القضاء واستقلاله بين ثلاثة عهود

مقدمة

عبر التاريخ وفي جميع أنحاء العالم ثمة العديد من النماذج المختلفة للأنظمة القضائية، واختلافها نابع من أنها نتاج تطور المعايير الخاصة بالنظم القانونية الخاصة بكل إقليم وتاريخه، هذه المعايير لا تحدِّد فقط شكل النظم القضائية بل أيضًا تشكِّل مفاهيم “الاستقلال” و”الحياد” وغيرها مما يرتبط جذريًّا بالعمل القضائي، وتحدِّد نطاقاتها الذهنية والنفسية.

وإن مفهومي الاستقلال والحياد لا يعني مجرد حالة من التحرُّر أو التعقُّل أثناء ممارسة المهام القضائية، بل تتشكَّل معانيها من وضع القاضي من الآخرين وعلاقته بهم، فالاستقلال والحياد يرتبطان بشروط وضمانات موضوعية لا مجرد الحالة النفسية أو الذهنية.

إن أي ذكر لاستقلال القضاء يجب أن يطرح ابتداءً السؤال: مستقل عن ماذا؟ ولماذا؟

الأكثر وضوحًا، هو الاستقلال عن النظام السياسي للدولة وفي القلب منه السلطة التنفيذية، وقد يتبادر إلى الذهن أن مناط الاستقلال عملية صنع القرار أو الحكم، والتي عبَّر عنها إعلان الأمم المتحدة بشأن المبادئ الأساسية لاستقلال القضاء عام ١٩٨٥ بأنه: “القضاء في المسائل المعروضة بنزاهة، على أساس الوقائع ووفقًا للقانون دون أي قيود أو تأثيرات أو حوافز أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة، من أي جهة أو لأي سبب”.

بالطبع هذا هو الجزء الأهم من مفهوم الاستقلال، لكن الاستقلال يشمل أيضًا الاستقلال في الرأي، فيجب ألا يتأخر القضاة عن التعبير عن رأيهم فيما يخص القانون الذي هو أداة عملهم على مستويات احترامه وتطبيقه ومراقبته، وألا يريدوا بذلك الحصول على استحسان أي سلطة أو جهة.

إن الجمهور لا يمكن أن يضع الثقة في القضاة إلا إذا كان لديهم من الرصيد الاجتماعي والصفات الأساسية التي تناسبهم في الحكم. في الأزمنة القديمة، كانت السلطات القضائية تمارَس في المقام الأول من قبل رؤساء القرى أو مجموعات من المحكَّمين بمساعدة من كبار السن، فهؤلاء القضاة لم يُعيَّنوا أو يُنتَخبوا، لكنهم وصلوا إلى مناصبهم من خلال نوع من الرضا المشترك أو الثقة المشتركة، بناءً على احترام المجتمع الذي ينتمون إليه.

وفي الدولة الحديثة ذاتها يُمكن القول إن القضاة، سواء عُيِّنوا من قبل الدولة أو حتى انتُخبوا في الدول التي تسنُّ ذلك الطريق لاختيارهم، كانوا أشخاصًا اكتسبوا ثقة الجمهور أيضًا بسبب تعلُّمهم القانوني وخبرة عملهم وأحيانًا الحكمة وحسن السلوك المفترضين، لكن الأهم هو استقلالهم عن كل سلطة، فهذا الاستقلال هو الذي يميزهم عن فئات كثيرة أخرى لديها المعرفة القانونية وتمارس أعمالًا قانونية من طبيعة أخرى.

إن أفضل نظام قضائي مبني على الورق ليس مضمونًا لإنتاج الشرعية والثقة التي تأتي من تصوُّر المتقاضين لنزاهته، لأن الثقة تأتي من الممارسة الفعلية أكثر ممَّا تأتي من المتطلبات النصية، والممارسة الفعلية أيضًا هي التي تشكِّل صورة الاستقلال والحياد القضائي وتحدِّد مفاهيمها لدى الجماعة الإنسانية.

في تاريخ القضاء المصري الحديث، بشكل مقصود أو غير مقصود، تعدَّدت الهياكل القضائية للجهاز القضائي ومع تعدُّدها كثرت المناصب وتباينت أهميَّتها، واقتُسمت السلطات بينها، أحيانًا عبر توزيع السلطة الموجودة فعلًا، وأحيانًا من خلال تخليق سلطات جديدة بناء على قوانين أو لوائح أو ممارسة فعلية وأعراف[1]، هذا الوضع الإداري للجهاز القضائي ساهم بشكل كبير في تهديد كل ضمان يحصن المنظومة القضائية من التدخُّل السياسي، كما ساهم بشكل أكبر في وأْد كلِّ محاولة للإصلاح من الداخل من خلال ما عُرف بتيار استقلال القضاء أو حتى من الخارج في فترات قليلة نادرة في التاريخ المصري الحديث آخرها الفترة التي أعقبت الثورة المصرية وتولِّي د. محمد مرسي الرئاسة.

إلا أن هذه الحالة للجهاز القضائي ساهمت أيضًا في إذكاء الصراع بين القضاة والسلطة في فترات كثيرة، بغضِّ النظر عن نطاق الصراع ومحوره من ناحية، وبغضِّ النظر عن مآلات هذا الصراع من ناحية أخرى، والملاحظ تاريخيًّا أن معارك استقلال القضاة ضدَّ السلطة خِيضت من قِبل قضاة المحاكم العادية على وجه الخصوص، لا النيابة العامة ولا النيابة الإدارية ولا مجلس الدولة إلا نادرًا، وبالطبع لا هيئة قضايا الدولة التي اعتبر أعضاؤها في الأصل ممثِّلين عن الدولة.

وقد حفل التاريخ المصري الحديث بمواقف صدامية بين القضاة والحكومة ارتبطت بحماية الحريات وحفظ الحرمات من كل حيف وجور واعتداء يقع من السلطة التنفيذية، وهذا من صميم عمل القضاة، ولم يكن يومًا تدخُّلًا في عمل السلطة التنفيذية أو انشغالًا بالسياسة التي يُحَرِّم القانون الاشتغال بها، والسوابق التي سنذكرها ستكشف وبلا ريب عن أن عددًا من القضاة لم يكونوا يومًا بمعزلٍ عما يحدث في البلاد، إذ رأوا أن إقامة العدل في وجه السلطة المتعسِّفة لا يقلُّ بحال من الأحوال عن إقامة العدل فوق منصَّة القضاء، وهذا هو ضامن قيام دولة القانون واستمرارها، كما يقول Richard W. Story أحد كبار قضاة الولايات المتحدة الأمريكية: “لا توجد في الحكومات البشرية سوى قوتين ضابطتين: قوة السلاح، وقوة القوانين، وإذا لم يتولَّ قوةَ القوانين قضاةٌ فوق الخوف وفوق كل ملامة، فإن قوة السلاح هي التي ستسود حتمًا، وبذلك تؤدِّي إلى سيطرة النظم العسكرية على المدنية”[2].

يقول د. فاروق عبد البر في مؤلَّفه القيِّم عن “دور مجلس الدولة في حماية الحقوق والحريات” عن مثل هذا النوع من القضاة الذين يعبِّر عنهم بـ”قضاة الحقوق والحريات”: “ثمة صفات خاصة يلزم توافرها في القاضي الذى يتصدَّى لقضايا الحقوق والحريات العامة. هذه الصفات تتمثَّل في الشجاعة والصلابة، التمتُّع بأقصى درجات النزاهة والاستقلال والإنصاف، الثقافة، المرونة وحسن التقدير، وبالإضافة إلى الصفات الخاصة سالفة الذكر فإن هناك صفات عامة يلزم توافرها في قاضي الحريات -كما يلزم توافرها في أي قاضٍ ممتاز- مثل: الخُلق الرفيع، العلم، المنطق السليم، والذهن المرتَّب، التميُّز في اللغة والأسلوب، والديمقراطية في الحوار القانوني، الصبر والجلد على العمل، ولا يكفي في قاضي الحقوق والحريات العامة العظيم أن يحوز الصفات السابقة كلها، بل يتعيَّن كذلك أن يكون صاحب رؤية شاملة لمشاكل وطنه، وصاحب موقف من حلِّها”.

أولًا- خلفية تاريخية حول حركة استقلال القضاء في ظل الملكية

  • نشأة فكرة استقلال القضاء بالمفهوم الحديث:

معلوم أن مصر كانت قد استقلَّت في كثير من شؤونها الإدارية عن الدولة العثمانية منذ وقت مبكر عن سائر البلاد العربية، وأنها وقعت بسبب ذلك أو لأسباب أخرى فريسة للفرنسيِّين والإنجليز، رغم الاعتراف بالسيادة العُليا للخلافة العثمانية عليها، وكان الاستعمار التشريعي سابقًا على الاستعمار العسكري وغيره من أوجه الاستعمار الثقافي، فقد فُرضت الأنظمة الفرنسية والإنجليزية في القانون والقضاء وتنظيم المحاكم، وظهرت المحاكم المختلطة إلى جانب المحاكم الأهلية بديلًا عن المحاكم الشرعية، وتأسَّست مدرسة الحقوق، إلى غير ذلك من تغييرات جذرية في نظم الفصل في منازعات الناس وأقضيتهم[3]، ومع هذه التغييرات ظهرت فكرة استقلال السلطة القضائية بشكل واضح وصريح، وراجت في الأوساط القضائية بشكل واسع[4]، وربما يكون انتقالها قد جاء مصاحبًا لإنشاء المحاكم المختلطة في نهاية عام ١٨٧٥ التي تكوَّنت في أغلب أحوالها من قضاة أجانب، بالإضافة لسيطرة العنصرين الفرنسي والإنجليزي على هيئة التدريس بمدرسة الحقوق التي أُنشئت عام ١٨٦٨ التي تحوَّلت بعد ذلك إلى كلية الحقوق عام ١٩٢٥ مع إنشاء الجامعة المصرية الأميرية.

والحدث الأهم في حركة استقلال القضاء خلال عهد الملكية هو إنشاء مجلس القضاء الأعلى لأول مرة في تاريخ القضاء العربي الحديث بالمرسوم بقانون رقم 31 لسنة 1936 بهدف الحدِّ ممَّا كان يتمتَّع به وزير العدل آنذاك من سلطات مطلقة في تعيين وترقية ونقل وندب القضاة، إذ استعمل عدد من الوزراء المتعاقبين هذه السلطة تحكُّمًا في القضاة ذوي الميول السياسية المعارضة، ممَّا مسَّ الثقة في استقلال القضاء والأحكام التي كانت تصدر في الدعاوى المهمَّة التي كانت لها صلة بالدولة، فرؤي إنشاء ذلك المجلس برئاسة وزير العدل وعضوية رئيس محكمة النقض ورئيس محكمة استئناف القاهرة ووكيل وزارة العدل والنائب العام، وأربعة بالانتخاب من مستشاري محكمة استئناف القاهرة.

لكن سقط هذا المرسوم بقانون لعدم عرضه على البرلمان عرضًا صحيحًا، وقدَّمت الحكومة في عام 1938 مشروع قانون آخر تعطَّل صدوره، فأصدر وزير العدل في ديسمبر من ذات العام قرارًا بإنشاء لجنة مؤقَّتة تختصُّ بإبداء الرأي في شؤون القضاة الإدارية، وحرصًا على جدِّيَّة أعمال هذه اللجنة وبُعْدًا بها عن الأهواء السياسية تقرَّرَ أن تكون اللجنة برئاسة رئيس محكمة النقض، وعضوية رئيسي محكمتي استئناف القاهرة وأسيوط، والنائب العام، ووكيل وزارة العدل، وثلاثة من مستشاري محكمة النقض تختارهم جمعيتها العمومية.

واستمرَّ العمل بهذا القرار حتى صدر قانون استقلال القضاء رقم 66 لسنة 1943 ونصَّ على إنشاء مجلس القضاء الأعلى برئاسة رئيس محكمة النقض وعضوية رئيس محكمة استئناف القاهرة، ورئيس محكمة القاهرة الابتدائية والوكيل الدائم لوزارة العدل، وحدَّد القانون اختصاصات المجلس.

  • موقف القضاة من فكرة الاستقلال:

من العسير أن نلمَّ في هذه الورقة -في سياق الخلفية التاريخية لموضوعها- بكل الوقائع المهمَّة التي ساهمت في تطوُّر فكرة استقلال القضاء، لا سيما مع شدة الصراع الثقافي في قضية التشريع والقضاء في هذه الفترة التاريخية المفصلية، التي شهدت عددًا من الثنائيات تضمَّنت كثيرًا من الأحداث التي يمكن اعتبارها مفيدة في القضية موضوع الورقة مثل: (الوطني / الغربي) (الشريعة / القانون) (الديني / السياسي).

لكن ممَّا يلزم التأكيد عليه أن مواقف القضاة التي تفاعلت مع فكرة استقلال القضاء، رغم أنها رائجة في مستويات عليا إلا أنها ظلَّتْ فردية في النهاية، ويمكن القول إنها لم تختزل فكرة الاستقلال بالاستقلال عن الحكومة أو الملك أو البرلمان فحسب، كما حدث لاحقًا في عهدي السادات ومبارك مثلًا، بل فُهمت فهمًا واسعًا فارتبطت في واقعها بما يمكن اعتباره من العمل النضالي أو السياسي المحض كالمقاومة.

يمكن أن نذكر من ذلك، مطالبة عبد العزيز باشا فهمي (1870-1949) -أول من وَلِيَ رئاسة محكمة النقض المصرية- الملك فؤاد أثناء حفل مرور خمسين عام على إنشاء المحاكم الأهلية في دار الأوبرا في نهاية ديسمبر 1933 بأن يكون القضاء مصريًّا خالصًا، وأن تتمتَّع الأمة المصرية بإدارة العدالة في ديارها بين أهلها أجمعين شأن سائر الدول المستقلَّة التي تُدير شؤون العدالة فيها، وهو ما كان يعني تصفية القضاء المختلط الذي كان يقوم عليه قضاة أجانب، مما أثار حفيظة وزير خارجية فرنسا وقرينه الإيطالي، فأعلنا في لقاء مع وزير الخارجية المصري بعدها بأيام قليلة استنكارهما لهذه الدعوة واعتراضهما على ما لاقتْه من استحسان وتصفيق حادٍّ عند إطلاقها وتخوُّفهما أن يكون قد قصد بها مهاجمة المحاكم المختلطة والدعوة إلى تصفيتها، وتصاعدت الأزمة حتى اضطرَّ رئيس الوزراء بعدها بعشرة أيام إلى التصريح في الصحف أنه لا محلَّ للانزعاج وأن الدعوة لم يقصد بها أيُّ اعتراض أو احتجاج وإنما كانت من قبيل المذاكرة الخاصَّة في هذا الشأن، أعقبه تصريحٌ مماثلٌ لوزير الخارجية في مجلس النواب![5].

ومن المواقف التي حسمها التاريخ لفهمي أيضًا أنه توجَّه يومًا بملابسه الرسمية قبل ذهابه إلى محل عمله لقصر الملك فؤاد بعابدين حيث مقر الحكم وطلب مقابلته على الفور، حيث قرأ في الصحف أن مجلس النواب في سبيله لمناقشه الميزانية المخصَّصة للقضاة ورواتبهم، وبالفعل التقى بالملك وأبلغه بأنه سيقوم بتقديم استقالته الفورية لأنه شعر بإهانة للسلك القضائي لا يمكن قبولها أو الصمت حيالها لأنه أمر مشين ويُسيء لاستقلال القضاء المصري.

ما يهم في الحادثة أن عبد العزيز فهمي بعدما توجَّه إلى محلِّ عمله بمحكمة الاستئناف، حيث كان رئيسًا لها وكان يُلقَّب وقتها بشيخ القضاة -قبل إنشاء محكمة النقض- وبعد أن أنهى عمله أثبت بمحاضر آخر جلسة أنه يتقدَّم باستقالته كرئيس لمحكمة النقض اعتراضًا منه على امتهان القضاء من جانب البرلمان في ذلك الوقت، ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد الذي أعلن فيه عن غضبه في محاضر الجلسات، بل سبقه قيامه بتوثيق اعتراضه على تعطيل أحكام مجلس الدولة في محاضر جلسات الدعاوى.

يُمكن أن نضيف إلى ذلك أحمد لطفي السيد (1872-1963) الذي كان وكيلًا للنائب العام ثم رئيسًا للنيابة العامة، حيث اشترك مع بعض القضاة والمهتمِّين بالشأن العام بإنشاء جمعية سرية أُطلق عليها جمعية (تحرير مصر)، وكانت مؤلَّفة من عبد العزيز فهمي وأحمد طلعت وحامد رضوان ومحمد بدر الدين والدكتور عبد الحليم حلمي، وكانت تعنَى بالحالة السياسية في مصر وما تعانيه من الاحتلال البريطاني.

وعندما اندلعت ثورة 1919 شارك القضاة في البيان الذي أصدرته لجنة مندوبي موظفي وزارات الحكومة ومصالحها، والذي قرَّرَ فيه الموقِّعون إعلان إضراب جميع الموظفين عن العمل في 12 أبريل 1919 حتى تُجاب مطالبهم وملخَّصها أن تصرِّح الوزارة بصفة الوفد الرسمية وأن تشكيلها لا يُفيد الاعتراف بالحماية وإلغاء الأحكام العرفية وسحب الجنود البريطانيِّين المسلَّحين من الشوارع والميادين والقرى وتفويض حفظ الأمن والنظام إلى رجال البوليس المصري، وكان من بين الموقِّعين: محمد عاطف بركات ناظر مدرسة القضاء الشرعي، ومحمد زكي الإبراشي وكيل نيابة الاستئناف، وسلامة ميخائيل المستشار بمحكمة الاستئناف، ومحمد حلمي عيسى مدير الإدارة القضائية بوزارة الحقانية، وعبد العظيم راشد وكيل النيابة بمحكمة مصر المختلطة، ومحمد لبيب عطية سكرتير عام النيابة العمومية[6].

  • التحول الذي أحدثه إنشاء نادي القضاة:

في 10 فبراير 1939 اجتمع تسعة وخمسون قاضيًا من قضاة المحاكم والنيابة العامة في مقرِّ محكمة استئناف مصر واتَّفقوا على تأسيس (نادي القضاة) الذي حدَّدوا هدفه بأنه “توثيق رابطة الإخاء والتضامن وتسهيل سُبل الاجتماع والتعارف بين جميع رجال القضاء الأهلي والمختلط”[7]، بينما كان الهدف الحقيقي من إنشاء النادي هو العمل على توحيد جهات الفصل بين الخصومات، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلال للقضاة المصريِّين.

فبينما كان القضاة في المحاكم المختلطة يتمتَّعون بقدرٍ كبيرٍ من الاستقلال، حُرم القضاة في المحاكم الأهلية من كل ضمانة، وظلَّ التمييز بين نوعي القضاة قائمًا حتى بعد العمل بدستور 1923 الذي نصَّ في المادة (124) منه على أن “القضاة مستقلون”[8].

وحقيقة، فإن التمييز بين القضاة فيما يخص استقلالهم كان أمرًا منطقيًّا نتيجة تعدُّد جهات التقاضي، فاستقلال القضاة لا يمكن بحال من الأحوال أن يتحقَّق إلا إذا اندمج القضاة في نظام قضائي موحَّد بصرف النظر عن نوع المسائل التي تتناولها الدوائر أو القوانين التي تطبَّق، فجهات القضاء لا ينبغي أن تتعدَّد بتعدُّد التشريعات أو بتنوُّع الخصومات.

ومن هنا وجد القضاة -لا سيما قضاة المحاكم الأهلية وبعض القضاة المصريِّين في المحاكم المختلطة- أنه لا مفرَّ من إنشاء نادٍ للقضاة تكون مهمَّته توحيد جهات التقاضي وتحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من الاستقلال للقضاة.

وجدير بالذكر أن مجلة نادي القضاة لم تصدر مع إنشاء نادي القضاة، بل لم تصدر إلا بعد سنوات طويلة، إذ صدر العدد الأول منها عام 1968 بمعرفة مجلس إدارة نادي القضاة الذي كان يترأَّسه المستشار ممتاز نصَّار، ولم تكن تصدر بصفة دورية بانتظام[9].

  • تأثير سمعة القاضي في مسيرته المهنيَّة:

لم يكن تقييم القضاة في أعمالهم القضائية في عهود الملكية بعيد التأثُّر بسمعتهم العامَّة، ولعلَّ هذا ما يبرِّر عدم اشتهار القضاة في النصف الأول من القرن العشرين بالتورُّط في قضايا الفساد الأخلاقي على غرار ما تفشَّى لاحقًا، حيث كانت تقارير التفتيش القضائي في مصر قديمًا تتضمَّن بندًا بعنوان (المسموعات) كان المفتِّش يدوِّن فيه ما يصل إلى علمه في شأن القاضي المعنيِّ بالتفتيش، وهو كل ما يتَّصل بسُمعته الشخصية، أمحبوب هو من زملائه أم أنهم يتجنَّبونه! أيُحسن هو أم يُسيء معاملة المتقاضين ووكلائهم؟! هل يخوض في خلافات أسرية أو مع جيرانه؟! وهكذا، فإذا لم يقف المفتش القضائي على شيء من ذلك كتب: (ولم يصل إلينا ما يمسُّ سمعته).

بعد قيام الثورة وفي عام 1953 شُكِّلَتْ لجانٌ في كل الوزارات لمراجعة ملفَّات الموظفين تحت دعوى تطهير الجهاز الحكومي من الفساد، ومن ذلك لجنة كانت تراجع ملفات القضاة! وقد انتهى عمل تلك اللجنة إلى لا شيء!

إلا أن اللجنة وهي بصدد أداء عملها وجدت في ملف أحد القضاة تقريرَ تفتيشٍ على أعماله كتبه المفتش القضائي الشهير حسن إسماعيل الهُضيبي (1891-1973)، وتحت عنوان (المسموعات) وجدت اللجنة تلك العبارة (قاضٍ ذليل لا يُرتجى منه أن يحمي حقًّا)!

لم تستطع اللجنة تفسير العبارة، فقرَّرت أن تستعين بالمفتِّش الذي كتبها، فاتَّصلت به وكان قد صار وقتها نائبًا لرئيس محكمة النقض، فسألوه عن معنى العبارة، فأجابهم بأنه وأثناء قيامه بالتفتيش على أعمال القاضي المذكور أرسل (إشارة) إلى محكمة الإسكندرية التي يعمل بها القاضي وطلب منه إعداد القضايا والسجلات والدفاتر للتفتيش، حيث سيصل إلى الإسكندرية يوم كذا في قطار كذا، يقول: “وفي اليوم المحدَّد وعندما وصل القطار للمحطة توقَّعت أن يكون في انتظاري أحد عمال المحكمة، ولكني فوجئت بالقاضي ينتظرني ويُصافحني بانحناءة -لم تكن من عادة القضاة في ذلك الزمان- ثم عرَّفني بنفسه وأقبل على حقيبتي يجذبها من يدي بإصرار، وبعد أن تردَّدت قليلًا تركتُه يحملها، فمدَّ يده إلى الشمسية فحملها أيضًا، وتقدَّمني يُفسح لي الطريق في زحام المحطة، واستوقف عربة حنطور حملتْنا إلى المحكمة، وظلَّ قابعًا إلى جواري يقوم على خدمتي حتى أتممتُ الاطِّلاع على ما أردت ثم عاد بي إلى المحطة، من كل ذلك أدركت أنه قاضٍ ذليل وأن مثلَه لا يُرجى منه أن يحمي حقًا”[10].

لقد كان يُنظر إلى السلوك غير الأخلاقي للقضاة على أنه مطعن في استقلالهم، إذ هم الأكثر عرضة للابتزاز والضغوط من جانب من يعلمون بسوء سلوكهم والتأثير غير المناسب، والأشخاص الذين كانت حياتهم الشخصية محلَّ تساؤل كان الأصل ألَّا يُعيَّنوا وألا يُسمح لهم بالمتابعة.

ثانيًا- العلاقة بين القضاء والسُّلطة في عهد جمال عبد الناصر

تعدُّ علاقة القضاة بالسلطة في العهد الناصري هي الأعنف والأكثر انقسامًا، ويمكن أن نقسمها إلى شبه مرحلتين، الأولى- إنفاذ الإرادة السياسية في المحاسبة التعسُّفية والمحاكمات الجائرة للنظام الملكي والموالين له والمعارضين السياسيِّين في عمليات تطهيرية كبرى من خلال الاغتيال والسجن والمحاكمات الخاصة خارج إطار القانون وخارج إطار المنظومة القضائية بالكلية. الثانية- من خلال إخضاع المنظومة القضائية للسلطة السياسية، وذلك عبر أدوات أهمها:

(١) استخدام السلطة كل وسائل الترهيب للسيطرة على القضاة وإخضاع السلطة القضائية لإرادة السلطة السياسية، بما فيها الاغتيال والاعتداء بالضرب والعزل والتشوية والابتزاز والتهديد.

(٢) تكوين خلايا مخابراتية تابعة للنظام الناصري داخل الجهاز القضائي، والتي عُرفت بالتنظيم السري الطليعي، والذي وصل في نفوذه لأرفع المناصب داخل المنظومة القضائية.

(٣) إخضاع الاختصاصات الإدارية لا سيما الخاصة بتعيينات وترقيات القضاة لإشراف السلطة السياسية من خلال جهاز المجلس الأعلى للهيئات القضائية الذي ابتُكِر وَحَلَّ محلَّ مجلس القضاء الأعلى.

وقد يتبادر إلى الذهن أن هاتينِ المرحلتينِ كانتا متميِّزتين زمنيًّا، لكن الصحيح أنهما تداخلتا وتمَّتا على التوازي بصورة أكبر، رغم الجهود المتضافرة أكثر لوضع القضاء تحت السيطرة السياسية في نهاية الستينيات، وسيتَّضح ذلك بصورة أكبر عند التفصيل في أهم مظاهر ووقائع انتهاك استقلال القضاء في العهد الناصري.

  • الاعتداء على السنهوري وحل مجلس الدولة:

عبد الرزاق باشا السنهوري (1895-1971) أحد أشهر القانونيِّين العرب في العصر الحديث، والذي تولَّى رئاسة مجلس الدولة والأستاذية بكلية الحقوق – جامعة القاهرة، كان أحد من خرجوا عام 1951 على رأس المظاهرات المطالبة بالجلاء ضمن كوكبة كبيرة من رجال السياسة والقانون[11]، وأحد من ساندوا مجلس قيادة ثورة يوليو، إلا أنه وبعدما تكشَّفت له نيَّات عبد الناصر من الرغبة في السيطرة على الحكم بإقصاء الرئيس المصري محمد نجيب عن الحكم ووضعه تحت الإقامة الجبرية لمنع انتقال السلطة للمدنيِّين، شرع بالاشتراك مع المستشار سليمان حافظ -رئيس مجلس الدولة أيضًا فيما بعد- في إصدار بيان يمنح المشروعية لثورة يوليو في إطار انتقال السلطة من الملك فاروق إلى لجنة الوصاية على العرش فحسب، مطالبين الجيش بالعودة إلى ثكناته العسكرية، إذ كانا يُريدان إنقاذ الثورة من الطعن على شرعيَّتها.

وصاحب ذلك إلغاء السنهوري بصفته رئيس مجلس الدولة عددًا من القرارات الحكومية، بينها قرارات أصدرها عبد الناصر بنفسه، باعتباره رئيسًا للوزراء في عهد محمد نجيب.

وهو ما عرَّضه عام 1954 لموقف بالغ السوء من حيث التدبير، إذ أوحى محمد أبو نُصير -الذي كان قاضيًا بمجلس الدولة وأمينًا عامًّا مساعدًا للمجلس وقتئذٍ ثم كوفئ بعد ذاك بعدَّة مناصب تُوِّجَتْ بتولِّيه وزارة العدل عام 1968- إلى رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر بفكرة أن السنهوري ورفاقه يعدُّون بيانًا ضدَّ مجلس قيادة الثورة، فتمَّ تسيير عمَّال النقل العام بزعامة شخص يُدعى “الصاوي” وكان رئيس اتحاد عمال النقل، واقتحموا مجلس الدولة مردِّدين هتافات “تسقط الديمقراطية” “تحيا الديكتاتورية”[12]، واعتدوا على السنهوري بالضرب في قلب مجلس الدولة، ولم ينقذْه غير صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة. ولم يلبث عبد الناصر إلا أن أصدر قرارًا بحلِّ مجلس الدولة وإعادة تشكيله على أساس قانون جديد لتنظيمه.

  • قضية مديرية التحرير ووقائع لا حصر لها من انتهاك استقلال القضاء وتقييد الحريات:

بلغت وقائع الاعتداء على القضاة واستقلال القضاء في عهد جمال عبد الناصر من الخطورة ما لم تبلغْه في أيِّ عهد سواه، فقد كان للبوليس السرِّي والمخابرات الحربية سطوتهما التي طالت كل شؤون الدولة بما فيها شؤون القضاء، وقد استطاعت هذه الأجهزة تجنيد رجال لها داخل المؤسسة القضائية فيما عُرِفَ بالتنظيم الطليعي، فما برحوا يبذرون بذور الفتنة والشقاق في صفوف القضاة، وينقلون أخبارهم وأسرارهم إلى الجهات الأمنية.

ولم تتردَّد السلطة السياسية آنذاك في ارتكاب الجرائم واستخدام أعنف الوسائل بما فيها القتل خارج القانون للسيطرة على مقاليد الأمور داخل الجهاز القضائي وتوجيهه وإحكام قبضتها عليه.

ولعلَّ من أبرز وقائع الاعتداء، ما حدث للمستشار كامل لطف الله -رئيس جنايات القاهرة- وقد رواها لي كلٌّ من المستشارين أحمد مكي ومحمد حسام الغرياني وأحمد محمد سليمان، وتتلخَّص في أنه عندما أُنشئت (مديرية التحرير) التي كان يرأسها مجدي حسين، وتصدَّى بعض الكُتاب لبيان فسادها وقُدِّم للمحاكمة الجنائية، وكانت المحكمة قد خلُصت في قناعتها ومداولتها لبراءة المتَّهمين، وفي اليوم المحدَّد للنطق بالحكم، فوجئ الجميع بانتحار المستشار لطف الله رئيس الدائرة التي تنظر الجناية صباح يوم النطق بالحكم، وادَّعت السلطات وقتها أنه ألقى نفسه من فوق “سطح” منزله، وهي الواقعة التي أحاطتْها الشكوك والريب. المستشار أحمد مكي قال إنه تقابل مع شقيقه المستشار منير لطف الله في أوائل عهد السادات والذي رجَّح له أن شقيقه قُتل عمدًا قبل أن يستطيع إصدار حكمه في القضية المذكورة.

ويضيف المستشار محمد عبد السلام -النائب العام في الحقبة الناصرية ابتداءً من عام 1963 وحتى 1969- في كتابه “سنوات عصيبة” الصادر عن دار الشروق عام 1975[13]، معلومات أخرى في غاية الخطورة عن دور السلطة في إفساد مرفق القضاة وتقويض استقلاله، ابتداءً من حوادث الفساد التي كانت كل مؤسسات الدولة منغمسةً فيها انغماسًا كليًّا، ومرورًا بفساد القوانين وفساد وزير العدل ووزارته التي كانت تهدف في الأساس إلى هدم القضاء واحتوائه سياسيًّا فقط، وقد وقع له ذلك بمساعدة تيار التنظيم الطليعي داخل مؤسسة القضاء وبتدبير مذبحة القضاء التي أطاحت بمُؤلف الكتاب وغيره من القُضاة، وانتهاءً بحوادث التعذيب التي كانت تشمل التعليق في الفلقة والضرب بقبضة اليد، وبقطع الحديد والركل بالأقدام، وإطلاق الكلاب على المُعتقلين لعقرهم، والتجويع ونزع أظافر اليد، والوضع في زنزانات مغمورة بالمياه، والضرب بالسوط المجدول والوضع في ماء مثلج، والتعليق بخطاف في وضع مقلوب، وكل ذلك في حضور الضُباط لاسيما اللواء حمزة البسيوني قائد السجن العسكري، هذا فضلًا عن قهر حُريات المواطنين ومُراقبتهم والتجسُّس عليهم والاعتقال بدون وجه حق وبدون أذون، وغير ذلك مما يُعطي القارئ اقتناعًا تامًّا بأن عبد السلام لا يتكلم عن دولة وسُلطة إنما يتكلم عن عصابة من البلطجية تُسيطر على منطقة وسكانها.

ولعلَّ أخطر ما انتهكت به السُّلطة استقلال القضاء، لما كان يتضمَّنه من مَسٍّ مباشر بحقوق وحريات المواطنين، هو ما حدث في عام 1958 من إنشاء محاكم أمن الدولة (طوارئ) التي عملت تحت مظلَّة قانون الطوارئ، ثم عام ١٩٦٦ من إنشاء المحاكم العسكرية بالقانون رقم 25 لعام 1966.

  • بيان مارس 196٩ كحدث جوهري في تكوين رافد تيار استقلال القضاة:

لعلَّ أزهى الفترات التي حظيت بجمع عظيم من القضاة الذين طالما دافعوا عن استقلال القضاء في وجه أعتى سلطة حكم، عندما أراد عبد الناصر توجيه القضاء والجهاز القضائي كاملًا في نفس اتجاه الدولة، إذ كتب علي صبري -نائب رئيس الجمهورية وقتها- مقالات بجريدة الجمهورية تدعو إلى إدخال القضاة للاتحاد الاشتراكي ليكونوا بجوار قوى الشعب العاملة، ووصف القضاة بأنهم يعيشون في أبراج عاجية وأن فيهم بقايا الإقطاع والرأسمالية البغيضة ويجب استئصالهم من جذورهم، ثم قام باستدعاء المستشار ممتاز نصار (1912-1988) الذي شغل وقتها منصب رئيس نادي القضاة، وطلب من نصار الانضمام رسميًّا إلى الاتحاد الاشتراكي وعرض عليه موقع أمانة القضاء بالحزب وقتها، إلا أن نصار رفض بشدة مستندًا إلى أن القضاء ملك لجموع الشعب ولا يُمكن أن يكون ملكًا لحزب.

وممَّا يُحمد لوزير العدل وقتها المستشار عصام حسونة، إبلاغ الواقعة التي حدثت لنصار للرئيس عبد الناصر وحصوله منه على موافقة بإبعاد القضاة عن التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي، مستعينًا بالمشير عبد الحكيم عامر الذي ذكرت بعض المصادر أنه وقف بجوار نادي القضاة في موقفه الرافض للانضمام للحزب.

إلا أنه وعقب نكسة 1967 بدأ الحديث من جديد عن ضمِّ القضاة للتنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي بحجَّة أنه لا صوت يعلو على صوت المعركة، حيث استخدم التيار اليساري كل الوسائل من أجل الضغط على القضاة لدرجة بلغت أن خالد محيي الدين عندما عُيِّنَ رئيسًا لمجلس إدارة أخبار اليوم قام بتعيين علي إسماعيل مديرًا عامًّا للمؤسسة وقام بدوره بتعيين كل السجناء الموجودين بسجن الواحات في وظائف صحفية بأخبار اليوم.

وبمجرد تعيين المستشار محمد أبو نصير وزيرًا للعدل زاد الأمر سوءًا، يقول محمد عبد السلام النائب العام في الفترة من أغسطس 1963 حتى أغسطس 1969: “في النصف الثاني من شهر مارس 1968 نُكب القضاء بوزير منحرف، لا يفهم في سياسة الحكم إلا على أنها الدس والنميمة وإشاعة الفرقة، وهي وسائل إن قيل تجاوزًا أنها كانت فيما مضى تصلح للوزارات الأخرى فإنها أبعد ما تكون عن الصلاحية لتسيير الأمور في وزارة العدل”[14].

أصدر نادي القضاة برئاسة المستشار ممتاز نصار -وكان المستشار يحيى الرفاعي سكرتيرًا عامًّا للنادي والمستشار مقبل شاكر أمينًا للصندوق وقتها- بيانهم الشهير بتاريخ 28 مارس 196٩ المعروف باسم “بيان مارس” الذي أكَّد على أن أهمَّ أسباب النكسة هو إهدار الشرعية والمشروعية وأنه لا سبيل للحرية واسترداد الحق وتخطِّي النكسة إلا بالديمقراطية.

وقد حكى لي المستشار محمد المتيني -نقلًا عن عمه المستشار كمال المتيني أحد شهود واقعة بيان مارس– أن مُصدري البيان بعدما انتهوا من إعداده وأرادوا طباعته لم يتسنَّ لهم طباعته في أيِّ مطبعة خاصة، بسبب خوف المطابع من الإقدام على طباعته، إذ كانت جُلُّ المطابع تقريبًا وقتئذ خاضعة لمراقبة صارمة، فلا تدخل ورقة ولا تخرج إلا بإذن، فأبْدى أحد وكلاء النيابة المشاركين في البيان والذي كان على صلةٍ وثيقة بالمستشار نصار استعداده لطباعته داخل المطابع الأميرية مستعينًا بوالده الذي كان يعمل بها، وسبحان الله فقد طُبع البيان بالفعل داخل المطابع الأميرية، وأما وكيل النيابة المذكور فقد عُزل ضمن من عُزل في المذبحة التي وقعت بعد ذلك، لكنه صار بعدها بسنوات محام شهير سارت بذكره الرُكبان!

ومما جاء في البيان: “صلابة الجبهة الداخليَّة تقتضى إزالة جميع المعوقات أمام حرية المواطنين، وتأمين الحرية الفردية لكلِّ مواطن في الرأي والكلمة والاجتماع وفي النقد والاقتراح، وكفالة الحريات لكلِّ المواطنين، وسيادة القانون”، وبمجرَّد صدور البيان أعلن بعض القضاة رفضهم له بزعم أنه يُخرج القضاة عن حيادهم وينزلق بهم نحو الاشتغال في السياسة.

بعد خروج “بيان مارس” للنور مباشرةً خاض ممتاز نصار ورفاقه انتخابات نادي القضاة بالقائمة التي عُرفت وقتها بقائمة “مرشحو الأحرار”، وكانت معركة شرسة ليست مع مرشحي التنظيم الطليعي -الذين عرفوا بقائمة “مرشحو السلطة”- فحسب، وإنما مع نظام جمال عبد الناصر الحاكم ذاته، ويشاء الله أن تنتصر إرادة القضاة رغم كل التحديات والصعاب، وتنجح قائمة ممتاز نصار كاملةً، ليقف نصار بعدها منشدًا أبيات مكرم عبيد بافتخار:

ليس كسائر الأيام يقبُره ظلام الليل شيخًا إذا ابتسم للنور وليدًا..

يومًا قنصناه من شبكة الحياة فريدًا.. يومًا أخذنا به على الزمان عهدًا جديدًا

أن نصوغ له من أنفسنا نارًا .. ومن عزائمنا حديدًا

وأن نعيش في العز كرامًا .. وألا نحيا في الذل عبيدًا

هاكم يومكم يمُر على الناس يومًا .. ويمُر علينا عيدًا

وكان من نتيجة ذلك أن اشتدَّ غيظ عبد الناصر وتأجَّجت نيران حقده فوقعت المذبحة الشهيرة في أغسطس 1969، إذ أُعيد تشكيل الهيئة القضائية بالقانون رقم 82 لسنة 1969، ممَّا أسفر عن عزل أكثر من مئتي قاض بينهم رئيس محكمة النقض، بالإضافة لصدور القانون رقم ٨٣ لسنة ١٩٦٩ الذي وضع نظامًا جديدًا لنادي القضاة صيَّر أعضاء مجلس إدارته بالتعيين بحكم مناصبهم القضائية، وكذلك القانون رقم 8١ لسنة 1969 الذي نصَّ على إنشاء “محكمة عليا” كانت بمنزلة محكمة دستورية، وتمَّ حلُّ مجلس القضاء الأعلى وإحلال المجلس الأعلى للهيئات القضائية محلَّه، وعهدت إليه كل المسائل الإدارية وكذلك التعيينات والترقيات داخل الجهاز القضائي، ووضعت بشكل فعلي تحت إشراف السلطة السياسية.

والأغرب من هذا أن مجموعة الخمسة عشر التي كانت قد فازت برئاسة نادي القضاة حديثًا صدر قرار بفصلها نهائيًّا دون رجعة، ومع هذا فلم ينثنِ هؤلاء القضاة عن مواصلة انتصارهم لقيمة الاستقلال متحمِّلين لإثارة حفيظة السُّلطة وأحيانًا عسفها.

ثالثًا- السادات ومرحلة أخرى من الاعتداء على استقلال القضاء

  • هل انتهى الاعتداء على استقلال القضاة بإعادة القضاة المعزولين في عهد السادات؟!

على عكس نظام جمال عبد الناصر، عمل نظام السادات على تعميق مكانة السلطة القضائية بين مؤسَّسات الدولة، وإذا كان يمكننا وصف سياسات عبد الناصر تجاه القضاة بكونها ترهيبية، فيمكننا وصف سياسات السادات تجاههم بكونها ترغيبية، شملت إعادة المعزولين لأسباب سياسية، وتعيين أبناء القضاة، بالإضافة لرفع مرتَّبات القضاة ومنحهم حصانات فعلية واختراع المناصب داخل الجهاز القضائي وغير ذلك، بما يمكن إجماله في حدوث تغييرات جوهرية في الإطار السياسي لتعيين القضاة وترقيتهم وعزلهم.

فضلًا عن الأسباب الثقافية والاجتماعية الأخرى، وأهمها تدنِّي مستوى التعليم القانوني، وانحصار الالتحاق بكليات القانون ما بين ضعاف النتائج الدراسية في الثانوية أو أبناء القضاة والمحامين، ولا شكَّ أن جذور التأهُّل للوظيفة القضائية يرتبط بنوعية التعليم القانوني والمهارات والأدوات التي يملكها المتعلِّمون، أضفْ إلى ذلك أن الاختبارات والمعايير الاختبارية التي كان يتم الاختيار على أساسها لم تكن تسمح بأي صورة باكتشاف الموهوبين بشكل استثنائي، والأكثر تأهيلًا الذين هم أولى من غيرهم من بين المتقدمين، فضلًا عن أن يُمكن قياس كفاءتهم ونزاهتهم وعدم قابليَّتهم للفساد.

ورغم كل ذلك، إلا أن معارك استقلال القضاء في عهد عبد الناصر لم تكن هي الأخيرة من نوعها لقضاة جيل الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، بل لم تكن إلا جولة من جولات الصراع، ففضلًا عن احتفاظ نظام السادات بالطرق القديمة للافتئات على السلطة القضائية بمجموعة من المحاكمات الخاصَّة والإجراءات القضائية خارج نطاق القضاء العادي، تجدَّدت مشاكل السلطة السياسية مع نادي القضاة، فجنَّدت الحكومة المصرية ممثَّلَةً في وزير العدل كلَّ طاقتها لإسقاط مجالس إدارة نادي القضاة المنتخبة، ولا يفوتنا هنا ذكر محاولات أنور أبو سحلي (1919-2000) الذي اختير رئيسًا لمحكمة شمال القاهرة عام ١٩٧٧ وفي العام التالي نائبًا عامًّا وفي العام التالي وزيرًا للعدل، إذ جاب محاكم مصر من شرق الجمهورية إلى غربها مُشكِّكًا في وطنية أعضاء مجلس إدارة النادي وطاعنًا فيهم بزعم أنهم يُعادون النظام لمجرَّد مطالبتهم بعودة مجلس القضاء الأعلى الذي أُلْغِيَ وجودُه بقرارات مذبحة القضاة عام 1969، ولم يتورَّع الوزير عن أن يناصر مجموعة معيَّنة من المرشَّحين ممَّن عُرفوا بمناصرتهم للقائمين بالعدوان على القضاء في العهد الناصري، مستعينًا بالمنتدبين بديوان الوزارة ورؤساء المحاكم الابتدائية لنصرة مرشَّحيه، بل حفز الأعضاء على انتخابهم بوعود إعادة صرف الإعانة للنادي لدعم مشروع (مكتبة رجال القضاء) والتي سبق أن قرَّر الوزير ذاته إيقاف صرفها، كما كفل لهم حافلات لنقلهم من أقاليم مصر –في رعاية رؤساء النيابات والمحامين العموم ورؤساء المحاكم الابتدائية– إلى نادي القضاة ليصوِّتوا لصالح مرشَّحي السلطة، غير أن القضاة لم يُرهبهم نفوذ الرؤساء ولم تُغرِهم وعود الوزراء، فصوَّتوا لقائمة مجلس إدارة النادي المنتخبة ونجحت جميعًا ولم يُصب الوزيرَ من سعيه إلا خيبةُ الأمل.

  • قانون السلطة القضائية وقانون العيب:

في عام 1980 أقرَّ الرئيس السادات إنشاء محاكم أمن الدولة العادية ومحكمة القيم، وبعدها بمدَّة قليلة عندما زار نادي القضاة بتاريخ 11 أكتوبر 1980، استغلَّ المستشار محمد وجدي عبد الصمد (1927-2010) -رئيس نادي القضاة- الفرصة ليُلقي خطابًا ناريًّا ينتقد فيه سياسات السادات في شأن إصدار قانون العيب، ممَّا دفع موسى صبري أن يكتب عنه مقالًا في الصفحة الأولى تحت عنوان “مولد زعيم” يقصد المستشار وجدي عبد الصمد.

فلم يَجد عبد الصمد حرجًا من أن ينتقد قانون العيب أمام السادات الذي أصدره ليقمع معارضيه ويتخلَّص منهم في محاكمات سياسية متعسِّفة، وكان ممَّا قاله في خطابه: “إذا غضبت فاغضب من نفسك، فالنُّظم الحرَّة تنشئ الدول الحرَّة، وأخطاء الديمقراطية على كثرتها لا تعدل خطأً واحدًا من أخطاء الديكتاتورية..”، وقال أيضًا: “والنقد متى كان مُتَّصِلًا بالشؤون العامة لا بأس من الشطط فيه أحيانًا، وأن الرجل العام يجب أن يُسَلِّمَ بأن التصدِّي للمسؤولية الجسيمة معناه إساءة الظن فيه نتيجة القلق الطبيعي على ما يعتقدون أنه حيوي بالنسبة لهم، ذلك القلق الذى هو مظهر من مظاهر إدراك المواطن واهتمامه بالشؤون العامة وغيرته عليها أو هو مظهر لشدَّة شعور المواطن بواجبه العام في النظام الديمقراطي”[15].

رابعًا- مبارك وتقييد جديد للحريات مع معارك جديدة لاستقلال القضاء

لم تكن سياسة مبارك تجاه القضاة وقضية استقلال القضاء بأفضل من سابقتها في أغلب الأحوال، إذ استمرَّ النظام السياسي متَّبِعًا لسياسة تعميق وضع السلطة القضائية بين مؤسسات الدولة وفصلهم اجتماعيًّا عن كثير من فئات المجتمع وطوائفه، وشمل هذا إعطاء مساحة واسعة لتعيين أبناء القضاة وخريجي كلية الشرطة وتفضيلهم في كثير من الأحيان عن خريجي كليات الشريعة، بالإضافة لتعيين النساء لأول مرة كقضاة ورفع سنِّ التقاعد أكثر من مرة.

ورغم زيادة حدَّة الصراع بين القضاة والسلطة، إلا أن معارك استقلال القضاء بينهما أخذت بعدينِ أكثر اختزالًا، يمكن اختصارهما في الآتي: أولًا- اختزال الصراع بين السلطة السياسة والقضاة فيما عُرف بـ”تيار استقلال” القضاة. ثانيًا- اختزال الصراع بين السلطة وتيار الاستقلال حول “قانون السلطة القضائية” في أكثر الأحيان.

والحقيقة التي أسْفرت عنها السنوات الطويلة من تجارب استقلال القضاء في مصر، بل وحتى على مستوى العالم، أنه لا يمكن استعادة الاستقلال القضائي عن النفوذ السياسي والفساد المالي بمجرَّد تصحيحات فنية وتشريعية، لأن الإصلاح يعتمد في جميع الأحوال على التزام موثوق من الحكومة باحترام حكم القانون بقدر ما يعتمد على التغيير التشريعي، وشعور ذاتي للقضاة بأنهم مستقلُّون له انعكاس حقيقي على ممارساتهم وأعرافهم.

لقد أغفل قضاة “تيار الاستقلال” الفساد الذي استشرى داخل الجهاز القضائي اكتفاءً بالعبارة الرائجة في أوساطهم “القضاء يطهر نفسه بنفسه”، فبينما كانت تعمل السلطة السياسية في عهدي السادات ومبارك على تخريب المنظومة القضائية على قدم وساق، انشغل الإصلاحيون من القضاة بتعديلات قانون السلطة القضائية ونقل تبعية التفتيش القضائي لمجلس القضاء الأعلى وتخصيص الميزانية وغيرها من المسائل التي استنفدت طاقاتهم.

إن وجود نظام قضائي يعمل بشكل جيد أمر بالغ الأهمية للتصدِّي للفساد بشكل فعَّال، لكن المؤسسات القضائية هي نفسها قابلة للفساد[16]، وإن الفساد في القضاء وتصورات القضاة للفساد لا تقوِّض فقط مصداقية المحاكم ونزاهة القضاة، بل يضر بجميع الوظائف القضائية المعاونة الأساسية، مثل تسوية المنازعات وإنفاذ القانون وحماية حقوق الملكية وتوثيق العقود.

بقي أمر أخير نشير إليه في هذه التقدمة لقضية استقلال القضاء في عهد الرئيس مبارك، وهي أن نظام مبارك بقصد أو بغير قصد، ساهم بشكل كبير في توريط القضاة في عدد من الاشتباكات الجماعية مع المحامين، على نحو لم يكن له سابق عهد في ظلِّ الملكية وحكم عبد الناصر والسادات، وهو ما أدَّى بدوره إلى مزيدٍ من انفصال القضاة عن المجتمع واقترابهم أكثر من طبقة السلطة التي كانت تضم بشكل بارز الداخلية والجيش ورجال الحزب الوطني، صحيح أن المواقف التي انخرط فيها عدد كبير من القضاة ضمن أحداث الانتخابات البرلمانية في 2005م ثم انتخابات الرئاسة، أظهرت ميل القضاة إلى جانب الشعب أكثر من ميلهم إلى السلطة، إلا أنه سرعان ما تبين أنه ميل تياري ارتبط بسيطرة تيار الاستقلال على نادي قضاة القاهرة والإسكندرية، فبمجرد فشلهم في انتخابات نادي القضاة عام 2009 تسارعت وتيرة المشاكل بين القضاة والمحامين وانتهت كل صور الصراع مع السلطة وظهر ذلك جليًّا في الانتخابات البرلمانية عام 2011، ففشل قائمة المستشار هشام جنينة أمام قائمة المستشار أحمد الزند يمكن اعتباره نتيجة إقحام تيار الاستقلال القضاة في صراع مع السلطة -وفي مقدمتها وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى- لا يناسبهم من حيث الاستعداد ولا هم أهل له بالأساس، فرفض الكثيرين لسياسات تيار الاستقلال ساهم مع إغراءات السلطة المادية والمعنوية في حسم الأمور في نادي القضاة لصالح المستشار الزند حتى نشرت صحيفة كويتية وقتها الخبر تحت عنوان “الحكومة المصرية تحكم سيطرتها على نادي القضاة”، وبالطبع ثمة أسباب أخرى ساهمت في النتيجة المشار إليها، بعضها ذو طبيعة جماعية وبعضها ذو طبيعة فردية، لكن لا مجال لذكرها هنا.

  • إعادة مجلس القضاء الأعلى.. إعادة حقيقية للحياة أم عودة وهمية؟!

يعد الصدام الذي وقع بين نادي القضاة برئاسة المستشار وجدي عبد الصمد والحكومة المصرية ممثلةً في وزير العدل الذي ينتمي إليها حول صدور تعديلات قانون السلطة القضائية التي تقضي بإعادة المجلس الأعلى للقضاء بعد غيبة أربعة عشر عامًا -وإسباغ الحصانة على رجال النيابة العامة– بما في ذلك ولأول مرة النائب العام نفسه– أول الوقائع التي جدَّدت معركة استقلال القضاء بين نادي القضاة ونظام مبارك، إذ دعا النادي لجمعية عمومية طارئة ونشر إعلانًا مدفوع الأجر بجريدة الأهرام ضمَّنه هذه العبارات: “نادي القضاة وقد استنفذ كل الوسائل لإصدار تعديل قانون السلطة القضائية وأعيته الحيل في التوصُّل لاتفاق مع الحكومة، يدعو القضاة للاجتماع في جمعية عمومية طارئة لتدارس الإجراءات التي يتعيَّن اتِّخاذها لكفالة صدور ذلك التعديل”.

فهبَّ القضاة إلى ارتداء الأوسمة والأوشحة والاحتشاد بناديهم حتى موعد الجمعية العمومية الطارئة، وما لبثت الحكومة ممثَّلة في شخص رئيسها فؤاد محيي الدين أن عاودت الاتصال برئيس النادي وتوافقت معه حتى صدر التعديل المطلوب بالقانون رقم 35 لسنة 1984 الذى صدر في 27 مارس 1984.

وبهذا التعديل حُرم المجلس الأعلى للهيئات القضائية من معظم اختصاصاته، وبقى وجوده شكليًّا ليس أكثر، حيث منحت الهيئات القضائية استقلالية في شؤونها.

ومع ذلك ظلَّ افتئات المحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة على السلطة القضائية قائمًا، واحتفظت الحكومة ممثَّلةً في وزارة العدل لنفسها ببعض النفوذ النصِّي القانوني وبكثير من النُّفوذ في الممارسة تجاه المحاكم الابتدائية وقضاتها على وجه الخصوص، وهم الذين يمكن اعتبارهم عصب الجهاز القضائي، بل إن السلطة الرئاسية احتفظتْ لنفسها ببعض صلاحيات التعيين، وأهمها بالطبع سلطة تعيين قضاة المحكمة الدستورية العليا.

والحقيقة أن مجلس القضاء الأعلى ذاته كان في بعض الأحيان أداة السلطة في النيل من استقلال القضاء ووأْد محاولات إصلاح المنظومة القضائية كما سيتَّضح لاحقًا.

  • معركة حالة الطوارئ:

بعد سنوات قليلة من عزله في مذبحة القضاء، عاد المستشار يحيى الرفاعي (1931-2010) للقضاء وانتخب رئيسًا لنادي القضاة ليوجِّه صفعةً جديدةً لرئيس جديد؛ إذ استغل حدَث مؤتمر العدالة الأول في أبريل 1986، ليُلقي كلمته أمام الرئيس المصري حسني مبارك معلنًا رفض القضاة لقانون الطوارئ ويطالبه بوقف حالة الطوارئ، وكان ممَّا قاله: “السيد الرئيس.. كنا نود ألا تُمد حالة الطوارئ، فهي لم تمنع أحداث الشغب الأخيرة، وأنت لم تستعملها قط في هذه الظروف والحمد لله، ولو استعملت المادة (74) من الدستور لكان استعمالها أول استعمال صحيح دستوريًّا لكنك لم تستعملها، ولم تجدْ مبرِّرًا لذلك فتجاوب الشعب معك.. كنا نودُّ ألا تُمَدَّ حالة الطوارئ، أما وقد مُدَّتْ بالأمس، فقد بقي أن قرار إنهائها سيظلُّ معقودًا إليك بكلمة منك، نأمل أن تُتاح الظروف في أسرع وقت لإنهائها”.

ومن المفارقات الغريبة التي وقعت ليحيى الرفاعي بشأن كلمته تلك والتي عرَّضته لمؤامرة سوء أنه -وكما حكى المستشار محمد ناجي دربالة- في يوم افتتاح مؤتمر العدالة بتاريخ 20 أبريل 1986 بادره أحد أعضاء مجلس إدارة نادي القضاة في الغرفة الملحقة بقاعة المؤتمر وفي حضور رئيس الجمهورية بتعريض بكلمته التي ألقاها أمام الحضور بشأن رفض حالة الطوارئ معاتبًا إياه بأنه لم يكن محقًّا في وجهة نظره؛ مما دعا مبارك للتدخل قائلًا: “أنا لا أُحب أن أراكم مختلفين”، فرد عليه الرفاعي على الفور: “يا ريس نحن قضاة معتادون على المداولة، لكن كلمة القضاة هي التي قُلتُها في القاعة وليس غيرها”.

وتعقيبًا على مؤتمر العدالة كتب يحيى الرفاعي في بحثه (النهضة التشريعية والقضائية.. ماذا تنتظر؟!): “تُرى إذا كانت كلمات الرئيس التي أقام عليها وعده بأن يُبدل كل ما يستطيع من جهد في حدود صلاحياته الدستورية لوضع الحلول التي يتوصَّل إليها المؤتمر موضع التنفيذ، وهو ما تجاوز به طموحات القضاة أنفسهم.. فما الذي حال حتى الآن دون قيام السلطة التنفيذية بالبدء في الخطوات اللازمة للوفاء بهذا الوعد؟!”.

ويقول: “أقول لوزير الداخلية في كلِّ بلد من البلاد العربية، وبكل ما تحمله جوانحي ممَّا تلقاه المظاهرات الوطنية من رجال هذه الوزارات: لو كنت مكانك يا سيدي الوزير لانشغلت كثيرًا بأمن المواطنين -وبخاصة المتظاهرين منهم- بل قبل انشغالي بأمن السلطان، ولحرصت على أن أقول لحكومتي أنه لا زمن بغير عدل، وأن الظلم هو سبب اختلال الأمن مصداقًا لقوله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [سورة الأنعام: الآية 82]، ولحرصت على تأكيد أن الشرطة هيئة مدنية، فقوة البوليس الإنجليزي بدأت يوم نزع أفراده أسلحتهم، فازدادوا حرصًا على إقناع مواطنيهم بدور الشرطة”.

وقد دفع الرفاعي ثمن هذا الموقف، حيث تعرض لمؤامرة بالغة السوء من حيث التدبير، إذ عُزل من رئاسة نادي القضاة، وحلَّ محله عضو مجلس إدارة النادي الذي عرَّض به وأوقعه في السوء في مؤتمر العدالة الأول، غير أنه ما لبث أن عادت الأمور لنصابها، وعاد الرفاعي لرئاسة نادي القضاة بعد انكشاف المؤامرة وافتضاح أمر مُدَبِّريها.

  • مؤتمر العدالة الأول أبريل 1986:

تبدأ أحداث هذا المؤتمر وفعالياته عندما تقدم المستشار أحمد محمود مكي باقتراح إلى نادي قضاة مصر بعقد مؤتمر للعدالة لتصحيح المسار التشريعي ودعم استقلال القضاء، فتبنَّى مجلس إدارة النادي الاقتراح وتولَّى الإعداد للمؤتمر الذي انعقد بالفعل في العشرين من أبريل عام 1986 بمقر دار القضاء العالي.

وفي جلسة المؤتمر الافتتاحية حضر الرئيس مبارك وألقى كلمة أكَّد فيها على استقلال القضاء وعلى دور القضاة في تحقيق النهضة الشاملة للبلاد وأنه سيسعى لتحقيق العدالة من خلال ما سينتهي إليه المؤتمر من توصيات واقتراحات[17].

وتكلَّم في الجلسة الافتتاحية المستشار يحيى الرفاعي -رئيس نادي القضاة وقتئذ- والذي أكَّد وفي حضور رئيس الجمهورية على ضرورة إلغاء حالة الطوارئ وسبق وأن ذكرنا طرفًا من كلمته.

كما تكلَّم في مستهلِّ المؤتمر المستشار أحمد محمود مكي صاحب فكرته والأمين العام له، وكذا المستشار محمد حسام الدين الغرياني مقرِّر المؤتمر يومئذٍ.

وفي الأيام التالية للمؤتمر طالب عدد من القضاة بتفعيل المادة الثانية من الدستور وتطبيق الشريعة الإسلامية، من ذلك ما قرَّره المستشار عثمان حسين عبد الله -نائب رئيس محكمة النقض الأسبق والرئيس المناوب للجنة التشريع بالمؤتمر- فقال: “في مصر الإسلامية، وفي مؤتمر ينعقد باسم العدالة، وتحت رايتها لا يملك الإنسان أن يكتُم في نفسه حديثًا هامًّا عن السبيل القويم إلى عدالة حقة، إن هذا السبيل هو الحكم بما أنزل الله، وهو أن تقنِّنَ الدولة الشريعة الإسلامية، وأن يجري القضاء في مصر على مقتضى أحكامها، إن الإصلاح الجذري لشؤون التشريع والقضاء وحلِّ مشكلاتهما في مصر يتمثَّل في العناية بالشريعة دراسةً وتشريعًا، وحكمًا وتطبيقًا، ففي ذلك تحقيق لوحدة المنهج التشريعي والسياسة التشريعية، وللتكامل بين التشريع من ناحية وبين العقيدة والقيم والأخلاق من ناحية أخرى.. إن تقنين الشريعة والحكم بها ليس أمرًا اختياريًّا نأخذ به أو نتركه، نعمله أو نهمله، بل هو أمرٌ ضروري ولازم وحيوي، يُلزمنا به ديننا وتقتضيه مصلحتنا، وإن صلاح أمورنا – فيما قرَّره القرآن- مرهونٌ بالعمل بالشريعة وبالأخذ بالحل الإسلامي الشامل..”.

ثم قال: “إن الشريعة ليست تاريخ حضارة بادت أو تراث أقوام ماضين، بل هي نظام صالح للحياة وللتطبيق في كل مكان وفي كل زمان.. لقد قامت فلسفة القانون الحديث على أساس انفصال القاعدة القانونية عن الدين، وظللنا في مصر نلتزم هذا المبدأ أكثر من قرن من الزمان، ظللنا نفصل بين إصلاح القانون وبين الدين والأخلاق، فما أحوجنا الآن إلى وقفة نستعرض فيها نتائج ذلك وحصيلته إزاء هذا الكم الهائل من مشكلات التشريع ومشكلات القضاء ومشكلات المجتمع كله.. لقد طغى في بلادنا الاستعمار السياسي والعسكري فجاءنا معه الاستعمار الثقافي والفكري والتشريعي، ولما رحل الاستعمار العسكري والسياسي لم يرحلْ معه الاستعمار الثقافي والفكري والتشريعي، لقد عاش هذا النوع من الاستعمار في داخلنا، وما زلنا نقيس الأمور أو الكثير منها بمقياس الدولة الأوروبية والأمريكية، كلما كانت الفكرة من هناك فإننا نقف عندها، وكلما كان الحل التشريعي من هناك فإننا نميل إلى تقريره واحترامه، والصحيح أنه قد آن لهذا الاستعمار الثقافي أن يرحل، وعلينا ألا تتَّخذ الأنظمة الأوروبية والأمريكية الحديثة أو المعاصرة مقياسًا نقيس عليه أنظمة الشريعة الإسلامية، هذه الأنظمة الحديثة المذكورة ليست حتمًا صالحة، إن صلاحيتها وجدواها محل نظر أو هي محل شك هناك، وكثيرًا ما تختلف هناك النظريات اختلافًا جذريًّا، ومن باب أولى فإن صلاحيتها وجدواها وملاءمتها لنا هي محل شك عندنا، إن أنظمة الإسلام تتوافر بذاتها على أسباب الصلاحية ومقومات الجدوى والملائمة، إن شريعة الإسلام لا تقاس على غيرها، بل غيرها يقاس عليها، فهي نظام مستقلٌّ قائم بذاته متكامل شامل، وإن كثيرًا من مشكلات التشريع والعمل القضائي سوف يُذلِّلها إن شاء الله الأخذ بالحلِّ الإسلامي الشامل المتكامل”[18].

وقد تقدَّم عددٌ من القضاة والباحثين المشاركين بأبحاث ومذكِّرات مهمَّة في هذا الشأن خلال فعاليات المُؤتمر التي استمرَّت أربعة أيام، وبعد أن انتهت تمَّ الإعلان عن التوصيات التي انتهى إليها وتتلخَّص في المطالبة: بإصدار مشروعات قوانين مستمدَّة من الشريعة الإسلامية، ومراجعة سائر التشريعات لتتَّفق في أحكامها مع مبادئ الشريعة إعمالًا لنص المادة الثانية من الدستور، وأن يواكب إصدار تلك التشريعات وتنفيذها تهيئة المناخ العام الملائم في مجالات التعليم والتربية والإعلام والثقافة والتكافل الاجتماعي وغيرها من المجالات، وأن تُولِيَ كليات الحقوق بالجامعات ومركز الدراسات القضائية دراسة الشريعة الإسلامية والعناية اللازمة بالقدر الذي يتناسب مع دورها بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع، وأن يتم إلغاء التشريعات الاستثنائية والمحاكم الاستثنائية، وإلغاء نظام المدعي العام الاشتراكي، والنص في القانون على حظر تسليم المواطن المصري إلى دولة أجنبية، وضرورة تنظيم الإشراف القضائي على الانتخابات في كل مراحلها بما يحقِّق رقابة جادَّة وفعلية بحيث يرأس القضاة اللجان الانتخابية كافَّة ولو استلزم ذلك إجراء الانتخابات على مراحل، وغير ذلك من توصيات عظيمة وجادَّة.

أُرسلت هذه التوصيات لرئاسة الجمهورية لتفعيلها، لكن دون جدوى، بل استثارت هذه التوصيات حفيظة الرئيس المصري الذي نقل عنه سكرتيره الخاص قوله: “لن نسمح للقضاة أن يحكموا البلد”، وتمَّ تمديد حالة الطوارئ لثلاث سنوات أخرى، ووضعت القيود تلو القيود على القضاة من خلال منح اختصاصات وسلطات واسعة لوزير العدل بموجب قانون السلطة القضائية كان لها تأثيرها البالغ على استقلال القضاة، فكان “مؤتمر العدالة” المشار إليه هو الأول والأخير.

  • يحيى الرفاعي .. عودٌ على بدء

لم تكن عودة الرفاعي ورفاقه لمجلس إدارة النادي من السهولة بمكان، فقد اتُهم الرفاعي ورفاقه في القائمة ونيل منهم بأسوأ الاتهامات[19] من قِبَلِ تحالف ثلاثي تزعَّمته الحكومة ممثَّلةً في وزارة العدل وبدعم أجهزة أمن الدولة، فاختلط الحق بالباطل وتفشَّت آثار العبث والعدوان في القضاء، تارةً بسبب الترغيب وتارةً بسبب الترهيب، وكان من شدَّة عدوان الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة على قائمة الرفاعي مراقبة ندواتهم ولقاءاتهم، وقد اعترف بذلك رجال الأمن لأحد القضاة -وهو المستشار محمود عبد الحميد غراب- الذين اقتحموا منزله فجرًا وفتَّشوه عنوة ضاربين بحصانته القضائية ومكانته الأدبية عرض الحائط، متجاهلين مطالبته لهم باحترام تلك الحصانة أو إظهار الإذن الصادر بالتفتيش، بل بلغ بهم الأمر أن اعتقلوا أحد ولديه بدعوى اعتناقه أفكارًا متطرفة[20]، فانتفض القضاة غضبةً لهذا القاضي حتى اضطرَّ رجال الأمن للإفراج عن ابنه وتقديم الاعتذار عن الخطأ غير المقصود، لكن ومع هذا لم تتوقَّف الاتهامات ومحاولات التشويه بدعوى أن مرشَّحي قائمة الرفاعي هم جزء من محاولة انقلاب على النظام، بيد أن كثيرًا من القضاة وقتها أدركوا كلَّ تلك الحقائق وخاضوا في التجديد الثلثي لانتخابات مجلس إدارة النادي معركة شرسة لم يكن لها نظير، فاستطاع مرشحو قائمة الرفاعي أن يفوزوا بأربعة مقاعد من أصل خمسة كانت تُجرى عليها الانتخابات وقاد ذلك يحيى الرفاعي إلى رئاسة مجلس إدارة نادي القضاة مرةً أخرى.

  • تشكُّل تيار استقلال القضاء بشكل منظَّم مع إهمال التمايز الأيديولوجي:

رغم كل حلقات الصراع السابقة بين القضاة والسلطة، لا يمكن القول إن تيارًا لاستقلال القضاء قد تشكَّل على نحو واضح منظَّم إلا خلال منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لقد ساعد اشتداد عود رموز قضاة الاستقلال وتبوُّئهم مكانات مرموقة داخل محكمة النقض ومحكمتي استئناف القاهرة والإسكندرية، وسيطرتهم الفعلية على نادي القضاة الأم بالإضافة لناديي قضاة الإسكندرية والمنيا على تشكيل تيار للاستقلال واضح يهمل كلَّ الاختلافات الأيديولوجية، حيث ضمَّ من يمكن اعتبارهم إسلاميِّين أو ذوي التوجه الإسلامي ومن يمكن اعتبارهم ليبراليين أو ذوي التوجه العلماني أو الليبرالي، بالإضافة لآخرين من ذوي المصالح ومن لا تصنيف حقيقي لهم.

وقد ساعدتهم السمعة الحسنة، والتفرُّد العلمي والعملي، والأداء الخدمي الاجتماعي من خلال نادي القضاة، بالإضافة لمساندة القضاة في بعض أزماتهم؛ من تصدُّر المنظومة القضائية كزعماء وتصدير أفكارهم للجهاز القضائي ككل على نحو لم يسبق له مثيل طوال التاريخ القضائي العربي الحديث.

ففي وقت مبكر قليلًا، وتحديدًا في عام 1994 في الإمارات العربية المتحدة، وقعت حادثة ربما كان لها تأثيرها في إثارة فكرة التجمُّع والعودة لنادي القضاة، وتتلخَّص في أنه وعلى إثر قيام أحد القضاة المصريِّين بإصدار حكم ببراءة أحد المتهمين في قضية مخدرات، قام المسؤولون هناك باتخاذ قرار بإنهاء إعارته، فما كان من قضاة تيار الاستقلال الموجودين هناك إلا أن أعلنوا تضامنهم مع زميلهم، ليس بالخطابات الرنانة والشعارات الطنانة، بل طلب خمسة منهم -وهم المستشارون أحمد محمد سليمان، ومحمد ناجي دربالة، وهشام البسطويسي، ومحمود محمود مكي- إنهاء إعارتهم مع زميلهم، وامتنعوا عن حضور جلساتهم بالمحاكم، وظلُّوا طوال شهر كامل على موقفهم، حتى ألحَّ وزير العدل الإماراتي أن يحضروا إليه واسترضاهم بإلغاء قرار إنهاء إعارة زميلهم.

وقد ساقتني الصدفة لأن ألتقي بأحد رؤساء الاستئناف من الإسكندرية أثناء عودتي من العمل مع أحد الزملاء في سيارته -وكان رئيس الاستئناف المذكور ممَّن يعلنون عدم رضائهم بمواقف قضاة الاستقلال حتى إنه كان معروفًا بعدم تأييده لأيٍّ منهم في انتخابات مجلسي إدارة ناديي قضاة مصر والإسكندرية- فذُكر أمامه عددٌ من رموز قضاة تيار الاستقلال، وبالطبع ظهر من حديثه عدم وده لهم، لكن الغريب في الأمر أنه قال لنا: إن من الصفات الفريدة في قضاة تيار الاستقلال أنهم متميِّزون في علمهم وأخلاقهم، وأنهم يجيدون البحث العلمي على أحسن ما يكون، واسترسل في هذا الثناء حتى قال عنهم إنهم يتمتَّعون بأخلاق عالية في التعامل مع مخالفيهم.

  • مجلس القضاء الأعلى وتقويض فكرة الاستقلال من داخل المنظومة القضائية:

في بداية الألفية الثالثة حدثت واقعة كان لها تأثير كبير في حراك واسع النطاق تأثيرًا في المنظومة القضائية وفي المجتمع المصري، حيث أصدر مجلس القضاء الأعلى برئاسة المستشار فتحي عبد القادر خليفة رئيس محكمة النقض، بتاريخ 27 أكتوبر 2003 قرارًا بحظر مناقشة قراراته أو التعريض بها أو التعقيب عليها بغير طريق التظلُّم فيها، جاء فيه: “اعتبار التعريض بقراراته أو مناقشتها أو التعقيب عليها بوجه غير لائق أو بغير طريق التظلُّم فيها وفق القانون من وجه المخالفة لواجبات ومقتضيات الوظيفة القضائية والتي تستوجب المساءلة التأديبية وفقًا للمادة (94) من قانون السلطة القضائية”.

وبناء عليه، تمَّ توجيه تنبيه إلى المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض آنذاك، بتاريخ 28 يناير 2004، لانتهاك القرار المشار إليه، وجرى نص التنبيه على الآتي:

“بعد مطالعة ردِّكم الوارد في خطابكم عمَّا تمَّ السؤال بصدده وما حدث منكم في الجمعية العامة لنادي القضاة المنعقدة يوم 17 أكتوبر سنة 2003، إذ وصفتم مجلس القضاء الأعلى بأنه: (أصبح من الحُكام)، وأنه: (مجلس مُعين تلهف على رفع السن مرتين في دقائق)، وأنه: (يُخالف القانون في ندب القضاة لعشرات السنين ويجري الندب على الندب)، وقلتم بأن القضاة: (قد أصيبوا بخيبة أمل إذ تطلَّعوا إلى مجلس قضاء يقوم ويؤدِّي دورًا محلَّ فخر وضمانة حقيقية لاستقلال القضاء وليس سيفًا مُسلَّطًا على الرقاب يتدخَّل في شؤون النادي)، وأن مجلس القضاء: (لم يهتم بأمر مرتبات القضاة التي تعرَّضت للتخفيض بسبب زيادة الأسعار)، وطلبتم من أحد أعضاء مجلس القضاء الأعلى الذي شهد الجمعية أن يذكر لك إنجازات مجلس القضاء، في سياق يكشف عن سُخريتك من مجلس القضاء الأعلى.

وإذ كان حديثكم المسجَّل بالصوت والصورة على السياق المتقدِّم، والذي لم تنكروه في ردِّكم المكتوب ينطوي على حطٍّ من شأن مجلس القضاء الأعلى، وتعييب لقراراته، وتطاولٍ على رئيسه وأعضائه بما تتوافر به أركان جريمتي القذف والسبِّ العلني، فضلًا عما في مسلككم بحديثكم من خروج على واجبات الوظيفة القضائية وتقاليدها الرفيعة في ظروف تقطع بالتعمُّد وسوء القصد، أصاب مشاعر كلِّ من يوقِّر السلطة القضائية ويعلم بعلوِّ قدرها عند الدولة والمواطنين.

وإزاء ما بدر منكم غير مسبوق في تاريخ القضاء، وحرصًا على ألا يشيع أو يتكرَّر، وعملًا بالمادة (94) من قانون السلطة القضائية ننبِّهكم إلى عدم التردِّي في ذلك مستقبلًا”.

والحقيقة، أن كثيرًا من القضاة الذين تولوا مناصب مفصلية في منظومة القضاء كانوا يتصرَّفون في الأمور العامة للقضاة وشؤون المحاكم والقانون كأوصياء وأصحاب أملاك لا كأمناء ومتعهِّدي خدمة، أذكر في هذا المقام واقعة في غاية الغرابة، حدثت من أحد المستشارين في المكتب الفني لمحكمة النقض، حينما قامت مجلة نادي القضاة بنشر بعض أحكام محكمة النقض، كما جرت عادة المجلة من قبل، حيث أبدى عدم رضاه وعتابه على رئيس تحرير المجلة المستشار محمد ناجي دربالة نائب رئيس محكمة النقض آنذاك، بسبب عدم استئذانه منه قبل عملية النشر، كما لو أنه كتاب أو عمل فني، لا يجوز نشره والتعامل عليه قبل الحصول على إذن!

إن الحديث عن قضية استقلال القضاة لهو من الموضوعات التي لا تتَّسع لها هذه الصفحات، فكثير من أحداثها لم يدوَّن، وبعضه طواه النسيان وتتابع السنين وسبق الأجل، وإن الربط بين هذه الأحداث وتحليلها رغم أهميته الكبيرة المهملة من الباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية، إلا أنه من الأمور العسيرة عليهم، ففوق أنه يحتاج لباحث متخصِّص عاين وظيفة القضاة وخبر سيرتهم ومسيرتهم لقلَّة الكتب والدراسات الموثوقة في هذا الجانب، فالحقيقة التي لا يمكن أن نخفيها أن التعرُّض لكثير من هذه الأحداث بالربط والتحليل واستخلاص النتائج مما يوقع في الحرج ويعرِّض للمساءلة في بلادنا العربية، وكأن الكتابة في هذا الموضوع كالسير في أرض ملغمة بكل أسف.

خاتمة:

إن وظيفة القضاء لم تقف يومًا عند حدِّ إقامة العدل، ونصرة المظلوم، والأخذ على يد الظالم، بل إنها لتتعدَّى إلى حماية الحريات وحفظ الحرمات من كل حيف وجور واعتداء يقع عليها من الحكَّام قبل المحكومين، وهذا من صميم عمل القضاة، ولم يكن يومًا تدخُّلًا في عمل السلطة التنفيذية أو انشغالًا بالسياسة التي يحرِّم القانون الاشتغال بها، فقواعد الشرع التي تقتضي أن يسامح الجاهل، بما لا يسامح به العالم، وأنه يُغفر له ما لا يغفر للعالم، إذ حُجة الله عليه أقوم منها على الجاهل، وعلمه بقبح المعصية وبغض الله لها وعقوبته عليها أعظم من علم الجاهل، ونعمة الله عليه بما أودعه من العلم أعظم من نعمته على الجاهل، فلزم أن يقابل من العَتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته، وتقتضي أيضًا أنه بقدر الخصائص والمُكنات التي يودعها الله عز وجل في بعض العباد وبقدر الاستطاعة تأتي التكاليف، فيلزمون بما لا يلزم به غيرهم.

وتدخُّل القضاة في شؤون السلطة لا يشكل تحايلًا على التشريع أو خروجًا عليه، حيث يعتبره بعض المهتمِّين بالشأن القضائي عملًا سياسيًّا، فأمر السلطة بالخير ونهيها عن الشر واجب، وتوجيهها بما يحفظ وحدة الأمة ويدرأ عنها الأخطار واجب، ورفض الظلم والتصدِّي له واجب، وانتقادها وعدم تنفيذ أوامرها إذا خالفت الشرع والتشريع واجب، بل وتوجيهها نحو الإصلاح العام واجب، كل ذلك باعتباره عملًا من أعمال حماية الحريات وحفظ الحرمات.

إن المعرفة القانونية مهما بلغت من الإجادة لا تكفي وحدها لتكوين ثقة الجمهور في القضاة، بل استقلال القضاة وانتقال هذا الشعور بالاستقلال للجمهور هو الذي يوجد هذه الثقة ويؤكِّدها، إن الجمهور لا يحتاج لقضاة وطنيِّين بمفهوم السياسيِّين والعسكريِّين ونحوهم، بل يحتاجهم كحرَّاس للحريات والحقوق، فعمل القضاة من جنس عمل العسكريِّين، لكن نطاقَه ليس الحدود والأرض بل نطاقه الحريات والحقوق وهو لا يقلُّ عن الأرض في خصوصيَّته الذاتية للشعوب.

*****

هوامش

[1] يُمكن أن نقارن ذلك مثلًا ببعض الأنظمة القضائية، كالنظام الكندي، الذي لا يعرف عملية رسمية للترقية داخل القضاء الكندي؛ حيث يتوقع القضاة المعينون في أي مستوى من المحاكم، في معظم الحالات، قضاء كامل حياتهم المهنية في هذا المنصب، حتى يتقاعدوا في سن إلزامية تبلغ 75 عامًا، مع العلم بأن ثمة عددًا قليلًا من المناصب ولا يوجد مسابقة أو طريقة ما للحصول عليها.

[2] وفي الفقه الدستوري الإنجليزي يقولون عن القضاة “الأسود حملة العرش lions under the throne”، وهو تعبير دارج يعكس مدى الحرص الدستوري على أن يمثل القضاء أقوى مخلب يردع الحكومة إذا عملت أو دعمت ما من شأنه أن يعيق حقوق الأفراد أو ممارسة حُرياتهم.

[3] للاستزادة حول هده التغييرات يمكن الرجوع إلى كتابنا: تطبيق الشريعة بين الواقع والمأمول.. مباحث وحقائق تاريخية في قضية تقنين الشريعة وتطبيقها، (القاهرة: دار السلام، الطبعة الأولى، ٢٠١٢).

[4] ليس معنى هذا أن فكرة الاستقلال لم تكن موجودة قبل تلك الفترة، بل كانت موجودة ومطبَّقة بفاعلية أكبر وأعمق في بعض الأزمنة، لكن لم تكن معروفة بصورتها الحديثة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وراجت بعد ذلك في الأوساط القضائية، ففكرة الاستقلال في التاريخ الإسلامي كان لها حدود ونطاقات مختلفة لا يسع هذه الورقة عرضها.

[5] مصطفى حنفي بك، كيف احتفل القضاء الأهلي بعيده الخمسيني، (في): الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية، (القاهرة: نادي القضاة، الطبعة الثانية ١٩٩٠م، ج ٢) ص ص ٢٦٦-٢٦٧.

[6] أحمد عزت عبد الكريم، خمسون عامًا على ثورة 1919، (القاهرة: مركز الوثائق والبحوث التاريخية لمصر المعاصرة، مؤسسة الأهرام، ١٩٧٠)، ص 366.

[7] بينما رأى المستشار حسام الغرياني -رئيس مجلس القضاء الأعلى في فترة المجلس العسكري الانتقالية- فيما أخبرني به؛ أن ذلك كان الغرض الحقيقي من إنشاء النادي، رأى أحمد مكي -عضو مجلس القضاء الأعلى في فترة المجلس العسكري الانتقالية ثم وزير العدل في عهد الرئيس محمد مرسي- أن الغرض من إنشاء النادي لم يكن أكثر من تحقيق منافع ومصالح اجتماعية للقضاة كنقابة خدمية ليس أكثر، وتحول الغرض بعد ذلك لتحقيق استقلال القضاة مع إلغاء المحاكم المختلطة تدريجيًّا.

[8] ومن المفارقات أن ذات المادة في مشروع دستور 1954 نصَّتْ على أن: “تُوحد جميع جهات القضاء على النحو الذى يقرِّره القانون”، وكأن استقلال القضاة كان منوطًا بتوحيد جهات القضاء، يقول عبد الرزاق السنهوري في المذكرة الإيضاحية للمرسوم الأميري 19 لسنة 1959 بتنظيم القضاء في الكويت: “من أهم مقومات النظام القضائي أن تتوحد جهات القضاء وأن يكون هذا القضاء الموحَّد منظمًا على وجه تتبيَّن معه في وضوح معالم المحكمة على اختلاف درجاتها ودوائرها وأن يعرف المتقاضون التشريعات التي تطبِّقها المحكمة والإجراءات التي تتبعها في نظر القضايا التي تعرض عليها”.

[9] والملاحظ أنها خلال فترات ضعف سيطرة تيار استقلال القضاة على النادي عانت من التوقف التام عن الصدور أو الضعف الشديد في التناول مقتصرةً على سرد وحشد للأحكام والسوابق القضائية في الغالب الأعم، وفي المقابل فتعد فترة إحكام سيطرته على النادي من عام ٢٠٠٠ حتى ٢٠٠٨م أزهى عصور المجلة، وقد اشتملت على توثيقات تاريخية مهمَّة لكثير من وقائع استقلال القضاء في التاريخ المصري الحديث فضلًا عن أحداث تلك الفترة التي شهدت أوسع أنشطة تيار الاستقلال.

[10] أخبرني بهذه الحادثة المستشار محسن فضلي نائب رئيس محكمة النقض السابق، وأكدها المستشار أحمد سليمان رئيس محكمة الاستئناف ووزير العدل السابق، وهي مذكورة في مجلة القضاة: نادي القضاة، القاهرة، عدد سبتمبر 2003، ص 71.

[11] وفيهم رئيس الوزراء وأعضاء الوزارة آنذاك، وأعضاء من السلطة القضائية، خرجوا جميعًا يطالبون بالجلاء.

[12] وأخبرني الأستاذ الدكتور محمد يوسف عدس أن الغوغاء كانت تهتف أيضًا (تسقط الحرية) وذلك بشهادة شاهد عيان على هذه الواقعة أخبر الدكتور عدس الذي كان حينذاك طالبًا في جامعة القاهرة.

[13] لعل أول ما يتبادر لذهن قارئ الكتاب: سؤال كيف عُيِّن مُؤلف الكتاب في هذا المنصب الخطير واستمرَّ فيه لمدة ست سنوات كاملة؟! ولماذا اختار هذا التوقيت (1975) ليُخرج فيه مذكراته؟! لاسيما عند قراءة كلامه حول قضية انتحار المشير عبدالحكيم عامر والتي كان يتولَّى تحقيقها وتصرَّف فيها بنفسه بالحفظ لعدم وجود شُبهة جنائية بها؟!

يبدو أن المؤلف كان لديه فراسة بأن مثل هذه الأسئلة ستتبادر إلى ذهن القارئ فسارع في مقدمة الكتاب يقول إنه لم يكن مُقتنعًا ولا راضيًا عن العهد الذي خدم فيه، وأنه كان يُدرك خطورة منصبه قبل أن يتولَّاه ولم يكن باحثًا عن جاه أو راغبًا في سلطان بل كان زاهدًا أشد الزهد في منصبه، ورغم إدراكه للمتاعب والمصاعب التي كان يتوقَّع حدوثها بل يتوقَّع تصاعدها إلى درجة الخطر، فقد وافق على تولِّي المنصب سعيًا إلى الإصلاح! وأيًّا ما كان الأمر فيُحمد للمؤلف أنه كتب هذه المذكرات موثِّقًا لجرائم السُّلطة في هذه الفترة بوصفه كان لصيقًا بها وشاهدًا على جرائمها.

[14] محمد عبد السلام، سنوات عصيبة.. ذكريات نائب عام، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الأولى، 1975)، ص 166.

وقد كتب في تفصيل بعض الوقائع التي ارتكبها الوزير المذكور وأشار إليها المستشار عبد السلام، المستشار ممتاز نصار كذلك في كتابه “معركة العدالة في مصر” الذي طبعته دار الشروق عام 1974، لاسيما دوره في مذبحة القضاة في العهد الناصري.

[15] كلمة المستشار وجدي عبد الصمد كاملة في العدد الصادر من مجلة القضاة الفصلية: نادي القضاة، القاهرة، عدد يناير / إبريل، 1981، ص ص 15-20.

[16] تظهر الدراسات الاستقصائية أن تجارب الفساد وتصوراته في المحاكم منتشرة على نطاق واسع، كما ذكر مشروع العدالة العالمية في تقريره الصادر عام 2012، وفي تقريرها السنوي لعام 2011 أوردت منظمة الشفافية الدولية (TI) أن ما يقرب من نصف الذين شملهم الاستطلاع 46٪ اعتبروا قضيتهم فاسدة على المستوى العالمي، يعتقد حوالي ٣٢٪ من الأوروبيين أن الفساد منتشر في خدماتهم القضائية، وفي بلدان متنوعة مثل: أفغانستان وبنجلاديش وبوليفيا وبلغاريا وكمبوديا وكرواتيا وإثيوبيا وجورجيا وجمهورية مولدوفا اليوغوسلافية السابقة والمغرب وبيرو وأوكرانيا، يُنظر إلى القضاء على أنه الأكثر فسادًا من بين جميع المؤسسات العامة.

[17] وكان مما قاله في خطابه: “أعدكم بأن أبذل كل ما أستطيع من جهد في حدود صلاحياتي الدستورية لوضع الحلول التي تتوصلون إليها موضع التنفيذ”.

ولكن بالطبع لم ينفذ وعده بل سعى لنقض العدالة، وإنجاز عكس ما طالب به القضاة، فلم تصدر أية قوانين مطابقة للشريعة بل تمَّ النيل من بعض نصوص الأحوال الشخصية المطابقة للشريعة، وتمَّ تمديد حالة الطوارئ، والتوسيع من سلطات القضاء العسكري ومحاكم أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية، وأُلغي الإشراف القضائي على الانتخابات بعد أن ألزمت المحكمة الدستورية العليا به السلطة بموجب نصوص دستورية تضمن عدم المطالبة به والعودة إليه، وتمَّت محاربة القضاة والسيطرة على كثير منهم تارةً بالترهيب وتارة بالترغيب، ومنح وزير العدل اختصاصات وسلطات واسعة بموجب قانون السلطة القضائية كان لها تأثيرها البالغ على استقلال القضاة.

[18] تطبيق الشريعة الإسلامية: مجلة القضاة، عدد خاص بمؤتمر العدالة الأول، أبريل 1986، ص ص 40-43.

[19] منها ما وُجِّهَ ليحيى الرفاعي ذاته من أنه قد اختلس (جهاز تلفزيون) من النادي إبان كان رئيسًا لمجلس إدارته، ومنها ما وُجِّهَ للمستشار محمد ناجي دربالة تارةً بأنه إرهابي وتارةً بأن له ميول دينية متشدِّدة بحكم كونه شقيقًا للدكتور عصام دربالة القيادي في الجماعة الإسلامية وقتئذٍ، فضلًا عمَّا اتُّهِمَ به قضاة القائمة جميعًا من أنهم يشتغلون بالسياسة.

[20] أخبرني المستشار محمد ناجي دربالة والمستشار مصطفى أبو زيد أن من المفارقات التي لابستْ هذه الواقعة أن بعض القضاة من المرشَّحين على القائمة المنافسة ومُؤيِّديها كان يُعلِّلُ ما حدث للقاضي المعتدِي على حُرمة مسكنه بأن: (التفتيش جرى لبيت من يُساكن المستشار لا لبيت المستشار نفسه)؟! فلا غرابة بعد هذه المفارقة أن تفوز قائمة المستشار يحيى الرفاعي في الانتخابات بعد ما رأى القضاة ردود الأفعال المتباينة حيال ما حدث للمستشار محمود عبد الحميد غراب ونجله!

  • فصلية قضايا ونظرات- العدد الخامس عشر ـ أكتوبر 2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى