طوفان الأقصى بين المطرقة والسندان: مآلات واحتمالات

(20 نوفمبر – 1 ديسمبر 2023)

خلال أيام الهدنة السبعة، التي شهدت الإفراج المتبادل عن سبعة أفواج من الأسرى والمحتجزين، لم تتوقَّف الجهودُ السياسيةُ الإقليميةُ والدوليةُ من ناحية، أو التهديدات العسكرية الإسرائيلية المتَّصلة باستئناف العدوان من ناحية أخرى، وبيانات قادة حماس عن أهمية الصمود وتحقيق أهداف طوفان الأقصى من ناحية ثالثة. لم يتوقَّف نتنياهو منذ بداية العدوان على غزة جويًّا ثم بريًّا عن التنادِي بأن هدف العملية هو تدمير حماس وتحرير الرهائن. وبان من العدوان ووحشيته أن الهدف أبعد من ذلك؛ ألا وهو العقاب الجمعي والانتقام من غزة وإبادة شعبها، وفرض التهجير القسري من غزة كلها (أو على الأقل من شمال غزة إلى جنوبها ابتداء).

وفي المقابل، لم تتوقَّف الجهود الدبلوماسية؛ إما من جانب قوى غربية لمشاركة إسرائيل حربها وعدوانها، أو من جانب قوى عربية وإسلامية لإدانة إسرائيل وتقديم إغاثة إنسانية لغزة مع مطالبة بوقف العدوان.

وتزايدت وتيرة الدعوة لهدنة إنسانية لإدخال الإغاثة، بعد أن تزايدت ضغوط الرأي العام العالمي بكافة مستوياته وفئاته؛ إدانةً لوحشية العدوان، كما تزايدت في نفس الوقت التقديرات والتقييمات لنتائج هذه الجولة باعتبارها (فشلاً إسرائيليًّا) و(نصرًا لصمود المقاومة وأهل غزة). وهو الأمر الذي قاد في مجمله إلى الوصول، بوساطة قطرية وضغط أمريكي، إلى الهدنة الأولى، ثم تمديدها مرتين (24/11-1/12) وفشل التمديد الثالث.

ومنذ إقرار الهدنة وبدايتها تزامنَ وجهان لعملة واحدة؛ وهي عملة مسار ومستقبل القضية الفلسطينية برمَّتها على ضوء مستقبل طوفان الأقصى الذي مَثَّلَ نقطةَ تحوُّل مفصليَّة في القضية؛ ووجهين للعملة: أحدهما سياسي، والآخر عسكري.

الوجه الأول للعملة- السيناريو العسكري: المطرقة

من ناحية أولى، تلعب إسرائيل في هذا المجال باستمرار تهديداتها بأن الحرب لم تنتهِ، وأن المعارك ستستمر، وأن فترة الهدنة ليست من أجل تحرير الأسرى فقط، ولكن من أجل الاستعداد للجولة الثانية من الحرب. في نفس الوقت استمرَّت العمليات العسكرية المتبادلة على الحدود اللبنانية–الإسرائيلية، كما تكرَّرت الهجمات الإسرائيلية على نقاط حدودية مع سوريا، معروفة بكونها نقاط عبور أو تهريب أسلحة إلى لبنان. وعلى صعيد آخر تولَّت البحرية الأمريكية إدارة الجهة التي فتحها الحوثيُّون؛ سواء من حيث إطلاق صواريخ نحو جنوب إسرائيل أو من حيث الاستيلاء على سفن مملوكة لإسرائيليين (اثنتين أو ثلاثا).

ومن ناحية أخرى، تقود الولايات المتحدة جهود منع ما يُسَمَّى “توسيع نطاق الحرب وامتدادها إلى الإقليم”؛ سواء على نحو علني من خلال التهديدات والتحذيرات المتبادلة مع إيران ولبنان، أو من خلال دعم مواقعها العسكرية في شمال شرق سوريا وفي غرب العراق، التي تعرَّضت لعدَّة هجمات صاروخية منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة.

ولقد كانت تصريحات نتنياهو العالية والمتكرِّرة عن العودة للحرب مع قرب انتهاء اليوم السادس من الهدنة، ثم في اليوم السابع منها، مؤشِّرًا على التعقُّد الشديد في المفاوضات الرباعية بين رؤساء مخابرات أمريكا ومصر وإسرائيل وقطر في الدوحة، مع التواصل مع قيادة حماس السياسية في الدوحة (مكتب حماس في الدوحة).

ومن أهمِّ مؤشِّرات هذه الصعوبات: عدم الإعلان عن التمديد الأخير للهدنة إلا في صبيحة اليوم السابع، ولمدة يوم واحد (والأخير). وذلك بعد أن تواترت الاتصالات بين بايدن ونتنياهو، فيما يبدو أنه كان محاولة من بايدن للضغط على إسرائيل لعدم العودة إلى الحرب (على الأقل -وفق بايدن- ليس بنفس نمط الهجوم السابق على شمال غزة)، والقبول بتمديد الهدنة للسماح باستمرار الإغاثة الإنسانية.

ومن ناحية أخرى أبرزت إسرائيل ضغوط وزير الأمن الداخلي بن غافير بالاستقالة إذا ما تم قبول وقف الحرب ولس مجرد التمديد.

ومن ناحية ثالثة كان وصول بلينكن إلى تل أبيب قبل الإعلان عن التمديد لليوم السابع بساعات مؤشرًا آخر على صعوبة المفاوضات التي تجري في الدوحة؛ ومن ثم كان الفشل بعد ذلك في التمديد ليوم ثامن.

إن المفاوضات –كما يبدو- لم تكن مجرد مفاوضات حول تمديد الهدنة الإنسانية فقط، ولكن محاولة الوسطاء بناء طريق ينتقل من الهدنة إلى وقف دائم لإطلاق النار؛ ومنه إلى عملية سياسية، وذلك في ذات وقت وإطار استمرار التأكيدات الإسرائيلية باستئناف الحملة العسكرية على غزة لاستكمال أهدافها؛ ألا وهي تدمير حماس (مؤتمر وزير الدفاع الإسرائيلي مع بلينكن 30 نوفمبر).

على الجانب المقابل، لم تتوقَّف الحملات الإسرائيلية على مدن الضفة، وخاصة اقتحامات جنين المتكررة (استشهاد قائد كتيبة حماس في جنين، وقتل أعداد متزايدة، وكذا قتل صبيِّين عمدًا وترصُّدًا وبدم بارد، وغيرها)، كما تتطوَّر احتمالات انتفاضة الضفة لتشهد عملية قتل ثلاثة إسرائيليِّين وإصابة سبعة آخرين على يد فلسطينيَّيْن في إحدى مستوطنات القدس (30 نوفمبر)… إلخ؛ ممَّا تشهده الضفة منذ ما قبل طوفان الأقصى.

خلاصة القول؛ رغم أن التهديد العسكري الإسرائيلي يستهدف المفاوضات الجارية، إلا أن إصرار بايدن ووزير خارجيته على تمديد الهدنة للإفراج عن الرهائن إنما يعني أيضًا أن حماس هي الصخرة التي تتعثَّر عليها عملية تجديد الهدنة، لأنها تتمسَّك بشروطها لتجعل من إطلاق الأسرى عملية صعبة لا تهرول إليها حماس خوفًا من إسرائيل، ولكن تجعل منها -كما ظهر طوال الأيام السبعة- عملية اختبار توازن قوة، وعملية حرب نفسية عالية الأداء، تفرض خلالها حماس شروطها.

ومع ذلك يبقى السؤال الآن: ماذا سيكون موقف بايدن إذا تجدَّدت الحرب ولم تستمع إسرائيل لضغوط بلينكن؟ وما الذي تقوم به الإدارة الأمريكية وضغوطها لتجديد الهدنة بإجبار إسرائيل عليها؟ وهل ستدفع الضغوط الداخلية الأمريكية إدارة بايدن لسحب الكارت الأخضر الذي أعطته من قبل لإسرائيل في 7 أكتوبر؟ إن قراءة تصريحات بلينكن والمتحدث باسم البيت الأبيض 30 نوفمبر تقدِّم احتمالات مختلفة لم تتأكَّد بعد.

فالمعلن من تصريحات بايدن وبلينكن والمتحدثين باسم البيت الأبيض والخارجية يبيِّن إجمالاً أن الولايات المتحدة لا تريد الظهور بمظهر الرافض لأهداف الحرب (تدمير حماس) أو الضاغط لمنع الحرب، حتى لا يضعف موقف إسرائيل في التفاوض الجاري، وفي نفس الوقت لا تريد الولايات المتحدة الاستمرار في تبنِّي نفس التماهي مع الحلِّ العسكري الإسرائيلي بلا شروط أو ضوابط، تجنُّبًا لمزيد من الضغوط الداخلية السياسية ومن الرأي العام الذي قد يهدِّد بعدم انتخاب بايدن.

بعبارة أخرى، كأن بايدن يقول لإسرائيل: حاربي إذا أردت، ولكن حذارِ أن تطول الحرب من جديد، وحذارِ أن تنالي من المدنيِّين كما حدث من قبل. وسيكون تجدُّد الحرب في 1 ديسمبر اختبارًا واضحًا لحقيقة التلوُّن -ولا أقول التغير- في الموقف الأمريكي.

الوجه الثاني للعملة: سيناريوهات “ما بعد الحرب”.. السندان؟

قامت مصر وقطر بالوساطة خلال مفاوضات الهدنة، برعاية أمريكية مباشرة، وبمراقبة عن قرب من دول أوروبية، وبترقُّب ومشاركة عن بُعد من اللجنة السباعية المنبثقة عن مؤتمر الرياض العربي-الإسلامي؛ وهي اللجنة التي اتجهت إلى الأمم المتحدة (مجلس الأمن في يومي 29-30 نوفمبر) بعد زيارة موسكو والصين.

وبعد أن نجحت الوساطة المصرية القطرية الأمريكية في عقد الهدنة وتمديدها، أحاطت بهذه الجهود حالة من التأهُّب والاستعداد لحديث في حلٍّ سياسي مرتقب، قبل أن تصمت المدافع وتجفَّ الدماء أو تتأكَّد موازين القوى على أرض المعركة بصورة واضحة.

نعم، إن الحديث عن “ما بعد الحرب” ظهر مبكِّرًا باستدعاء المقولات الجوفاء الشهيرة الدبلوماسية التي تأكَّد فشلها طيلة أربعة عقود: أي “حل الدولتين”… إلا أن حديثًا جديدًا كان لا بدَّ أن يفرض نفسه؛ لأن طوفان الأقصى في سبعة أسابيع مثلت نقطة تحول في مسار مستقبل القضية الفلسطينية، لم يعد مقبولاً معه استدعاء شعارات سابقة لم تعد الأوضاع الراهنة تسمح بإعادة وضعها كسابق العهد.

ويدفع مشهد “ما بعد الحرب” إلى تقديم عدَّة تنبيهات، ثم عدَّة تحذيرات، ووضع عدَّة احتمالات يتم استخلاصها من واقع الذاكرة التاريخية للتعامل مع المقاومة الفلسطينية منذ الستينيَّات، من جانب النظام الغربي والدولي.

ابتداءً، يجدر التنبيه إلى ما يلي:

إن حديث “ما بعد الحرب” يتكرَّر في كلِّ أنماط الصراعات المسلَّحة، وخاصة التي تقع في قلب توازنات القوى الكبرى. وينطلق هذا الحديث في مراحل متتالية من تطوُّر الصراع، كأنه بمثابة “بالون اختبار” لحالة التوازن بين أطراف الصراع، وقدر التنازل أو الثبات على المواقف الأساسية… ولا تقف الحرب، ولا تبدأ عملية “ما بعد الحرب” حقيقةً، إلا بعد أن تُسْفِرَ الحرب عن نتائجها العسكرية بشكل واضح وحاسم؛ ومن حيث النصر أو الهزيمة لأحد الطرفين أو التوازن بينهما شديد التكلفة، والذي لا مَفَرَّ من توقُّف القتال عنده.

ومن ثم فإن وضع طوفان الأقصى بعد سبعة أسابيع من العدوان والصمود، يجعل من أي حديث عن “ما بعد الحرب” الآن مجرد “بالون اختبار” أو محاولة كشف عن النوايا والأهداف المأمولة.

ولذا فإن طبيعة المطروح عن “ما بعد الحرب” خلال الأسبوعين السابع والثامن (20 نوفمبر – 1 ديسمبر) من جانب عدَّة أطراف، يبيِّن حجمَ الفجوة بين أهداف هذه الأطراف، وبين أهداف حماس والمقاومة العسكرية. بل يبيِّن كيف أن هذه الأطراف لم تدركْ بعد، أو لا تريد أن تدرك، كيف أن مستقبل القضية الفلسطينية قد انتقل نقلة نوعية بعد طوفان الأقصى، حتى الآن على الأقل، تتطلَّب بدائل جديدة.

وعن التحذيرات والاحتمالات، يمكن الإشارة إلى ما يلي:

قد يكون تفكيك القوة العسكرية لحماس، نظرًا لتعذُّر القضاء عليها عسكريًّا وسياسيًّا بسرعة وبدون تكلفة لا تتحمَّلها إسرائيل، عن طريق أمرين:

الطريق الأول– تجفيف منابع قوَّتها العسكرية؛ وذلك يمكن أن يتمَّ بعدَّة طرق، منها: إحكام الحصار على الحدود اللبنانية والأهم الحدود اللبنانية السورية، وخاصة مناطق عبور أو تهريب الأسلحة من سوريا إلى حزب الله (الفرقة الرابعة)؛ ويجري بالفعل من عدَّة أسابيع استهداف إسرائيل لمواقع في سوريا. وكذلك بالنسبة للحدود مع الأردن؛ ولقد أعلنت إسرائيل 30 نوفمبر عن ضبط كميات كبيرة من الأسلحة المهرَّبة من الأردن. وأخيرًا الموارد من إيران؛ فقد تلعب المقاصَّات السرية دورَها في إغلاق صنبور السلاح الإيراني، وكذلك يلعب الوجود البحري الأمريكي المكثَّف في المحيط الهندي (بحر العرب) وقرب مضيق هرمز وباب المندب وأعلى البحر الأحمر دوره على هذا الصعيد أيضًا.

الطريق الثاني– الالتفاف سياسيًّا ودبلوماسيًّا على النصر والصمود العسكري للمقاومة؛ لاحتوائه وتفريغه، بل وإجهاضه، حتى تصبح حماس بدون مقاومة عسكرية؛ أي تصبح قوة سياسية، أو يتم استبدالها كلِّيًّا.

وإذا كان بعض المحلِّلين يستدعون تجربة الجيش الأيرلندي –مثلاً- وانتقاله من القوة العسكرية إلى الحلِّ السياسي، إلا أن ذاكرة المقاومة الفلسطينية ذاتها تقدِّم لنا من ذاتها نموذجًا آخر، وتظلُّ المقارنة بينها –كما سنرى- وبين النموذج الأيرلندي غير مناسبة لاختلاف السياقات والجذور.

لقد بدأت المقاومة الفلسطينية مقاومة مسلَّحة تنطلق من قواعد في دول عربية محيطة بإسرائيل (الأردن ومصر ولبنان وسوريا)، إلا أنه سرعان ما تقلَّصت وتراجعت هذه المقاومة من قواعدها واحدة تلو الأخرى؛ (لأسباب عديدة فلسطينية وعربية، أيديولوجية واستراتيجية)، وكان آخر هذه القواعد لبنان مع خروج قيادة منظمة التحرير 1982 وقوتها المسلحة. ومن ثم أضحت المقاومة بلا منطلق جغرافي لأعمالها من جوار لإسرائيل، ومن ثم بدأت عملية التطويع للاعتدال والمرونة؛ أي للتخلِّي عن المقاومة المسلَّحة وقبول الحل السياسي. وهي العملية التي استغرقت قرابة العقد وبالتدريج وباستخدام العصا والجزرة من عدَّة أطراف عربية وغربية، حتى تمَّ التوصُّل إلى أوسلو بعد محطَّتين مهمَّتين: حرب الخليج 1990-1991، ومؤتمر مدريد للسلام 1991.

وتاريخ السلطة الفلسطينية في رام الله منذ 1993 -وعبر ثلاثة عقود- يبيِّن إجمالاً (فشل الحل السياسي) في الوصول إلى حلِّ “الدولتين”، بل انقلاب الأوضاع بفعل السياسات الصهيونيَّة إلى ما يحول دون تحقيقه الآن. وفي نفس الوقت لم تَمُتْ فكرة المقاومة العسكرية وأخذت تنمو على الصعيد المقابل متمثِّلة في حركة حماس وبقية الفصائل المتضامنة معها، وكان مشوار حماس السياسي والعسكري ذاته محاطًا بالقيود والصعوبات منذ تأسيسها 1987.

وكما كان اندلاع المقاومة المسلَّحة بقيادة فتح منذ أوائل الستينيَّات، ثمَّ أيضًا مع فصائل أخرى، تحدِّيًا وصرخةً تعلن -بعد أكثر من عقد من تأسيس إسرائيل- رفض الاستسلام لهزيمة الجيوش العربية 1948 ثم 1967…، فإن صمود حماس أمام الحصار منذ 2006، ثم جولات العدوان الأربع على غزة 2008، 2012، 2014، 2021 لتبين أن خيار المقاومة العسكرية هو الذي يبقي القضية حية، وخاصة مع جمود أو موت ما يسمى التسوية السياسية.

وحين اقترب الصهاينة من إعلان تصفية القضية في ظل موجة الغطرسة الصهيونية التي غذَّتها موجات التطبيع من بعض الدول العربية خلال العقد الأخير، جاء طوفان الأقصى ليجدِّد القضية ويُعيد طرحَها بقوة أمام أنظار العالم، ولتسقط الأقنعة عن نظم عربية تواطأتْ على القضية بالاعتراف بإسرائيل والتعاون معها بذريعة السلام والتنمية، قبل ضمان وحماية حقوق الفلسطينيِّين في “دولة” كما تعهَّدت بذلك مبادراتهم المتتالية التي ظهر أنها لم تكن إلا صكوك إذعانٍ لإسرائيل وشركائها.

عند هذا الحدِّ لا بدَّ أن يكون قد اتَّضح معنى التحذير الذي أقصده، وأنا أتكلم عن “ما بعد الحرب”.

ولكن يظل نموذج مقاومة حماس من على أرض فلسطين ذاتها (غزة والضفة) مختلفًا عن نمط المقاومة الفلسطينية المسلَّحة من خارج فلسطين.

وبعد التنبيهات والتحذيرات يمكن أن تتضح أدوار ووظائف السيناريوهات المستعجل طرحها قبل أوانها عن “الحل السياسي”: شكله وشروطه.

ففي هذه المرحلة يتَّضح لنا أن “المسار السلمي الذي يلوِّح به البعض إنما هو من أجل التوظيف؛ لتلْيين وإضعاف حماس أو استبدالها، أو على الأقل لهزيمتها معنويًّا حين ترى أن السياق المحيط لا يساند خيارَها العسكري إلى نهاية المطاف بل يتوقَّع هزيمتها أو يأمله.

فما معنى:

  • وقف إطلاق النار وإشراف إدارة دولية على احترامه في غزة؟
  • أو أن تتولَّى مصر إدارة غزة من جديد؟
  • أو عودة إدارة السلطة الفلسطينية إلى غزة؟
  • أو أن حماس لا تمثِّل الفلسطينيِّين وأن المطلوب دولة فلسطينية تتكوَّن من الضفة وغزة تحت إدارة السلطة الفلسطينية؟
  • أو دولة فلسطينية وليدة منزوعة السلاح وتحت إدارة دولية أو الناتو؟
  • أو أن الشعب الفلسطيني هو الذي يختار قيادته وإدارته؟
  • أو أن السلطة الفلسطينية في حاجة للتجديد للتواؤم ومسؤوليات المرحلة المقبلة؟
  • أو إعادة احتلال إسرائيل لغزة بعد تهجير أهلها وبناء مستوطنات من جديد فيها؟
  • أو إخراج حماس من غزة كما تمَّ إخراج منظمة التحرير من جنوب لبنان 1982، وذلك إذا تعذَّرت هزيمتها؟
  • أو إقامة منطقة آمنة في شمال غزة لمنع تهديد إسرائيل؟
  • أو حل الدولتين الذي أقرته المبادرة العربية 2002 تحت شعار الأرض مقابل السلام؟
  • أو الاعتراف الآن بدولة فلسطينية مستقلة تكون عضوا في الأمم المتحدة لتسهيل عملية الاتفاق على تنفيذها والدفع بها؟
  • أو إخراج حماس من غزة وتسليم قيادتها العسكرية؟

إن هذه الدعوات التي تكثَّفت في الأسبوع السابق على عقد الهدنة 25 نوفمبر ثمَّ اختفت منذ ذلك الحين، لتعلو من جديد مع طبول الحرب الإسرائيلية بمساندة أمريكية لتعني أمريْن:

الأمر الأول: مشاركة أطراف عربية في رفض خيار المقاومة العسكرية والرغبة الضمنية -ولو غير المعلنة- في تصفيتها ولو بأيدٍ إسرائيلية.

الأمر الآخر: التلويح (بجزرة) للفلسطينيِّين لعلَّهم ينقلبون على خيار المقاومة، من خلال الادِّعاء بأن حلَّ الدوليتن قد اتَّضح الآن جدواه بالنسبة لإسرائيل؛ فبدونه لن يتحقَّق أمن إسرائيل أو استقرار المنطقة وإرساء السلام فيها.

المهم لدى أصحاب الجزرة ليس شكل الدولة أو متى يصل إليها، المهم أن تقتنع إسرائيل أنه في صالحها. ولكن، أين حقوق الفلسطينيِّين؟ وكيف تتحقَّق؟ حلقة مفرغة أخرى لا مانع من دخولها للمرة العاشرة أو أكثر، طالما ستعيد القضية إلى الهدوء تحت رداء مفاوضات سلمية.

إن أصحاب هذه المقولات والأوهام لا يدركون حجم التغيير النوعي الذي أصاب القضية على يد طوفان الأقصى مقارنة بعقود سابقة… أو حجم التغيير الذي يحيط بمستقبل هذه القضية على ضوء نتائج صمود غزة مقاومة عسكرية وأهلاً.

فإن المقاومة لن تهرول مستجديةً وقفَ إطلاق النار بدون شروط من جانبها أو مُنصاعة لشروط إسرائيل وشركائها العلنيِّين والمتواطئين، ولن تقبلَ بوقف للنار يكون مَعْبَرًا أو جسرًا لورطة “حل سياسي” مفروض من الكبار.

إن المقاومة مستعدَّة للصمود لتصلَ بالمعركة العسكرية إلى منتهاها الذي تقدر عليه وتخطِّط له، ففي مواجهة تهديدات إسرائيل بتجديد الهجوم لا تجدُ المقاومةُ إلَّا الوعيد لها بما لا تتوقَّعه. ولعلَّ درس الحملة البرية على شمال القطاع ليس ببعيد.

ومع ذلك يظلُّ دائمًا للعملية السياسية التفاوضية أدوارَها ووظائفها الرشيدة بقدْر ما لها أحيانًا أخرى نظائر خبيثة.

ومن ثم فإن أدوار قطر ومصر من أجل الهدنة، وإن ساعدتَا على تحسين صورة الولايات المتحدة (بإبرازها كالضاغط على إسرائيل لقبول الهدنة التي كانت ترفضها، في حين أن الصمود العسكري للمقاومة وخسائر إسرائيل وضغط الرأي العام العالمي كان أيضًا وراء القبول الإسرائيلي)، إلا أن وجود مكتب حماس في قطر، والدفاع القطري في أكثر من تصريح وبعلانية ووضوح –عكس دول عربية أخرى- أن حماس ليست منظمة إرهابية وأنها منظمة مقاومة، وأنه لا يمكن القضاء عليها أو إخراجها من غزة، يساعد في دعم وزن حماس ودورها والاعتراف بشرعيَّتها التي ينكرها العالم.

ولكن تظلُّ إمكانيَّات حماس وقدراتها وحاضنتها من أهل غزة هما مصدر الشرعية والمشروعية لهذه الحركة عسكريًّا وسياسيًّا، ليس لدى أهل غزة وحسْب ولكن الضفة أيضًا بعد أن تداعَى ما بَقِيَ لدى عباس من مشروعية ولا أقول شرعية.

ولقد حملت أيام الهدنة السبعة، ناهيك عن أيام المعارك بالطبع، علامات عدَّة دعمت من شرعية حماس ومشروعيتها أمام أنظار العالم، وخاصة ما يتَّصل بإدارة عملية تبادل الأسرى وإخراج مشاهد التسليم للصليب الأحمر، والإطار الإعلامي المحيط بهذه المشاهد بما فيه الموجَّه للداخل الإسرائيلي (لقاء السنوار مع رهائن – رسائل الرهائن من أماكن الاحتجاز قبل الهدنة…)؛ فلقد كانت اللعبة الإعلامية عنصرًا رئيسًا من عناصر القوة المعنوية التي أبرزت القوة الأخلاقية للمقاومة وليس قوتها العسكرية فقط على ساحة المعارك.

ولذا لا يمكن القول إن حماس لا تقبل “الحل السياسي” أو الأساليب السلمية، كما يحلو للبعض أن يدس السم في العسل، ولكنها لن تقبلَه كاستسلام أو كتنازل عن حقوق وأهداف أصيلة؛ وهي إنهاء الاحتلال للضفة وغزة (على الأقل في الأجل المتوسط) وإلا عادت القضية لحلقة مفرغة جديدة.

إن مجمل هذه الملاحظات والتحذيرات والاحتمالات حول وجهي العملة: (العمليات العسكرية، ومشروعات “ما بعد الحرب” أو الحل السياسي)، سيتم اختبارها بطرق مختلفة؛ سواء في حال تمديد الهدنة من جديد ليوم ثامن أو أكثر (وهو ما لم يحدث)، أو من خلال تجديد العدوان الإسرائيلي وتصدِّي المقاومة له… ولكن إلى متى؟ وكيف ستكون النتائج؟

تتعدَّد التحليلات بالطبع عن أسباب قبول إسرائيل والمقاومة الهدنة من ناحية، وعن أسباب تجدُّد العدوان من جانب إسرائيل من ناحية أخرى. وإن كان تجدُّد العدوان في صباح 1 ديسمبر، بعد فشل تمديد جديد للهدنة، يعني تمسُّك نتنياهو (على الأقل حتى الآن) بأهدافه المعلنة، مهما كانت تكلفتها على إسرائيل، إلا أنه يعني أيضا –وبوضوح- أن المقاومة وضعت شروطها للتمديد ولم تتنازل عنها (التهدئة وتبادل المدنيِّين وصولاً إلى وقف النار)، رغم كلِّ التهديدات الإسرائيلية بالعودة للحرب وتكرار رفضها أيَّ وقفٍ لإطلاق النار قبل تدمير حماس أو طردها من غزة… فماذا تحمل المقاومة من جديد الصمود؟ وماذا تحمل من قدرات على إدارة المسار السياسي وهي المتهمة دائمًا برفض الحل السياسي؟

لقد هَزَّ 7 أكتوبر الأرض تحت أقدام الجميع، وأدخلت المقاومة القضية مرحلة جديدة من التوازنات نحو مسار جديد لمستقبل القضية.. فما الجديد عند حماس؟!

إن قسوة وشدَّة القصف الإسرائيلي على جنوب قطاع غزة (خان يونس ورفح) على نحو أسقطَ 200 شهيد تقريبًا في يوم الجمعة 1 ديسمبر، تزامنَ معه قصفٌ صاروخيٌّ كثيفٌ من جانب المقاومة على أرجاء مختلفة من إسرائيل ابتداء بالغلاف وصولاً إلى تل أبيب الكبرى ومستوطنات في القدس كما استمرَّت المقاومة في التحامها المباشر في شمال غزة.

ومن ناحية أخرى، فإن تسريبات الإدارة الأمريكية وجهاتٍ إسرائيلية خلال العدوان بأن هناك جهودًا للوصول إلى تهدئة من جديد، إنما تعني أن إسرائيل وحلفاءها يرغبون في الاستمرار في الحرب من أجل تنازلات المقاومة بشأن الأسرى تحت الضغط العسكري من ناحية، وتحت ضغط إغلاق معبر رفح وتوقُّف المساعدات وما تمثِّله من ضغط على أهل غزة إنسانيًّا من ناحية أخرى، ومن جراء الضغط العسكري على جنوب القطاع دفعًا نحو التهجير القسري ولو على مدى متوسط.

بعبارة أخرى، إن هذا المزج بين الضغط العسكري من إسرائيل وبين التلويحات الأمريكية بهدن جديدة من أجل استبدال الأسرى يعني اعترافًا –ولو ضمنيًّا ومبكِّرًا- بأن هدف تدمير حماس أو طردها من غزة أو تهجير أهل غزة هي أهداف إن لم تكن مستحيلة، فهي تحتاج امتدادًا زمنيًّا وتكلفةً سياسيةً ومعنويةً وماديةً داخل كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة، ناهيك عن الخسائر الإقليمية والعالمية من جرَّاء تزايد رفض عواقب هذه الحرب الإنسانية عالميًّا. وهو ما لن تستطيع كلا الدولتين تحمُّل تكلفتَه مهما كانت حيوية أهداف الحرب المعلنة من أجل النظامين في تل أبيب وواشنطن.

وبعد ذلك كله، يبقى السؤال التالي فارضًا نفسه منذ 7 أكتوبر: ما احتمالات التغير في مواقف عربية، وخاصة مصرية وسعودية وتركية وإيرانية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى