رامز إبراهيم حمودة حسن نصر الدين، ظاهرة عدم الاستقرار الرئاسي في أمريكا اللاتينية: دراسة مقارنة لكلٍّ من البرازيل والأرجنتين والإكوادور، رسالة دكتوراه، إشراف: د.جابر عوض، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، 2021.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى