تقرير حلقة نقاشية (2) | ملاحقة الإبادة الصهيونية في غزة: دور أهل العلم والعمل

حلقة نقاشية عُقدـها مركز الحضارة افتراضيًا في الأول من نوفمبر 2025، ودارت حول أربعة محاور أساسية:

المحور الأول- الكلمة الافتتاحية والكلمات الرئيسية:

افتتاح الحلقة النقاشية (د. مدحت ماهر):

جاءت هذه الحلقة النقاشية[1] التي يعقدها مركز الحضارة للدراسات والبحوث حول قضية الإبادة الجماعية، الكارثة التي لا نزال نعيشها في غزة، بمبادرة كريمة من الأستاذ هشام جعفر؛ وذلك لأهمية هذه القضية وما ينبغي علينا أن نوليه من اهتمام علمي وعملي قدر وسعنا.

وقد اخترنا عنوانًا لهذه الحلقة هو: «ملاحقة الإبادة الصهيونية في غزة: دور أهل العلم وأهل العمل». وهذه الحلقة النقاشية بالنسبة للمركز هي استبيان لما يمكن أن نقوم به في هذا الدور، نحن، أو أن ندلَّ غيرنا على أن يقوم به.

هذه الحلقة النقاشية تتناول سؤالين واضحين؛ يتعلق أحدهما بأهل العلم، والثاني يتعلق بأهل العمل:

أما سؤال أهل العلم: فكيف يلاحقون هذه الإبادة؟ (حيث يقدِّمون حقائقها، ويحلِّلون مجرياتها، ويفكِّكون منطقَها). وهناك كلمة مهمة جدًّا أشار إليها الأستاذ هشام جعفر في ورقته التي سيقوم بعرضها[2]، وهي: “ليست الكارثة فقط في الإبادة، ولكن في “القبول بها” (سكوتًا أو تعايشًا أو تمريرًا). كيف ندينها (وهي مُدانة بكل وجه) ولكن من خلال عملنا البحثي والعلمي؟

أما سؤال أهل العمل: فكيف نلاحقها ومرتكبيها بالوسائل العملية المختلفة؟ أو أن ندلَّ غيرنا إن لم نكن نحن مستطيعين، من باب أن هذا من فروض الكفاية على المسلمين والإنسانية.

هدف الحلقة هو أن نضع هيكلًا أساسيًّا، وبذورًا لفكرة استراتيجية علمية وعملية لملاحقة الإبادة والمجرمين. وطبعًا لدينا في هذا الصدد الورقة المرفقة المرسلة لحضراتكم، وهذه كتبها الأستاذ هشام جعفر تحت عنوان: «مقترح بحثي لفهم وتفسير الإبادة في غزة والقبول بها».

كلمة أ. د. نادية مصطفى: الإبادة كحلقات تاريخية والمنظور الحضاري

أولًا أشكر الأستاذ هشام جعفر، ابني العزيز والمفكر المبدع في الإنسانية والنشاط والحركة العالمية، الذي تدور أفكاره دائمًا مع الحاجة إلى فكر حضاري إنساني عالمي. أشكره على المبادرة واقتراح هذا الموضوع على المركز.

نحن نهتم بموضوع الصراع العربي الإسرائيلي (أو ما أصبح يسمى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو ما أضحى يسمى إدارة الصراع أو التسوية بين السلطة والمقاومة)، نهتم به دائمًا من جذوره التاريخية وحتى آخر تطوراته الساخنة منذ طوفان الأقصى. لكن موضوع “الإبادة الجماعية” كمفهوم، اقترن بوضوح وتداول في هذين العامين الأخيرين، وبرز (كما أعتقد) على صعيد التفاعل العالمي الإنساني مع ما يحدث، سواء من حيث الرأي العام أو التقدُّم إلى المحكمة الدولية.

وأتمنى أن نرصد: هل الخطابات العربية الرسمية (الفردية أو الجماعية) تُسَمِّي ما يحدث «إبادة»؟

للأسف.. أشكُّ في ذلك، على عكس ساحات الميادين في أوروبا وأمريكا، وانطلاقًا من قضية جنوب أفريقيا، التي تسمِّي ما يجري إبادة جماعية. وهذه مفارقة عجيبة.

أشكر أيضًا الدكتور مدحت ماهر وفريق المركز، فإذا كنَّا نهتمُّ بالتأصيل والجوانب البحثية والفكرية، فهذه لا يكون لها أي أثر في الواقع بدون حركة على الأرض. وهذا هو الالتحام المباشر بين الأفكار والأعمال. وكان المستشار البشري (رحمه الله) يقول: “إن الفكر في حد ذاته حركة”. فإنتاج الفكر حركة، ومسؤولية تفعيله إلى حركة أكبر تتضافر فيها جهود عديدة. فنأمل أن تضم هذه الحلقة نخبة ممن لهم يد في الواقع، ربما بطريقة أخرى مختلفة عنا.

ولي ملاحظتان في سياق موضوع الإبادة:

الملاحظة الأولى: تتعلَّق بالإبادة بوصفها حلقات تاريخية

فهذه المسمَّاة “الإبادة الجماعية” التي تجري على يد الصهاينة تجاه شعبنا في فلسطين كافة (وليس في غزة وحدها، فهي تحدث في الضفة ولكن على نطاق متدرِّج)، أريد أن أقول إنها ليست الأولى في تاريخ فلسطين مع الصهاينة. والأهم، أنها ليست الأولى في تاريخنا الحضاري العربي الإسلامي التي ارتكبت في حق شعوبنا من جانب الاستعمار وشركائه (سواء الصهيونية العالمية أو المتصهينين العرب).

إذًا، هي حلقات من الإبادات الجماعية في تاريخ الاستعمار والصهيونية في فضائنا الحضاري، وفي الفضاءات الحضارية الأخرى (العالم الجديد – أفريقيا – آسيا)، بل وفي تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، كما حدث تجاه شعوب البلقان واليونان، وشرق أوروبا المسلمة طيلة عقود تصفية الحكم العثماني في هذه المناطق وخلال الحرب العالمية الأولى.

وفي المقابل، (كقاعدة عامة)، لم يُوجه الاتهام بالإبادات في تاريخ الفتوح العربية والإسلامية على امتدادها، وإن كانت وُجهت اتهامات في أوقات ضعف الدولة العثمانية، كما هو الأشهر بالنسبة للأرمن مثلًا.

الملاحظة الثانية: المنظور الحضاري والبعد العقيدي

على ضوء خريطة الاهتمام البحثي بهذه الإبادة المعاصرة، وتسكينها التاريخي، فإن هذ االموضوع يحتاج عدة أمور، منها: رصد الظاهرة وتشخيصها، وتجلياتها، وعواقبها، وكيف يمكن التعامل معها لإنهائها، وليس وقفها في غزة وحسْب، ولكن لإنهاء الصراعات التي كلَّما بردت تعود فتسخن.

نحن ننظر إلى الظواهر من “منظور حضاري إسلامي”؛ ليس من منظور المادية الوضعية الواقعية البحتة التي تُعلي من قيمة توازنات القوى العسكرية وأن الأقوى هو الأصلح… ولا منظور مثالي أخلاقي قيمي بحت. نحن نهتم بمنظورنا الذي يختبر العلاقة بين السياسي/ العسكري/ الاقتصادي الاستراتيجي، وبين الثقافي/ الحضاري الاستراتيجي أيضًا.

المرحلة الراهنة من الإبادة الصهيونية يبرز بها بقوة البعد العقيدي الذي حاولوا إخفاءه، خاصة شركاؤهم في الغرب الذين يتمسَّكون بالعلمانية المفرطة لنُظمنا ويسكتون عن الطابع الديني الأصولي لشركائهم الصهاينة. لا نريد أن يكون هذا [البعد العقيدي] عائقًا يحول دون توسيع الشراكات مع التيارات العالمية الإنسانية (التي قد تدين ما يحدث من منطلقات أخرى)، لأن عقيدتنا في منطلقها ومنتهاها هي للعالمين وللإنسانية.

وأتمنَّى أن نخرج في نهاية هذه الحلقة بمقترحات للتفعيل فيما يتَّصل باستراتيجية مواجهة الإبادة الجماعية الحالية، ومنع تكرارها مستقبليًّا. لن ننسى، كما لم ننسَ ما حدث من إبادات كثيرة في حق شعوب أصيلة في أماكنها، تحت شعار الدين أو المصلحة أو مهمة الرجل الأبيض. ودورنا سيكون بنشر التوعية بهذا الأمر، حتى لا يكون مجرد انفعال عاطفي، فحين تتوقَّف المدافع سننْسى.

المداخلة الرئيسية.. أ. هشام جعفر: مقترح بحثي لفهم الإبادة والقبول بها

أحب أن أبدأ بتوضيح دوافعي وراء هذا الجهد الذي بذلته على مدار هذا العام في فهم الإبادة في غزة وتفسيرها و”القبول بها”، والذي تمثل في فصل أخير في كتابي “عالم ترامب”، وفصل جديد في كتاب “عالم ما بعد غزة”.

السؤال الذي يلح عليَّ كثيرًا بعدما اختُطفت غزة هو: ما هي البنية العميقة التي تجعل مثل هذا العنف الجماعي ممكنًا؟

وقد ملكني شعور مؤلم بالعجز عن إيقافها. وأن العنف دوَّار، وقد يكون سمةً لصيقةً بهذا القرن، كما كان في قرون الحداثة والرأسمالية التي أشارت أستاذتنا د. نادية مصطفى لبعض ملامحها.

سياق العنف العالمي.. إحصاءات عالمية

أريد أن أُذَكِّرَ ببعض الأرقام لوضع الموضوع في سياق أوسع:

  • تقدير عدد الضحايا في الحروب الأهلية العربية بعد 2011 حوالي مليون شخص.
  • وبينما نتحدَّث عن محرقة غزة، هناك أيضًا إبادة جماعية تحدث في السودان منذ سنتين، لا تحظى بذات الاهتمام.
  • مشروع “تكلفة الحرب” في جامعة براون الأمريكية (Brown University) يقدِّر أن ما بين 4.5 إلى 4.7 مليون شخص قُتلوا (بشكل مباشر أو غير مباشر) في مناطق الصراع بعد 11 سبتمبر 2001 وحتى 2023، في الفترة التي أُطلق عليها “الحرب على الإرهاب”.
  • يجب أن نأخذ في اعتبارنا أنه في عام 2023، شهد العالم صراعات عنيفة أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية.

التطبيع مع القتل الجماعي

تشير منظمات حقوق الإنسان ودراسات أكاديمية إلى أن العدد الإجمالي للمعتقلين لأسباب سياسية في المنطقة هو “مئات الآلاف” (التقديرات ليست دقيقة)، وقد ارتفعت مستويات القمع والاعتقال السياسي بشكل حاد بعد 2011.

ما أريد قوله هو أن المحرقة أو الإبادة في غزة ليست حدثًا معزولًا، بل هي نتيجة متجذِّرة في هياكل القوة الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والإدارية والتكنولوجية المترابطة في زمننا المعاصر، وترتبط بطبيعة الدولة المعاصرة.

لذا يجب أن ننتبه إلى ظاهرة “الحساسية تجاه القتل الجماعي” كأن فيها تراجعًا ويتزايد قبولها. فنحن منذ الربيع العربي بإزاء حروب أهلية متعدِّدة وقتل جماعي مستمر، وجاءت غزة في هذا السياق. لقد حصل شكل من أشكال “التكيف والتطبيع” مع هذه المسألة.

مداخل لفهم الإبادة

القدرة على “منع الإبادة الجماعية” أضحت مشكلة كبيرة (حتى في اتفاقية 1948). فالجهد المبذول لم يمنعها ولن يمنعها. لذا، من المهم أن نبني إطارًا يدرس البناء والهياكل التي تُنتج هذا العنف. كنت قد تكلَّمت عن خمسة مداخل لفهم مسألة الإبادة:

  1. الرأسمالية واقتصاد الإبادة: الاقتصاد السياسي للإبادة، خاصة في طبعته النيوليبرالية.
  2. تحليل اجتماعي ونفسي: للتطبيع والتكيف مع الفعل الإبادي المستمر (ميكانيزمات نفسية واجتماعية وآليات خطابية).
  3. تحليل الخطاب والسرديات: والأيديولوجيا (عربيًّا وغربيًّا وإسرائيليًّا)، وكيف يتمُّ تقديم سرديات متعلِّقة بهذا.
  4. المدخل الجيوسياسي وتجديد الإمبريالية: نحن نشهد أشكالًا جديدة من السيطرة، وحتى عودة للسيطرة المباشرة على الأرض (كما هو مطلوب في غزة).
  5. دور التكنولوجيا والأنظمة الآلية: (الذكاء الاصطناعي والإبادة)، وهذا يشهد نقلة تكنولوجية مختلفة، تلقي بظلال كثيفة على طبيعة الحرب والقتل الجماعي.

إطار تحليلي مقترح

لذا، أتخيل أن البحوث يجب أن تُبنى على إطار تحليلي يدمج ثلاث مجموعات مفاهيمية رئيسية:

  1. علم اجتماع الموت والسياسة المميتة (Necropolitics): رصد آليات القوة التي تنظم الحياة والموت بشكل استراتيجي. واضح أن حق الحياة والموت يتم تفويضه إلى مؤسسات مختلفة أصبحت تملك الحق في الموت والحياة وتنظمها.
  2. الاقتصاد السياسي: البنى المتجذِّرة في أرباح الرأسمالية وتواطؤ الشركات، وحتى “تسليع المعاناة” (من خلال الإعلام أو السوشيال ميديا التي تحقِّق عوائد مادية).
  3. خطاب الإلغاء والقبول وأدوار التكنولوجيا: ربط الاستراتيجيات العسكرية بالخطابية وتكنولوجيا الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القبول.

تتكامل هذه المحاور باستخدام مفهوم “التقاطعية” (Intersectionality)، للنظر إلى الإبادة الجماعية باعتبارها نتاجًا لآليات متقاطعة: (سياسة القتل – الرأسمالية آكلة لحوم البشر – خطاب الإبادة المدعوم بخوارزميات تصنع القبول العام).

أهمية الموضوع (علميًّا وعمليًّا)

أهمية الموضوع على مستويين:

  1. أهمية علمية: تطوير منظورات للعلوم الاجتماعية العربية، التي لم تُولِ (في تقديري، وعلى حد علمي) اهتمامًا كافيًا بفهم “عنف الدولة” و”عنف الحروب”. ومنطقتنا مجال حيوي لممارسة الإبادات والقتل الجماعي، ورغم ذلك هناك ضعف شديد في تطوير منظورات لفهم هذه الظاهرة.
  2. أهمية عملية: إنتاج خطابات وممارسات ضد هذا العنف، لأن العنف (في تقديري) سيكون مستقبلنا الإنساني المشترك، إذ استمرَّت البنى والهياكل القائمة مستمرَّة.

ثنائية “الداخل والخارج”

لم أعد أستطيع فهمها تحليليًّا، فالشبكات أصبحت مترابطة وصاحبة مصالح. (مثال: شركات في المنطقة استمرَّت في تجارتها وتقديم العون لجيش الاحتلال بشكل مباشر، والمديرون التنفيذيون في هذه الشركات مسؤولون، ويمكن جرهم للمحكمة الجنائية الدولية).

وأخيرًا أود أن أذكر حضراتكم بأن تعاليم ديننا وثقافتنا لا ترى المعيار في عدد القتلى، بل قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعًا، مصداقًا للآية الكريمة: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [المائدة: 32].

وتكْمن أهمية ما أقدِّمه أنه يحفِّز النقاش، فنحن نطرح جوانب عملية ونظرية تستطيع أن تُقدم تفسيرًا للإبادة الجماعية (غزة كمثال)، ولمسألة “القبول بها”، الذي ساعد على استمرارها. فللأسف، نحن متأخرون جدًّا. حتى في غزة، هناك إصدارات مهمة تتبَّعت الإبادة، لكنها تفتقد (وهذا ما يمكن أن يكون قيمة مضافة) ما يمكن أن يُطلق عليه “تكوين إطار كلي” يساعدنا على إدراك جوانبها المتعدِّدة.

المحور الثاني- مداخل النظر والتدبر في الإبادة الجماعية: الأسباب والآثار وأنماط المقاومة

مداخلة السفير معتز أحمدين: التدريس والتوعية سلاح ملاحقة الإبادة

سأقسم مداخلتي إلى ثلاثة أقسام، عن دور (أهل العلم وأهل العمل) تجاه ملاحقة الإبادة في غزة، وأخيرًا بعض الأسئلة بشأن ما قدَّمه الأستاذ هشام جعفر.

أولًا- دور أهل العلم، ماذا يمكن أن يقدِّموا؟

يمكن أن نفكر، إن لم يكن متاحًا، في إعداد دليل إرشادي عام حتى يتمكَّن العامَّة (من الشعوب)، من معرفة ما يلي: أولًا أحكام الاتفاقيات ذات الصلة بالقتل الجماعي، بما في ذلك اتفاقية الإبادة، وأحكام وقواعد إجراءات المحكمة الجنائية الدولية. (فمثلًا هناك خلط على مستوى العامة وحتى الدارسين بخصوص محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية واختصاصات كل منهما يلزم توضيحه). وكذلك الأحكام العامة للقانون الإنساني الدولي (أو قانون الحرب)، اتفاقيات جنيف، وكذلك عهود حقوق الإنسان.

بالإضافة إلى ذلك من المهم أن يشمل هذا الدليل دراسة ورصد السوابق التاريخية للإبادات، مثل البوسنة ورواندا والسودان، والأرمن، بما في ذلك أيضًا الهولوكوست، فليس عيبًا أن ندرسه، في إطار المقارنة. وبعد ذلك، في إطار هذا الدليل الإرشادي المبسط، يمكن تطبيق المتوفر من معلومات غير خلافية (في حالة غزة) على تلك الأحكام العامة؛ للخلوص إلى نتيجة مُبرهنة بالأدلة والمقارنات أن ما حدث في غزة هو “إبادة”.

كما يجب أن نركِّز على تدريس هذه الموضوعات في مقرَّرات العلوم السياسية والحقوق والعلاقات الدولية، والقانون الإنساني الدولي، ليس فقط المواد والاتفاقيات المتعلِّقة بالإبادة، ولكن بموضوعات أوسع مثل الاتفاقيات البيئية، لأن الأضرار البيئية أيضًا تؤدِّي إلى كوارث، ومن المهم أن نرفع وعي الطالب المتخصِّص بمثل هذه الاتفاقيات. بالإضافة لاتفاقيات جنيف واتفاقيات الإبادة، واتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية وخصوصيتها والخلافات بشأنها وكيف تم تطويرها. بالإضافة إلى “اتفاقية ضبط تجارة السلاح”، وهي ذات صلة مهمة في هذا الموضوع.

وأن يتمَّ تدريس مسائل التدخل، خصوصًا في منطقتنا (التدخل في العراق وفي ليبيا)، من منطلق القرارات الدولية الصادرة في هذا الخصوص وتلك التي لم تصدر (مثل الخاصة بالعراق، والتي صدرت مثلًا بشأن تحرير الكويت). فمثلًا تعمل بعض الدول على إصدار قرار بتكوين قوة دولية لغزة من مجلس الأمن، لكن خارج الأمم المتحدة، لتكون بالضبط مثل قوة تحرير الكويت وقوة ضرب ليبيا).

إذن، يجب الإشارة إلى الأسباب الحقيقية لحدوث الإبادة أو التدخل (الاستعمارية والإمبريالية)، بالإضافة إلى الأسباب البنيوية بما في ذلك فشل الأنظمة واستمرارها في القمع وما إلى ذلك.. مع ضرورة المقارنة.

إن تدريس السوابق مثل الأرمن، والهولوكوست نفسه لا من باب المشاعر المضادة لليهود أو الإسرائيليين، ولكن لنقارنها ونضعها في إطارها الصحيح. وبالتالي، هذا التدريس يساعد على تناول المفاهيم المتأصلة بنظرة نقدية وتحديد مدى انطباق التعريفات من عدمها.

ثانيًا- كيفية المساعدة في ملاحقة مرتكبي الإبادة

من المهم جدًّا أن تكون هناك حركة ضغط شعبية وغير حكومية من أجل الانضمام لاتفاقية المحكمة الجنائية الدولية واتفاقية ضبط تجارة الأسلحة. فمن خبرتي الخاصة، عدم انضمام الكثير من الدول العربية وعلى رأسها مصر (رغم أننا مثلًا وقَّعنا على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية) هو خوف الأجهزة الأمنية من ملاحقتها في المستقبل، وخوف وزارة الدفاع من أن تُعَرِّضَها لحدِّ قدرتها على استيراد الأسلحة. رغم أن الاتفاقية نفسها تضع قيودًا على المصدِّرين الذين انضمُّوا إلى الاتفاقية (ومن لم ينضم منهم مثل الولايات المتحدة تفرض ضوابطها الخاصة). وبالتالي، الانضمام لمثل هذه الاتفاقيات يتيح أدوات لاستخدام أحكامها التي تمنع توريد السلاح عند حدوث جرائم الإبادة الجماعية.

نقطة أخرى هي الضغط الشعبي غير الحكومي كذلك من أجل توسيع مدى الاتهام ليتجاوز المسؤولين الثلاثة الإسرائيليين إلى المحرِّضين والأفراد من الجنود المشاركين في هذه الأفعال. وهنا يجب أن يتمَّ الضغط لتضطلع الدول العربية بدور أساسي في ذلك (الحكومات)، وعدم التعامل مع المشتبه في مشاركتهم قولًا أو فعلًا. يعني، كيف يتم التعامل مع نتنياهو؟ كيف كان سيتم دعوته إلى قمة السلام في شرم الشيخ؟ وكيف نرسل مبعوثين لمقابلة نتنياهو؟ لذا يجب أن يتم الضغط من أجل رَفض مثل هذه التعاملات حتى يمثِّل حرجًا على الأنظمة.

نقطة ثالثة: الدعوة إلى إنشاء منظمة غير حكومية (سواء محلية أو دولية) من أجل ملاحقة الإبادة، والتقدُّم للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة للحصول على الوضع الاستشاري. في تقديري، ربما تكون هناك منظمات مشابهة لمتابعة الهولوكوست ومحاسبة مرتكبيه تتمتَّع بالوضع الاستشاري.

وأخيرًا في مسألة الملاحقة: الدعوة لإنشاء محكمة خاصة لغزة على غرار محاكم رواندا ويوغوسلافيا والسودان التي تمَّ إنشاؤها بالفعل.

وقبل أن أنتقل إلى ما أثارته ورقة أستاذ هشام، أود أن أطرح سؤلًا: ماذا لو تقرر أن ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية؟ أو أن المعايير لا تنطبق عليها؟ هل ذلك يخفف من جهود المحاسبة أو يلغي الحق في محاسبة المسؤولين عنها؟

لذا، أعتقد أنه من المهم عدم الانغلاق أو الانحباس في مسألة أن “هذه إبادة جماعية ويجب ملاحقة مرتكبيها”. ما تمارسه إسرائيل منذ إنشائها يتنافى مع القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، حتى لو اعتُبرت أفعالها إبادة جماعية أو لم تُعتبر. لا يجب أن نتوقَّف فقط عند مسألة الإبادة الجماعية، بما في ذلك محاسبة ليس فقط المرتكبين، لكن المتقاعسين عن المتابعة والمحاسبة (مثلما قلت: المتعاملين مع هؤلاء).

ثالثًا- مناقشة بعض الأسئلة التي طرحها الأستاذ هشام جعفر في ورقته

من ضمن الأسئلة الرئيسية التي أثارها أ. هشام في ورقته، مسألة “التعايش مع الإبادة في غزة”. في الواقع، العالم متعايش بالفعل مع الإبادة قبل غزة وبعدها وخلالها وبالرغم منها؛ فقد حدثت إبادات في فيتنام، وفي رواندا، وفي البوسنة، وفي السودان، وحتى الأيزيديين في العراق، والسكَّان الأصليين في أمريكا وأستراليا وكندا. لكن طبعًا التغطية يتم تقسيمها والمبالغة فيها في حالات دون غيرها.

الفارق الآن أنه توجد فرصة حقيقية لتنمية الوعي (كما ذكرت بشأن دور أهل العلم والتدريس) والضغط من أجل المحاسبة. وفي ذلك تبرز أهمية المثابرة والاستمرار.

نقطة مهمَّة أثارها أ. هشام أيضًا بشأن ما إذا كانت حماس قد ارتكبت إبادة أم لم ترتكب: فهل يجب التفرقة بين الإبادة التي ترتكبها الحكومات وتلك التي ترتكبها أطراف أخرى؟

وفي تقديري، يجب التفرقة؛ لأنه مثلًا (بصرف النظر عن أن حماس كانت تقاوم ولا تُبيد)، لكن حتى لو كانت هناك إبادة من أطراف غير حكومية، هناك اختلاف في مستوى المسؤولية. فالدول لديها مسؤولية مختلفة في طبيعتها تمامًا عن مسؤولية الأطراف الأخرى (مثلًا قوات الدعم السريع في السودان، غير دولة السودان، غير دولة إسرائيل وما إلى ذلك).

طبعًا ما يميز غزة هو طول المدَّة وانتظام الإبادة (وإن كان بعدد ضخم طبعًا: بمتوسط 100 شهيد يوميًّا)، لكنه لا يقارن برواندا حيث تمَّ إبادة مليون شخص في ثلاثة شهور.

هناك نقطة إضافية: ما يميز الإبادة المعاصرة عمومًا هو تطوُّر الأسلحة. وإن كانت الإبادة لا تتوقَّف على استخدام تلك الأسلحة. وهنا نكرِّر طبعًا ضرورة عدم تطبيع التعامل مع مجرمي الحرب ولا مع من يتعامل معهم.

الأستاذ هشام أيضًا أشار إلى تساؤل: هل وسائل حل النزاعات أقل فاعلية الآن مقارنة بالماضي؟

وفي تقديري: لا أظن. فالصراعات ممتدَّة من الماضي إلى الآن، وبالتالي لم يتمَّ حل تلك الصراعات (فالصراع العربي الإسرائيلي لم يتم حله، لذلك ينفجر كل فترة ويترتب عليه مثل ما يحدث الآن).

ما ألاحظه في هذا السياق هو تراجع أو عدم فاعلية الأفكار التي تمَّ تطويرها وطرحها مع نهاية الحرب الباردة، مثل “الأمن الإنساني” و”حق التدخل” أو “مسؤولية الحماية”، أضف إلى ذلك فكرة “الدول الفاشلة”، التي يتم التراجع عن الإشارة إليها. وإن كانت مسألة “الدول الفاشلة” هنا يمكن تناولها في إطار نقطة أخرى أشار إليها أ. هشام هي تقييم “سياسة الموت”.

وهنا يبرز إلى الذهن فكرة “مناطق خارج القانون”، مثل “الدول الفاشلة”، لكن يمكن أن نضيف إليها أو نقارنها بـ “الدول المارقة”. كان من قبل يتم اتهام إيران وليبيا مثلًا أثناء حكم القذافي بذلك. الآن يجب أن يكون هناك إقرار بأن إسرائيل هي الدولة المارقة، ليست إيران ولم تعدْ ليبيا.

أمَّا مسألة “تسليع الموت” والدعاية بأن الموت والتخويف ممَّا يحدث في غزة، يذكِّرني كذلك بفكرة “الدولة الواقفة” (الصامدة في وجه الفشل)، وفق فكرة ما يتم الدعاية إليه من “انظر حولك لما يحدث في ليبيا والسودان…”، ولكن الطريف في ذلك أن “انظر حولك” تحولت من دعاية لمنع الحمل وضبط السكَّان إلى أداة دعاية سياسية وتطبيع للفشل، بل ربما تطبيع للقتل الذي أشار إليه أ. هشام، طالما المؤسسة لم تنْهر).

الآن عندما نرى ما يحدث في العالم، والتقارير والمواقف المختلفة بأن هناك إقرارًا حتى في الغرب المتحضِّر بانهيار القانون الدولي)، لا يبرِّر هذا قبول ذلك الانهيار. لأن عدم تطبيق القانون لا يبرِّر عدم احترامه. (كان هناك من ينتظر بفارغ الصبر عدم احترام القانون ليتنصَّل هو من تطبيق القانون، ومن ذلك تعامل الحكومات العربية مع حقوق الإنسان وأن هذه أفكار غربية. ويذكِّرني ذلك بقول “بيل دي بلاسيو” (عمدة نيويورك السابق): “لا أستطيع أن أطبق القانون من خلال خرق القانون”.

مسألة أخرى أود الإشارة إليها بشأن الرأسمالية والإبادة الجماعية، فقد تكلم أ. هشام عن الأرباح الناتجة عن الإبادة والحرب. هنا أقول إن هناك أرباحًا أكبر تترتَّب على “السلام” الذي يتمُّ تصنيعه من تلك الحرب (مثل مسألة الريفيرا والريفيرا بلس في خطة ترامب) قد تفوق أرباح الحرب نفسها.

أمَّا مسألة التكنولوجيا، فهي سابقة على الإبادة. ففكرة تناول دور التكنولوجيا في القتل (هناك ورش عمل في الأمم المتحدة… حول دور الأسلحة الآلية ومسؤولية القتل). كان ما أثارها هو استخدام المسيَّرات في القصف في اليمن؛ فمسؤولية القتل، وسهولة قرار القتل، ومن يتخذ القرار (هل سيتم تطوير تلك الأسلحة لتقتل وحدها دون أمر من مسيِّرها؟).

النقطة الأخيرة فيما أثارتْه ورقة أ. هشام، هي مسألة أن هناك تطويرًا لـ “سياسة غزة”. الواقع أن الدول الأوروبية فعلت عكس ذلك. فمؤتمر حل الدولتين الذي رعتْه فرنسا والسعودية، كان كل الهدف منه هو التركيز على إدانة حماس وإقصائها ونزع سلاحها وإصلاح السلطة الفلسطينية، وجعل ذلك شروطًا مسبقة للتحرك الدولي أو لتنفيذ القرارات الدولية السابقة.

والخلاصة إذن، هي التمسُّك بالامتثال للاتفاقيات الدولية والقانون الدولي من ناحية، ومن ناحية أخرى زيادة الوعي والثقافة عند الجمهور ودارسي العلوم السياسية والعلاقات الدولية والحقوق بصفة عامة بها وبكيفية البناء عليها من منظور علمي وعملي.

مداخلة د. أحمد نبيل: غزة وما بعد الإبادة

في البداية، نحن محتاجون (أهل العلم تحديدًا) أن ينظروا في مسألة: هل ما حدث في غزة إبادة؟

تعريف الإبادة لدى الأمم المتحدة يتكلَّم عن عنصرين رئيسيَّيْن هما “النية” و”الفعل”. كما تحدَّث السفير معتز، عنصر العدد ليس عنصرًا رئيسيًّا طبقًا للتعريف القانوني الدولي. واللجنة الدولية للقانون الدولي قالت إن عناصر أو معايير الإبادة تحقَّقت في حالة غزة.

ولكن هل فعلًا ما تمَّ في غزة هو مجرد إبادة؟

هناك جهد غربي أكاديمي حاليًّا يشير إلى أن ما حدث في غزة يتفوَّق على الإبادة؛ ذهب إلى “ما بعد الإبادة”، فمسألة تكرار قتل المهنيين، وتصوير ذلك على أنه هدية من ضابط لزوجته أو من عسكري لابنته في عيد ميلادها، أو من أجل أمور أخرى، جعلنا نحتاج لأن نفكر فيما هو أبعد من الإبادة.

ما حدث في غزة يذهب بنا إلى ما كان يُسَمَّى في بعض الحضارات القديمة طقس التضحية بالبشر إرضاءً للرب أو الإله، نوع من أنواع التضحية. وهذا أمر في منتهى الأهمية. لذا نحن يجب أن نبذل جهودًا ليتم محاسبة من ارتكبوا هذا، ونرى ما هي الأدوات القانونية المتاحة. ولكن على الصعيد الفلسفي، يجب أن نعترف جميعًا أن ما حدث في غزة هو أمر يفوق الإبادة بمراحل. وأنه فريد في التاريخ الإنساني، كونه كان منقولًا سمعًا وبصرًا على الهواء مباشرة أمام الجميع.

الأمر الآخر: ما حدث في غزة يخبرنا عن ذاتنا ويخبرنا عن الآخر. كل مرة يحدث حدث كبير لدينا (مثل ثورات الربيع العربي)، نفاجأ بأمور لم نكن نعلمها عن ذاتنا. ولذا واضح جدًّا أننا محتاجون (والحقيقة المركز يغطي هذه المسألة بشكل كبير) إلى رصد مدى الاصطفاف العربي والإسلامي تجاه ما حدث في غزة، وأيضًا رصد: ما هي قدرتنا بالضبط على التعامل مع ما حدث؟ سواء بالصمت أو التواطؤ، أو الفاعلية من بعض الأطراف الصغيرة.

أظن أن لا أحد يستطيع إنكار أن كثيرين منا متفاجئون بمستوى التراخي للصف العربي والإسلامي. نعلم جيدًا أن هناك اتفاقيات تطبيع، ولكن لم يكن يخطر ببالنا مثلًا موقف المغرب، أو موقف السعودية أيضًا. فموقف السعودية، رغم كثير من الأمور، لكنه موقف مفاجئ في مجمله. موقف الإمارات كان متوقَّعًا. موقف الأردن يستحق النظر بالتدقيق الشديد. وهذا منعكس حتى في عدد الدول العربية التي انضمَّت لدعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية (نحن نتحدث عن خمس دول عربية فقط من أصل 22 دولة تضامنت في القضية).

وهذا ينقلني للنقطة التالية: أنه يجب ألا نعوِّل كثيرًا ليس على الدور الرسمي. فمن الواضح أن الحسابات الرسمية في بلادنا بعيدة أشد البعد عما نتوقَّعه. وبالتالي، لا بدَّ أن نستفيد من النظام العالمي الذي أعطى مكانة لـ “الكيانات من دون الدول”، مثل المنظمات غير الحكومية. وفي هذا المجال، لا بد أن نُثني مثلًا على دور منظمة مثل “هند رجب” والدور الذي تقوم به في ملاحقة الجنود الإسرائيليِّين في كلِّ بلد ينزلون فيها، وكذلك دور الفرد في العلاقات الدولية.

إذن، التعويل على الدور الرسمي لن يكون موجودًا بشكل كبير، ومن هنا تأتي أهمية تعظيم دور المنظمات غير الحكومية وتعظيم دور الأفراد والشعوب في الحركة خلال الفترة القادمة.

النقطة الأخرى هي معرفة عدونا: هل ما واجهناه على مدار عامين هي إسرائيل فقط؟

الحقيقة أن الإجابة صادمة جدًّا: لا. لقد رأينا جنودًا يهودًا يأتون من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا ويحاربون لصالح إسرائيل. لو حدث هذا مع الفلسطينيين، لكنا سمعنا وصمًا لهذا التضامن ووصفًا له بالجهاد العالمي والإرهاب. هؤلاء الناس أتوا وحاربوا وقاتلوا في غزة، كما أن عددًا كبيرًا من الدول الأوروبية تورَّط بشحن وتوريد مبيعات كميات كبيرة من الأسلحة لإسرائيل.

كذلك حجم القوة الإسرائيلية، والقدرة على التعبئة في الغرب. نتنياهو ذهب إلى “بنك أوف أمريكاBank of America، الذي هو بمثابة “بنك مصر” في مصر (بنك الطبقة الوسطى)، وحصل على ما يقرب من 60-65 مليار دولار كقرض. نحن ننازع للحصول على خمسة أو ستة مليارات. ناهيك عن التعبئة، وناهيك عن الصهيونية المسيحية التي تطوِّع كثيرًا من الشباب الأمريكيين للذهاب لإسرائيل لزراعة الأراضي بينما شباب [إسرائيل] يقاتلون. فهل نحن فعلًا كنا نواجه إسرائيل (التي يبلغ عدد قاطنيها 7 ملايين تقريبًا)؟

عندما نذهب إلى مجال المقاطعة ونرى ما فعلناه: هل هي صدفة أن الشركات التي نقاطعها لها علاقة بأغذية ومشروبات مضرَّة بالصحة؟ وما معنى هذا التحالف القوي بين إسرائيل وهذه الشركات؟ كان الواحد يظن أن هذا من قبيل المبالغة ونظريات المؤامرة، ولكن بالبحث وجدنا أنهم متحكمون في مفاصل اقتصادية كثيرة في العالم. ولكن هناك مجالان بدا لنا حجم التأثير اليهودي فيهما، وهما: التكنولوجيا (أبل، مايكروسوفت…)، والبنوك والقطاع المصرفي والمالي. لدرجة أن من كان يريد المقاومة (في غزة وخارجها) كان يستخدم أدواتهم في المقاومة.

هل نحن فقط الذين نعمل للتأثير على الشعوب والحكومات الغربية؟ الإجابة بالطبع لا، فالإسرائيليون أيضًا بدأوا مبكرًا جدًّا في هجوم مضادٍّ للسيطرة في الدول الغربية. وصلنا لمرحلة أن هناك مواقع إلكترونية (مثل كناري ميشن Canary Mission، يضعون عليها أسماء الطلبة والأساتذة والأطباء المناصرين للقضية الفلسطينية؛ فيضعون ملفًّا كاملًا ضدَّهم لرصدهم ومراقبتهم وملاحقتهم مستقبلًا.

إذن، نحن نواجه هجمة مرتدة. وأرى أن واحدة من أهم الخطوات التي يجب أن نتَّخذها هي الإسراع بتكوين ذاكرة لما حدث في غزة، لأن هناك العديد من المحاولات لمسح ما تم. من أجل ذلك، تابعنا موضوع الهجوم على تيك توك، ومحاولة التحكم في السردية العالمية.

أخيرًا، التكنولوجيا، أو ما يسميه أستاذنا الدكتور سيف “حرب الجبناء”. المسألة تفوقت وتجاوزت المسيرات، نحن نتكلَّم حاليًّا على مستوى جديد تمامًا، هو مستوى الذكاء الاصطناعي في تحديد بنك الأهداف، فقد أعلنت إسرائيل نفسها عدم الالتزام بقواعد الحروب، فهذا مستوى لا إنساني، من أجل حماية الجندي وفصله عن المحاسبة، أحدث نوعًا من “المنطقة العازلة Buffer Zone” بين الجريمة ومرتكبها. هذا مستوى جديد من القتل يجب الالتفات إليه ورصده ومجابهته.

مداخلة أ. عبد الرحمن عادل: الإبادة وتثوير علم السياسة

السؤال الرئيس لهذه المداخلة هو: ماذا نفعل بالإبادة الصهيونية في غزة بوصفنا باحثين وأكاديميين مختصِّين بالعلوم السياسية؟

إن أقل ما يفعله حدث بحجم الإبادة الجماعية وكارثيَّتها، هو تثوير العلوم وإحداث تحوُّلات جذرية داخلها، أو هو ما يصطلح عليه علميًّا بالتحوُّل المعرفي (paradigm shift) وهذه مسألة لها سوابق تاريخية، نذكر منها:

1- التحول الذي حدث في علم الاجتماع الغربي بفعل كتابات علماء مثل زيجمونت باومان وهيلين فين وغيرهم، وذلك عقب اهتمامهم بالهولوكوست والتنظير له داخل حقل علم الاجتماع بما يختلف مع التنظير السائد كلية، الأمر الذي أحدث تحوُّلًا كبيرًا في النظر إلى الهولوكوست داخل السياق الغربي والعالمي.

2- كذلك التحول الذي حدث في حقل الأنثروبولوجيا حين تحوَّل بعض الأنثروبولوجيين إلى دراسة الإبادة الجماعية في الشعوب والمجتمعات الأخرى، فإبادات من قبيل ما حدث في البوسنة والهرسك ورواندا دفعت بعض الباحثين لإحداث تحوُّل كبير في الحقل، إذ انتقل من علم استعماري إمبريالي يساعد القوى الاستعمارية على التحكم في الشعوب الأخرى وإدارتها، إلى علم لا يحكمه الحياد البارد والموضوعية المزيفة، وقد عبر عن ذلك جليًّا الأنثروبولوجي كلايد سنو بقوله: “ تنجز العمل نهارًا وتبكي ليلًا”، وذلك في عمله على دراسة وإثبات الإبادات الجماعية في آسيا وأفريقيا وغيرها من المناطق.

3- كما شهد حقل التاريخ بدوره تحولات داخلية مهمَّة، وظهرت تنظيرات أطلق عليها “ضد التاريخ” و“ضد الأرشيف” وقد عملت على إثبات الإبادة التي أنكرها الأرشيف والتاريخ المؤسسي الرسمي في فرنسا مثلًا (يقصد هنا إبادة الأرمن على يد الدولة العثمانية). وفي هذا تبرز مساهمة مارك نيشانيان وجيل النجار.

ومن هنا نتساءل: أي تحول معرفي أو ثورة علمية ينبغي أن تُحدثها الإبادة الصهيونية في غزة؟

أعتقد أن هذه الإبادة وتناولها على مستوى التنظير والفهم والتحليل، مكانه علم السياسة بالأساس وذلك على عدَّة مستويات:

أ) مستوى العلاقات الدولية ورؤيتنا للنظام الدولي الإبادي ومؤسساته عديمة النفع أو القدرة على التأثير. كيف ينبغي أن ننظر ونُنَظِّر لهذا النظام؟

ب) مستوى النظرية السياسية التي تهتم بالقوة وعلاقات القوة، والقيم السياسية؛ فأين قيم الإبادة المتجذِّرة في الحضارة الغربية وتعاملاتها مع الآخر (وبالأخص المسلم) من التنظير السياسي؟ وكذلك التنظير لدور الدولة القومية في عملية الإبادة والتطهير العرقي وهو ما برز اهتمام واسع به في الكتابات الديكولونيالية وخاصة الأستاذ الأرجنتيني والتر مينولو.

ج) مستوى العلاقة بين الدولة والمجتمع، وكيف عملت الدول على كبح جماح الشعوب الرافضة للإبادة وقمعتها باستخدام القوة، وخاصة في سياق الدول الديمقراطية الليبرالية التي تعلن تقديسها للحريات -حرية الرأي والتعبير- وغيرها.

وأخيرًا أختم مداخلتي بهذه التوصية، وهي تتعلَّق بتدشين مشروع بحثي عميق ومتخصِّص، يبحث مسألة “تثوير علم السياسة بفعل الإبادة” وما التغيُّر اللازم والضروري في عملية التنظير والتدريس، فحدث بكارثية الإبادة وحجمها لا يصلح معه أقل من ثورة علمية وفكرية كاملة.

مداخلة أ. مروة يوسف: سياسات الذاكرة… كيف نحفظ مستقبلنا من الإبادة؟

إن توثيق الإبادة والكتابة عنها ليست رفاهية بل هو موقف وانحياز ومقاومة وانطلاقًا من سؤال كيف نحفظ مستقبلنا؟ وكيف ندافع عن أنفسنا؟ وكيف نلاحق مرتكبي الإبادة؟

إن الإجابة على تلك الأسئلة تكْمن في الذاكرة الفردية والجماعية، فعلى مدار العقود الماضية قامت إسرائيل باستهداف الذاكرة الجمعية على مستوى الأفراد والإقليم والعالم باستهداف ذاكرة الحياة والأرض والثقافة، تلك السياسات يمكن أن نطلق عليها (Memoricide) وذلك عن طريق مجموعة من السياسات التي يطلق عليها سياسات الذاكرة (Politics of memory) التي تستهدف بالأساس الذاكرة الجمعية للسكان المحليين والإقليم من أجل إعادة تشكيل الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والعالمي.

وعليه، فإن أحد أهدافنا الآن يجب أن يكون حفظ الذاكرة وحفظ الوعي بالإبادة من خلال الاهتمام بالذاكرة الجمعية لأنها تحمل في قلبها الوعي الجمعي بالحدث وتداعياته، وللذاكرة أنواع عدَّة: ذاكرة الحياة، ذاكرة المكان، ذاكرة الثقافة، …..

وعند بداية العمل على الذاكرة يجب الحفاظ على أنواع الذاكرة المختلفة: ذاكرة الحياة قبل ذاكرة الموت، والمقاومة قبل ذاكرة الضحية. وذلك من أجل تحويل الإبادة التي تمَّت في غزة إلى نقطة فاصلة في تاريخنا المعاصر من خلال الكتابة عن تفاصيل السياسات التي نفَّذتها إسرائيل داخل غزة وباقي الأراضي الفلسطينية والكتابة عن سياسات الذاكرة الإسرائيلية وكيفية مقاومتها لنصل إلى حفظ الوعي الجمعي بالمقاومة الذي نتج خلال العامين الماضيين سواء على المستوى العربي والإسلامي أو المستوى العالمي وحمايتها ليس فقط من الفناء الثقافي وتداعياته السياسية والاجتماعية بل وحفظ المستقبل من تكرار الماضي على مستويات مختلفة، ولذلك عدَّة سبل، منها:

  1. التاريخ الشفهي للإبادة من خلال تجميع الشهادات واستخلاص السياسات وتحليلها.
  2. تفكيك سياسات الإبادة على مستوى الأرض والإنسان والوعي.
  3. تفكيك سياسات الذاكرة الإسرائيلية إعلاميًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا.
  4. تأكيد الذاكرة الجمعية من خلال تفكيك الوعي الجمعي بضحايا المقاومة والشهود (العرب والعالم).

مداخلة د. عبد الرحمن رشدان: التغيير من خارج النظام أم من داخله؟

سأركز في مداخلتي على آليات التفعيل في ملاحقة الإبادة.

هناك مشكلة لدينا في الآليات التنفيذية؛ ففكرنا منفصل في الإطار القانوني والقيمي الدولي، وليس متجاوزًا له، باعتبار أن القيم والإطار الدولي والقانوني قيم مستقرة وباقية ومستمرة، وبالتالي فالتوثيق والملاحقة يجب أن تتم في إطار ذلك. ولكن الشواهد على المستوى الدولي وعلى المستوى الأمريكي الداخلي تقول إن هذا النظام فيه خلل، وأن هناك نظامًا آخر في الصعود، ومخيلتنا لم تتجاوز بعد هذا الانحصار.

فالآن، داخل المجتمع الأمريكي، سنجد أن النظام الأمريكي تدريجيًّا يتَّجه نحو السلطوية، وهناك مؤشِّرات حتى على إمكانية عدم انعقاد الانتخابات الرئاسية القادمة. هذا طبعًا في أطراف الفكر، ولكن يمكن أن يحدث، وهناك نقاش حول هذا داخل الدوائر المحيطة.

وأمريكا في نفس الوقت تسحب يديها وتأثيرها من المؤسسات الدولية. كما أن الشارع الأمريكي كفاعل في السياسة الأمريكية يتراجع. وما حدث (الفضيحة التي حدثت للوبي الصهيوني في أمريكا، وما يحدث حاليًّا ضد ترامب في المظاهرات المستمرَّة) يؤشِّر إلى محاولة لتحجيم الشارع وإبعاده عن تأثيره في السياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، وهناك مقاومة من الشارع. ولكن الاهتمام الآن أصبح داخليًّا، ببقاء الديمقراطية الأمريكية وبقاء النظام الأمريكي داخليًّا.

وأمريكا تحت حكم ترامب تسحب فاعليتها من النظام الدولي. فالنظام الدولي أو المؤسسات الدولية المعتمدة على أمريكا في التمويل وفي التوجيه، تأفل وتقل قوتها. وطبعًا المحكمة الجنائية الدولية، والقرار مؤخرًا بشأن نتنياهو، لدينا ثماني دول فقط أعلنت التأييد، وأربع دول أعلنت الرفض (بشكل مباشر أو غير مباشر)، وهذه مؤشرات على عدم فاعلية النظام. وطبعًا أمريكا تُعادي هذه المحكمة مباشرة.

وهذا يستدعي التفكير في نظرية روبرت كوهين (After Hegemony) “ما بعد الهيمنة”، وفكرة أن النظام الدولي سيبقى بعد أفول المهيمن، وأن قيمه ستبقى والدول ستتعاون بعد أفول أمريكا؛ هذه نظرية تثبت فشلها وهشاشتها مع الوقت. ولكن هناك بادرة أمل، أن القيم المعلنة (وليس القيم الفعلية) للسياسة الخارجية الأمريكية تركت أثرًا معينًا. فنجد الانفتاح والفعالية في المجتمع الأمريكي مع غزة، هذا في إطار قيم كانت تعتمد على القيم المبثوثة المعلنة من السياسة الخارجية الأمريكية، فهذا قد يبقى مع الوقت.

في نفس الوقت، لو نظرنا إلى النظام الدولي، نجد دور الصين المفترض أنه صاعد ويملأ بعض الفراغات الأمريكية، ولكن هناك انغلاق في القدرة على التأثير على القرار الصيني داخليًّا أو خارجيًّا. فبالتالي لا يوجد أي مجال للتأثير على السياسة الخارجية الصينية من الداخل ولا من الخارج.

كما أن الإبادة ضد مسلمي الإيجور استمرَّت (لو سمَّيناها إبادة) بدون أي فعالية للضغوط الدولية. بل هي أظن أكثر وحشية مما حدث في غزة. فما حدث في غزة قتل مباشر ممنهج، نتيجته تشبث المقاومين بالفكر أكثر. ما يحدث في الصين أكثر فعالية ضد المقاومة، وهو تغيير المفاهيم نفسها. الصين لديها خبث وذكاء في التعامل مع المعارضين (أو المقاومة المسالمة) مختلف عن الصهاينة، ومختلف عن السياسة الخارجية الأمريكية.

وفي إطار انسحاب أمريكا من المشهد الدولي، نحن قد نكون مقبلين على مستقبل أكثر وحشية وأكثر فاعلية في تدمير صور المقاومة للمسلمين في القضايا المختلفة.

في إطار كل هذا، الكلام على التوثيق والذهاب للمحكمة الدولية أو المؤسسات الفاعلة (مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية)، مع احتمالية فعاليته، ولكنه يجب أن يأتي في المرتبة الثانية من ناحية الرؤية المستقبلية.

المرتبة الأولى يجب أن تركِّز على الناس، على الشعوب، وعلى ضغط الحكومات لإصدار قوانين داخلية في أوروبا مثلًا لملاحقة المتورطين في الإبادة، وليس النظام الدولي. يعني: ضغط فرنسي داخل المجتمع الفرنسي يُصدر قانونًا ملزمًا للحكومة الفرنسية باعتقال نتنياهو حال وصوله للبلاد، وهكذا. فالعمل على الآليات المتاحة لنا هو العمل على الآليات القانونية داخل كل دولة، وليس على مستوى النظام الدولي (مع اعتباره، ولكن على المدى البعيد هو ليس مؤثرًا كما كان في السابق).

ثمَّ العمل المجتمعي: فمن المتاح لدينا أيضًا العمل المجتمعي عبر الحدود، بمعنى تشبيك مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي والغرب.

وفي هذا الإطار، يجب أن نفهم (وهذه نقطة قد تكون شائكة) “يهود اليسار” في أمريكا. هل منظمات المجتمع المدني العربي يمكن أن يكون لديها صور من التواصل والتفاعل والدعم ليهود اليسار في أمريكا أم لا؟ لأن يهود اليسار في أمريكا من أكبر داعمي القضية الفلسطينية وأكبر المؤثِّرين في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه فلسطين. وهذا يتطلَّب دعمًا على مستوى القيادات العليا. ولكن لو فُتح على المستوى الشعبي، قد تحدث مشاكل في فهم هذا التحالف.

فإجمالًا، المجتمع المدني، والأداة الاقتصادية (المقاطعة)، هي أقوى الأدوات في أيدينا، وهذا ما قد يكون له تأثير على المدى البعيد.

ولكنَّ حَصْرَ الأمر في الإطار الدولي أو القانوني الدولي، أو حتى القيمي الذي سنتشبَّث به قد لا يكون الأمر مُجْدِيًا؛ فأمريكا نفسها تتخلَّى عن قيمها. ولكن الصحيح أن الواحد يتشبَّث بقيمه الإسلامية ويتواصل مع ما يتوافق معها؛ فالتفكير يجب أن يكون في إطار قيمنا النابعة من الهوية، والتلاقي مع القيم الباقية في الإطار الدولي.

بجانب طبعًا أهمية ما ذكره الأستاذ هشام جعفر عن كتابة التاريخ وكتابة الذاكرة، لأن هذا مجهود آني يُكتب الآن. ويتم كتابته على الجانب الآخر، ونحن لم نبدأْ بعد!

مداخلة عبد الرحمن فهيم: التفاعل الأكاديمي الغربي مع الإبادة والتنظير الحضاري

منذ شهر يوليو الماضي، كان لديَّ تساؤلٌ حول الأكاديمية الغربية: كيف تفاعلت مع الأحداث (طوفان الأقصى في أكتوبر، وما تلاه في غزة)؟ بحكم كوننا باحثين، أرى أن أحد أشكال التوثيق (حتى لو تكلَّمنا عن الهولوكوست كنموذج) لم يقتصر فقط على الفعاليات السياسية أو التذكارية، بل امتدَّ بطبيعة الحال إلى الدراسات والأبحاث والمراكز البحثية المخصَّصة لدراسة الإبادة، والعديد من الرسائل والكراسي العلمية والدوريات.

لذا، كان تساؤلي: كيف كانت الاستجابة على المستوى الأكاديمي لأحداث الإبادة في غزة؟ قمت بجمع بعض الخيوط والاستنتاجات:

  1. مرحلة التحذير المبكر: جزء منها بدأ بالتحذير المبكر من الإبادة. ظهر ذلك في تقرير وقَّع عليه حوالي 800 عالم مختص في القانون الدولي ودراسات الإبادة، يحذرون من أن الوضع المقبل في غزة يشي بإبادة قادمة. وكان أشدها وضوحًا ما قاله “راز سيجال” حين وصف الحالة بأنها “حالة نموذجية للإبادة” (Textbook case of genocide)، وذلك في وقت مبكر جدًّا (حوالي 13 أكتوبر 2023).
  2. الخلاف حول المفهوم: مع طول أمد الحرب، ظهر خلاف ضخم جدًّا في قلب الأكاديمية حول “تعريف الإبادة”. (إذا كنا سابقًا نستدعي مسألة العراق والعجز عن الوصول لتعريف موحَّد للإرهاب، فالأمر ينسحب شيئًا فشيئًا على مسألة الإبادة). حتى البيان الأخير لبعض المختصين في الإبادة، شهد جدلًا ضخمًا، ولم يشارك كثيرٌ منهم في التصويت على أن ما حصل في غزة “إبادة”. (والمجموعة التي رفضت كان لها بعض التوجيهات الصهيونية).

بالتالي، نحن أمام معركة ضخمة جدًّا على مستوى المفاهيم والمعايير والتقييمات، تعتمد في جزءٍ منها على التوثيق، ومنها أنتقل لمسألة التنظير.

يحضرني في ذلك مقال لـ “هنري كيسنجر” كان يتحدَّث فيه عن تنويعات “الإسلاميين” الذين يحتكُّ بهم. وذكر أن المجموعة التي تمثِّل الخطر الأكبر بالنسبة لهم، هي المجموعة التي تتبنَّى أو ترفع نفس الشعارات التي ترفعها الحضارة الغربية، إلا أنها تنطلق من مرجعية مختلفة (غير المرجعية الغربية). هؤلاء يتناولون نفس المفاهيم ولكن وفق قيمهم، بما لا يجعلهم نسخة مكرَّرة من الحضارة الغربية.

بالتالي، معركتنا ستكون متمثِّلة في أنَّنا محتاجون لتقديم تصوراتنا عن مسألة الإبادة من منظور حضاري إسلامي، ولا نبقى محكومين بالتنظيرات الغربية. وخاصة (كما أشار الدكتور المسيري في أكثر من موضع) أن الحضارة الصهيونية هي امتداد بالأساس للحضارة الغربية. وقد شاهدنا نتنياهو في أكثر من حوار يشير إلى أن “الجرائم التي نرتكبها أنتم ارتكبتموها”. وحين صرح بايدن بضرورة الحد من القتل، ردوا عليه: “أنتم فعلتم كذلك في الحرب العالمية الثانية”. كأنهم يقولون: “نحن نشبهكم، نحن جزء منكم”، وهناك تحالف بين الحضارتين، فلم نأتِ بجديد في القتل.

طبعًا كان لدي رصد كبير لمسألة التفاعل الأكاديمي، والشاهد منه أننا نشهد نفس حالة النفاق السياسي في التعامل مع غزة، ولكن على المستويات الأكاديمية. وهذا يحتاج إلى جهد لكشف التواطؤ الأكاديمي. وكذلك إبراز الجهود الأخرى المضادة التي تقوم بالتوثيق (مثل جهود نورمان فنكلشتاين، إيلان بابيه، توماس سواريز، وغيرهم)، وإنتاج أعمال على نفس المنوال تغطي الحالة المختلفة تمامًا عما سبق. (إذا كان نورمان فنكلشتاين قد كتب “غزة: بحث في استشهادها” عن الحالة السابقة، فإن الإبادة بعد الطوفان ستحتاج جهدًا أكبر).

لدي مقترحان:

  1. إعداد كتاب أكاديمي لتدريس الإبادة، ينشأ من منظورنا ومعاييرنا وقيمنا.
  2. إعداد كتاب خاص برصد حالة الإبادة الواقعة في غزة (منذ الطوفان وحتى اللحظة) والتركيز عليها والموقف الأكاديمي منها.

مداخلة د. أميرة أبو سمرة: لماذا ما حدث في غزة جريمة ضد الإنسانية وليس إبادة؟

ستركز مداخلتي على نقطتين أساسيتين؛ الأولى عن أهمية وصف ما حدث في غزة على أنه جريمة ضد الإنسانية وليس إبادة جماعية، والآخر عن موقع المنظور الحضاري من مشهد متابعة الإبادة واستعادة مفهوم الأمة.

أولًا- أين “الإنسانية” مما يحدث في غزة؟

الحقيقة أنا توقفت فيما قيل وما قرأته من ورقة أ. هشام عند فكرة التركيز في الحديث عن غزة من منظور “الإبادة الجماعية”. عندما نرجع لننظر إلى معنى الإبادة الجماعية، نجد أنها جريمة تُرتكب في حق جماعة محدَّدة؛ بقصد إهلاك جماعة عرقية أو دينية أو قومية أو إثنية. وهذا ربما معنى أضيق بكثير، وهو شكل من أشكال الجرائم ضد الإنسانية.

فأنا لو سأسمي ما حدث في غزة سأسمِّيه “جريمة ضد الإنسانية” وليس مجرد إبادة جماعية، لأكثر من سبب، سأحاول أن أتحدث فيه.

فكرة “غزة” في حدِّ ذاتها تجمع بين أكثر من جريمة: بين اضطهاد ديني مباشر، وبين اضطهاد عرقي (العرب يجب أن يموتوا)، وبين التطهير الثقافي (آثار مادية تُمحى، جامعات ومدارس تُهدم). إذ إن “ذاكرة العلم” في غزة تضيع. ولذا أتساءل: يا تُرى رسائل الدكتوراه والماجستير التي نفني فيها حياتنا ونخاف عليها كثيرًا، أين ذهبت في غزة؟ فأعتقد أن مسألة “ذاكرة العلم” لا بد من الالتفات إليها أيضًا في هذه السياقات.

الحقيقة، الإبادة الجماعية مكتملة الأركان. فلدينا إبادة جماعية، بالإضافة إلى أشياء أخرى: إرهاب، وجرائم حرب واستخدام أسلحة محظورة، بالإضافة إلى استخدام دروع بشرية، بالإضافة إلى الجرائم ضد الإنسانية بمعناها الواسع (تدمير الكنائس، قتل المسيحيين، القتل الجماعي، التعذيب، الاغتصاب، الاختفاء القسري، الترحيل). هذه كلها أبعد من مجرد مفهوم الإبادة الجماعية.

ما أريد قوله إن هناك أيضًا جرائم ضد الإنسانية متجاوزة لحدود غزة تمارسها إسرائيل بسبب غزة. يعني إخفاء المعلومات وتشويه المعلومات. أيضًا الدور الخاص بـ “إيباك” (AIPAC)، ودور التمويل الإسرائيلي والجماعات المتطرفة المنتشرة في أوروبا وأمريكا… فكرة “قوائم الطلبة”؛ هو أنا عندما أُعد في الولايات المتحدة قائمة لطلاب يُدرجون فيها ليتم اضطهادهم، أليست هذه جرائم ممتدَّة عبر الحدود؟

كما أن التوصيف القانوني للجرائم ضد الإنسانية يعطيني سعةً كبيرةً أستطيع بتوصيف لهذه الجرائم التي ترتكبها إسرائيل أن أتحرك بنطاق أوسع وبُعد آخر.

الفكرة أن كلمة “جريمة ضد إنسانية” تحمل معنى مختلفًا ضمنيًّا عن “جريمة ضد جماعة”. لأنه هنا تأتي فكرة “العنف الدوَّار” التي قال عنها الأستاذ هشام. هنا أُخيف الناس كلهم: “هذه جريمة ضدكم أنتم كبشر وكشعوب، وليست مجرد جريمة ضد هذا الشعب المسكين الذي يمكن أن نتخلَّص منه والعالم لن يحدث له شيء”.

وفكرة أن أتحدَّث عن “جرائم ضد الإنسانية” ارتبطت بالهولوكوست؛ أنه لن تتكرَّر هذه الجرائم ضد البشرية ككل، لأن ارتكابها في مكان هو ارتكاب لجريمة تخويف للبشر ككل. فأنا متمسِّكة بكلمة “الإنسانية”. وأعتقد أن هذا مدخل مهم نخاطب منه العالم عن هذه الحالة.

لذا، فأنا متمسِّكة بكلمة “الإنسانية” لأنني أرى مشهدَ واقعٍ دوليٍّ غريبٍ جدًّا. قرأت منشورًا يتحدَّث عن أننا أصبحنا في “عالم من الإبادات والتفاخر بها”. وكان يعلق تحديدًا على موقف الإمارات، كيف وقفت في الأمم المتحدة تدعم قوات الدعم السريع في السودان. فكان يتساءل صاحب المنشور: لماذا تضع دولة نفسها في هذا الموقف؟ وكان التحليل: “لكي نعتاد الإبادة والقتل”. سنتخلَّص ممَّن نريد أن نتخلَّص منه، هو عالم من موازين القوة والمادة، فمن الطبيعي أن نتفاخر بالقتل وبالإبادات الجماعية.

وكنا ندرس كيف أن تكرار الانتهاكات لقواعد قانونية معينة (وخاصة تكرار انتهاكاتها من قوى كبرى) يقود بالضرورة إلى تغيير هذه القواعد القانونية. أنا عندي هذه الحالة؛ حالة عالمية من انتهاك أساس نظام وستفاليا وأساس نظام الحرب العالمية الثانية من انتهاك الحدود.

أنا عندي مشهد واقعي جديد، تقف فيه الدول القوية في مواجهة شعوب العالم. فأنا أشعر أن هناك خريطة تتشكَّل بفكرة أننا “كشعوب” في خطر. وليزيد من هذا الخطر “الذكاء الاصطناعي”. عندما نضيف المعادلة على بعضها، سنجد أن لدينا “دولة الرقابة والسيطرة”، وهي قاصرة على بعض الدول، وهي تمارس هذه الرقابة والسيطرة في مواجهة شعوب العالم.

أنا مضطرة لاستحضار تحليل زيجمونت باومان عن الحداثة والتقدُّم الخطِّي. هذه تكملة الحكاية. كما كانت الحداثة تبرِّر الهولوكوست، فنحن سنضيف بعض الأدوات الجديدة الأكثر إحكامًا، وينتهي بنا الأمر إلى مشهد مخيف للشعوب كلها وليس لأهل غزة فقط. فرانشيسكا ألبانيز (مقررة الأمم المتحدة الخاص المعني بالأراضي الفلسطينية المحتلة) قالت إن الإبادة الجماعية في غزة متورط فيها 60 دولة في العالم، منهم دول عربية. فنحن نتكلم فعلًا عن أزمة “الدولة” في مواجهة “البشر”.

ثانيًا- المنظور الحضاري وإبادة غزة

عندما وجدت تحليل الأستاذ هشام جعفر يتحدث من اقتراب نقدي (سوسيولوجي، ما بعد استعماري) عن العلاقة بين السلطة والمعرفة، تساءلت: عن “المنظور الحضاري” ماذا يمكنه أن يضيف لهذا المشهد التحليلي؟

أعتقد أنه يضيف أشياء. يضيف الدين كمشارك في الإبادة في هذه اللحظة، وأنه سيُحلل هذا المشهد وسيسأل الأديان: ماذا تقول الأديان؟ وهل يمكن أن نلتقي مع أهل الكتاب على كلمة سواء؟ أليس ممكنًا أن نشكِّل جبهةً دينيةً ضدَّ ما يحدث؟ أعتقد أن استدعاء هذا الخطاب، خطاب القيم والأخلاق الدينية التي تستعيد مركزية الإنسان (كإنسانية وليس كفرد)، هو جزء مهم مما يمكن أن يُقدَّم من قبل المنظور الحضاري.

ناهيك عما أهمية مسألة “السردية”، وأن “الحضاري” يستطيع أن يقدم سردية مختلفة، ولن أقول “يصنع سردية” (لأن صناعة سردية أشعر أن فيها بُعدًا تلفيقيًّا ما، بمعنى أنني سأخترع سردية). ولكن لا، أنا “سأستعيد السردية”:

  1. هل أستعيد سردية “الأمة المفكَّكة” أم “الأمة المترابطة”؟ أنا يمكنني أن أحكي حكاية غزة على أنها ليست أمة مفكَّكة، بالعكس، هي أمة ترابطت ووقفت بكل أداة امتلكتها وتحركت نصرةً لهذه المقاومة.
  2. أستطيع أن أستعيد فكرة “أمة النصرة” أم “أمة الخذلان”؟
  3. سردية “الضعف في مواجهة القوة”، و”الهزيمة في مواجهة النصر” (التي يتكلم عنها دكتور مدحت ماهر دائمًا)، وإعادة تعريف: من هو القوي؟ ومن هو الضعيف؟ ومن هو المهزوم؟ ومن هو المنتصر؟ أشعر أن استدعاء هذه السرديات مهم.

وأخيرًا سأختم بملاحظتين:

  1. الربط التاريخي: أعتقد أن فكرة الخروج من لحظة السابع من أكتوبر 2023 مهم، لأنها ليست سوى جولة من جولات متكررة من الإبادة، و”حلقة متَّصلة” من الجرائم ضد الإنسانية، منذ 1917 وهي ممتدَّة. وأعتقد أن استدعاء “الإنسانية” هنا مهم.
  2. خداع التوثيق وصعوبته: إن كل محاولة للتوثيق لا بد وأن تكون حريصة جدًّا؛ خوفًا من اللجان الإلكترونية أو الحذف أو التشويه. فهناك نشر روايات جاذبة لتشويه مصداقية الروايات الحقيقية؛ هذه خدع لاحظناها الفترات الماضية بكثافة. أنني قد أروي رواية توحي لوهلة أنها متعاطفة، ثم ينتهي بها الحال أن تكون بالعكس رواية تشويهية لما حدث وخانقة للمقاومة ومعارضة لها.

المحور الثالث- خبرات عملية ومدنية وشعبية في مواجهة الإبادة

مداخلة أ. داليا يوسف: الاستعمار والإبادة وإعادة تعريف الضحية

في البداية، أنا أوافق جدًّا على الكلام المهم الذي طرحه الأستاذ هشام بخصوص عدم طرح غزة كاستثناء، سواء في الكلام عن عنف الدولة أو مسألة عنف الداخل والخارج؛ خصوصًا أن الاستبداد هو جذر رئيسي لأغلب مشاكل المنطقة، التي عطلت وجعلت منطقتنا هي أضعف حلقة في حلقات التضامن مع القضية الفلسطينية ضد الإبادة البشعة التي شهدناها ومررنا بها.

الأمر الثاني، الذي ألتقطه ممَّا طرحه المعقِّبين لنماذج إبادات حصلت لأطراف أخرى أو لمجموعات أخرى، تظلُّ مسألةً مهمَّةً وإنسانيةً جدًّا. ولكن في نفس الوقت، أريد أن أؤكِّد على مسألة طبيعة القضية الفلسطينية وطبيعة غزة تحديدًا. إذ يفرق باتريك وول، بين “الكولونيالية الكلاسيكية” و”الاستعمار الاستيطاني”، ليقول إن الاحتلال الاستيطاني هو بطبيعته إبادي. نحن نتكلَّم في حالة فلسطين عن كولونيالية كلاسيكية حصلت في الانتداب البريطاني، ثمّ سُلِّمت للاستعمار الاستيطاني. وإذا نظرنا في الحلقة الأخيرة التي نراها في التصور الذي طرحه ترامب مثلًا حول إعادة الإعمار وشكل نموذج الأعمال (البيزنس)، فنحن نتكلم على “استعمارية جديدة” أيضًا.

نحن نتكلَّم في الحقيقة عن تركيبة “عالم مصغَّر” لكن في إطار كَمٍّ من التقاطعات الكثيرة جدًّا، وهذا ما يجعل فلسطين وغزة تحديدًا معملًا لأغلب الانتهاكات التي تحدث. وهذا أيضًا ما جعل هناك نقاط تماس مع الحراك الكبير المناهض للإبادة والداعم لفلسطين الذي رأيناه، خصوصًا في المدن الغربية، وإن كانت من مداخل مختلفة: منهم من اتخذ مدخل حقوق المهاجرين، ومدخل مناهضة العنف، ومدخل مسألة العدالة العرقية والعدالة البيئية. وبالتالي، هذا حَوَّلَ القضية الفلسطينية فعلًا لمدخل لمواجهة كل المظالم.

ولذا أعتقد أن علينا دورًا في محاولة فهم الحراك الذي حدث. على سبيل المثال، نقطة بسيطة بناءً على دراستي لمسألة (الهجرة في الولايات المتحدة) أرى أن هناك أجيالًا أصغر من المهاجرين العرب (وتحديدًا الفلسطينيين) بدأت تشكِّل نموذجًا لما يُعرف بـ “المهاجر المتمرد”. فبدلًا من كون الأجيال الأكبر تحاول أن تستقرَّ وتدخل في المنظومة الاجتماعية السائدة مُحَاوِلَةً الاندماج، فإن هؤلاء الناس رأوا أن لديهم حقوقًا مختلفة. فلم يأتِ أحدٌ وأنشأ تنظيمًا من أجل الحق الفلسطيني، بل أصبح هناك شيء اسمه “في حياتنا”؛ وبدلًا من كون الناس يتكلَّمون عن تحرير فلسطين على أنها مسألة ممتدة ومرتبطة بعلامات يوم القيامة، رأينا الشباب يقولون: لا، نحن سنحرِّر فلسطين في لحظة “في حياتنا”.

بالتالي، نحن نرى تغييرًا كبيرًا يحصل في الحراك الداعم لفلسطين والمناهض للاحتلال الصهيوني.

والآن نحن نرى في أمريكا في ولايات مختلفة، أن القضية الفلسطينية بعدما كانت في الهامش تمامًا، وهي لا تزال، لا أستطيع القول إنها أصبحت مركزية أو تيارًا رئيسيًّا، لكن على الأقل في الانتخابات المحلية التي تحصل الآن، تم الدفع بمسألة غزة، وسؤال غزة تحديدًا، وبدأ يشكِّل قضيةً انتخابيةً يُصَوَّتُ عليها بشكلٍ أو بآخر؛ وهذا لا يرجع للتغير الديموغرافي (بخصوص كتلة المهاجرين مثلًا) فحسْب، بل يرجع أيضًا للتغيُّر في المنحى السياسي (يمينًا ويسارًا) داخل أمريكا. لذا أريد أن أؤكِّد على أهمية تشريح الحراك الذي حصل وما زال يحصل والبناء عليه.

نقطة أخرى أريد أن أُثيرها، بشأن مسألة “الوجاهة” الخاصة باستخدام “مفهوم الإبادة الجماعية” تحديدًا؛ وأتذكَّر هنا مفارقة مهمَّة. أن التعريفات والأُطر القانونية عن مسألة تعريف الإبادة الجماعية كانت في عام 1948، وهو عام النكبة. ففكرة “الترابطية” التي حصلت، وترابطية “موقع الضحية” التي حصلت من البداية… (هذا ليس لأقول طبعًا إن الفلسطينيين ضحايا فقط)، أنا أحاول قول هذا من منظور المواثيق: كيف أن “المركزية الأوروبية Eurocentrism“، هي من حدَّدت الضحية! فالضحية المركزية هي لمن قُتِلُوا في الهولوكوست، وحتى “دراسات الإبادة الجماعيةGenocide Studies “ يعتبر كثير منها الهولوكوست هو “النموذج الأولي Prototype“ لمسألة الإبادة الجماعية.

وبالتالي، هنا التفكير في طرح ما حصل في غزة وما حصل عبر السنين، ومحاولة “الاقتراب” منه عبر مفهوم الإبادة مهم جدًّا في خلخلة هذه المركزية حتى لا يظلَّ الاحتلال هو الضحية والجاني في نفس الوقت، وتكون لديه درجة من درجات الإعفاء من أي عقوبة باعتبار أنه هو “الضحية المركزية” تاريخيًّا وفي الزمن المعاصر.

مداخلة أ. سمر دويدار: مبادرة “حكايات فلسطينية” (دور أهل العمل)

مساهمتي هنا ستكون في إطار “دور أهل العمل”، فسأتحدث عن مبادرة بدأتها بالفعل منذ 2019.

أولًا- نبذة عن مبادرة حكايات فلسطينية

سأبدأ بالتعريف بالمبادرة: “حكايات فلسطينية للأرشيفات العائلية والأبحاث“[3]، وهي مبادرة مصرية فلسطينية تأسست في ديسمبر 2019، بهدف توثيق التاريخ الشخصي والاجتماعي والثقافي للفلسطينيين وحفظه من النسيان، وذلك عبر دعم الفلسطينيين في بناء أرشيفاتهم العائلية. ثمَّ منذ بداية حرب الإبادة في 2023، تمت إضافة محور خاص بشهادات من غزة.

المبادرة مستقلَّة وذاتية التمويل، وتسعى لتقديم الرواية الفلسطينية على لسان أصحابها، من خلال تفعيل الذاكرة الجماعية للأجيال الفلسطينية المتعاقبة، سواء داخل فلسطين أو في الشتات.

نسعى إلى “ديمقراطية التاريخ الفلسطيني” من خلال تشجيع الفلسطينيين على سرد روايتهم الخاصة وبناء أرشفتهم الشخصية والعائلية، عبر إتاحة أرشيف رقمي تفاعلي ومنصة على الإنترنت، لتكون المنصة مساحة آمنة تفاعُلية للإنسان الفلسطيني، وليُعد الأرشيف مصدرًا أوليًّا للباحثين والمبدعين.

المبادرة بدأت بأن والدتي سلَّمتني أرشيف جدي الفلسطيني (أنا والدي مصري ووالدتي فلسطينية)، يحتوي على أكثر من 350 رسالة ووثيقة تخص جدي، وحوالي 600 صورة. فحوَّلت هذا الأرشيف الشخصي إلى فعل أو مبادرة عامة، لأنه في النهاية هو أرشيف شخص واحد في عائلة واحدة، وبالتأكيد العائلات الفلسطينية لديها مثل هذا الكنز الذي وجدته.

أهداف المبادرة

  1. الحفاظ على الرواية الشفوية الفلسطينية.
  2. إعادة التواصل بين العائلات الفلسطينية التي شتَّتَها الاحتلال. إذ تسمح فكرة إتاحة موقع الإنترنت للعائلات الفلسطينية في البلاد المختلفة، عندما يضع أحدهم جزءًا من أرشيف العائلة، فتُتاح إمكانيةٌ للتواصل لباقي أطراف العائلة. (مثلًا: عندما وجدت أرشيف جدي، اكتشفت أن رسائل الخطوبة بين جدي وجدتي عام 1937 موجودة عند خالي في أمريكا).
  3. استعادة الحوار بين الأجيال داخل العائلة الواحدة. الأرشيفات العائلية موجودة عند الأكبر سنًّا في العائلة، ولكن القادر على استخدام التكنولوجيا وإضافتها على موقع الإنترنت هم الجيل الأصغر (الثالث أو الرابع)، وهم من يستطيعون المشاركة عبر الوسائل الحديثة. وبهذه الطريقة، هي تُعيد الحوار بين الأجيال وتظلُّ الرواية مستمرَّة.
  4. التوعية بأهمية الأرشيفات العائلية وتشجيع العائلات على جمع أرشيفاتها. نحن في “حكايات فلسطينية” لا نسعى لجمع الأرشيفات (أن نبحث عن الصور على الإنترنت)، ولكننا ندعو العائلات للبحث في ذاكرتها ومخزونها العائلي والثقافي وإضافة هذه الأرشيفات. هذا أصعب، لكننا مهتمون بـ “الرواية من الأسفل” (History from Below). وبالتالي، صوت الناس العاديين هو ما يهمُّنا، والأرشيفات التي لم يتمَّ توثيقها من خلال المؤسسات البحثية (التي تعمل من الأعلى إلى الأسفل) لن تكون متاحة.
  5. تقديم صورة مغايرة للمجتمع الفلسطيني قبل الاحتلال، مقابل الرواية الصهيونية المهيمنة.
  6. توثيق أصوات الناس الذين يعيشون تحت حرب الإبادة في غزة. (تمت إضافته بعد 7 أكتوبر 2023)

ثانيًا- الأرشيف والمنصة الرقمية: توثيق الإبادة في غزة

تمَّ إطلاق الموقع “أونلاين” في مايو 2023. وبدأ بأرشيف عائلة واحدة (عائلتي/ عائلة شعث)، لكن اليوم أصبح لدينا أرشيفات لـ 30 عائلة، بالإضافة إلى “أرشيف شهادات من غزة”.

تمَّ توثيق أكثر من 1500 شهادة على قاعدة بيانات تمَّ استحداثها بعد بداية الحرب. بدأ التوثيق بعد بداية الحرب بأسبوع، بجمع روابط من وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، إنستجرام) لأي شيء منشور يخص صوت الناس ويُظهر شكل الحياة في غزة تحت الحرب. بعد شهر، شعرت أن هذا الجمع غير كافٍ لأنه غير منظم وسيكون صعبًا أن نخرج منه بمعلومات، فهو مجرد جمع وليس توثيقًا.

استمرت عملية جمع الروابط حتى اليوم، ووصلنا لأكثر من 3500 رابط لشهادات فلسطينيِّين مقيمين في غزة تحت القصف والإبادة. بعد ذلك، قمت بتصميم قاعدة بيانات وتم تطويرها وإضافتها على الموقع، وأصبح متاحًا لأي شخص أن يشارك في التوثيق بإضافة ما يراه على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولأننا قائمون على العمل التطوعي (كنا ندعو المتطوعين دوريًّا)، كانت المسألة بطيئة جدًّا. فتمَّ تكليف مؤرشِفة وصحفية فلسطينية؛ لتكون هي القائمة على هذا التوثيق، وقامت هي بالجزء الأكبر (في توثيق ما يقرب من 1000 شهادة) من غزة.

نحن نعيد كتابة ما تمَّ نشره بنفس صياغته، بدون أي تعديل أو تحريف، حتى لو كانت هناك أخطاء لغوية أو كلمات خارجة، لأننا نحفظه بعيدًا عن وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتعرَّض الآن لحملة قوية في تغيير الرواية ومحوها.

لهذا السبب، نحن حريصون على أن قاعدة البيانات يكون فيها (URL) ولقطة شاشة (Screenshot)، ثم التأكيد على أن الشهادة ليست من تأليفنا، بل هي صوت مباشر لشخص كان يعيش الحدث.

إذا كنا في المبادرة قد وثَّقنا 1000 شهادة في سنة، فهذا معناه أن إسرائيل لن تعطينا فرصة سنتين لننتهي من الـ 2000 شهادة المتبقية لدينا، والتي هي في زيادة كل يوم لأن الحرب لم تتوقَّف.

نحن الآن في حملة مكثفة للتواصل مع مؤسسات بحثية وجهات تعمل في الأرشيف وباحثين ومؤرشِفين (في لبنان ومصر وفلسطين) لنصل إلى مؤرشِفين مستعدين للقيام بهذه الحملة المكثفة على مدار شهرين، لتوثيق أكبر قدر ممكن من هذه الشهادات قبل محوها تمامًا.

لأنه بالفعل، ونحن نعمل على التوثيق، نجد روابط لم تعد متاحة، أو يتم إخفاؤها أو حجب حساب الشخص مؤقَّتًا. وهناك أناس يستشهدون؛ حسابات أشخاص جمعنا شهاداتهم في بداية 2024، وعندما يأتي الميعاد لتوثيقها، يكون الشخص قد استشهد وحسابه توقَّف، فلا نتمكن من الوصول إليها مرة أخرى.

ثالثًا- نماذج من الأرشيف ودعوة للمشاركة

سأستعرض معكم سريعًا نموذجًا من قسم “شهادات من غزة”. مثال: “أمي زعلانة على المكدوس”[4]. هذا فيديو، نحن نضع لقطات شاشة (Screenshots) منه، ونكتب المصدر (المصور أحمد الجوجو)، والمكان (غير معروف)، وتاريخ الحدث (29 يناير 2025). ثم نكتب نص محتوى الفيديو، وفي النهاية نتيح الفيديو ومصدر المعلومة (الرابط).

ما نوثِّقه ليس بالضرورة هو الأخبار التي تُذاع في نشرات الأخبار، ولكنها “الحياة”.

هنا السيدة حزينة على “برطمان المخلل” الذي صنعته، وابنها يرينا البيت المدمَّر. هذا منشور عادي وشخص عادي جدًّا.

آخر شيء، صفحة “شهادات من غزة”. أي شخص يستطيع الدخول والتوثيق مباشرة عبر استمارة تسجيل بسيطة ومباشرة.

وأخيرًا، أؤكِّد أن مبادرة “حكايات فلسطينية” هي عمل للتوثيق اللحظي للحرب لحظة بدايتها، لنحافظ على الذاكرة والمكان والإنسان والحياة والثقافة في غزة. أتمنى أن يكون لهذا الجهد قيمة لاحقًا، ولكن المعركة الحقيقية هي الآن، لإنقاذ ما تبقَّى من الروابط والشهادات.

مداخلة أ. أحمد خليفة: رصد أولي لجهود توثيق الإبادة

ما سأستعرضه سريعًا هو ورقة أولية جدًّا ترصد جهود توثيق الإبادة الجماعية الجارية في غزة، عبر عدد من المبادرات والمؤسسات. ولكن في البداية أطرح على حضراتكم عدة أسئلة لاستحضارها ونحن نتكلم عن هذه المبادرات (وليس لدي إجابة حاسمة عنها الآن): إلى أي مدى تُعَدُّ هذه الجهود كافيةً لتوثيق الإبادة؟ وكيف يمكن البناء عليها؟ وما موقع العرب والمسلمين من هذه الجهود والمؤسسات؟

يمكن تقسيم الجهود المختلفة التي رصدتُها في الملف إلى عدَّة فئات:

  1. الجهود الفلسطينية: تشمل مؤسسات تقع داخل غزة، مثل: المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان PCHR ومركز الميزان لحقوق الإنسان، ومؤسسات في رام الله (منظمة الحق)، وحتى مؤسسات داخل فلسطين المحتلة (بتسيلم B’Tselem)، تقوم بجهود في رصد وتوثيق الإبادة.
  2. الجهود الدولية: تتمثَّل في جهود المؤسسات الكبرى مثل “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية، وبعض الجهود الأوروبية مثل “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان”. كل هذه المراكز أصدرت تقارير مختلفة لرصد وتتبُّع حالة الإبادة.
  3. جهود الرصد المكاني والخرائط: هناك مبادرات مهمة كرست جهدها في جانب يتعلق بالـData Visualization وتصوير البيانات ورسم الخرائط المكانية للأماكن التي تحدث فيها الإبادة، وذلك من أجل رسم صورة (مكانية وشخصية) لما كانت عليه غزة والمنازل والعائلات قبل الإبادة، حتى لا تُنسى مثل مشروع التحقق البصري – نيويورك تايمز، منظمة بيلِنجكات (Bellingcat).
  4. الجهود الصحفية: بذلتها مؤسسات مثل “أسوشيتد برس”، و”بي بي سي”، وطبعًا “الجزيرة” (خاصة “معامل الجزيرة labs” التي قامت بمحاولة وضع خرائط توثيقية لما يحدث في غزة.
  5. الجهود الأكاديمية: أبرزها جهد “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” التي حاولت، بالإضافة للكتب المرجعية، عمل أرشيفات قطاعية، مثل أرشيف “الإبادة الصحية”، وأرشيف “الإبادة الثقافية”، وذلك عبر رصد الشخصيات والمؤسسات المرتبطة بهذه المجالات الذين تمَّت إبادتهم والقضاء عليهم.

كما لا ننسى “الجهود الشعبية” التي عملت على توثيق الإبادة، سواء من خلال “محكمة غزة” (التي أصدرت حكمها منذ فترة بسيطة وكانت تقبل شهادات الناس وتتنقَّل عبر العواصم)، أو الحملات الشعبية على وسائل التواصل الاجتماعي التي حاولت فضح الانتهاكات الإسرائيلية.

وهذه جهود كبيرة ومتصلة ومرتبطة بآليات دراسة النزاع على الأرض، ولكنها تحتاج إلى محاولة ربط لفهمها في إطار التكامل فيما بينها.

السؤال حول الموقع العربي بخلاف “الجزيرة” والجهد الذي عرضته الأستاذة سمر دويدار، أجد صعوبة في رصد جهود عربية وإسلامية مؤسسية (غير فلسطينية). فحتى “المركز العربي” (الذي لديه مشروع “ذاكرة فلسطين”) لم يشتبك بالطريقة التفصيلية التوثيقية مع ما يحدث في غزة. وكذلك يغيب الجهد التوثيقي لكثير من المنظمات العربية والإسلامية، مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وأجهزتها البحثية.

وهذا يقودنا لتساؤل ختامي: القضية الفلسطينية قضية مَن؟ من هم أصحاب القضية الآن ومن المعنيُّون بها؟ وكيف يتمُّ التحرُّك فيها؟

مداخلة د. مجدي سعيد: أهمية التوثيق القطاعي والمؤسَّسي

أودُّ التأكيد على محورية مسألة التوثيق بجوانبها المختلفة، نظرًا لأن العامين الماضيين من الحرب شهدا جوانب عديدة تتطلَّب التوثيق، وقد كان لي حظ المشاركة في بعض هذه الجهود:

  1. تجربة “يوميات جراح في غزة”: في عام 2024، وخلال تعاوني مع “الرابطة الدولية للمهن الطبية”، وهي مؤسسة غير ربحية مسجلة في بريطانيا- قمنا بتوثيق شهادة الدكتور “أحمد مفيد المخللاتي”، وأصدرنا كتابًا بعنوان يوميات جراح في غزة، وتُرجمللإنجليزية والبنغالية. والدكتور أحمد هو جراح تجميل من غزة (والده رحمه الله الدكتور مفيد المخللاتي كان وزير الصحة الأسبق)، ويحمل الجنسية الأيرلندية، وكان متواجدًا في غزة قبل الحرب بثمانية أشهر. الكتاب يوثق شهادته على بدايات الحرب في مستشفى الشفاء، والمستشفى الأوروبي، والمستشفى الميداني الأمريكي. كما يعقد مقارنة بين وضع المنظومة الصحية التي وصل إليها القطاع قبل الحرب (والجهود التي بُذلت لبنائها) وبين ما آلت إليه.

طبعًا هذا التوثيق توقف عند نوفمبر الماضي (منذ عام تقريبًا)، وبالتأكيد تغيَّرت الأرقام والمشهد بشكل كبير، ولم تكن غزة وقتها قد شهدت المجاعة التي تلتْ ذلك.

  •  توثيق سياسة التجويع: كما شاركت منذ أسبوعين تقريبًا مع مبادرة Human Health Hub  (التي قام بها عدد من الأطباء) في مؤتمر لتوثيق وتقييم الآثار المختلفة للحرب، وتحديدًا استخدام التجويع كأداة للإبادة والحرب على البشر.

أذكر هذه الأمثلة للتأكيد على أن عمق واتساع حرب الإبادة في غزة يحتاج إلى جهود توثيق في مجالات قطاعية مختلفة وبصيغ متعددة. هناك جهود شبابية عربية وإسلامية عالمية ضخمة، وقد أظهرت الورقة التي عرضها الأستاذ أحمد خليفة جزءًا كبيرًا منها.

نحن بحاجة لتكثيف وتنويع هذه الجهود لتشمل:

  • القطاع التعليمي في غزة.
  • قطاع الصحافة والصحفيين الذين تعرضوا أيضًا لشبه إبادة.
  • القطاع الصحي يحتاج لاستكمال التوثيق لما حدث بعد نوفمبر الماضي.
  • ملف المجاعة واستخدامها كسلاح.

بالإضافة إلى القصص الشخصية التي تجمعها الأستاذة سمر دويدار. كل هذه الجهود تحتاج أن تُكتب وتُوثق وتُنشر بلغات مختلفة. وهذا يتطلَّب جهدًا مؤسَّسِيًّا كبيرًا لتبقى الذاكرة حية وموجودة، وحتى لا تندثر أو يتم محوها والالتفاف عليها عبر الهجمة المرتدَّة.

مداخلة د. مدحت ماهر: المقاومة والقتال كأداة لمواجهة الإبادة

إن جزءًا كبيرًا جدًّا من كلامنا حول مواجهة أو ملاحقة هذه الإبادة والمجرمين، متعلق بنا نحن. ونحن بين السعي (كما رأينا في جهود الدكتور مجدي سعيد والأستاذة سمر دويدار، والمساعي الأخرى التي أشار إليها أحمد خليفة) وبين الوعي (الذي هو مجال عمل أساسي بالنسبة لنا). وأحتاج هنا أن نوجِّه الوعي إلى سؤال: كيف نواجه هذه الإبادة عمليًّا (بالمعنى المباشر)؟

أقصد هنا الحديث عن فكرة “القتال”، وعن “الجهاد”، وعن “المقاومة” (بالمعنى القتالي الجهادي). لا فرق بين الجهود المحيطة والجهود المباشرة. ولكن العودة بالوعي إلى أهمية الجهاد والقتال والمقاومة بهذا المعنى، هي نقطة مهمَّة.

ومهمٌّ أن نبشِّر بها، لماذا؟ لأن مسألة “القتل” (كما أشار الأستاذ هشام جعفر في كلمته) وكما في تعاليمنا بيَّنت أن “قتل النفس الواحدة يساوي قتل الناس جميعًا” كما جاء في آية سورة المائدة: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).

ثمَّ استكمال الآية (ولَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). هؤلاء “المسرفون” هم بنو إسرائيل (طبعًا مع الاختلاف أو السجال البسيط الذي أثاره الدكتور المسيري رحمه الله حول امتداد يهود الآن والصهيونية عن يهود الأمس… هذه قصة مهمَّة).

الشاهد أن أصولَنا الفكرية والمعرفية الأساسية (وعلى رأسها القرآن الكريم) تقول إن القتل موجود كبذرة في الإنسان، أو هو مشروع خَلْق (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ…) [البقرة: 31]. فبمجرد وجود الإنسان على الأرض، إذا به يقتل. فالآية التي ذكرناها (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ…) هي أصلًا تعقيب على قصة ابني آدم (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا…)،(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ]المائدة: 27 – 33[. النفس البشرية مركَّبة لدرجة أنه نَدِمَ حينها، أو أصبح من الخاسرين، ووجد نفسه حائرًا، فأصابه الندم.

القتل بعد ذلك في التاريخ البشري (كما يعرضه أوثق الوثائق وهو القرآن الكريم) موجود وشائع جدًّا. ومن ثم، فالسؤال الأساسي هو: كيف يفعل الذين لا يريدون القتل ولا يريدون أن يجعلوه شريعة، مع أولئك الذين يمارسون القتل ويعتبرونه وظيفة من وظائف الحياة أو مهنة لهم؟

الآية التي تلي الآية السابقة خطيرة ومهمَّة جدًّا: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا…) [المائدة: 33]. هؤلاء هم “قطاع طريق الحياة”، الذين يستبيحون الاعتداء والعدوان على الأعراض والأموال والدماء. سماهم الله عز وجل “الذين يحاربون الله ورسوله” (وهذا أعظم من محاربة الناس جميعًا). ولنتذكَّر أن الأمَّة التي نتحدَّث عنها كانت محترفة قتل (قتلة الأنبياء)، فهي ليست أمة “قاتلة عادية”، بل أمة ذات بنية فكرية ومعنوية “عفنة” ومختلفة.

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 33].

هناك طريقة لمواجهة هؤلاء الذين يقتلون بمنتهى البرود، بطريقة تشبه أصحاب الأخدود (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ) [البروج: 6]. نريد أن نتصوَّر (كما ذكر الأستاذ هشام جعفر) الجانب النفسي والاجتماعي والمعرفي عندهم. هؤلاء المرتكبون للإبادة يقتلون بدم بارد، والعالم يصرخ، وهم يصرُّون لمدة 400 يوم… النفسية القاتلة فيها راسخة.

فهل سينفع فيها الأصوات فقط؟ (طبعًا كل ما نقوله مفيد، والقاعدة النبوية تقول “لا تحقرن من المعروف شيئًا”. ولكن الأداة المركزية في مواجهة الإبادة هي القتال؛ هي قتل القاتل. (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ”، و”جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا). ومن عفا، هذا بعد المقدرة، قصة أخرى. لكن طالما أنا ضعيف، فينبغي أن أفكر في أن أكون قويًّا ومقاوِمًا.

بالإضافة لجهود فضْح الإبادة وتفكيكها واستعادة الروح الإنسانية (واستثمار الحالة التي أشار إليها أ. أحمد نبيل ود. عبد الرحمن رشدان في الغرب وغيره من صحوة الضمير)، كل هذا مهمٌّ جدًّا. لكن الجهد الرئيسي يجب أن يتركَّز على دعم وتعزيز مقاومة الإبادة (بالمعنى الذي قدَّمته غزة لمدة سنتين)، وإخراجها إلى أفق أقوى، وإخراجها من حالة التواطؤ والخذلان المحيطة بها.

أقصد أنه بالإضافة إلى “تثوير العلوم السياسية” لتستوعب هذه الحالة (كما ذكر أ. عبد الرحمن عادل)، يجب أيضًا “تثوير العلوم السياسية والوعي العام” باتجاه امتلاك القوة والاستعداد لقتل القاتل.

وقد نظرت في الأصول، فوجدت حادثة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب (من باب قتل نفس واحدة)، جاءته قضية: خمسة أو سبعة “تمالؤوا” (اجتمعوا) على قتل شاب في صنعاء. فقال جملته المشهورة التي لها مقام كبير في الفقه (عند المالكية وغيرهم): “لو تمالَأَ عليه أهلُ صنعاء لقتلتُهم جميعًا”. هذا المعنى عكس الإبادة؛ هو أن القتل يقتضي أن كل من شارك فيه لا بد أن يعاقب بالعقوبة التي يستحقها، ولو كانت العقوبةُ قتلَ أهل مدينة كاملة.

الشاهد أنَّنا محتاجون أن نضيف إلى هذه الأفكار المدنية المهمَّة جدًّا، فكرة استراتيجية وعسكرية في قلب عالم السياسة والإنسانية، وهي: مقاتلة القاتلين وقتلهم. هذه الفكرة لها مقدِّمات في أصولنا التاريخية: لم نستطع أن نهزم المغول إلا بقتالهم، ولم نستطع أن نعيد الصليبيِّين إلى مكانهم إلَّا بالقتال (رغم التعارف والود الذي قد يحدث في فترات). ولم نستطع أن نخرج المستعمر من أرضنا إلَّا بعد دماء. هذا العنصر مهمٌّ جدًّا، والتوعية والتربية عليه من صميم مواجهة الإبادة الإنسانية بشكل طبيعي.

المحور الرابع- في محصلة النقاش: ما العمل؟

التعقيب الختامي للأستاذ هشام جعفر

لقد تَعَلَّمْتُ الكثير من مداخلاتكم القيمة، واستفدتُ منها في إثراء تفكيري حول الموضوع. لكنني أود لفت النظر إلى مسألة عملية: كيف يمكن تحويل هذا الجهد إلى خطوات تنفيذية قابلة للتحقق (سواء كجهد علمي أو بحثي)؟

لقد اتسع نطاق الموضوعات وتشعب كثيرًا، وقد حاولتُ في الجزء الأخير من ورقتي تحديد بعض النقاط البحثية لضبط هذا التشعب؛ وهذه نقطة إجرائية.

أما على المستوى الموضوعي، فهناك نقطتان تحتاجان إلى تفكير:

أولًا- العلاقة بين “المنظور الحضاري” و”دراسات الإبادة الجماعية”: قد يبدو في بعض الأحيان أن ثمة تناقضًا بينهما، أو يتسرَّب هذا الشعور إلينا. لكنني أتصوَّر أن التحدِّي الأساسي يكْمن في التكامل؛ فكما ذكرت الدكتورة أميرة أبو سمرة أن المنظور الحضاري يمكن أن يُثري دراسات الإبادة، فإنني أرى أيضًا أن دراسات الإبادة يمكن أن تُثري المنظور الحضاري.

وهذا يرتبط بحديث الأستاذ عبد الرحمن عادل حول “تثوير المنظورات العلمية”. فبصفتي طالبًا للعلوم السياسية، أرى أن هناك فجوات كبيرة فيما يتعلَّق بفهم ودراسة “العنف المتولِّد” (سواء من السلطات الديكتاتورية أو غيرها). إذ لا توجد مداخل كافية لإبراز عمق هذه المسألة. ومن المستغرب عدم وجود مقرر دراسي متخصِّص في “دراسات الحرب” (ليس بالمعنى الجيوسياسي التقليدي، بل بمعنى كيفية إنتاج الحرب للعنف). وقد أشرتم إلى مسألة التكنولوجيا وتطورها، وهي مسألة جوهرية.

ثانيًا- مركزية “الإبادة” كمدخل تحليلي وهذا ينقلني لنقطة أخرى، حيث أختلف قليلًا مع طرح الدكتورة أميرة أبو سمرة؛ إذ أرى ضرورة حصر الموضوع في “الإبادة” والتركيز عليه (بدلًا من توسيعه ليشمل الجرائم ضد الإنسانية عامة). فالتركيز على الإبادة يمثل نقلة نوعية تساعدنا على إدراك البنى والهياكل والسرديات والأيديولوجيات الجديدة التي تُنتج هذا العنف وتنقله نقلات كبيرة.

لذا، من المهم النظر في الإطار التاريخي والمقارن، دون افتعال تناقض بين المنظور الحضاري والمناظير الأخرى.

لقد شهدنا تطبيع العنف وبنية الدولة الحديثة، فمنذ الربيع العربي على الأقل، هناك حجم هائل من العنف الذي جرى “التطبيع” معه. قد يفسر هذا جزءًا من حساسيتنا العالية تجاه غزة، لكنه لا يفسِّر لماذا لم نكن بنفس الحساسية تجاه السودان أو سوريا (رغم فظاعة ما حدث هناك). الأمر لا يتعلق فقط بكون الجاني يهوديًّا أو إسرائيليًّا؛ بل هناك بنية للعنف تتجاوز هذه الثنائيات وتعيد إنتاج نفسها بأشكال مختلفة.

لا يوجد لدينا مقرَّر دراسي حول “الإبادة الجماعية وعنف الدولة”. وأنا أدرك جيدًا معنى مصطلحات مثل “التحكم في الغذاء” (المطبق في غزة منذ 2006). هناك بنية في الدولة الحديثة تعيد إنتاج القمع، وقد رصدتُ مبكرًا وجود “فائض في القمع” (كما حدث في مواجهة حراك الجيل Z في المغرب مقارنة بحراك 2011).

هذا التطور مرتبط ببنية السلطة وطبيعة النظام النيوليبرالي السائد في المنطقة، وتشابكاته الاقتصادية والسياسية (الإقليمية والدولية). وهنا نستحضر أطروحات “نانسي فريزر” حول أطر العدالة “ما بعد وستفاليا”، وأهمية إدراك الظلم متعدد الطبقات. ومن ثمَّ الحاجة إلى “سرديات مركبة” وإلى مناظير تثري نقاشنا لنكون بإزاء “سرديات مركبة” (وليست متناقضة)، تقدم مداخل مختلفة (من أبواب متفرقة) تسمح بإدراك متعدد المستويات لما يحدث؛ لأن هذا هو مستقبلنا الإنساني المشترك، ولا أحد محصَّن ضدَّه.

ولذا فإنه يجب التركيز على مدخل “الإبادة” لا توسيعه. وطرح أسئلة أخرى حوله هي: كيف ندير النقاش المؤسسي حول هذا الموضوع؟ وكيف ننتج مستويات مركبة للتحليل؟

كما أحذر من حصر الموضوع في إطار (يهود / مسلمين) أو (فلسطينيين / إسرائيليين) فقط، مع إدراكي التام لطبيعة المشروع الصهيوني الاستيطاني. يجب أن نرى البنى التي تجاوزت هذا، والظواهر المتشابهة (مثل صعود الهويات وانهيار النظام القائم).

نحن بحاجة لوضع الموضوع في سياق أوسع يتعلق بأزمة النظام النيوليبرالي وتحول الدولة القومية إلى “دولة حضارية”، ومسألة العنف المتولِّد من بنى تُستخدم ضد البشر كافة. هذا العنف ليس عابرًا للحدود فحسب، بل هو “متشابك” عبر الحدود.

الكلمة الختامية: أ. د. نادية مصطفى

في الحقيقة، لقد تابعت اللقاء بدقة، وسعدتُ بمدخلات السادة الحضور، وتعقيباتهم، وخاصة التعقيب الأخير للأستاذ هشام جعفر.

وأتفق معه في معظم ما جاء فيه، لكن لا أشاركه الرأي في قوله إن “دراسات الإبادة قد تثري المنظور الحضاري”، ما يوحي بالنقص في المنظور الحضاري. نعم، هي قد تثري المنظور الحضاري مما لا شك فيه، ولكن من زاوية كونها تقدم لنا حالة دراسية أخرى نُفَعِّلُ ونطبِّق فيها هذا المنظور من أجل تغيير عالمي إنساني (وفي قلبه تغييرنا نحن).

إن منظور دراسة الإبادة لا يتناقض مع المنظور الحضاري. إذ بدا من كلامه كما لو كان يعتقد أن المنظور الحضاري يتناقض مع دراسات الإبادة كما طرحها هو (حيث طرح منظورًا نُظُمِيًّا شاملًا يتحدَّث عن البنى العالمية الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والفكرية التي تحكم الواقع). وهذا لا خلاف عليه.

إن من يقرأ جيدًا المنظور الحضاري، ويعرف نتائج ومنطلقات أعماله عبر 30 عامًا، يدرك أن المنظور الحضاري ليس منظورًا مثاليًّا نظريًّا كليًّا غير مرتبط بالواقع. وذلك انطلاقًا من أمرين:

  1. إن المنظور الحضاري الذي نقدِّمه ليس منعزلًا ولا بديلًا ولا ناقدًا رافضًا لكل المنظورات الأخرى، بل يشتبك معها دائمًا في جدالات ونقاشات ومقارنات (نظريًّا وواقعيًّا).
  2. إن هذه الحلقة، من بدايتها حتى نهايتها، حقَّقت تراكمًا هامًّا يوضِّح هذا الأمر.

مستويات الحلقة الثلاثة (المتراكمة والمتحاضنة)

فيما يلي سأذكر مسار الحلقة كما تعايشت معه، وكما استمعت إلى جزئيَّاته التي شكَّلت تصوُّرًا معيَّنًا عندي:

أبدأ من مقولة “الجدل بين أهل العلم وأهل الفكر والحركة”. هذه الحلقة ترجمة واضحة لهذا الجدل والتحاضن؛ فكلٌّ يغذي الآخر. أهل العلم إن انطلقوا من مثاليات قدَّموا فلسفات وليس علمًا، وأهل الحركة إن لم يرتكزوا على أسس علمية واعية بالمنظورات الأخرى فلن تكون حركتهم مثمرة.

ولذا أجد أن هناك ثلاثة مستويات في هذه الحلقة، أعتقد أنها متراكمة ومُنجدلة ببعضها:

المستوى الأول: الإطار النظمي الشامل

هو الذي استمتعنا فيه بعرض الأستاذ هشام جعفر. أسميه “الإطار النظمي الشامل للظاهرة”، لأنه يركز على “البنى الهيكلية” للنظام العالمي (اقتصاد، تكنولوجيا، حروب، عنف) التي تفرز هذه الظاهرة وتزيد من وحشيتها وتهدد بها الإنسانية جمعاء. استدعى غزة أحيانًا، لكنه لم يجعلها المنطلق. وهذا إطار مهم جدًّا لأنه يركز على الخصائص المادية الاستراتيجية للواقع الدولي. وهذا أمر لا ينكره المنظور الحضاري (فقه الواقع بعناصره المادية). ولكن هناك منظورات أخرى تُدخل الحضارات والأديان والهويات في فهم هذه الموضوعات، والمنظور الحضاري يحاول الجمع بين الجانبين (المادي والقيمي).

المستوى الثاني: خصوصية غزة والحركة

هو المستوى الذي تقع فيه معظم المداخلات التي تنطلق من غزة وتسكنها في إطار أوسع (مقارنات، خصوصيات، تحذيرات). وينقسم إلى فرعين:

  • الفرع الأول (الهجمة المضادة والقيود): حذر من وجود هجمة مرتدة (كما ذكر الأستاذ أحمد نبيل). وأن الواقع الدولي لا يفرض الإبادة فحسب، بل يضع قيودًا كثيرة أمام مقاومتها وعقاب مرتكبيها في ظل توزيع القوة العالمية الراهن.
  • الفرع الثاني (استراتيجيات التصدِّي): تتحدِّث عن آليات التصدِّي للإبادة (وهذا صلب العنوان). ابتداءً من خبرة الأستاذة سمر دويدار العائلية، وخريطة الجهود للأستاذ أحمد خليفة، وخبرات الدكتور مجدي سعيد.

وأهم نقطة هنا أشارت إليها الأستاذة داليا يوسف (واستقرَّت في ذهني بقوة): يجب ألا نجعل المركزية الأوروبية في تحديد “الإبادة المثلى” (الهولوكوست) هي المعيار، لأن ذلك يجعل إسرائيل (أو اليهود) هم الضحية الدائمة. نحن نحاول القول إن إسرائيل هي “المجرم المحتل”، وهي في هجمتها المرتدَّة تريد إعادة سرديَّة أنها “الضحية” التي تدافع عن نفسها.

المستوى الثالث: أهل العلم والتحول المعرفي

شارك فيه أ. عبد الرحمن عادل، د. أميرة أبو سمرة، ود. مدحت مهر، والأستاذ هشام جعفر في تعليقه في هذا المستوى الذي يركِّز على: ماذا يمكن لأهل العلم أن يقدِّموا تحديدًافي مجالات العلوم الاجتماعية (والسياسية خاصة) التي تتعرَّض لتحولات معرفية، وهناك حاجة لـ “تثوير” هذه الحالة. “حالة غزة” تقدِّم حالة كاشفة لأهمية هذا الأمر أمام العلوم السياسية العربية الذي يقع بين ثنائية إما التغيير وإما الجمود.

وهنا نستعيد ما قالته الدكتورة أميرة عن “استعادة مركزية الإنسان”. هذا هو جوهر الاتجاهات النقدية والمنظور الحضاري. ولكن تختلف المرجعيات في الإجابة عن “ماهية هذا الإنسان”. وهنا تظل المقاربة قائمة بين المنظور الحضاري الإسلامي والمنظورات الأخرى.

إشكاليات التغيير والقوة

إدانة الإبادة وعقاب إسرائيل لن ينهي المشكلة؛ لأن الساحة الإنسانية الشاملة المعارضة لما يحدث (التي أصبحت عابرة للحدود) ليست من منطلقات واحدة. هناك يسار يرفض الرأسمالية، وهناك من يخرج ضد العنصرية، أو بسبب الهجرة، أو الفقر؛ فالمداخل مختلفة والمصالح مختلفة. وهذا مهم لنبحث عن القاسم المشترك ونبني عليه، مع الوضوح بشأن الفروقات.

أمَّا فيما يخصُّ “القوة” في إدارة العلاقات الدولية: قيل لنا عبر 100 سنة “عليكم بالقانون الدولي”. فتبين أن القانون الدولي (كما قالت د. أميرة أبو سمرة) أضحى “لا قانون”، وأن الدول الكبرى هي المنتهِكة له. إذن، لا بد من وجود قوة. وهذه القوة لها صورتين:

  • قوة تفرزها البنى العالمية الوحشية (المعارك الصفرية).
  • وقوة أخرى تحمل حقوقًا وتحمي الإنسانية وتريد إحداث تغيير عالمي نحو العدالة.

يجب أن نعرف أين نقف، وما مرجعية من يتكلم؟ لا نعادي ولا نضاد، ولكن نقارن ونتفاعل. وفي قلب هذا كله، لا ننسى أن قضيتنا الأساسية هي فلسطين والقدس وتحرير شعوبنا من الاستبداد والفساد. إذا لم نفعل هذا، ستصبح مشاركتنا مع التيارات العالمية شكلية.

الحاجة إلى العمل المؤسسي وتوحيد السردية

ما استمعت إليه من د. مجدي سعيد وأ. سمر دويدار وأ. داليا يوسف وأ. أحمد نبيل: يشير إلى أن إسرائيل نظَّمت هجمة مضادة تمتلك أدواتها المؤسسية (المالية والتكنولوجية والاتصالية). ونحن نتحدث عن جهود جزئية مهمَّة في ملاحقة الإبادة. ولكن أسمع من الجميع كلمة واحدة: نحتاج إلى مؤسسات أكبر وأكثر فاعلية لتستطيع أن تجمع خيوط كل هذا وتقدِّمه بصورة جماعية مكثفة، وإلا سيظل كل منا يعمل على ثغر منفردًا.

فنحن لا نحتاج فقط إلى التمويل والمتطوعين، بل الأهم هو أن نتفق على “السرديات” (أو الإطار الفكري) الذي نقدِّم في ظلِّه هذه الجهود. كيف نصنِّفها؟ كيف نوثِّقها؟ لمن نوجِّهها؟ هذا أمر مهمٌّ جدًّا لا يقلِّل من الجهود الفردية، بل يجمعها.

ملخص ختامي (د. مدحت ماهر):

شكرًا للجميع على مداخلاتهم وتعقيباتهم. وإذا أمكنني تلخيص اتجاهات النقاش بين نقاط اتفاق واختلاف بين الحضور في نقاط موجزة فسأوردها وفقًا لما يلي:

  • نقاط الاتفاق والالتقاء:
  • الاتفاق على الأهمية: اتفقنا جميعًا منذ بداية الدعوة على أهمية الموضوع، ولم يتخلَّف أحد رغم المشاغل.
  • تسكين الإبادة: اتفقنا على أهمية تسكين “الإبادة الصهيونية في غزة” في دوائرها المختلفة (القيمية، العلمية، العملية، الحاضر والمستقبل، الذاكرة)، وأن الرؤية الأوسع هي الأقوى في التعامل مع القضية.
  • مفهوم الإبادة: توقفنا عند المفهوم وأهمية أن يتَّسع مضمونه بقدر ما رأيناه وعايشناه، فلا يقتصر على القتل الجماعي بل يشمل المعاني التخريبية كافة.
  • المستوى الشعبي والمدني: كاد الاتفاق ينعقد على أهمية تجاوز المستوى الرسمي والتعويل على الشعوب والمجتمع المدني، وإن أشار البعض إلى أن المستوى الرسمي لا يزال بحاجة للمواجهة لا التجاوز فقط.
  • المقترحات العملية: طُرحت أفكار مهمَّة مثل انضمام الشعوب للدعاوى الدولية، توسيع الاتهام ليشمل كل المشاركين، ومقاطعة المجرمين، وإنشاء محكمة خاصة بغزة، وإعداد أدلَّة إرشادية قانونية، ومشروع بحثي يعيد وصف العالم من منظور ما جرى في غزة.
  • نقاط الاختلاف والتنوع:
    • المفهوم: اختلفنا حول المفهوم الأوْلى بالاستعمال؛ هل هو “ما فوق الإبادة”، أم “جريمة ضد الإنسانية” (بمعنى ضد البشرية جمعاء)، أم نتمسَّك بمفهوم “الإبادة” كرأس حربة؟
    • تعايش العالم: هل يتعايش العالم مع الإبادة (كعادته)، أم أن غزة أحدثت صدمة وانقلابًا في الوعي الغربي ومواجهة بين الدول القوية وشعوبها؟
    • ما يميز غزة: هل هي امتداد لما سبق؟ أم تتميز بسبب التكنولوجيا، التوثيق اليومي، المواقف الدولية المنكشفة، والصمود الأسطوري؟
    • ما بعد غزة: هل نحن في حالة نكوص عن مفاهيم “الأمن الإنساني” وانهيار للقانون الدولي؟ أم في حالة إيجابية من “أنسنة القضية الفلسطينية”؟

وفي الأخير، أرجو أن تكون الثمرة الأساسية هي إدراك أن هذه قضية كبرى تتمثل فيها إنسانيتنا وعلمنا وعملنا. ولكن سيظل السؤال الكبير “ماذا بعد هذا اللقاء؟”، وسنترك هذا السؤال معنا حتى حين.


[1]  تُعد هذه هي الحلقة النقاشية الثانية التي يعقدها المركز حول ما يحدث في غزة، حيث عُقدت الحلقة الأولى بتاريخ 9 نوفمبر 2024، ونُشرت تقاريرها وأعمالها على موقع المركز، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/g4pUg

[2] هشام جعفر، الإبادة الجماعية في غزة والقبول بها: محاولة ضرورية للفهم والتفسير، 15 أكتوبر 2025، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/8duTu

[3] للمزيد بشأن المبادرة يمكنكم زيارة الموقع الخاص بها: www.palestinianstories.com

[4] للمزيد بشأن هذا النموذج، انظر: https://palestinianstories.com/massage-details/713

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى