السيرة الذاتية ل د. حامد ربيع

يُعدُّ الأستاذ الدكتور/ حَامِدُ عبْدُ اللهِ رَبيع -أستاذ العلوم السياسية- رائد التنظير في علم السياسة من منظور حضاري إسلامي في الأكاديميا العربية، وقد قدم في ذلك كتابات غاية في الأهمية أسست لتجديد الفكر العلمي الإسلامي في مجال السياسة وما يصحبه من عناية بقضايا الأمة وأقاليمها وأوطانها وسياساتها في الداخل وتجاه الخارج، وأصبحت هذه الكتابات تراثا تخرَّج عليه جيل من التلاميذ الذين أصبحوا أساتذة وجيلا يكمل المسيرة في بناء مدرسة علمية حضارية في علم السياسة.

كثير من هذه الكتابات لا يُستغنى عنه في بناء المفاهيم والبناء المنهجي لدراسة الظاهرة السياسية العامة وعلم السياسة وما يتفرع عنهما من موضوعات أساسية مثل: السياسة الخارجية، الفكر السياسي، النماذج الحضارية والتاريخية، نظريات القوة، نظرية القيم، نظرية التحليل السياسي، نظرية الحركة السياسية، وتحليلات مهمة للتحولات السياسية القطرية والعربية والإسلامية والدولية عبر النصف الثاني من القرن العشرين وصولا إلى كتابه “نحو ثورة القرن الحادي والعشرين: الإسلام والقوى الدولية”.

من هو حامد ربيع؟

هو حامد عبد الله ربيع عبد الجليل، اسمه مركب ثلاثي هو (حامد عبد الله ربيع)، وعبد الجليل هو اسم والده. ولد في القاهرة التي يصفها بـ(العاصمة التي عرفت طفولتي) عام 1924. وهو العام نفسه الذي أسقطت فيه آخر دولة خلافة إسلامية، وتشكلت فيه أول حكومة وطنية منتخبة في تاريخ مصر، وإن كانت تحت الاحتلال البريطاني؛ ما انتهى بسقوطها في العام ذاته. قضى حامد ربيع طفولته في القاهرة فتفتحت عينه النابهة على تحديات الأمة والوطن؛ وبالأخص سجال الإسلام والعلمانية أو الأصالة والتغريب، وسجال التحرر الوطني العسير أمام الاحتلال الأجنبي البغيض. وبينما هو ابن 12 عاما كانت القاهرة تشتعل بتظاهرات الوطنيين ضد معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا مع مجيء الملك فاروق إلى الحكم. وهو في الخامسة عشرة من عمره اندلعت الحرب العالمية الثانية 1939، وتفتق وعــــيه على آلام الوطن والأمة في أتون السياسة الداخلية، وبين أيدي القوى الكبرى خارجيًّا. ومع نهاية هذه الحرب وفي العام 1945 التحق ربيع بكلية الحقوق- جامعة القاهرة، وقد كانت هذه الكلية مشتركًا بين من سلكُوا طريق السياسة في مصر ساعتئذ.

اختار حامد ربيع طريق العلم؛ لينهل من مصادر الثقافة والعلم في الغرب والشرق، ويذكر ويتذكر يوما قادته فيه الأقدار -وهو صبي تعتمل في نفسه تمزقات- إلى شيخ وقور نظر إليه صامتًا ثم قال له: “اذهب يا بني وأكمل ثقافتك، وانهل من مصادر العلم، فنحن في حاجة إلى مثلك“. ويتذكر حامد ربيع كيف مضت الأيام، ليقضي قرابة عشرة أعوام –ضمن بعثة علمية بين عامي 48-1958- معتكفا في “دير سان فرانشيسكو” بمدينة الفاتيكان على مشارف روما(!)؛ حيث اطّلع على ما لم يُتح لغيره من أبناء أمته الاطّلاع عليه من المصادر الأصلية. هذا الاطلاع الواسع والمكثف صادف عقلا ذكيا بل عبقريا، وروحا وقادة منتمية ومعتزة بحضارتها وقيمها، فكان له ما بعده من تميز دراسي وعلمي.

يعود ربيع إلى القاهرة ثم يرجع تارة أخرى إلى أوروبا ثم يتنقل بين معظم الدول العربية؛ ليحصَّل في كل خطوة معرفة واسعة متنوعة المجالات، قبل أن يبرز عطاؤه تدريسا وتأسيسا وتأليفا وتوعية وتثقيفا. حصل حامد ربيع خلال الخمسينيات على عدة شهادات دكتوراه وماجستير في مجالات: الاجتماع التاريخي، القانون –وبالأخص الروماني- وفلسفة القانون، والعلوم النقابية من جامعات روما وباريس، (ثم على الدكتوراه فيما بعد في العلوم السياسية من جامعة باريس عام 1963م)، ومُنح درجة «الأجريجاسيون» المرموقة من الجامعات الفرنسية. وفي أول الستينيات كان ربيع قد عاد إلى مصر ليعمل -منذ 1961م- مساعِدًا للمستشار الشخصي العلمي للرئيس جمال عبد الناصر. ثم عمل ربيع بالتدريس ورئاسة قسم العلوم السياسية في كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» بجامعة القاهرة، التي عدها ساعتها قلعة للفكر التغريبي بل للاهوت الغربي(!)، وجعل منها معقل نضاله العلمي ومنطلق مشروعه في تجديد دراسة التراث السياسي الإسلامي والاستفادة منه في تجديد علم السياسة على وضعه الحديث. طالع ربيع وكتب بعدة لغات: الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، اللاتينية، بالإضافة إلى العربية.

أسس ربيع مركز «الدراسات الإنمائية» بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، ورأس قسم العلوم السياسية بالكلية ذاتها كما أشرنا، وأشرف على إنشاء المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخاجية المصرية فيما بعد. كما رأس معهد البحوث والدراسات العربية ببغداد ثم عمل مستشارًا سياسيًّا للرئيس العراقي صدام حسين منذ العام 1979 ولنحو ثماني سنوات. وعمل أستاذًا زائرا في جامعات: الخرطوم، بغداد، روما، باريس، دمشق، الجزائر، الكويت، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة ميتشيجان الأمريكية. وتعددت أسفاره في المؤتمرات العلمية وخطاباته المباشرة إلى الملوك والرؤساء العرب، وانتقل خطابه في المرحلة الأخيرة من حياته من التنظير وتطوير مناهجه وتنويع مصادره إلى التوجيه العام لرجل الشارع من أجل التغيير في الإطار العربي والإسلامي.

توفي حامد ربيع 9/9/1989 رحمه الله تعالى، في ظروف غامضة؛ إذ لم يسبقها مرض ولا شكوى، وقال البعض باغتياله على أيدي جهات عربية أو صهيونية، لكنه في النهاية أدى ما عليه، واجتهد ونصح، وترك تراثا وعطاء لا يزال ينضح بالفوائد.

عطاء حامد ربيع

تعبر كتابات حامد ربيع (نحو 57 كتابا وعشرات الدراسات ومئات المقالات) عن التقاء قوي بين الفكر والحركة، والعلم والعمل، والتنظير والواقعية. يصعب تصنيف حامد ربيع ضمن التصنيفات الفكرية أو السياسية الحدية المعهودة في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر؛ إذ يجمع بين الوطنية والقومية والإسلام، وبين عالمية العلم وخصوصية النماذج الحضارية ومنظومات القيم، وبين النقد المعرفي والمفاهيمي لأسس العلوم الاجتماعية –لا سيما العلوم السياسية والعلوم السلوكية- وبين الانخراط العميق والتفصيلي في قضايا الوقت والأمة. ولكنه بلا شك يعد امتدادا للمدرسة العمرانية في التحليل التاريخي والاجتماعي التي أسسها ابن خلدون، وأشار إليه ربيع في مواضع عدة وإلى ريادته في هذا المجال.

ومن خلال العناوين الرئيسية لإسهاماته وكتاباته، يمكن القول إن أجندة حامد ربيع تتسع لخمسة أقسام أساسية:

  • التنظير والتطوير العلمي لا سيما لعلم السياسة بأفرعه: النظرية والفكر، النظم والحكومات، والعلاقات الدولية والسياسة الخارجية. ويعد حامد ربيع رائدا في هذا الصدد للمدرسة التي أسمتها زميلته بالكلية نفسها د.منى أبو الفضل (1948- 2008م) بمدرسة المنظور الحضاري الإسلامي في العلوم الاجتماعية والسياسية. وتعتمد هذه المدرسة على نقد الأسس المعرفية ثم المسارات المنهجية التي قدمتها الخبرة الغربية الحديثة في هذه العلوم، مع الاتصال الدائم بها والاستفادة من معطياتها اللائقة والمفيدة. وقد تطورت هذه المدرسة من بعد حامد ربيع ومنى أبو الفضل ولا تزال تدين لهما بفضل التأسيس والإشارة إلى أهمية مصادر المعرفة الإسلامية بوصفها مصدر تنظير في العلوم الاجتماعية الحديثة.
  • الوطن العربي وأمنه القومي وتقاليده السياسية وآفات واقعه الراهن، والمخارج منها. ومن ذلك خصص فرعًا لدراسة قضية البترول العربي وتحوله من سلاح عربي نافذ إلى سلاح مضاد للعرب، وقدم دراسات عدة حول استراتيجيات توظيفه. ويمكن من خلال هذه المجموعة من كتاباته، أن يرى البعض حامد ربيع قوميا عروبيا –ناصريا أو غير ناصري- مدافعا بقوة عن الرابطة القومية العربية وهويتها وعمقها التاريخي وثقافتها السياسية وحقوقها المعاصرة. لكن من ناحية أخرى، فإن علمية حامد ربيع، ثم حضاريته التي أينعت وهيمنت على فكره مع الوقت، غلّفت هاتان الخاصيتان قومية حامد ربيع حتى يمكن القول بدرجة عالية من الثقة إنها قومية حضارية، وبالتأكيد ليست قومية علمانية أو لادينية. فهو الذي يردد في نفَسٍ واحدٍ في ذروة وضوح انتمائه للأمة الإسلامية: سوف أظل عربيًّا.. أمتي أمة القيم، أمتي في العالم، أمتي والعالم!
  • دراسات حول الصهيونية وتطورات الكيان الإسرائيلي والحرب العربية مع هذا الكيان وفي قلبها مصر وفلسطين، والدول العربية الكبيرة. وقد توسع وتعمق ربيع في تحليل الظاهرة الصهيونية وتطوراتها وخصائصها وأهدافها وآلياتها وأنواع مكرها بالعالم العربي، وعلاقتها بالمشروع الاستعماري الغربي واستراتيجيته في المنطقة. وأعطى ربيع في هذا المستوى والذي قبله اهتماما بالفكر الاستراتيجي والصراع العسكري وأنواع الأسلحة المستعملة فيه: التقليدية، والنووية أو أسلحة الدمار الشامل، وأسلحة الدعاية الصهيونية والحرب النفسية على العقل والوجدان العربي، وكان سبَّاقا في هذا. وقد جاءت دراساته ومقالاته حول القضية الفلسطينية ومخاطباته للنظم السياسية المحيطة بها والمعنية بنصرة القضية أو خذلانها لتعبر عن خلاصة هذا المحور وسابقه.
  • دراسات حول مصر، التي لم يرها حامد ربيع إلا واسطة عقد العرب والإسلام، وعدَّها مدخل التغيير والتكتيل والتوجيه الاستراتيجي والقومي للمنظومة العربية. فنبه إلى مخاطر تحولات مصر في عهد السادات نحو الغرب لا سيما الولايات المتحدة عقب كامب ديفيد، وتحدث علانية عن خطورة فقد مصر للعرب وفقد العرب لمصر، ونبه ربيع إلى دراسة المستقبل المصري والحذر من الهجمات التي تشن على العقل المصري من أجل احتوائه، وطبيعة الحرب القادمة بعد حرب أكتوبر وتبين أن مصر قادرة على النهوض في أية لحظة.
  • دراسات حول الفكر السياسي الإسلامي والدائرة الإسلامية: وقد أبدع ربيع في هذا المجال ما بين كتاباته التي –وإن قل عددها- عبرت عن نضوج كبير لا يمكن إلا أن يكون عصارة عمره وخلاصة جهده؛ سواء في مقدمته الضافية لتحقيق كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك) أو في كتابه (الإسلام والقوى الدولية)، أو دراسات ومقالات أخرى. ففي هذا المجال تجلت خلاصة الفكر التنظيري والعلمي والمنهجي لحامد ربيع من جهة، وخلاصة فكره الاستراتيجي وإدراكه لأبعاد النظام الدولي وتحولاته وموقع الأمة الإسلامية منه، وما تحمله هذه لأمة من قدرات كامنة وإمكانيات ظاهرة لكسب موقع متميز في القرن الحادي والعشرين (الإسلام وثورة القرن الحادي والعشرين).

لا تعبر هذه العناوين جيدا عن عطاء حامد ربيع حتى يباشر القارئ أو الباحث قراءة ما تحتها بنفسه، فيرى أن ما تحت العناوين من رؤية كلية أو منهج نظر أو مضامين أثمن بكثير. فنحن أمام عقل موهوب وعلم وسيع، وقلب شجاع يُقدِم على المهام الصعبة بكل ثقةٍ من جهة، ومن جهة أخرى تعبر كتابات ربيع عن رؤية كليةٍ حضارية راسخةٍ وواسعةٍ، وتفكير استراتيجيٍّ جاد وعملي متَّصل سـمَّاه ربيع بعلم التدبر والتدبير، وبعلم الحركة، وانتماء قويّ للوطن والأمة والقيم الحضارية التي جعلته ينظِّر للقيم ضمن النظرية السياسية بين الغرب والإسلام في ذروة سيادة المنهجية السلوكية والفلسفة الوضعية، وليكشف –بهذا- عن قيم الفعالية الحضارية والسياسية وتقاليد السياسة العربية التاريخية الراسخة في العدالة والحرية والشجاعة والإقدام، ويطالب بتجديد الوعي السياسي والعام لدى النخب والجماهير من مدخل القيم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى