التدخل الخليجي في الأزمة السودانية: الإمارات كطرف في الصراع المسلح

مقدمة: في الحديث عن التدخل الخارجي

يُعد التدخل الخليجي في الأزمة السودانية مسألة غاية في التعقيد والخطورة؛ نظرًا لطبيعة وتأثيرات هذه التدخلات الممتدة، التي لن تنتهي بانتهاء الحرب الداخلية في السودان وإنما سيكون له تبعات إقليمية مؤثرة، ليس فقط على العلاقات السودانية الخليجية، وانما ستمتد إلى مختلف الأطراف الإقليمية والدولية المحيطة بالأزمة، وبشكلٍ خاص ما يتعلق بالأمن القومي المصري، حيث موقع السودان منه على مستوياتٍ ومحاور عدة؛ من الجوار الجغرافي، وسد النهضة، وغيرها من محددات الأمن القومي بين البلدين.

يأتي اهتمامنا بمسألة التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول انطلاقًا من أن القانون الدولي يمنع أي تدخل في شؤون الدول المستقلة ذات السيادة بنصٍ من أحكام ميثاق الأمم المتحدة، وقد ورد ذكره في البند السابع من الفصل الأول، وينص: “ليس في هذا الميثاق ما يسوغ “للأمم المتحدة” أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولةٍ ما”. ومن هنا، فإن الأصل في العلاقات بين الدول أنها تقوم على أساس المساواة في المعاملة، والواجبات، واحترام الاستقلال والسيادة، والتعاون الإيجابي والالتزام بحل النزاعات بالطرق السلمية، إلا أن واقع العلاقات الدولية اليوم يُثبت أن هذا المبدأ لا يُحترم دائمًا. ورغم أن هناك عدة أنواع من التدخل؛ تدخل مسموح به بإذن الدولة المستقلة وبدعوةٍ منها وتنسيق، أو مفوض من الأمم المتحدة تحت مبدأ «مسؤولية الحماية» لحماية أو إنقاذ المدنيين من المجازر، إلا أن هناك نوع ثالث وهو التدخل الممنوع حيث يتم دون إذن الدولة أو التشاور معها وقد يُصنف هذا التدخل ضمن جريمة العدوان[1].

يُمثل النوع الثالث من أنواع التدخل المشار إليها ما يجري في السودان الآن؛ فالحرب الداخلية هناك هي بلا شك حالة أساسية معبرة عن فشل الدولة، بكل مستلزمات ذلك الفشل، علمًا أن تفاقم الأمر إلى الحد الراهن تقف خلفه -ودون مواربة- الأطراف الخارجية المتدخلة في شؤون تلك الدولة المتداعية، للصراع على الموارد من جهة، وعلى الجغرافيا من جهةٍ أخرى.

إضافة إلى ذلك، فإن الدولة السودانية على وضعها الحالي (الحرب الداخلية، والتدخلات الخارجية) تقدم نموذجًا قابلا للاستنساخ في العديد من الدول المشابهة في منطقتنا، إذا ما توافرت لها نفس الظروف أو حتى ظروف مقاربة لما حدث في السودان (أو تم تصنيع تلك الظروف كما نرى من صناعة ميليشيات، وخلق صراعات هوياتية، الخ..)، ومن ثم فإن معالجتنا تهدف من بين ما تهدف إلى تقديم الحالة السودانية كتجربة -لاحقًا ستعتبر تاريخية- تستحق الوعي بها والسعي لعدم تكرارها، لاسيما أن الكثير من الأطراف الدولية المؤثرة حاليًا في السودان هي لا تستهدف السودان لذاتها، وإنما تستهدفها لما يمكن أن تحققه لها السودان من تحكم في الأمن الإقليمي للدول الفاعلة في الإقليم وأهمها الدولة المصرية. وفي هذا السياق، يتناول التقرير النقاط التالية: سياقات الأزمة السودانية بين الداخل والخارج، النفوذ الخليجي في السودان، وموضع ذلك من خرائط الصراع هناك، فضلا عن التوقف على أبرز محركات السياسات الخليجية تجاه الأزمة بين المحلي والإقليمي والعالمي.

أولًا-سياقات الأزمة السودانية بين الداخل والخارج

إن الوصول إلى هذه المرحلة للدولة السودانية لا يمكن اعتباره مفاجأة لكثير من المراقبين، لاسيما أن هناك مسار حاكم قد يساعدنا على الفهم والتفسير يمكن تعيين بدايته منذ 2019، مع اندلاع ما أُطلق عليه الموجة الثانية للثورات العربية التي انطلقت في عدة دول منها السودان والجزائر ولبنان والعراق؛ حيث برز فيها الاقتتال الداخلي والذي أُدير في معظمه من الخارج (إقليميًا أو عالميًا)، سواء على نحوٍ مستتر أو مكشوف. وبالتالي، فقد كان هذا المصير واضحًا للمراقب الحصيف، متوقعًا أن تكون تأثيراته على الشعوب والأوطان مرهونة بدرجةٍ أساسية بشبكةٍ من المشروعات الإقليمية المتقاطعة (الخليجية -المصرية) و(الإيرانية -التركية) والعالمية (الأمريكية والروسية بصفةٍ خاصة)، ناهيك عن المشروع الإسرائيلي المتداخل والمتقاطع مع جميع هذه المشروعات بدرجةٍ أو بأخرى[2].

ومن هنا، فإن هذه الدراسة تتبنى مقولة نظرية غاية في الأهمية للأستاذة الدكتورة نادية مصطفى حول استنزاف العالم العربي؛ حيث تُشير إلى أن العالم العربي يتعرض لثلاثية استنزاف تتمثل في استنزاف جيلٍ كامل، واستنزاف ما تبقى من ثروة بترولية (موارد طبيعية)، واستنزاف قدرات القوى الإقليمية في الجوار الحضاري للعرب، وتؤكد أنها ثلاثية معقدة تتمخض عن استمرار الحروب العربية المتزامنة طيلة عقد دون تسوية، كما أن هذه الثلاثية لا تصب إلا في مصلحة المشروع الصهيوني وعلى حساب كل تطلعات الشعوب العربية والإسلامية نحو الحرية والعدالة والتنمية والاستقلال، في ظل هويتها الحضارية الرشيدة التي لا تنال منها معاول التغريب أو الصهيونية ولا تُشوهها روافد متطرفة متعصبة تلتحف للأسف برداء الإسلام[3]، وقد أثبت طوفان الأقصى دون مجالٍ للشك أن الصهيونية هي الذراع الرئيسية للمنظومة الغربية في المنطقة والعالم.  وفي هذا السياق، من المهم تعيين أطراف هذه العلاقة بدقة في الحالة السودانية، خاصةً أننا نركز على دول الخليج، ونتخذ من تلك القراءة إشارات وتنبيهات للاهتمام بالأطراف الخارجية الأخرى المتداخلة في بيئة الصراع السوداني.

1-خلفية عن مسار علاقات الأطراف

كانت هناك محاولة للبشير في أواخر عهده للخروج من حالة الجمود التي كان يمر بها نظامه سياسيًا واقتصاديًا، إذ اتجه إلى دول الخليج لحلحلة أزماته إلا أن مساعيه لم تنجح في ذلك؛ إذ قررت السعودية والإمارات التوقف عن تقديم يد العون له، وآثرت دعم القوى المعارضة العسكرية والسياسية. وفي أعقاب سقوط نظام البشير، جددت الدول العربية الثلاث (السعودية، والامارات، ومصر) خطاب التخوف من الفوضى وعدم الاستقرار في السودان، وأظهرت هذه الدول مساندة صريحة للمجلس العسكري الذي أعلن بعد بضعة أيام من استلام السلطة استمرار التحالف مع السعودية والإبقاء على القوات السودانية المشاركة في التحالف العربي في حرب اليمن إلى أن يُحقق التحالف أهدافه. وقد اتجه كل من البرهان وحميدتي (المكون العسكري) لتعزيز علاقاتهما بمحور الإمارات والسعودية ومصر، والدخول في عملية تطبيع للعلاقات مع الكيان الصهيوني بدعمٍ من الإمارات[4].

جاء هنا الموقف القطري مخالفًا لما كانت عليه طبيعة العلاقات بالسودان في السابق؛ حيث كانت قطر ترتبط بعلاقات وثيقة مع نظام البشير، وقدمت له الكثير من الدعم من خلال الأعمال الإغاثية عبر أنشطة المؤسسات الخيرية القطرية، ومساعدات أخرى اقتصادية بإرسال شحنات الغاز والمساهمة في التنقيب عنه، وصولًا لرعاية اتفاق سياسي بخصوص انفصال الجنوب، والانهماك في التوسط في النزاعات التي كانت سمة عامة للسودان منذ تسعينيات القرن الماضي في وسطه، وفي غربه مطلع الألفية الجديدة، علمًا أن السعودية والإمارات كان لهما استثمارات في تلك الفترة خصوصًا مع تصاعد أزمة الغذاء العالمي بعد 2008.

وكان من أهم محاور العلاقات الخليجية السودانية في تلك الفترة -كما سلف الذكر- مساهمة السودان بالجنود في التدخل المسلح في اليمن -أو ما عُرف بعاصفة الحزم التي شنتها السعودية والإمارات ضد ميليشيا الحوثي في اليمن عام 2015- إذ نُقل الجنود عبر البحر من خلال سفن مصرية إلى جدة ومنها إلى الحد الجنوبي للمملكة العربية السعودية، وبقيت القوات العسكرية السودانية موجودة هناك وحتى وقتٍ قريب.

لقد كانت قوات الدعم السريع الأكثر عددًا في اليمن، وقد ارتدى بعض جنودها الزي العسكري الإماراتي في الجنوب، وتطورت العلاقات مع الوقت ليتحول الدعم السريع بقيادة حميدتي حليف مدعوم إماراتيًا وذلك بعد أن صارت دبي هي سوق الذهب الوحيد للسودان، إذ إن صادرات الذهب إلى الإمارات استمرت منذ العقوبات المفروضة على السودان، وما استتبعه ذلك من سهولة التعامل المصرفي بين البلدين خاصة بنك أبو ظبي الإسلامي[5]. وحتى بعد رفع العقوبات، صارت صادرات الذهب التي تستخرجها ميليشيا الدعم السريع خارج إطار البنك المركزي السوداني والدولة السودانية تتدفق إلى الإمارات، وانتهى التحالف بالقيام بأدوار عسكرية أخرى خارج اليمن، وذلك في ليبيا بدعم خليفة حفتر بالأخص بعد إزاحة عمر البشير 2019.

أيضًا، ارتفعت استثمارات كلٍ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في الاقتصاد السوداني[6]، اعتبارًا من عام 2018؛ إذ استثمرت أبو ظبي بشكلٍ تراكمي 7.6 مليار دولار في البلاد. وبعد سقوط البشير، ضخت الإمارات استثمارات بقيمة 6 مليارات دولار تشمل مشاريع زراعية وميناء على البحر الأحمر، في ظل سياسة الإمارات للسيطرة على الموانئ المطلة على الممرات البحرية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر. وفي أكتوبر 2022، أعلنت الرياض أنها ستستثمر ما يصل إلى 24 مليار دولار في قطاعات الاقتصاد السوداني بما في ذلك البنية التحتية والتعدين والزراعة.

  2-الساحة السودانية بيئة مناسبة للصراعات الإقليمية البينية

تغيرت معادلة التوازن الإقليمي بعد 2011 إذ تراجعت دول تقليدية في مركز قيادة النظام الإقليمي العربي، وصعدت قوى جديدة وبات لديها مصالح متعددة في الانتشار والتأثير في المنطقة، وعمدت إلى البحث عن مناطق الصراع أو المرشحة للصراع، لوضع موطئ قدم فيها لضمان تأثيرها وتحكمها في الصراعات الناشئة وتوظيف ذلك لاستكمال بسط هيمنتها وصناعة نفوذ لها في الإقليم. وقد كانت السودان من بين هذه البؤر المستهدفة، ولذا كان انطلاق الصراع فيها من بين الأمور المتوقعة، وحرصت العديد من الأطراف الدولية والإقليمية أن تكون حاضرة في هذا الصراع إما للاستحواذ على الموارد، أو لتنفيذ هيمنة أكبر على البحر الأحمر ولعب دور في شرق أفريقيا، أو في المساهمة في الصراع الدائر في دول الساحل وصولًا إلى غرب القارة.

في هذا الإطار، كان هناك تعزيز وتأمين للهيمنة السياسية الناشئة لبعض الدول (دول مجلس التعاون الخليج (الإمارات والسعودية على سبيل المثال). وفيما يبدو أن الدول الخليجية، وخاصةً السعودية والإمارات، قد اعتبرتا أن السودان تقدم لهما فرصة ذهبية للنفاذ داخل الإقليم والحيلولة دون قيام الدول ذات الإمكانات والسند التاريخي من التعافي والعودة للعب دور إقليمي، وأنه بالإمكان أن تكون السودان الأكثر مناسبة في خلق بؤر تأثير على الأمن القومي المصري.

إلا أن تفاوت الموقفين السعودي الإماراتي من السودان، واختلافهما نتيجة للعديد من الظروف والعوامل[7]، أسهم في تشكل بؤرة جديدة من بؤر الصراع البيني بين الدول الخليجية، التي لا تعدم الاشتباك في بيئة صراعية قائمة، بل تنحو إلى تفجير بؤر جديدة لتصفية الحسابات فيما بينها، وقد بدأ الصراع البيني بتصفية الوجود الوازن للسياسة القطرية في الملف السوداني، وفيما يلي سنُفصل في مسارات وإشكاليات تلك المواقف الخليجية.

ثانيًا- النفوذ الخليجي في السودان

1-قطر.. اللاعب ذو الكارت الأحمر

تضاءل دور قطر بشكلٍ كبير في السودان منذ الحصار الذي ضُرب عليها في 5 يونيو 2017 من كلٍ من الامارات والسعودية والبحرين ومصر، وبالتالي كان لانعكاس هذا الأمر في السودان بالغ الأثر، حيث إن عمر البشير قد فقد أحد الداعمين له إقليميًا، كما خسر الأطراف الإقليمية الأخرى بعدما رفض الانضمام إلى حلف الحصار ضد قطر، ومن ثم فقد البشير قطر ولم يُعوضها بأي من الإمارات والسعودية لموقفه هذا.

وإذ تمتعت قطر بعلاقات واسعة مع البشير من خلال الملف الإغاثي والدعم العيني المباشر كشحنات الغاز وصولًا إلى دورها في التوسط في النزاع الذي وقع في دارفور منذ 2003، فقد تمكنت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من تعزيز نفوذهما في الخرطوم بعد الإطاحة بالبشير عام 2019. وفي تلك المرحلة لم تنجح قطر في أن تحافظ على مناطق نفوذ في الخرطوم، خاصةً بعدما انحازت إلى المكون المدني ودعمتهم سياسيًا.

رغم ذلك، لم يُلغ دور قطر كلاعب خارجي في السودان وخاصة في دارفور، حيث يتم استخراج الغاز إلى جوار الصين. وفي أعقاب اتفاق إطار الانتقال السياسي المبرم في ديسمبر 2022، حاول القطريون تسهيل المحادثات في الدوحة بين بعض المسلحين من دارفور المتمركزين في ليبيا والقوات المسلحة السودانية بهدف تقديم “خارطة طريق” تشمل هذه الجهات الفاعلة المختلفة، والتي تمتلك معها علاقات نظرًا لدورها في التوسط هناك منذ 2007. ولكن على المستوى الكلي، لم يعد لقطر في السودان من دورٍ نشط تلعبه سوى الدور الإنساني، كما أوضح الدكتور أندرياس كريج، الأستاذ المشارك في قسم الدراسات الدفاعية في جامعة كينغز كوليدج لندن، في مقابلة مع منتدى الخليج الدولي[8].

2-السعودية والإمارات.. وحدة الهدف

كانت للسعودية استثمارات في السودان تنمو منذ مطلع العقد الأول من الألفية، إلا أنها تزايدت قبيل ثورات الربيع العربي خاصةً في قطاعي الزراعة والتعدين، إذ كانت السودان ضمن خطة السعودية في الأمن الغذائي. ومن جانبها، تمتلك الإمارات علاقات قديمة نسبيًا بأطراف فاعلة في الصراع السوداني، تحديدًا بعد الصراع الذي اندلع في دارفور 2003، من خلال السماح بوجود مسار آمن لتهريب الذهب من جبل عامر والتحايل على العقوبات الدولية المفروضة على السودان، كما سهلت الإمارات نقلا آمنا نسبيًا للعوائد المالية لتلك الميليشيات.

وفي تقرير للأمم المتحدة، والتي ساهمت روسيا[9] (نظرًا لتورط قوات فاجنر) في حظره 2016، أُشير إلى أن موسى هلال (زعيم “مجلس الصحوة الثوري” ومؤسس ميليشيات “الجنجويد”) يحصل على حوالي 54 مليون دولار سنويًا من الأنشطة المرتبطة بالذهب. ويؤكد تحليل اللجنة التقارير السابقة التي توضح بالتفصيل سيطرة “هلال”[10] على جبل عامر، أحد أكبر مناجم الذهب في المنطقة. وبحسب بعض الخبراء، فقد تم تهريب أكثر من 4.5 مليار دولار من السودان إلى الإمارات العربية المتحدة بين عامي 2010 و2014[11]. ومن ثم، فقد أصبح قطاع الذهب ذا أهمية متزايدة للاقتصاد السوداني، حيث ارتفع الذهب من 1٪ من إجمالي الصادرات السودانية في عام 2008 إلى 30٪ في عام 2014، وكانت الإمارات هي الوسيط لدخول الذهب المصدر عبر البنك المركزي السوداني وكذلك المهرب من ميليشيات دارفور إلى سلاسل التوريد العالمية.

وانطلاقًا من الدور الاقتصادي وتعاظم الاستثمار الخليجي هناك، مثل ذلك مدخلا مناسبًا لكل من السعودية والإمارات في الاستنجاد بالسودان للقيام بدور وظيفي في عاصفة الحزم إذ تدفق أكثر من 14 ألف جندي -بحسب التصريحات الرسمية- إلى جنوب اليمن لقتال الحوثي[12].

ومن ثم، إن الأهم في علاقة السعودية والإمارات ببعضهما البعض من ناحية وعلاقاتهما بالسودان من ناحيةٍ أخرى، أن الدولتين أرادتا من السودان أن تنضوي تحت رؤاهما الإقليمية وسياسات الهيمنة والنفوذ. في هذا الإطار، وكما سلف الذكر، طُلب من البشير القطيعة مع قطر والمشاركة في حصارها، إلا أنه رفض مما راكم حنق كلٍ من الرياض وأبو ظبي تجاه الرجل ونظامه. واستمر الأمر بشكلٍ أكثر فجاجة حينما طُلب من البشير تصفية تحالفه مع الإسلاميين والفتك بهم، وهو ما رفضه كذلك، فاستحق العقوبة بوقف إمدادات النفط، ففي ديسمبر 2018، أوقفت الإمارات إمدادات الوقود إلى السودان، حسبما قال ثلاثة مسؤولين سودانيين، بسبب استيائهم من أن البشير لم يف بجانبه من الصفقة للضغط على الإسلاميين[13].

3-تحول الموقف بين السعودية والإمارات من السودان

بعد دعم السعودية والإمارات للإطاحة بالبشير جاء الافتراق بينهما، تحديدًا في 2020، مع ذهاب الإمارات إلى اتفاق التطبيع “أبراهام” مع إسرائيل، ومحاولة الإمارات جر السودان إلى هذا المربع، وقد ظهر هذا الخلاف في رؤية البلدين بخصوص أزمة الفشقة[14] بين السودان وإثيوبيا[15]، وقد كان هذا الافتراق امتدادًا طبيعيًا لوجود تنافس بادئ الأمر على مركز الوصافة في النظام الإقليمي (أي من يحل بعد إسرائيل كدولة استراتيجية حليف للغرب).

ومع الانقلاب العسكري ضد المكون المدني لم ترفض السعودية تلك التحركات، لكن مع الوقت ظهر التوتر بين البرهان وحميدتي إلى أن وقع الصدام في 15 أبريل 2023، وهنا افترق الحليفان في دعم طرفي الصراع، إذ دعمت الإمارات حميدتي بالسلاح من خلال تشاد وحفتر في ليبيا، وذلك بالتحالف مع قوات فاجنر “فيلق أفريقيا” التي دعمت ميليشيا حميدتي في تحركاتها، في حين دعمت السعودية البرهان إلى جوار مصر التي شاركت عسكريًا، قبل أن تُحيدها الإمارات.

ظل الموقف السعودي بعيدًا عن الدعم العسكري، واقتصر على دعم إعلامي (نعت الدعم السريع بالميليشيا على القنوات الرسمية)، إلا أنها لم تقدم أي مساعدات على الأرض، بل اكتفت بمحاولة لعب دور للسلام بين المتحاربين في مبادرة جدة في مايو 2023، والتي لم تقدم فيها أي ضغوط حقيقية على الأطراف المتفاوضة، إذ لم يتجاوز الأمر كونه محاولة للعب دور دبلوماسي لا أكثر.

إلا أنه مؤخرًا حدث تطور لافتًا، فوفقًا لبيان صادر عن مجلس السيادة السوداني، بتاريخ 8 يوليو 2024، التقى عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني مع نائب وزير الخارجية السعودي وليد بن عبد الكريم الخريجي، الذي وصل مدينة بورتسودان شرق البلاد، وبحث معه استئناف مفاوضات جدة لوقف الحرب بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع. وقد صرح وكيل وزارة الخارجية السوداني حسين عوض أن اللقاء تناول أهمية توسيع قاعدة الوسطاء في مفاوضات جدة، وأن رئيس مجلس السيادة أبدى تحفظه على وجود أي طرف يدعم مليشيا التمرد (الدعم السريع). ووفقًا للبيان، فإن نائب وزير الخارجية السعودي أكد حرص المملكة العربية السعودية على أمن واستقرار السودان، باعتبار أن ذلك له تأثير مباشر على أمن واستقرار المنطقة[16].

ثالثًا- خرائط الصراع في السودان وعلاقتها بالدول الخليجية

ميز الصراع المسلح في السودان بين قوى المجتمع بصورةٍ واضحة ورسم خريطة الفاعلين المحليين حاليًا؛ إذ ينضوي تحت كل معسكر العديد من القوى الدولاتية وما دون الدولة من ميليشيات وحركات انفصالية، وكذلك قوى مجتمعية ودينية، وأحزاب سياسية. هذه الخريطة غير منفصلة عن القوى الإقليمية والدولية، ومن الأهمية بمكان أن نرصد في إطارٍ سريع كيف انعكس التدخل الخليجي على تلك التوترات؟ وما شكله وحدوده؟

1-التوتر العسكري – العسكري

وقع الصراع بين مؤسسة الجيش والدعم السريع بعد اتهام الأخير للجيش بالتحالف مع مصر للفتك به، والواقع أن كلٍ من الطرفين بدأ يتخذ الاستعدادات لتلك الحرب؛ نظرًا لتخوف الجيش من تفككه كمؤسسة في ظل تنامي قوة ونفوذ الدعم السريع وانتشاره في الأماكن الحيوية، وتضخم عدد قواته من 20 ألف عشية الإطاحة بالبشير إلى أكثر من 120 ألف من قبائل عربية ذات عصبة ومتماسكة إلى حدٍ كبير.

في مقابل معسكر الجيش الذي يفتقر قائده لأي شرعية كاريزمية، مع اختلاف أطرافه وتنازعهم فيما بينهم (عبد الفتاح البرهان، وشمس الدين الكباشي..الخ)، رغب الجيش في إعادة هيكلة قوات الدعم السريع داخله، وهو ما اعتبره الدعم السريع تقويضًا لمصالحه، وفي ذلك كان دعم السعودية ومصر للبرهان واضحًا، وكانت مصر تقوم بالدعم العسكري ميدانيًا، إلى أن جرى تحول في البوصلة المصرية بعد زيارة رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد آل نهيان.

دعمت الإمارات حميدتي بعشرات السيارات والأسلحة[17]، وبدعم مفتوح من الجنرال خليفة حفتر في شرق ليبيا[18]، مقابل تحييد دور مصر الداعم للجيش بما أدى لعزلة لمعسكر البرهان (دولية وإقليمية تقريبًا)، وفي الوقت ذاته لم تقدم السعودية أي دعم يذكر للبرهان بعد تحييد الدور المصري، في المقابل استغلت إيران أحداث الطوفان وعزلة البرهان من المعسكر الغربي فبدأت تدعم الجيش في مواجهة الدعم السريع.

وقد اتهم ياسر عطا نائب رئيس مجلس السيادة الإمارات بالتخطيط للسيطرة على أراضي زراعية والموانئ البحرية للسودان ومعادنها الثمينة، من خلال مساندة قوات الدعم السريع واستجلاب قوات فاجنر الروسية “فيلق أفريقيا”، ووصفها بأنها دولة الخراب والشر في نوفمبر 2023[19]، وذلك على ضوء نقل السلاح للدعم السريع إلى مطار في دولة أوغندا في عنتبي ثم إلى أفريقيا الوسطى، ثم استخدمت مطارات في تشاد.

2- التوتر العسكري – المدني

جاء الانقلاب العسكري المشترك بين البرهان وحميدتي ضد المكون المدني في المجلس السيادي في أكتوبر 2021 في إطار تخوفات مؤسسة الجيش وميليشيا الدعم السريع من ترتيبات كان يزمع حمدوك تنفيذها، الأولى بخصوص محاسبة مرتكبي الجرائم في دارفور وجنوب السودان من قادة الجيش وميليشيا الدعم السريع، أما الأمر الآخر فهو الرغبة في إعادة هيكلة النشاط العسكري للجيش والميليشيا ضمن الاقتصاد المدني الخاص[20]، وهو ما اعتبرته الإمارات ثم السعودية -بدرجة أقل- تهديدًا لمصالحهما، لاسيما ما يتعلق ببسط النفوذ على استخراج الذهب من مناجم دارفور.

ولكن قد أثر التوتر العسكري- العسكري -المشار إليه- على مواقف القوى المدنية، علمًا أن المكون المدني الممثل في “قحت” ثم في تنسيقية “تقدم” التي أعلن عن تأسيسها العام الماضي، أصبح يميل إلى قوات الدعم السريع، إذ صارت الإمارات حليف لذلك المكون بعد التقاء المصالح ضد معسكر البرهان والقوى الإسلامية المتحالفة معه.

وفي إطار الانحياز الكبير باتجاه معسكر الدعم السريع، أدانت “تقدم” تصريحات الحارث إدريس مندوب السودان في مجلس الأمن، والتي اتهم فيها دولة الإمارات بالتغيير الديموغرافي لغرب السودان، محملًا إياها جرائم الإبادة التي ترتكبها قوات الدعم السريع، واعتبرت “تقدم” أن موقف الجيش يكرس النظام البائد -نظام عمر البشير- وأن اتهامات إدريس خرجت عن كل الأعراف الدبلوماسية واتسمت بالهتافات، وعدم احترام التقاليد التي تحكم التعامل بين الدول، خاصةً في المنظمات والمحافل الدولية، وأن قرار وقف الحرب هو قرار سوداني وليس خارجيًا[21].

وقد استبطن هذا التوترات توترًا آخر، علمانيًا- إسلاميًا، فقد انحاز المدنيون من الإسلاميين لمعسكر البرهان من خلال الكتائب التي تأسست من بقايا “الدفاع الشعبي” الذي تشكل من القوى الإسلامية في التسعينيات، كما قام بعض الضباط المعروف انتماءهم للإسلاميين -ممن لا يزالون على رأس عملهم في الجيش- بتدريب تلك القوات. وبحسب الباحث محمد العثماني[22]، فإن تلك القوات لم تحصل على دعم خليجي أو سعودي، وأنها قد تكون مدعومة فقط من الغرب الليبي “مصراتة”.

ويمكن رسم خريطة التدخل على هذا النحو: أن الدعم العسكري المباشر من الإماراتيين يذهب بالأساس باتجاه المكون العسكري لا المدني، وإن كان يوجه بعض الدعم إلى التيارات المدنية المعادية للتيار الإسلامي مثل الشيوعيين و”تقدم”، كذلك تحاول قطر التمسك بمسار تعزيز الوجود المدني وإعادة تسليم السلطة لهم لإجراء التحول الديموقراطي المنشود.

أما على مستوى الفاعل السعودي، فإنه ينأى بنفسه عن دعم أي طرف بشكلٍ كبير، سعيًا للعب الدور الدبلوماسي بين الفاعلين السياسيين المدنيين والعسكريين، مثل محاولته الجمع بين المتخاصمين في مؤتمر جدة وتمسك “تقدم” بتلك المخرجات، وتكرار الأمر[23] في لقاء حميدتي مع شمس الدين الكباشي في المنامة، وقد شكر مندوب السودان في مجلس الأمن المملكة العربية السعودية وقطر والكويت لتقديمهم الإعانات للشعب السوداني، وهو الدور الذي تنعكس فيه التدخلات الخارجية لهذه البلدان حتى اللحظة إلى جانب الدور الدبلوماسي في مقابل انحسار للدور الميداني والعسكري.

رابعًا- محركات الصراع والدور الخليجي… بين المحلي والإقليمي والعالمي

إن المتأمل فيما تفعله قيادات الدول الخليجية يقف مباشرة على أزمة الشرعية التي تعاني منها هذه الإدارات، فما فعلته في الداخل لتمكين سلطانها في معظمه كان على حساب أطراف مراكز قوى داخلية مؤثرة، ومن ثم فإن الاستقواء بنجاح خارجي يُعضد من شرعية ومكانة هذه الإدارات في الساحة الداخلية.

كما لا تنفصل أزمة السودان عن الأزمات التي يمر بها الشرق الأوسط، ونظرًا للتدخلات الخارجية الغربية والإقليمية في السودان لم تنفك تلك الأزمة عن استدعاء المحاور التي تمثل التحالفات في المنطقة، علمًا أن السعودية منذ أمدٍ تقوم بتبريد الصراع بينها وبين إيران سواء في اليمن بإجراء مفاوضات مع الحوثي، أو إجراء حوارات مباشرة مع إيران برعاية أطراف دولية… أي تسعى لتهدئة إقليمية، وهو ما يفسر موقفها في السودان.

  1. محددات الدور السعودي في السودان

لم يتخذ الصراع بين الإمارات والسعودية في السودان شكلًا حادًا حتى تاريخه، فبالرغم من دعم السعودية للبرهان إلى جوار مصر، فإن السعودية لم تحرك ساكنًا بعد تراجع مصر عن تقديم الدعم العسكري في السودان، بل حافظت على تقديم نفسها كدولة راعية للسلام في السودان من خلال عقد مؤتمر جدة، وإن كانت في الوقت ذاته لم تقم بممارسة أي ضغوط أو ترغيب حقيقي للقوى المشاركة، وذلك نظرًا لأن الإدارة الحاكمة السعودية الراهنة تنظر لنفسها كقوة عالمية وليدة، ولا تريد أن تتورط في ملفات معقدة مثل الملف السوداني، فهي تتعاطى معه على الهامش دون تورط حقيقي أو انشغال كبير بحل الأزمة.

تتحرك السعودية من كونها تنظر لنفسها كقوة فاعلة لها محدداتها ومكانتها، التي من أبرز مقوماتها منظمة الأوبك بلس، كما تبين من خلال رفضها قبول طلب جون بايدن رفع إنتاج دول المنظمة من أجل خفض أسعار النفط. أيضًا تعتقد المملكة أنها بإمكانها استغلال الارتباك الداخلي الراهن بالولايات المتحدة لصالحها، من خلال الاستقلال النسبي في التحكم في أسعار النفط بالتحالف مع شركات أمريكية ولوبيات في هذا الصدد، بما يعني حصار الإدارات التي تهاجم السعودية كإدارة بايدن، ثم ابتزازها للحصول على النووي والتحول لقوة ذات ردع عسكري.

ومن ذلك يمكن استشراف الاتجاه السعودي لرفض سياسة التوازن خارج المجال[24] التي تتخذها الولايات المتحدة لإدارة الأحلاف في السياسة الخارجية للحفاظ على مصالحها، كدورة “البترودولار” من خلال تصعيد التخوف من التهديد الوجودي الإيراني للسعودية مما يستنزف فوائضها في شراء الأسلحة. أيضًا، تغير دور السعودية كلاعب إقليمي، وتطلعه للعب دور عالمي من دون تقديم دعم مادي حقيقي للحلفاء في الشرق الأوسط مثل البرهان في السودان. لكن إذ حدث تغير في البوصلة الروسية من دعم الإمارات والدعم السريع في السودان لصالح دعم البرهان، مقابل وعود من الجيش السوداني ببناء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر بورتسودان تبعد 300 كم عن جدة، فقد يعني ذلك تهديدًا أكبر للولايات المتحدة في البحر الأحمر وقد ينعكس على حليفها السعودي في المنطقة.

كذلك دعم إيران للبرهان سيهدد النفوذ السعودي في السودان، ومع الوقت قد تكون قاعدة لتهديد الأمن الملاحي في البحر الأحمر، وهو ما تنظر له السعودية باعتباره معركة مع الإمارات التي تعتبر استراتيجية السيطرة على الموانئ أولوية بالنسبة لها، لكن الواقع مع الوقت سيُرتب خسائر بالجملة لهذه القوة الناشئة، وما تقوم به جماعة الحوثي فيما يخص الكيان الصهيوني في البحر الأحمر، يؤكد على فعاليتهم في الإضرار بمصالح الدول في هذا القطاع وما يمكن يقوموا به ضد أي دولة أرادوا.

2-محددات الدور الإماراتي في السودان

على المستوى الداخلي، نجد مساعي محمد بن زايد في ترسيخ وضعه بين أسرة الحكم في أبو ظبي وأسر الإمارات الأخرى[25]، ليؤكد استحقاقه لخلافة أخيه الراحل خليفة بن زايد، ويغلق الباب أمام نفوذ الإخوة الآخرين في الوصول للمنصب.

إقليميًا، الإمارات تتحرك من عقلية ثورات الربيع العربي التي أثبتت أن أمريكا حليف يمكنه التخلي عن الأسرة الحاكمة في أي لحظة؛ فيجب مد قنوات مع خصوم الولايات المتحدة، لكن الإمارات أيضًا تسهم في تعزيز إمبراطورية المال الأمريكية -بحسب كولن باورز[26]، فالإمارات كان لها دور في حرب أوكرانيا في الحفاظ على التدفقات المالية وحركة السوق العالمية من خلال احتواء المال الروسي، كذلك في تهريب النفط الإيراني، أي أن لها دور اقتصادي في تحييد الأثر العنيف للحرب على الاقتصاد العالمي.

وهي تقوم بدور شبيه في السودان من خلال الصراع على الذهب، لكن لها أدوار أخرى، إذ ربما تتخلى عن تحالفها مع روسيا في السودان نسبيًا والميل نحو فرنسا، التي مدت يد العون لحميدتي وحمدوك في مؤتمر باريس من أجل حماية تشاد الذي يعتبر أمنه القومي الأول وجود حكومة غير معادية في السودان، وذلك بعد اتخاذ تشاد كقاعدة عسكرية لفرنسا والولايات المتحدة لحفظ الأمن في دول الساحل وغرب أفريقيا بعد الصراع مع الروس في تلك المناطق.

إذ يُعتبر حميدتي بامتداد قبيلته[27] إلى تشاد ومالي والنيجر رأس حربة في نشر الفوضى ضد الحكومات المنقلبة المدعومة روسيًا لصالح فرنسا، علمًا أن الإمارات تعزز من التصور الفرنسي والغربي، وهو ما يعني استمرار حالة العنف والصراع، إذ سيكون هناك صراع بين الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة إلى جوار إسرائيل إقليميًا والإمارات عربيًا، في مواجهة حلف روسي إيراني يهدد المصالح الغربية في تلك المنطقة.

في الوقت الذي كانت فيه الدولة السعودية بعيدًا عن أي اتهام دولي أو إقليمي أو إدانة من أي طرف من أطراف الصراع، كانت الإمارات تتعرض لسيلٍ من الاتهامات والإدانة من أحد أطراف الصراع سواء من خلال تصريحات ياسر العطا نائب رئيس المجلس السيادي، أو من خلال الحارث إدريس مندوب السودان في مجلس الأمن، مما استوجب ردها بأنها “زائفة” على لسان محمد أبو شهاب المندوب الدائم للبعثة الإماراتية في الأمم المتحدة[28]، سيزيد هذا الأمر من السمعة السيئة لسياسة الإمارات الخارجية في المنطقة، وربما يؤدي إلى مقاضاتها دوليًا، في حال كان هناك نفوذ متعاظم للمتنافسين مع الإمارات، إلا أن هذا مستبعد في الوقت الحالي أن يتم عبر السعودية نظرًا لما وصفناه “بحالة العزلة” التي اتخذتها بعد تورطها في الملف اليمني وثورات الربيع العربي.

ومن هنا، يمكن القول إن الإمارات تنظر للجيش السوداني كتهديد للأمن الملاحي ومنه نفوذها على الموانئ، وتعتبر أن العلاقات السودانية مع كل من تركيا وإيران قد يمكنهما من إقامة قواعد تهديد للنفوذ الإماراتي في هذه المنطقة، ومن ثم ستسعى مع الوقت لنفوذ أكبر على الموانئ في البحر الأحمر ومنها تشكيل قوات لحمايته، وهنا قد تلتقي الإمارات مع مصر والسعودية مرةً أخرى للقيام بأدوار لحماية الممر الملاحي.

كما أن الصراع سيمتد من السودان إلى دول الإقليم “الساحل” تحديدًا لمواجهة الوجود الروسي، إذ ستتحول المعارك بين الدعم السريع والجيش السوداني عن غايتها للسيطرة على مقاليد الحكم إلى مجرد العنف وإشاعة الفوضى مع نقله تدريجيًا إلى البلدان التي قامت فيها انقلابات على الوجود الفرنسي مثل النيجر، أي أنه من الممكن أن تمتد هذه الحرب جغرافيًا وزمنيًا، خاصة وأن أفريقيا معروفة باستنساخ تجارب دول الجوار في الانقلابات والعنف كما في الانتخابات والديمقراطية.

خاتمة:

تُمثل الأزمة السياسية السودانية في صورتها الشاملة نمطًا متكررًا للأزمات العربية والأفريقية التي تواجه تحديات مشتركة من جهة أنها تعاني من معضلة التحول الديمقراطي وإدارة عملية الصراع على السلطة والمكتسبات، وعلى رأسها إدارة العلاقات المدنية العسكرية، والمدنية المدنية. بيد أن الحالة السودانية التي تبرز فيها قضية الشقاق الظاهر والانشطار الكبير في المكون الواحد، كما يبرز فيها غياب الإدارة الباحثة بين أطراف الأزمة عن مشروع وطني جامع ينتشل السودان من واقع أزمتها السياسية والاقتصادية والبنيوية. ويُلاحظ المراقب دعم الإمارات للمكون العسكري في كل مراحل الأزمة السودانية[29] حينما كان طرفي العلاقة عسكري/ مدني سواء نظام البشير أو حكومة حمدوك، ولاحقًا حينما كان طرفي الأزمة عسكريًا انحازت إلى من تربطها به مصالح اقتصادية وسياسية أكبر، خاصةً بعدما لم يعد للمكون العسكري الأكثر بيروقراطية ونظامية ضرورة لمصالحها بعدما طبع هذا المكون مع إسرائيل وانتهى دوره، وقد كان من الممكن أن يكون الموقف الإماراتي مختلفًا إن لم يكن الجيش قد اتخذ ذلك الموقف مع الكيان الصهيوني فعندها قد يكون مصالح الإمارات لديه أكبر من مصالحها عند الدعم السريع، هكذا تتضح خسائر التطبيع مع إسرائيل، فهذه الخطوة لا يأتي من ورائها خير أبدا.

ومما تجدر الإشارة إليه في الختام، إن تأمل ما يحدث في السودان يؤكد أن التدخل الإماراتي لم يأت باستدعاء من دولة السودان، أو بترتيبٍ من الأمم المتحدة، أي أنه ينطبق عليه النوع الثالث من التدخل وهو “تدخل ممنوع”، يتم دون إذن الدولة أو التشاور معها، وقد يصنف هذا التدخل ضمن جريمة “العدوان”، ومن يقول بأن هناك فصيل في الدولة السودانية يرحب بهذا التدخل وينزع اتهام العدوان عن التدخل الإماراتي، نشير إلى أن التمثيل السياسي الرسمي لا يزال بيد السلطة التي يعبر عنها الجيش وهي ترفض هذا التدخل وتنتقده.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن قوات الدعم السريع لم تصرح بأنها دعت الإمارات إلى التدخل، ومن جانبٍ ثالث فإن الإمارات نفسها تخفي تدخلها العسكري في السودان خلف ستار المساعدات الإنسانية. ومن ثم، فإن كل ذلك يُعضد من دلالات الرفض الرسمي السوداني لهذا التدخل، وتعالي التصريحات الرسمية في المحافل الدولية المنتقدة ومحاولة توجيه أنظار المجتمع الدولي إليه، ناهيك عن الموقف الأخلاقي الذي يرفض هذا الدعم الإماراتي لأنه يُطيل أمد الصراع، ويُعقد من الحلول سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل، فدون الدعم الإماراتي كان من الممكن لأطراف الصراع أن يصلا إلى حلولٍ ممكنة تعبر عن حقيقة قوة كل فصيل بصورةٍ منطقية.

_______

هوامش

[1] عبدالحميد صيام، التدخلات الخارجية والقانون الدولي: نماذج من سوريا وليبيا واليمن، القدس، 25/06/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/PIvJNL4R

[2] نادية مصطفى، تدخلات القوى الدولية والإقليمية المتصارعة ومستقبل الشعوب والأوطان العربية، مجلة قضايا ونظرات، العدد 16، يناير 2020، ص3.

[3]   المرجع السابق، ص13.

[4] عبدالرحمن فهيم، تطورات الأزمة السياسية والدور الخارجي في السودان، فصلية قضايا ونظرات، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد 27، أكتوبر 2022، ص ص 100-102.

[5] عاصم إسماعيل، كيف نجحت الإمارات في اقتناص كل ذهب السودان؟، تمت زيارته بتاريخ 10/6/2024، متاح عبر الرابط التالي:
https://2u.pw/Pe0SILUN

[6] Talal Mohammad, How Sudan Became a Saudi-UAE Proxy War, 12 july 2023, accessed at:  10/6/2024, available at: https://2u.pw/pEB3bAk

[7]  نتناولها بقدر من التفصيل لاحقا، ولكن يمكن الانتباه إلى أن الأمر بين البلدين في هذا الملف لم يعد مقره الغرف المغلقة، ولكن وصل إلى أنه بات معروف إعلاميا، فقد احتفت قناة العربية بواقعة التلاسن التي حدثت في مجلس الأمن بين ممثلي كل من السودان والإمارات.

[8] Kristian Coates Ulrichsen & Giorgio Cafiero, Qatar’s Role in Sudan’s Crisis: Limited Influence and Humanitarian Engagement, accessed at: 10/6/2024, available at: https://2u.pw/KpuVzebH

[9]  ـ وذلك لأن قوات فاجنر، والتي بدأ نفوذها يتعاظم في دارفور كانت تقوم بدور ريادي في استخراج وتأمين نقل الذهب، إذ كانت تقوم بأدوار لوجيستية لمليشيا الجنجويد بقيادة موسى هلال، ثم حميدتي القائد الحالي لقوات الدعم السريع.

[10] كان هلال مدرجا على قائمة عقوبات الأمم المتحدة منذ عام 2006 بسبب مزاعم بارتكاب فظائع جماعية ضد المدنيين.

[11] U.N. Panel of Experts Reveals Gold Smuggling and Cluster Bombs in Darfur, 12 april 2016,  accessed at: 29/5/2024, available at: https://2u.pw/ms07K3VA

[12] Khalid Abdelaziz, Michael Georgy and Maha El Dahan, Abandoned by the UAE, Sudan’s Bashir was destined to fall, 3 July 2019, Accessed at: 29/5/2024, available at: https://2u.pw/TnOgrgvU

[13]  Ibid.

[14] السودان يبحث مع السعودية أزمة حدوده مع إثيوبيا، وكالة الأناضول، 27 يناير 2021، تاريخ الإطلاع: 29/5/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/zQUmPCHo

[15] عضو مجلس السيادة السوداني: نرفض مبادرة إماراتية لتقاسم أراضي الفشقة، روسيا اليوم، 8 أبريل2021، تاريخ الإطلاع: 29/5/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/2cN0dQlN

  [16] الخرطوم والرياض تبحثان استئناف مفاوضات جدة لوقف حرب السودان، الجزيرة نت، 9 يوليو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/gnaYFBlH

[17] Le rôle des EAU dans la guerre civile du Soudan suscite des critiques, 30 jan 2024, accessed at: 5/6/2024, available at: https://2u.pw/HwXW4iiI

[18]Samira Elsaidi, Libya’s Haftar ‘rerouting’ supplies to Sudan’s Rapid Support Forces, middle east eye, 10 July 2023, accessed at: 5/6/2024, available at: https://2u.pw/vdl6409

[19] الإمارات دولة مافيا، وترسل طائرات لقوات حميدتي.. عضو مجلس السيادة السوداني ياسر العطا يهاجم الإمارات، صفحة ذات مصر على موقع اليوتيوب، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/6nCxILRB

[20] Yezid Sayigh, Sudan’s Military Companies Go Civilian: How the Recent Divestment Agreement Can Succeed, Malcolm H. Kerr Carnegie Middle East Center, 23 April 2021, accessed at: 5/6/2024, available at: https://2h.ae/cSHJ

[21] شيرين صبحي، تنسيقية «تقدم» تنتقد تصريحات مندوب السودان بمجلس الأمن، رؤية الإخبارية، 20 يونيو 2024، تاريخ الإطلاع 22/6/2024، متاح عبر الرابط التالي:  https://2h.ae/dgvA

[22] محمد العثماني باحث موريتاني في التاريخ الإسلامي، مقابلة مع الباحث تمت بتاريخ 28/5/2024.

[23]  أحمد يونس، حمدوك “للشرق الأوسط”: محادثات المنامة تتكامل مع منبر جدة، الشرق الأوسط، 20 فبراير 2024، تاريخ الإطلاع: 5/6/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/BEcX

[24] Walt, Stephen. Keeping the World “Off-Balance”: Self-Restraint and U.S. Foreign Policy. Harvard University, John F. Kennedy School of Government, Working Paper Series. 10.2139/ssrn.253799, (2000).

[25] سيف دويدار، الحرب الصامتة بين: أبو ظبي ودبي وقصة البحث عن التواز، إضاءات، 22 مارس 2019، تاريخ الإطلاع: 5/6/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/CirQ

[26] COLIN POWERS, Capital’s Emirates, sidecar, 29 may 2024, accessed at: 5/6/2024, available at: https://2h.ae/xyqJ

[27] بينتمي حميدتي لقبيلة الرزيقات قبيلة عربية بدوية وهي فرع من فروع قبيلة البقارة من جهينة موجودة في شرق تشاد ولها أواصر وعلاقات نسب مع قبائل في النيجر في منطقة ديفا، المقصد هنا أن الامتداد العربي الذي يعتمد على الرعي ستسلحه فرنسا بالتدريج من خلال حميدتي بحيث ينشر الفوضى في البلاد التي حدثت فيها انقلابات بدعم روسي ضد فرنسا والأمريكان مثل النيجر.

[28] الإمارات ترد على ادعاءات “تورطها بدعم فصيل في السودان”: مضللة، سي إن إن عربية، 22 أبريل 2024،  تاريخ الإطلاع: 22/6/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/mtex

[29]  عبد الرحمن فهيم، تطورات الأزمة السياسية والدور الخارجي في السودان، مرجع سابق، ص110-116.

 

  • نشر التقرير في: فصلية قضايا ونظرات- العدد الرابع والثلاثون- يوليو 2024.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى