الصحة الجيدة “والرفاه”: نظام التأمين الصحي في ماليزيا.. القيم والتمويل

مقدمة:
تعد الصحة الجيدة والرفاه أحد الأهداف المحورية في خطة التنمية المستدامة 2030 التي أطلقتها الأمم المتحدة، حيث يمثل الهدف الثالث من الأهداف السبعة عشر التي تسعى إلى تعزيز التنمية الشاملة، والذي ينص على “ضمان تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار”[1]، مما يعكس التزامًا عالميًّا بتحقيق نظام صحي مستدام وعادل للجميع.
إذ تمثل الصحة العامة محورًا أساسيًّا في استراتيجيات التنمية، حيث يرتبط تحسُّن الخدمات الصحية بانخفاض معدلات الفقر، وزيادة الإنتاجية، وتحسين جودة الحياة، مما يجعله عاملًا حاسمًا في تعزيز النمو الاقتصادي والاجتماعي. وقد أكدت خطة الأمم المتحدة 2030 على الحاجة إلى أنظمة صحية قوية، تتَّسم بالكفاءة والاستدامة، وتستند إلى مبادئ العدالة الاجتماعية، والشمول، وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية. كما شدَّدت الخطة على أهمية تغطية صحية شاملة تضمن حصول جميع الأفراد على الخدمات الطبية دون مواجهة أعباء مالية ترهق الأسر، وهو ما يتطلب وجود أنظمة تأمين صحي متكاملة تلبي احتياجات المواطنين بفعالية وكفاءة.
في هذا السياق، تعتبر تجربة ماليزيا في التأمين الصحي نموذجًا يسعى للجمع بين تحقيق العدالة الصحية والتمويل المستدام، حيث طورت الدولة نظامًا صحيًا يعتمد على مزيج من التمويل الحكومي والخاص، إضافة إلى نهج قائم على التكافل الاجتماعي، وتبنت نهجًا شاملًا في التعامل مع هدف التنمية المستدامة الثالث (الصحة الجيدة والرفاه) من خلال تطوير نظام رعاية صحية متكامل يحقق التغطية الصحية الشاملة (Universal Health Coverage – UHC)، ويوازن بين التمويل الحكومي والخاص، مع التركيز على العدالة في توزيع الخدمات الصحية. ما جعل التجربة الماليزية واحدة من أبرز النماذج في الدول النامية التي استطاعت توفير خدمات صحية بجودة عالية، بأسعار ميسورة، مع مراعاة الجوانب الاجتماعية والثقافية، بما في ذلك القيم الإسلامية في الرعاية الصحية[2].
كما يسعى النظام الصحي الماليزي إلى التوفيق بين القيم الإسلامية، كالعدالة والتكافل الاجتماعي، وضمان استدامة التمويل الصحي، حيث يعتمد النموذج الماليزي على مزيج من التمويل الحكومي والتأمين التكافلي، مما يطرح تساؤلات حول مدى نجاحه في تحقيق تغطية صحية عادلة دون إثقال كاهل الدولة أو المواطنين في ضوء أهداف خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030.
وعليه، يركِّز هذا التقرير على تحليل هذا التوازن، من خلال دراسة دور التأمين التكافلي في تحقيق العدالة الصحية، وآليات تمويل الخدمات الصحية، ومدى توافق النظام الماليزي مع قيم الاقتصاد السياسي الإسلامي وأهداف التنمية المستدامة 2030، وذلك من خلال عدة محاور رئيسية:
أولًا: مفهوم الصحة والرفاه في الرؤية الإسلامية والتنموية، ثانيًا: نظام التأمين الصحي في ماليزيا – الهيكلة والتنظيم، ثالثًا: القيم الإسلامية في نظام التأمين الصحي الماليزي، رابعًا: تمويل نظام التأمين الصحي الماليزي – آلياته وتحدياته، خامسًا: التأمين الصحي الماليزي في ضوء خطة التنمية المستدامة، خاتمة: تساؤلات منهجية حضارية.
أولًا– مفهوم الصحة والرفاه في الرؤية الإسلامية والتنموية:
- الصحة في الرؤية الإسلامية:
تحتل الصحة مكانةً مركزية في الإسلام، إذ تُعد من أهم النعم التي منحها الله للإنسان، وقد أكد الشرع على ضرورة الحفاظ عليها والعناية بها. تأتي هذه الأهمية من كون حفظ النفس أحد المقاصد الخمسة الكبرى للشريعة الإسلامية، إلى جانب حفظ الدين، والعقل، والمال، والنسل. فالصحة الجيدة ضرورية لقيام الإنسان بواجباته الدينية والدنيوية، ولتحقيق التوازن بين الجسد والروح، حيث وردت في القرآن الكريم والحديث النبوي إشارات عديدة تؤكد على أهمية الصحة والعناية بالجسد، ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وهو نهي صريح عن أي سلوك قد يضر بالنفس، مما يشمل الإهمال الصحي. وحديث النبي ﷺ: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ“ (أخرجه البخاري)، مما يدل على قيمة الصحة وضرورة استغلالها فيما ينفع، وبهذا، يُنظر إلى الصحة في علم المقاصد على أنها جزء لا يتجزأ من مقصد حفظ النفس، نظرًا لكونها تندرج ضمن الضروريات في البنية المقاصدية للشريعة الإسلامية[3]، فقد أوجب الإسلام كل ما يسهم في الحفاظ على سلامة الإنسان.
بجانب ذلك، يُعد التكافل والتعاون من المبادئ الأساسية في الإسلام، حيث يؤكد الشارع الحكيم على أهمية التضامن المجتمعي لضمان وصول الجميع إلى الرعاية الصحية، وذلك استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، وحديث النبي ﷺ: ” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” (رواه البخاري ومسلم). ويظهر هذا التكافل الصحي في عدة صور، منها الوقف الصحي الذي عُرف في الحضارة الإسلامية عبر “البيمارستانات”[4] التي قدمت العلاج المجاني، والزكاة والصدقات التي خُصصت لدعم المرضى المحتاجين، بالإضافة إلى التأمين الصحي التكافلي الذي يعد نموذجًا حديثًا مشتقًا من الفقه الإسلامي[5]، كما هو مطبق في ماليزيا حيث يعتمد على التعاون المالي بين الأفراد لتمويل الخدمات الصحية دون استغلال ربحي. وقد تبنت عدة دول إسلامية، مثل السعودية وتركيا، أنظمة صحية مدعومة حكوميًّا لضمان حصول الفئات الأقل دخلًا على الرعاية الطبية، مما يعكس التزام هذه الدول بمبادئ التكافل الإسلامي في الرعاية الصحية.
كما تُمثل العدالة الصحية ركيزة أساسية لضمان حصول جميع الأفراد على الرعاية الصحية بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي أو الاجتماعي، ويتطلب تحقيقها تعاونًا وثيقًا بين الدولة والمجتمع. حيث تتحمل الدولة مسؤولية رئيسية في توفير خدمات صحية متاحة وعالية الجودة من خلال إنشاء مستشفيات ومراكز طبية حكومية، وضمان التأمين الصحي الإجباري أو المدعوم، إلى جانب وضع سياسات صحية عادلة تضمن التوزيع المتوازن للخدمات الطبية، والرقابة على القطاع الصحي لضمان جودته ومنع الاحتكار. وفي المقابل، يساهم المجتمع في تحقيق العدالة الصحية من خلال آليات التكافل الاجتماعي مثل الوقف الصحي، والتأمين التكافلي الإسلامي الذي يقوم على مبدأ التعاون والتضامن في تمويل الرعاية الصحية، إلى جانب المبادرات المجتمعية والتطوعية التي تدعم الفئات غير القادرة[6].
- التنمية المستدامة والصحة:
يُعد الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة 2030، المعنون بـ “الصحة الجيدة والرفاه”، أحد الركائز الأساسية لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، حيث يهدف إلى ضمان تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وتعزيز الرفاه في جميع الأعمار. يشمل هذا الهدف عدة غايات فرعية، منها: الحد من وفيات الأمهات والأطفال، ومكافحة الأمراض المعدية وغير المعدية، وتعزيز الرعاية الصحية الأولية، وتحقيق التغطية الصحية الشاملة. كما يركز على تحسين الخدمات الصحية في المناطق النائية، وتعزيز البحث والتطوير في المجال الطبي، وضمان حصول الجميع على الأدوية واللقاحات الأساسية بأسعار معقولة[7]. ويتطلب تحقيق هذا الهدف تنسيقًا دوليًّا واستثمارات مستدامة لضمان استمرارية الخدمات الصحية للجميع، خاصة في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث تواجه هذه الدول تحديات هيكلية في بناء أنظمة صحية قوية ومستدامة.
اتصالًا بذلك، ترتبط الصحة ارتباطًا وثيقًا بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث تؤثر جودة الخدمات الصحية على إنتاجية الأفراد ومستوى معيشتهم. فالأفراد الأصحاء يكونون أكثر قدرة على العمل والإنتاج، مما يعزز النمو الاقتصادي، بينما تؤدي الأمراض وضعف الرعاية الصحية إلى خسائر اقتصادية كبيرة بسبب انخفاض الإنتاجية وارتفاع تكاليف العلاج. على الصعيد الاجتماعي، تساهم الصحة الجيدة في تحقيق الاستقرار المجتمعي وتقليل معدلات الفقر، حيث يؤدي الإنفاق المرتفع على الرعاية الصحية إلى استنزاف الموارد المالية للأسر الفقيرة، مما يفاقم عدم المساواة الاجتماعية. كما أن تحسين الصحة العامة يعزز من جودة الحياة، ويزيد من متوسط العمر المتوقع، ويقلل من الأعباء الصحية على الأنظمة الحكومية، مما يجعل الاستثمار في الصحة أحد العوامل الحاسمة لتحقيق تنمية مستدامة.
ولا شك أن الدول النامية تواجه تحديات كبيرة في تحقيق الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة، حيث تعاني من نقص التمويل وضعف البنية التحتية الصحية، وغياب التغطية الصحية الشاملة، وانتشار الأمراض المعدية وسوء التغذية. كما أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي يزيد من فجوة الوصول إلى الخدمات الصحية بين الفئات المختلفة، حيث يواجه سكان المناطق الريفية والفقيرة صعوبة في الحصول على الرعاية الطبية الأساسية. إضافةً إلى ذلك، تشكل الأزمات الصحية العالمية، مثل جائحة كوفيد-19، تحدِّيًا إضافيًّا أدَّى إلى إضعاف الأنظمة الصحية وزيادة الأعباء المالية على الحكومات. ومن التحديات الأخرى الهجرة المتزايدة للأطباء والكفاءات الصحية من الدول النامية إلى الدول المتقدمة، مما يخلق نقصًا حادًّا في الكوادر الطبية المؤهَّلة. وللتغلُّب على هذه التحديات، تحتاج الدول النامية إلى إصلاحات هيكلية في قطاع الصحة، وتعزيز التعاون الدولي، وتوسيع نطاق التأمين الصحي التكافلي كنموذج مستدام لتمويل الرعاية الصحية.
من هنا تكمن أهمية دراسة وتقييم تجربة التأمين الصحي الماليزي في ضوء خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 لاستخلاص الدروس والتجارب القابلة للتطبيق في الدول النامية، خاصة فيما يتعلق بتوسيع التغطية الصحية، وتحقيق استدامة التمويل، وتعزيز التكافل الصحي كبديل للنماذج التقليدية.
ثانيًا- نظام التأمين الصحي في ماليزيا: الهيكلة والتنظيم
أ) تاريخ وتطور النظام الصحي الماليزي
- لمحة تاريخية عن تطور النظام الصحي:
شهد النظام الصحي في ماليزيا تحولات جوهرية منذ الحقبة الاستعمارية البريطانية وحتى الوقت الحالي، حيث تطور من نظام صحي بسيط قائم على العيادات الريفية والمراكز الصحية الأولية إلى هيكل متكامل يجمع بين الرعاية الصحية العامة والخاصة. خلال الحقبة الاستعمارية، كانت الخدمات الصحية تقتصر على المرافق التي أنشأها البريطانيون لخدمة موظفيهم، ومع استقلال ماليزيا في عام 1957، اتجهت الحكومة إلى بناء نظام صحي وطني يهدف إلى توفير الرعاية الصحية للجميع. فتم تعزيز النظام الصحي بشكل ملحوظ خلال السبعينيات والثمانينيات، حيث زادت الاستثمارات في البنية التحتية الصحية، وتم تطوير برامج الرعاية الأولية والوقائية[8]، مما أدَّى إلى تحسُّن كبير في مؤشرات الصحة العامة مثل انخفاض معدل وفيات الأمهات والأطفال، وزيادة متوسط العمر المتوقع.
في العقود الأخيرة، تبنت ماليزيا استراتيجيات إصلاحية لتعزيز كفاءة النظام الصحي وتحقيق التغطية الصحية الشاملة، حيث تم إدخال التأمين الصحي التكافلي، وتوسيع شراكات القطاع الخاص، وتعزيز دور التكنولوجيا في تقديم الرعاية الصحية. واليوم، تتمتع ماليزيا بنظام صحي مختلط وفعال، حيث توفر المستشفيات الحكومية خدمات طبية ميسورة التكلفة، بينما يقدم القطاع الخاص خيارات متقدمة للرعاية الطبية[9].
- العلاقة بين القطاع العام والخاص في الخدمات الصحية:
يتميز النظام الصحي الماليزي بهيكل مزدوج يجمع بين القطاعين العام والخاص، مما يوفِّر توازنًا في تقديم الخدمات الصحية، إذ يعمل القطاع العام على ضمان وصول الخدمات الصحية الأساسية لجميع المواطنين بتكلفة ميسورة، بينما يقدم القطاع الخاص رعاية طبية متقدمة مدفوعة الأجر لمن يستطيع تحمل تكاليفها.
القطاع العام تهيمن عليه وزارة الصحة الماليزية التي تدير شبكة واسعة من المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية، حيث يتم تقديم الخدمات الصحية بأسعار رمزية أو مجانًا للفئات ذات الدخل المنخفض، ويمول هذا النظام بشكل أساسي من خلال الضرائب الحكومية. على الجانب الآخر، القطاع الخاص يضم المستشفيات والعيادات الخاصة التي تقدم خدمات طبية متخصصة ومتقدمة، مما يخفف الضغط على النظام الصحي الحكومي. وقد أدت الشراكة بين القطاعين إلى تطوير حلول مبتكرة، مثل برامج التأمين الصحي التكافلي وبرامج الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، والتي تساهم في توسيع نطاق التغطية الصحية وتحقيق استدامة التمويل الصحي[10].
رغم الفوائد الكبيرة لهذا النموذج، لا تزال هناك تحديات، أبرزها التفاوت في جودة الخدمات بين القطاعين، وزيادة الاعتماد على القطاع الخاص مما قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، فضلًا عن نقص الكوادر الصحية في بعض المناطق الريفية. وللتعامل مع هذه القضايا، تعمل الحكومة الماليزية على تعزيز التكامل بين القطاعين من خلال سياسات دعم مالي للمرضى غير القادرين، وتعزيز تنظيم الأسعار والتأمين الصحي الشامل.
ب) آليات التأمين الصحي في ماليزيا
- التأمين الصحي الحكومي:
يُعد التأمين الصحي الحكومي في ماليزيا ركيزة أساسية لضمان الوصول العادل إلى الرعاية الصحية، خاصة للفئات ذات الدخل المنخفض، ويعتمد هذا النظام على مزيج من التمويل الحكومي، والمساهمات الاجتماعية، وبرامج الدعم الصحي التي تستهدف الفئات الأكثر احتياجًا. ومن بين أهم البرامج التي تم تطويرها لتعزيز العدالة الصحية برنامج PeKa B40 ، وبرنامج MySalam، حيث يعكسان سعي الحكومة الماليزية لتحقيق تغطية صحية شاملة وفق أهداف التنمية المستدامة 2030.
- برنامج :PeKa B40 توفير الخدمات الصحية للفئات الأقل دخلًا
أطلقت الحكومة الماليزية برنامج PeKa B40 عام 2019، وهو مصمم خصيصًا لدعم الفئات ذات الدخل المنخفض( Bottom 40% أو B40)، أي المواطنين الذين يمثلون أقل من 40% من إجمالي السكان من حيث الدخل. يهدف البرنامج إلى تحسين جودة الحياة من خلال تقديم فحوصات صحية مجانية، ودعم شراء الأجهزة الطبية، وتمويل علاجات السرطان، وتعويض تكاليف السفر للعلاج.
يستهدف البرنامج المواطنين الذين تزيد أعمارهم عن 40 عامًا والمسجلين في قاعدة بيانات المساعدات الحكومية، حيث يتم توفير الخدمات من خلال شبكة واسعة من العيادات والمستشفيات الحكومية والخاصة المتعاقدة مع البرنامج. إذ يساهم برنامج PeKa B40 في تعزيز الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم، مما يقلل العبء المالي على النظام الصحي الحكومي على المدى الطويل. يُعد هذا البرنامج نموذجًا للتأمين الصحي الحكومي القائم على العدالة الصحية والتكافل الاجتماعي، حيث يتم تمويله بالكامل من خلال الضرائب العامة دون فرض أي مساهمات مالية مباشرة من المستفيدين[11].
- برنامج :MySalam B40 دور التأمين التكافلي في الرعاية الصحية
يعد برنامج MySalam أحد المبادرات الرائدة في ماليزيا لتوفير تأمين صحي تكافلي مجاني للفئات ذات الدخل المحدود. تم إطلاقه في يناير 2019 كمبادرة حكومية بالتعاون مع شركات التأمين التكافلي، بهدف تقديم دعم مالي للمواطنين الذين يعانون من أمراض خطيرة مثل السرطان وأمراض القلب، إلى جانب دعم المصابين بالعجز المؤقت أو الدائم.
يعمل البرنامج وفق نموذج التأمين التكافلي الإسلامي، حيث يتم تمويله من خلال صندوق مشترك تديره الحكومة بالتعاون مع شركة .Great Eastern Takaful إذ يمنح البرنامج المستفيدين مبالغ مالية مقطوعة تصل إلى 8000 رنجت ماليزي عند تشخيصهم بأحد الأمراض المشمولة، إلى جانب تعويض يومي للمستفيدين خلال فترات العلاج بالمستشفيات. ومن خلال توفير الدعم المالي المباشر، ويساهم في تقليل الأعباء المالية على الأسر الفقيرة، ويعزز من الوصول العادل إلى الخدمات الطبية.
إضافةً إلى دوره في تخفيف الأعباء المالية، يمثل MySalam نموذجًا بارزًا للدمج بين مبادئ الاقتصاد الإسلامي والرعاية الصحية المستدامة، حيث يعتمد على نظام التأمين التكافلي بدلًا من التأمين الربحي التقليدي. وقد تمَّ توسيع نطاق البرنامج ليشمل المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و65 عامًا، مع التركيز على المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي[12].
- التأمين الصحي الخاص:
يلعب التأمين الصحي الخاص في ماليزيا دورًا حيويًّا في تخفيف الضغط على القطاع العام، حيث توفر شركات التأمين والمستشفيات الخاصة خدمات طبية متقدمة مقابل رسوم مدفوعة. فمثلًا تقدم شركات مثل AIA Malaysia وPrudential BSN Takaful خطط تأمين تغطي التكاليف الطبية جزئيًّا أو كلِّيًّا، بينما توفر المستشفيات الخاصة مثل Gleneagles Hospital وPantai Hospital خيارات علاجية متطورة دون فترات انتظار طويلة. يتيح النظام الخاص للمرضى حرية اختيار الأطباء وسرعة الوصول إلى الرعاية الصحية، لكنه أكثر تكلفة مقارنة بالخدمات الحكومية[13].
ويعمل القطاعان العام والخاص بشكل تكاملي، حيث يتم تحويل بعض المرضى من المستشفيات الحكومية إلى الخاصة لتخفيف الازدحام، كما تساهم شركات التأمين الخاصة في تغطية الخدمات غير المتوفرة في النظام العام. ومع ذلك، لا يزال هناك تحدٍّ يتمثَّل في عدم المساواة في الوصول إلى الرعاية الصحية، حيث يعتمد الفقراء على الخدمات الحكومية، بينما يستفيد الأثرياء من خيارات القطاع الخاص. ولضمان العدالة الصحية، تدعم الحكومة برامج مثل MySalam و PeKa B40 -كما ذكرنا- لتمكين الفئات ذات الدخل المنخفض من الاستفادة من كلا النظامين.
ثالثًا- القيم الإسلامية في نظام التأمين الصحي الماليزي:
- العدالة الصحية والتوزيع العادل:
تعتمد ماليزيا على نموذج مزدوج يجمع بين القطاعين العام والخاص لضمان وصول الخدمات الصحية لجميع الفئات، حيث تقدِّم المستشفيات الحكومية رعاية صحية ميسورة التكلفة أو مجانية للفئات ذات الدخل المنخفض، بينما يوفر القطاع الخاص خدمات طبية متطورة للمواطنين القادرين ماليًّا. وقد ساهمت برامج مثل PeKa B40 وMySalam في تقليل الفجوة الصحية بين الفقراء والأغنياء، من خلال تقديم فحوصات مجانية، وعلاجات مدعومة، وتعويضات مالية للمرضى المحتاجين. كما تعمل الحكومة على توزيع المرافق الصحية بشكل عادل بين المناطق الريفية والحضرية، لضمان عدم تركز الخدمات في المدن الكبرى فقط.
- التأمين التكافلي الإسلامي:
ولتحقيق التوازن بين العدالة الصحية والاستدامة المالية، تبنَّت ماليزيا نظام التأمين التكافلي الإسلامي (Takaful Health Insurance)، الذي يعتمد على مبدأ التعاون والمشاركة في المخاطر دون استغلال ربحي. كما يتم تمويل النظام الصحي الحكومي من خلال الضرائب العامة، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، والاستثمارات الأخلاقية، مما يضمن استمرارية تقديم الخدمات الصحية دون تحميل الأفراد أعباء مالية كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد ماليزيا على مبدأ الوقاية كوسيلة لتقليل تكاليف العلاج، حيث يتم تنفيذ برامج للكشف المبكر عن الأمراض المزمنة، مما يقلل الضغط على النظام الصحي الحكومي[14].
- الزكاة الصحية:
تساهم مؤسسات الزكاة والوقف في ماليزيا في تقديم خدمات صحية مجانية أو مدعومة للفقراء من خلال استخدام أموال الزكاة لدعم مراكز تقديم الرعاية الصحية مثل مركز علاج المرضى الإسلامي لدعم المرضى غير القادرين على تحمل تكاليف العلاج[15]. ويعد هذا النموذج مثالًا عمليًّا على تكامل التمويل الإسلامي مع التأمين الصحي، حيث يتم توجيه أموال الصدقات والزكاة لخدمة الأفراد الأكثر احتياجًا.
- التوازن بين المسؤولية الفردية والدعم الحكومي
يدمج النظام الماليزي بين التمويل الحكومي والتأمين الصحي التكافلي والمسؤولية الفردية، حيث تساهم الدولة في تغطية تكاليف الرعاية الصحية للفئات المحتاجة، بينما يتحمل الأفراد القادرون تكاليف جزئية من خلال برامج التأمين الخاصة. ويعكس هذا النهج مبدأ “لا ضرر ولا ضرار“ في الإسلام، حيث يتم توزيع الأعباء المالية بشكل عادل لضمان استدامة الموارد الصحية.
بهذا، يرتكز نظام التأمين الصحي في ماليزيا على مبادئ إسلامية تعزز العدالة والتكافل الاجتماعي والتوازن بين المسؤولية الفردية والجماعية، حيث يتم دمج القيم الإسلامية في هيكلة النظام لضمان تحقيق التغطية الصحية الشاملة دون تمييز بين المواطنين، كما أن القراءة الوافية لقيم نظام التأمين الصحي الماليزي تُظهر كيف يمكن للقيم الإسلامية أن تشكل ركيزة أساسية في بناء نظام صحي عادل ومستدام، حيث يتم الجمع بين التغطية الصحية الشاملة، وآليات التمويل المتوافقة مع الشريعة، والتكافل الاجتماعي، وهو ما يجعله نموذجًا يمكن الاستفادة منه في تطوير أنظمة تأمين صحي في الدول الإسلامية الأخرى.
رابعًا- تمويل نظام التأمين الصحي الماليزي: آلياته وتحدياته
أ) مصادر التمويل
يُعد تمويل نظام التأمين الصحي في ماليزيا مزيجًا من المصادر الحكومية، والمساهمات الفردية، والدعم المجتمعي، مما يضمن استدامة النظام الصحي مع تحقيق التغطية الصحية الشاملة. يعتمد هذا النموذج على التوزيع العادل للموارد وفق مبادئ التكافل الاجتماعي والعدالة المالية، مستفيدًا من التمويل الحكومي، والاشتراكات التأمينية، وآليات الزكاة والوقف الإسلامي.
- التمويل الحكومي والضرائب:
يشكل التمويل الحكومي الركيزة الأساسية لتمويل النظام الصحي الماليزي، حيث يتم تخصيص جزء من ميزانية الدولة لدعم المستشفيات العامة، والمراكز الصحية الأولية، وبرامج التأمين الصحي المجاني للفئات الأقل دخلًا، مثل PeKa B40 وMySalam إذ يتم تمويل هذه البرامج من خلال إيرادات الضرائب العامة، والتي تشمل ضريبة السلع والخدمات (GST)، وضريبة الدخل، والرسوم الحكومية. كما تساهم الحكومة في تقديم دعم مالي مباشر للمستشفيات العامة لتغطية التكاليف التشغيلية وتحسين البنية التحتية الطبية، مما يضمن تقديم خدمات صحية ميسورة التكلفة[16]، ووفقًا لبيانات البنك الدولي لعام 2019، بلغ إجمالي الإنفاق الصحي في ماليزيا حوالي 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي، مع مساهمة الإنفاق الحكومي بنسبة 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي. في عام 2021، ارتفع الإنفاق الحكومي على الصحة إلى ما يقرب من 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يعكس التزام ماليزيا بتعزيز نظامها الصحي وتوفير الرعاية الصحية الشاملة لمواطنيها[17].
- الاشتراكات في التأمين الصحي
يعتمد النظام الماليزي أيضًا على مساهمات الأفراد والشركات في التأمين الصحي الخاص والتكافلي، حيث تقدم شركات مثل Etiqa Takaful وPrudential BSN Takaful خطط تأمين صحي تعتمد على اشتراكات شهرية أو سنوية. ويتيح هذا النظام للعاملين في القطاع الخاص وأصحاب الأعمال الصغيرة الحصول على تغطية طبية شاملة، تشمل العلاج في المستشفيات الخاصة، العمليات الجراحية، والفحوصات الدورية. بالإضافة إلى ذلك، تفرض بعض الشركات الكبرى في ماليزيا على موظفيها التسجيل الإجباري في برامج التأمين الصحي الخاص كجزء من حزم الامتيازات الوظيفية، مما يساهم في تخفيف العبء على النظام الحكومي[18].
- دعم المجتمع المدني (الزكاة والوقف)
يلعب المجتمع المدني دورًا مهمًّا في تمويل الرعاية الصحية من خلال مؤسسات الزكاة والوقف، حيث تساهم هذه المؤسسات في تغطية نفقات علاج الفئات الفقيرة، وإنشاء مستشفيات وقفية، وتمويل شراء المعدات الطبية، حيث يتم جمع أموال الزكاة والوقف من الأفراد والمؤسسات ثم إعادة توزيعها لدعم الخدمات الصحية المجانية، مثل برامج الرعاية الصحية للأرامل والأيتام، وتمويل العمليات الجراحية للحالات المستعصية، ودعم الأدوية والعلاجات لغير القادرين[19]، وتدير المؤسسات الإسلامية في ماليزيا، مثل Lembaga Zakat Selangor وMajlis Agama Islam Wilayah Persekutuan، صناديق صحية وقفية تهدف إلى توفير العلاج المجاني للأسر ذات الدخل المحدود.
ب) تحديات التمويل الصحي في ماليزيا
1- استدامة التمويل في ظل التغيرات الاقتصادية
يواجه نظام التأمين الصحي في ماليزيا تحديات في تحقيق الاستدامة المالية، خاصة مع التغيرات الاقتصادية التي تؤثر على الإيرادات الحكومية ونفقات الصحة. إذ يعتمد تمويل النظام الصحي بشكل كبير على الضرائب العامة، مما يجعله عرضة للتباطؤ الاقتصادي وتراجع الإيرادات الضريبية في أوقات الركود الاقتصادي أو الأزمات المالية، فأحيانا تضطر الحكومة إلى إعادة تخصيص الميزانية لصالح قطاعات أخرى، مما قد يؤثر على جودة الخدمات الصحية والتغطية الشاملة. كما أن زيادة الشيخوخة السكانية وارتفاع معدلات الأمراض غير المعدية مثل السكري وأمراض القلب تؤدي إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، مما يزيد العبء على النظام المالي الصحي. ولمواجهة هذا التحدي، لذلك فإن الحكومة الماليزية بحاجة إلى تنويع مصادر التمويل من خلال تعزيز التأمين التكافلي والشراكات بين القطاعين العام والخاص، إضافةً إلى تحسين إدارة التكاليف الصحية عبر تبني سياسات صحية أكثر كفاءة.
2- تأثير التقلبات السياسية على الميزانية الصحية
تلعب العوامل السياسية دورًا كبيرًا في تحديد أولويات الإنفاق الصحي في ماليزيا، حيث تؤثر التغيرات الحكومية والانتخابات والسياسات المالية على تخصيص الموارد الصحية. فمع تغيُّر الحكومات أو تبنِّي سياسات تقشُّفية، قد تواجه الميزانية الصحيَّة خفضًا في التمويل أو إعادة توزيع للموارد، مما يؤدِّي إلى تباطؤ تنفيذ المشاريع الصحية الجديدة وتأثُّر جودة الخدمات المقدَّمة. على سبيل المثال، في فترات عدم الاستقرار السياسي، قد تتَّجه الحكومة إلى تجميد بعض مبادرات التأمين الصحي أو تأخير الإصلاحات الصحية بسبب الأولويات الاقتصادية الأخرى. كما أن العوامل الجيوسياسية والتغيرات في أسعار النفط والتجارة الدولية قد تؤثر على الميزانية العامة للدولة، مما ينعكس على حجم الإنفاق على الصحة[20]. ولتعزيز استدامة التمويل الصحي تحتاج ماليزيا إلى تبني سياسات مالية طويلة الأجل تضمن الاستمرارية بغض النظر عن التغيُّرات السياسية، مع تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة الموارد الصحية.
خامسًا- نظام التأمين الصحي الماليزي في ضوء خطة التنمية المستدامة
يُعد نظام التأمين الصحي الماليزي تجربةً مهمة في تحقيق التغطية الصحية الشاملة وفق خطة التنمية المستدامة 2030، حيث يهدف إلى توفير خدمات صحية متاحة لمختلف الفئات السكانية. وقد ساهمت برامج مثل PeKa B40 وMySalam في توسيع نطاق التأمين الصحي، لا سيما للفئات ذات الدخل المحدود، مما أتاح فرصًا أكبر للوصول إلى الرعاية الصحية. ومع ذلك، لا تزال بعض الفئات، مثل العمال غير الرسميين والمقيمين الأجانب، تواجه تحديات في الحصول على التغطية الصحية، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى شمولية النظام لكافة شرائح المجتمع.
من ناحية أخرى، شهدت ماليزيا تحسُّنًا في عدد من المؤشِّرات الصحية، مثل ارتفاع متوسط العمر المتوقَّع وانخفاض معدَّلات وفيات الأمَّهات، مدعومًا بالاستثمار في البنية التحتية الصحية وتعزيز خدمات الرعاية الأولية. لكن على الرغم من ذلك، فإن التحديات الصحية المرتبطة بالأمراض غير المعدية، مثل السكري وأمراض القلب، لا تزال تشكِّل ضغطًا على النظام الصحي، مما يستدعي تعزيز سياسات الوقاية والتثقيف الصحي.
أما على صعيد التمويل، فإن النظام يعتمد على مزيج من التمويل الحكومي والضرائب والتأمين التكافلي، حيث بلغ إجمالي الإنفاق الصحي نسبة ملحوظة من الناتج المحلي الإجمالي (ما يقارب 4.4% في السنوات الأخيرة). غير أن الاعتماد الكبير على الإيرادات الضريبية قد يجعله عرضةً للتأثُّر بالتغيُّرات الاقتصادية، مما يفرض الحاجةَ إلى تنويع مصادر التمويل لضمان استدامة الخدمات الصحية. وقد سَعَتْ ماليزيا إلى تحقيق ذلك من خلال تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، إضافةً إلى استكشاف إمكانيات الاستفادة من موارد الوقف والزكاة في دعم الرعاية الصحية.
في السياق السياسي، تؤثِّر التغيُّرات في السياسات والبرامج الحكومية على استمرارية بعض المبادرات الصحية، فقد تؤدِّي إعادة هيكلة الميزانيات أو تبدُّل الأولويات إلى تعديل نطاق التمويل الصحي أو آليَّات توزيعه. وعلى الرغم من استقرار الإطار العام للنظام الصحي، فإن التطورات السياسية تظلُّ عاملًا مؤثِّرًا في توجيه الموارد وتحديد اتجاهات الإصلاح.
وبالنظر إلى التجارب المقارنة، يمكن اعتبار النظام الصحي الماليزي نموذجًا يعكس مزيجًا من التمويل الحكومي والخاص في إطار يهدف إلى تحقيق التغطية الصحية الشاملة، إلا أنه لا يخلو من التحديات التي تتطلَّب مزيدًا من الإصلاحات. ويظل توسيع نطاق التأمين التكافلي، وتعزيز الاستثمار في الرعاية الوقائية، وضمان كفاءة توزيع الموارد الصحية من بين الأولويات التي يمكن أن تساهم في تعزيز قدرته على مواجهة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية.
خاتمة: تساؤلات منهجية حضارية
تُبرز قراءة وتحليل نظام التأمين الصحي الماليزي في سياق خطة التنمية المستدامة 2030 عددًا من الدلالات التي تتَّصل بالمنظور الحضاري الإسلامي في قراءة التنمية والسياسات الصحية. فمن حيث المنظومية والتكامل، يظهر النموذج الماليزي كمحاولة للجمع بين آليات التمويل الحديثة والمبادئ التكافلية المستمدَّة من القيم الإسلامية، مثل التأمين التكافلي والوقف الصحي، وهو ما يعكس إمكانية دمج المبادئ الأخلاقية في السياسات الاقتصادية والصحية. إلا أن التساؤل المطروح هو مدى قدرة هذا التكامل على تحقيق عدالة التوزيع الصحي في ظل تحديات الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، أما على مستوى التوازن والاستدامة، فقد سعى النظام الماليزي إلى تحقيق تغطية صحية شاملة دون إثقال كاهل الموارد المالية للدولة، إلا أن التحديات المرتبطة بالمتغيرات الاقتصادية والسياسية لا تزال تؤثر على استدامة التمويل الصحي. وهنا، تتَّضح الحاجة إلى آليات أكثر مرونة لضمان استمرار الدعم الحكومي للتأمين الصحي دون أن يتأثر بالتحولات السياسية والاقتصادية، وهو ما يطرح تساؤلًا حول مدى قدرة الأنظمة الصحية في الدول النامية على تطوير نماذج تمويل تحقق العدالة والاستدامة معًا.
من حيث العلاقة بين السياسي والاقتصادي في الدولة القومية الحديثة، يُظهر النظام الماليزي كيف تؤثر التوجُّهات السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية على تطوُّر القطاع الصحي. فرغم التوسُّع في سياسات التأمين الصحي، فإن أي تغيُّر في الأولويات الاقتصادية أو وجود اضطرابات سياسية قد يؤدِّي إلى إعادة توجيه الموارد، مما يجعل الاستقرار السياسي والإداري عاملًا أساسيًّا لضمان استدامة التغطية الصحية الشاملة.
وفي سياق العدالة العالمية والديمقراطية الصحية، فإن قراءة التجربة الماليزية تسلِّط الضوء على التحديات التي تواجه الدول متوسطة الدخل في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في ظل نظام عالمي يُعاني من عدم تكافؤ الفرص الاقتصادية والصحية. ورغم الجهود المبذولة لتعزيز التكافل الاجتماعي، فإن النظام الصحي الماليزي لا يزال بحاجة إلى تطوير آليات أكثر شمولًا لمواجهة التفاوتات الصحية بين الفئات السكَّانية المختلفة.
وأخيرًا، فإن القراءة النقدية لسياسات التنمية الصحية يظهر الحاجة إلى تجاوز التقييمات الكمية التي تعتمد على المؤشِّرات الاقتصادية وحدها، إلى قراءة أكثر عمقًا تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد القيمية والحضارية في تمكين الصحة والرفاه. وهنا، يبرز تساؤل أوسع حول كيفية تطوير نماذج صحية تراعي الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للدول الإسلامية، وتحقق التكامل بين القيم الأخلاقية والاعتبارات الاقتصادية في التخطيط الصحي لاسيما في إطار تبني خطط ورؤى أممية -وافدة- عابرة لإمكانات وقدرات الدول النامية.
———————————————
الهوامش:
[1] قرار (70/1)، قمة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، 25-27 سبتمبر 2015، نيويورك، الأمم المتحدة، د.ت.، تاريخ الاطلاع: 20 فبراير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/9l8KA9F
[2] للمزيد انظر:
- Farrah Ilyani Che Jamaludin (et al.), Developing a Shariah-compliant medical services framework in Malaysia: an expert system approach using fuzzy Delphi method and interpretive structural modelling, BMJ Open, Vol. 15, January 2025, available at: https://bmjopen.bmj.com/content/15/1/e082263
[3] للمزيد انظر: سيف الدين عبدالفتاح، العملية الاجتهادية وأصول الفقه الحضاري: دراسة في سياقات المدخل المقاصدي، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 2 يناير 2016، تاريخ الاطلاع: 22 فبراير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/XBGDqCWY
[4] البيمارستانات هي المستشفيات في الحضارة الإسلامية، وكانت تُعرف أيضًا بدور الشفاء، وهي مؤسسات طبية متكاملة ظهرت منذ العصر العباسي، وقدمت الرعاية الصحية المجانية لجميع فئات المجتمع بغض النظر عن الدين أو الطبقة الاجتماعية. تميزت البيمارستانات بوجود أقسام متخصصة للأمراض المختلفة، وأطباء مهرة، ونظم إدارية متطورة، كما كانت مراكز للتعليم الطبي والتدريب. وكان من أشهرها البيمارستان العضدي في بغداد، والبيمارستان النوري في دمشق، والبيمارستان المنصوري في القاهرة، والتي كانت تدار وفق نظام وقفي يضمن استدامة الخدمات الصحية.
[5] سامية معزوز، التأمين التكافلي الإسلامي: عرض تجارب بعض الدول، مجلة العلوم الإنسانية، مجلد أ، عدد 44، ديسمبر 2015، ص ص، 49-72، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4hgBlSl
[6] Richard Vize And Randall Baran-Chong, Champions Of Change: How Governments Can Lead Healthcare Transformation, KMPG, 2022, Accessed: 24 February 2025, available at: https://2u.pw/tbTKQWxS
[7] قرار (70/1)، قمة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، مرجع سابق، ص 21-22.
[8] Chee Heng Leng, Ownership, Control, And Contention: Challenges For The Future Of Healthcare In Malaysia, Social Science & Medicine, Vol. 66, No. 10, May 2008, pp. 2145-2156, available at: https://doi.org/10.1016/j.socscimed.2008.01.036
[9] Swee Kheng Khor And Others, Sustainability and Resilience in the Malaysian Health System, CAPRI, August 2024, Accessed: 22 February 2025, available at: Https://2u.Pw/Djidwoxqw
[10] Ibid.
[11] Ferry Latief, Social Protection in Action: Building Social Protection Floors For All, International Labour Organization, December 2021, Accessed: 22 February 2025, available at: Https://2u.Pw/Jtck7c8d
[12] الموقع الرسمي للبرنامج:
Mysalam B40 Takaful Protection Scheme, Accessed: 23 Feb 2025, available at: Https://2u.Pw/Klav0cce
[13] فارس جفري، محمد أكرم لال الدين، التجربة الماليزية في التأمين التكافلي: دراسة تحليلية، التجديد، مجلد 26، عدد 52، يوليو 2022، ص ص 43-48.
[14] رجراج سليمة، تجربة التميز والابداع الماليزية في الاستثمار في التأمين التكافلي الإسلامي، جامعة البليدة 2، بحوث المؤتمر العلمي: الإبداع والتميز في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، مجلد 1، 2017، ص 203.
[15] أسماء أكلي، عبد البارئ أوانج، التجربة الماليزية لتثمير أموال الزكاة، مجلة الاقتصاد والتنمية البشرية، الجزائر، عدد 6، ديسمبر 2012، ص 131، متاح عبر الرابط التالي: Https://2u.Pw/Qvgmbdzg
[16] Hong Teck Chua, Julius Chee Ho Cheah, Financing Universal Coverage In Malaysia: A Case Study, BMC Public Health, 22 June 2012, Accessed: 25 Feb 2025, available at: Https://2u.Pw/N81y1awy
[17] وفق إحصائيات البنك الدولي، متاح عبر الرابط التالي: Https://2u.Pw/PHF8Mlqq
[18] Alifah Zainuddin, How Malaysia Can Implement National Health Insurance, With Contributions Across The Board, 7 July 2022, Accessed: 27 Feb 2025, available at: Https://2u.Pw/3w20lobe
[19] ميلودي عمار وآخرون، دور الصناديق الوقفية في دعم التنمية المستدامة في ماليزيا، مجلة الاقتصاد والتنمية المستدامة، مجلد 4، عدد 1، 2021، ص 136، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4kBvY30
[20] للمزيد انظر:
Kevin Croke (et al.), The Political Economy Of Health Financing Reform In Malaysia, Health Policy and Planning, Vol. 34, Issue 10, December 2019, Accessed: 5 March 2025, available at: https://2u.pw/7TIWOeof