التحديات والصراعات التي تواجه العالم الإسلامي في ظل الاستراتيجيات العالمية منذ نهاية الحرب الباردة (1990-2020)

مقدمة:

الأمة الإسلامية، العالم الإسلامي، الدول الإسلامية، مفردات قد تبدو للبعض مترادفة أو متطابقة إلا أنها تمثل مفاهيم تحمل كل منها –في كل واحدة منها ومن خلال المقارنة بينها- دلالات متعددة سواء تاريخية أو جيوسياسية أو عقدية:

  • الأمة الإسلامية مفهوم عقدي اجتماعي سياسي ذو دلالات تاريخية حضارية ممتدة ابتداء من دولة المدينة إلى دولة الخلافة الراشدة ثم الخلافات الأموية والعباسية والعثمانية المتتالية، وبدرجات مختلفة من المركزية واللامركزية، ثم ما بعد الخلافة في عصر الدولة القُطرية.
  • العالم الإسلامي، مفهوم جيوسياسي يعبِّر عن الواقع المعاصر للأمة الإسلامية في عيون ومدركات العالم بعد أن تراجعت الأمة الإسلامية ودولتها عن مقامها الحضاريّ المعهود وعن وحدتها، وفقدت الإطار السياسي الشامل الجامع بين مكوناتها من شعوب ودول وجماعات، ودخلت منذ ما يقرب من نهاية القرن الـ18 مرحلة التراجع الحضاري التدريجي والتجزئة والتعرض للعدوان ثم الاحتلال.
  • الدول الإسلامية حقيقة سياسية وجغرافية ملموسة ومحددة، وخاصة منذ ما بعد الاستقلال عن الاستعمار وفي ظل حدود قومية رسمتها التنافسات الاستعمارية المتتالية حول الأمة الإسلامية وعبر ما يقارب القرن. ومنذ سقوط الخلافة العثمانية حاولت جهود عديدة التعبير عن هذه الدول بصورة جماعية، وآخرها منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة. وهذه الدول لا تتطابق من حيث النظم السياسية والاقتصادية والتحالفات الخارجية، بل يطرح وصفها بـ”الإسلامية” الناجم عن عضويتها في المنظمة، إشكاليات عديدة في التعريف بها؛ نظرًا لما أصاب مفهوم “الإسلامية” من تعقيد وتركيب بل وأحيانًا غموض؛ مع تعدد معايير تعريف هذه الدول قانونيا وسياسيًا وسكانيًا[1].

والعالم الإسلامي على هذا النحو، مفهومٌ يسع الدول الإسلامية وغيرها من التكوينات التي تجمع المسلمين، مثل الأقليات والجماعات في دول “غير إسلامية” شرقية أو غربية من ناحية (على اختلاف الجذور التاريخية ومسار تطور حالاتهم وصولاً إلى وضعهم في النظام الدولي المعاصر منذ نهاية الحرب الباردة)[2]، وكذلك المنظمات والهيئات الدولية وعبر القومية التي تصفُ نفسها بالإسلامية، ناهيك بالطبع عن الفواعل من غير الدول؛ الأفراد والجماعات السلمية والعسكرية على حد سواء ذات التأثير على العلاقات الدولية والسياسات العالمية.

وكانت التوازنات والتدخلات الخارجية عاملاً حاضرًا مؤثرًا بصفة دائمة على مسار العلاقات الدولية للأمة الإسلامية عبر تاريخها، وإذا كانت الاستجابة لتحدي هذه التأثيرات قوية وفعالة في مراحل القوة والوحدة والفتوح، فلقد أضحى لهذه التوازنات العالمية والتدخلات تأثيرات سلبية متزايدة على القوة والوحدة والفتوح، وبصورة متصاعدة عبر القرون الثلاثة الأخيرة[3].

وبعد تقسيم العالم الإسلامي بين القوى الاستعمارية الأوروبية طوال قرن التاسع عشر، وبعد الاحتلال العسكري الكامل لدوله وحتى إتمام الاستقلال ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد حقبة الصراع الأيديولوجي العالمي الذي تعددت بصماته على المسلمين في النظام الدولي بوصفه جزءًا من العالم الثالث في ظل الحرب الباردة والقطبية الثنائية، فقد دشنت نهاية الحرب الباردة ونهاية الصراع الأيديولوجي العالمي، وصعود العولمة والأحادية الأمريكية في قيادة العالم، صعودًا متجددًا لوضع “العالم الإسلامي” في “النظام العالمي الجديد”، اتسم هذا الصعود بخصائص جديدة، وتعددت مؤشرات ذلك وتعددت أسبابه، كما اتضحت معالمه عبر ثلاث مراحل متتالية من التغيرات في التوازنات والبيئة العالمية، ناهيك عن ما يجري في النظم الإقليمية الفرعية للعالم الإسلامي: دولاً وجماعات وهيئات.

وهذه المراحل الثلاث هي: من نهاية الحرب الباردة حتى أحداث 11/9/2001، ثم من الأخيرة حتى اندلاع الثورات العربية، وأخيرًا من الثورات حتى نهاية العقد الثاني من الألفية 2020، وكان لكل مرحلة نمط تحدياتها وتهديداتها الخارجية للعالم الإسلامي من ناحية، ونمط التدخلات الخارجية في صراعاته من ناحية أخرى، والتي ينبغي الوعي بها عند محاولة فهم تطورات وتحولات اللحظة الراهنة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن خريطة الصراعات التي تنفجر في ساحات العالم الإسلامي، ذات جذور داخلية بالأساس ولكن الأثر الخارجي لا ينقطع عنها؛ فهي -وإن كانت تنبع من طبيعة كل إقليم ومشاكله- إلا أن انكشاف سلبيات هذه الطبيعة وتجاوزها لإيجابياتها لدرجة تؤدي إلى تولد الصراعات ثم انفجارها بصورة مسلحة، هذا النمط إنما هو أيضًا نتاج تحديات وتهديدات وتدخلات خارجية تصاعدت تأثيراتها على التوالي عبر القرنين التاسع عشر والعشرين وصولًا إلى المرحلة الراهنة.

(1)

أفرزت نهاية الحرب الباردة وما تخللها من صراع أيديولوجي عالمي مجموعة من التحديات أمام العالم الإسلامي تراكمت عبر عقد من الزمان (1990-2000) احتفى فيه الغرب الرأسمالي بانتصاره بدون حرب على “الشرق الشيوعي” بعد ثلاثة أرباع قرن من المواجهة الشاملة؛ وهو الاحتفاء الذي اقترن بالتبشير بمولد “نظام عالمي جديد”.

وفي المقابل انفجرت سلسلة من الصراعات الساخنة عبر أرجاء العالم الإسلامي بصفة أساسية، مثلت اختبارات متعددة لقواعد وقيم هذا الذي سمي بـ”النظام العالمي الجديد”. فخلال إدارة صراعات البلقان، والقوقاز، وآسيا الوسطى، والخليج، وجنوب شرق آسيا (طوال التسعينيات)، أوضحت المعايير المزدوجة والنفاق العالمي تجاه المسلمين عن نفسها[4]، بل تصاعدت “الرؤى والتحليلات الاستراتيجية العالمية” التي ترى في الإسلام وعالم المسلمين “العدو الجديد” للغرب”بعد الشيوعية”[5]. فرغم الاختلاف بين هذه التحليلات -الرسمية منها والأكاديمية- حول درجة وطبيعة هذه التهديدات وما إذا كانت مجرد تحديات لا تمثل تهديدًا خطيرًا، إلا أنها استدعت وبدرجة واضحة عالم الإسلام والمسلمين في “النظام الدولي” لما بعد الحرب الباردة.

وتبلورت خلال هذا العقد، على ضوء السياسات الغربية تجاه “العالم الإسلامي”، مجموعة متكاملة من التحديات التي كان على الدول والجماعات الاستجابة لها. ولقد احتل “البعد الثقافي” في هذه المرحلة مرتبة متميزة وصعودًا بين أبعاد التحديات الأخرى، فلقد برز في نهاية القرن العشرين كيف أضحت ساحة الثقافة والحضارة آخر ساحات الهجوم  على العالم لإسلامي وآخر خطوط دفاعه، كما أضحت الأدوات الدينية والثقافية في تناغم شديد واندماج واضح مع الأدوات الاقتصادية والسياسية للسياسات الغربية تجاه العالم الإسلامي في غمار عمليات العولمة، فالملاحظ أن ساحة الخطاب الغربي، الرسمي والأكاديمي، حول العولمة، والذي تم تدشينه وذيوعه خلال العقد الأخير من القرن العشرين، كانت زاخرة بما يتصل بالثقافة والحضارة والدين[6].

وتتلخص مجموعة السياسات الغربية التي أفرزت التحديات الحضارية الشاملة للعالم الإسلامي، عقب نهاية الحرب الباردة في الآتي[7]:

أولاً- السياسات المستهدفة منظومات القيم المجتمعية:

أضحى الاتجاه الغربي الرسمي لنشر (أو فرض) منظومات القيم الغربية بمثابة وسيلة -وليس غاية فقط- لتحقيق جملة من المصالح. ومن بين القائمة الطويلة من الموضوعات التي ذخرت بها أجندة السياسات الغربية، يمكن أن نذكر: حوار الأديان، حوار الحضارات، حوار الثقافات، ثقافة السلام، ثقافة التسامح، التعددية الدينية والثقافية، حقوق الإنسان، التدخل الإنساني.

ومن أهم نماذج هذه السياسات التي أينعت خلال التسعينات ما يلي:

  • البعد الثقافي في الشراكة المتوسطية-الأوروبية والدعوة إلى حوار ثقافي بين جانبي المتوسط.
  • الحوار الإسلامي-المسيحي الذي تتعاطاه مستويات عدة على رأسها مستوى الفاتيكان-الأزهر.
  • المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فينيا 1993 والجدال حول العالمية والخصوصية في هذه الحقوق.
  • المؤتمر العالمي للسكان والتنمية في القاهرة 1994، المؤتمر العالمي حول المرأة في بكين 1995.
  • القانون الأمريكي ضد الاضطهاد الديني 1996.
  • التحول الديمقراطي والتعددية وفق منظومة قيم الخبرة الغربية وأهداف سياستها: خبرة الحالة الجزائرية في (91-92)، خبرة تأييد نقل النموذج التركي-وليس الإيراني- إلى جمهوريات آسيا الوسطى.

وتكشف تفاصيل هذه النماذج عن تحديات القدرة على تحديد المشترك بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى من ناحية، والقدرة -من ناحية أخرى- على التجديد في هذه الحضارة وأبعادها الثقافية دون مساس بالخصوصية التي تكمن في ثوابت هذه الحضارة، ومن دون الفشل في صياغة استراتيجية للتعامل مع الآخر.

كما تكشف أيضًا تفاصيل هذه النماذج عن تحديات تحديد المفاهيم الإسلامية التجديدية حول القضايا الهامة المثارة في عالم اليوم وخاصة: التعددية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، المواطنة، السلام، الإرهاب، التسامح..الخ.

كما تشكف هذه التفاصيل أخيرًا –على صعيد السياسات وليس المفاهيم والمدركات- كيف أن توازنات القوى تنعكس بقوة على العملية المفاهيمية الإدراكية التي تتشكل في ظلها الخبرات العملية لجميع هذه النماذج (وغيرها مما لم نحدده)، والتي تعكس اتجاهًا لفرض منظومة قيم الطرف الأقوى.

ثانيًا- سياسات النظام الدولي لمنع انتشار اسلحة الدمار الشامل وتحديات الأمن القومي بين القيود وبين الفرص:

التسابق على التسلح عملية أساسية في العلاقات الدولية، وتمثل سياساته ركنًا أساسيًا من أركان سياسات توازنات القوى الدولية، ولا تقتصر أطراف هذه العملية وهذه السياسات على الدول الكبرى فقط، ولكن تمتد -وبدرجة أساسية- إلى الدول الصغرى أيضًا؛ سواءٌ فيما يتعلق بالأسلحة التقليدية أو أسحلة الدمار الشامل. وإذا كان العامل المتصل بالقوة والهيمنة والسيطرة يبرز فيما يتصل بسياسات السباق على التسلح بين الكبار، فإن عوامل أخرى هي التي تثور فيما يتصل بنظائرها بين دول “العالم الثالث” أو دول الجنوب التي يمثل العالم الإسلامي جلَّ أعضائه، ومن أهم هذه العوامل: إشكاليات تحقيق المكانة والحفاظ على الأمن في مواجهة التدخلات الخارجية والصراعات الإقليمية والداخلية.

ولهذا فإنه في ظل أوضاع وظروف هذه الدول، والتي يشوبها عدم الاستقرار، تصبح سياسات التسلح من أهم قيود التبعية للنظام الدولي الشامل، حيث تعجز قدرات هذه الدول عن الوفاء بمتطلباتها المتنامية من التسلح، في حين أن النظام الدولي المحيط يولد بتدخلاته البيئة الجاذبة للسلاح. ولهذا فإن قضايا التسلح في دول العالم الإسلامي وسياساته تفرض مجموعة من التساؤلات عن العلاقة بين التسلح وبين الحرب والسلام، والصراعات وجهود التنمية وأوضاع التخلف، وأوضاع التبعية والاستقلال. بعبارة أخرى: فإن هذه الأسئلة تطرح المقابلة بين الدوافع وبين المحددات سواء لسياسات التسليح أو نتائجها.

ثالثًا- سياسات التدخلات الخارجية وأدواتها في ظل آثار العولمة السياسية: تحديات إعادة بناء النموذج في ظل معضلة “العولمة/الخصوصية” ومعضلة “السيادة القومية/الشرعية الدولية”:

من أهم آثار البعد السياسي للعولمة تلك الآثار المتصلة بسيادة الدولة، وهي آثار لا تفلت منها كل أنواع الدول، ولكن تختلف طبائع ودرجات انتقاص السيادة التقليدية للدول. وتكتسب الآثار بالنسبة للدول الإسلامية سمات أخرى وخاصة فيما يتصل بما بقي من الوظيفة العقدية لهذه الدول. ومن ثم فإن الحديث عن آثار العولمة على أزمة الدول الإسلامية لا يجب أن يقتصر على ما يسمى بوظائف دور الرفاهة ثم وظائف المنافسة، ولكن يجب أن ينصرف إلى أبعاد أخرى ذات طبيعة حضارية-ثقافية يكمن فيها ما بقي من خصوصيات تجارب الدول الإسلامية. ومن هنا، يجب أن نميز بين مستويين من الآثار السياسية: أحدهما يبرز آثارًا سياسية مباشرة، والآخر يبرز آثارًا سياسية غير مباشرة.

  • الآثار السياسية المباشرة: ومن أهم المجالات التي تتبلور على صعيدها آثار مباشرة للعولمة -أي آثار اكتساح الخارجي للداخلي في ظل منظومة قيم الطرف الذي يقود العولمة ويديرها- مجال التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان.

وبدون الدخول في تفاصيل الجدالات المتنوعة الأبعاد بين المنظورات المختلفة (الليبرالية- القومية- اليسارية- الإسلامية) حول إشكالية الخصوصية/العالمية التي تحيط بقضية حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي، أو حول إشكالية شرعية التدخلات الخارجية باسم حقوق الإنسان، فيكفي هنا التركيز على الملاحظتين التاليتين:

من ناحية أولى: أن الدول الإسلامية كانت ساحة أساسية وهامة لاختبار هذه الجدالات وما اقترن بها من مواقف سياسية تتصل بأحداث وبتطورات بعض الحالات ذات الدلالات الواضحة حول “التدخلات الخارجية” بأدوات وقنوات مختلفة على هذا الصعيد.

من ناحية أخرى: أن التساؤل حول مرمى هذه التدخلات وأهدافها الحقيقية (وهو نشر منظومة القيم السياسية والاقتصادية باعتبارها أساسًا لتحقيق وحماية المصالح الشاملة في العالم)، هذا التساؤل إنما يطرح أمرين من وجهة نظرنا: أولهما- عدم إنكار أن الدول الإسلامية تعيش بالفعل أزمة مشاركة، أزمة شرعية، أزمة حقوق الإنسان. وثانيهما- أن الحاجة للتغيير أو الإصلاح في المجال السياسي يجب أن تستند إلى أصول وثوابت إسلامية، وليس أن تقوم على نظم  ومنظومات مفروضة من الخارج. فحتى الآن ومنذ 200 عام لم يؤدِّ النقل عن الغرب إلا إلى الصدع في المجتمعات والدول الإسلامية الساعية إلى التجديد والإصلاح.

وازدادت خطورة هذه التدخلات، في ظل خطاب العولمة وسياساتها، وتعددت النماذج الدالة على ذلك؛ وعلى رأسها يظهر سلوك القوى الكبرى تجاه التطورات الداخلية في بعض الدول الإسلامية الكبرى، التي لعبت فيها الحركات الإسلامية أدوارًا شتى خلال التسيعنات، وإن اختلفت نتائجها ما بين التعايش مع النظام (الأردن)، وما بين الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري (السودان)، وما بين المشاركة المقيدة في إطار شبه تعددي (مصر)، وما بين التصفية والاحتواء (الجزائر وتونس).

ولقد تعددت أنماط أدوات التدخل الخارجي في سياسات الدول الإسلامية الكبرى سواء حول هذا المجال المتصل بالقوى الإسلامية المعارضة أو غيره من المجالات مثل “الأقليات غير المسلمة” أو “الأقليات القومية” (كما في حالات مصر والعراق والسودان وتركيا وأندونيسيا)، أو سواء حول المجال الذي يسمى “المجتمع المدني وحقوق الإنسان”، وتتراوح أدوات هذا التدخل الخارجي ما بين الأدوات الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

  • الآثار السياسة غير المباشرة: الأدوات الاقتصادية والثقافية الدينية:

وحيث إن أبعاد العولمة لا تنفصل تمامًا من حيث محركاتها، ومن حيث عملياتها وآلياتها؛ لذا فإن الحديث عن الآثار السياسية (غير المباشرة) على الدول الإسلامية إنما يجد مصادره في أبعاد مختلفة تتصل بأدوات متنوعة: اقتصادية وثقافية ودينية. حقيقة لا يتصدى بحث “التحديات الخارجية للعالم الإسلامي” للدائرة الاقتصادية مباشرة ولكنه لا يستطيع أن يغفل آثارها، فإذا كانت تحديات إعادة بناء أركان القوة الاقتصادية المستقلة للدول الإسلامية وبناء صيغ للتكتل الاقتصادي الإسلامي من أهم تحديات “العولمة الاقتصادية” على الصعيد الاقتصادي، فإن لهذه العملية وجهًا آخر ذا أبعاد سياسية. ومن النماذج التي تبين لنا هذه الرابطة بين آثار عمليات العولمة الاقتصادية على أوضاع الدول الإسلامية السياسية نسوق النماذج التالية: دور مؤسسات التمويل العالمية، وثقافة الاستهلاك.

رابعًا- إدارة مشاكل وأزمات الأمة من الخارج وسياسات تفكيك العلاقات الإسلامية-الإسلامية بعيدًا عن أطر الحركة الإسلامية الجماعية:

وإذا كانت التجزئة القطرية هي الميراث الأول من الاستعمار بعد تصفيته في صورته التقليدية، فلقد تنامت وتعمقت ملامح ومشاهد تكرس التجزئة وعواقبها، متمثلة في مستويات عدة. ولقد تجسدت هذه الملامح بشدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتراكمت مدلولاتها على نحو يوضح مدى تكدس التأثيرات الخارجية السلبية على العلاقات الإسلامية–الإسلامية، في وقت وصلت فيها قواعد هذه الأخيرة إلى درجة من التهافت الذي مكن لهذه التأثيرات الخارجية من ممارسة تأثيراتها السلبية. ولقد تجسدت أهم أشكال تحديات العمل الجماعي الإسلامي في تلك التحديات التي تواجهها منظمة التعاون الإسلامي وتؤثر على فعاليتها، ناهيك عن تحديات توزيع الأدوار، والترتيبات البديلة، ومقاومة العقوبات، وتنمية العلاقات عبر القومية لإعادة بناء الوحدة من القاعدة، وسبل تنمية أواصر النصرة للأقليات المسلمة. وفيما يلي نماذج على بعض المشاهد عن التأثيرات الخارجية :

  • نزاعات أهلية أو حروب إقليمية أو تنافسات دولية حول مناطق تتولى إدارتها أطراف ثالثة غير إسلامية، وحيث يتم الهرَع للخارج لحل الأزمات وإيقاف الحروب، مما يفسح الفرصة للتدخلات الخارجية لتحقيق مصالحها، في نفس الوقت الذي يغيب فيها الدور الإسلامي.
  • تنازع الأدوار بين دول الأركان الكبرى: مصر، إيران، تركيا، السعودية، باكستان، ماليزيا.
  • قبول العقوبات والحصار الذي تفرضه القوى الكبرى على بعض الدول الإسلامية باسم الشرعية الدولية، والعقوبات التي امتدت على العراق لعشر سنوات (1991-2003) من أوضح الأمثلة، وكذا العقوبات على إيران والسودان.
  • طرح ترتيبات إقليمية وعبر إقليمية كبديل لأطر جماعية قائمة؛ وعلى رأس هذه الترتيبات البديلة التي تم طرحها خلال التسعينيات: المتوسطية والشرق أوسطية، وهي صياغات نهاية القرن العشرين لترتيبات سابقة ظهرت في ظل سياقات إقليمية وعالمية مختلفة. ولم تحظ مشروعات إقليمية وعبر إقليمية في العالم الإسلامي يمثل ما حظي به هذان المشروعان من اهتمام، لأنهما ولدا بقوة دفع أوربية وأمريكية وكمكونات من الخطط الاستراتيجية الكلية تجاه المنطقة العربية. وفي المقابل لم تلقَ ترتيبات مكملة إسلامية، تزامنت في مولدها مع هذين المشروعين، نفس الاهتمام وعلى رأس هذه الترتيبات المكملة، مجموعة الدول الثماني الإسلامية.

(2)

وتجلت، منذ واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تلاها من سياسات غربية تجاه العالم الإسلامي، كيف أضحت هذه التحديات، وعبر عقود، كامل مصادر تهديد للأمن القومي للدول والأمن الإنساني عبر أرجاء العالم الإسلامي. وهي مصادر انجدلت على صعيدها، وبوضوح شديد، أدورات التدخلات الخارجية العسكرية والاقتصادية منها مع الثقافية في إطار استراتيجية الحرب الأمريكية العالمية على الإرهاب التي صبت على رأس أفغانستان والعراق وفلسطين المحتلة بصفة أساسية[8].

ومن ثم أضحت الأمة الإسلامية في النظام الدولي، وعبر عقد من الزمان، رهينة عواقب السياسات الأمريكية والغربية وعلى نحو جعل منها ساحة تتجدد حوله اختبارات مقولات صراع الحضارات ومقولات التهديد الإسلامي للغرب في مقابل مقولات الحرب الصليبية والمؤامرة الغربية على الإسلام والمسلمين. بعبارة أخرى: تفجرت أزمة عالمية ذات أبعاد حضارية ثقافية شهدت تصاعد تبادل الاتهامات بين العالم الإسلامي والسياسات الغربية: من الذي يهدد الآخر؟ ولماذا؟ وكيف؟ وتبلورت هذه الأزمة على أكثر من صعيد سواء العسكري أو السلمي، وعلى أكثر من نطاق سواء في الدول الإسلامية أو الجماعات المسلحة أو الأقليات المسلمة في الغرب، وأخيرًا الفواعل من غير الدول التي رفعت “السلاح” ضد الغرب باسم “الدفاع عن الإسلام والمسلمين”، وعلى رأسهم القاعدة.

وكانت ساحة العدوان على أفغانستان ثم العدوان على العراق ثم حصار غزة منذ 2007 والعدوان عليها مرارًا من أبرز تجليات الأزمة عسكريًا، كما كانت ساحات الحوارات من ناحية أخرى من أبرز تجليات السلمية لإدارة الصراعات في هذه المرحلة.

  • فلقد أفصحت ساحات حروب أفغانستان والعراق وغزة عن الكثير من الدلالات عن السياسات الأمريكية التي تقود التحالف الدولي وتسعى لتأكيد هيمنتها الأحادية عسكريًا، فلقد أبرزت السياسات الأمريكية الملامح التالية: الانفراد بقيادة العملية العسكرية دون تفويض دولي وبالرغم من الاختلافات الأوروبية الأمريكية حول دوافع وأهداف وكيفية الحرب على كل من أفغانستان والعراق. وأحاط بكل تلك الحروب ومهد لهم خطابات تحريضية إعلامية وفكرية عن “الإرهاب في أفغانستان” الذي يهدد “الحضارة الغربية” برمتها، وعن “أسلحة الدمار الشامل في العراق” التي تهدد الأمن والسلام العالمي، والإرهاب وتهديد أمن إسرائيل من غزة.

ولقد أفرزت إدارة بوش الجمهورية المدعومة من المحافظين الجدد والأصولية الصهيونية المسيحية الأمريكية مفردات “الصراع الحضاري” في خطاباتها والتي تحفز وتحشد كل أدوات القوة العسكرية الأمريكية، ليس دفاعًا عن النفس، ولكن لنشر وتدعيم الهيمنة الأمريكية عسكريًا. وتعددت الدوافع والأهداف الاستراتيجية لهذه الإدارة، والتحفت بأبعاد ثقافية لتبريرها وتعبئة الدعم العالمي لها.

وتأكد خلال الجدالات السياسية، الفكرية والأكاديمية والإعلامية، حول هاتين الحربين (أفغانستان، العراق) وعواقبها على النظام العالمي، كيف كان مسار اليمين الجمهوري المحافظ الأصولي في الولايات المتحدة الأمريكية في صعود في مقابل معارضة ديمقراطية أمريكية عالمية قليلة بتداعيات الحادي عشر من سبتمبر. فلم تنجح مظاهرات الخمسة عشر مليون عبر العالم من منع العدوان الأمريكي على العراق. ولم يكن تجديد انتخاب بوش للمرة الثانية إلا تأكيدًا لهذه الحالة. ولم يكن انتخاب أوباما 2008 إلا تعبيرًا عما وصلت إليه الانتقادات لإدراة بوش ومسئوليها عما أصاب “الصورة الأمريكية” والاقتصاد الأمريكي من تراجع عبر أرجاء العالم الإسلامي.

  • كيف أبرزت ساحات الحوارات[9] دلالات أن الغرب الذي يدعي أنه يستهدف الإرهاب قد تموضع في موضع آخر استعلائي على الصعيد المعرفي والفكري مبشرًا بمنظومة قيم للإصلاح السياسي والمجتمعي والديني، تستهدف القضاء على جذور الإرهاب الكامنة في المجتمعات العربيى والإسلامية، ناسيًا أو متناسيًا أن “ظاهرة الإرهاب” ترجع في جانب كبير منها لكونها رد فعل لسياسات غربية ظالمة تجاه قضايا العالم الإسلامي ولجذور الاحتلال الغربي لهذا العالم.

ومن ثم فإن الحوارات -التي تعددت مستوياتها ومبادراتها وأجندتها طوال عقدين من الزمان بحيث أضحت ظاهرة دولية نشطة ومتجددة- قد أحاطت بها مجموعة من الجدالات السياسية ذات الأبعاد الثقافية والحضارية. تبرز الآتي:

من ناحية أولى: هجوم غربي منظم رسمي وغير رسمي ذو أجندة واضحة المعالم (المرأة، الأقليات غير المسلمة، الخطاب الديني، الإرهاب، التسامح، السلام والسلمية…) يتهم المسلمين ويقدم الحلول من جانب لإحداث تغيير ثقافي ومجتمعي.

ومن ناحية أخرى، دفاعات واعتذارات من مؤسسات رسمية وغير رسمية إسلامية عن الإسلام وصورة الإسلام، تتسم بجلد الذات متناسية مصادر الإرهاب النابعة من السياسات الداخلية المستبدة أو السياسات الدولية المهيمنة. وبدلًا من النقد الذاتي من أجل الإصلاح والتغيير وفق نموذج حضاري تجديدي، تجسدت الخطابات الاعتذارية والسياسات الإصلاحية الشكلية التي لا تصب في عافية الأمة والمجتمعات بقدر ما تستجيب لمتطلبات “الاستراتيجية الأمريكية للحرب على الإرهاب”.

ومن ناحية ثالثة، تبلورت خطابات على الصعيد الغربي أو الإسلامي، ترى المشهد وتدركه من مدخل ثالث، حيث تركز على أن “الإرهاب” ليس ظاهرة ثقافية دينية فقط ولكن ظاهرة ذات جذور مجتمعية وسياسية داخلية وخارجية، وأنه بقدر ما تتحمل نظم ومجتمعات إسلامية في ظهوره بقدر ما لا يمكن إنكار مسئولية الغرب أيضًا، بل وحذرت هذه الخطابات من خطورة “التسييس” الزائد للحوارات بحيث أضحت أداة من أدوات القوة الناعمة للسياسات الخارجية للدول الكبرى. التي توظفها لخدمة ودعم السياسات العسكرية الصلدة التي تجتاج أرجاء العالم الإسلامي بتدخلات عسكرية فجة ومدمرة، تستهدف إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والعالمية؛ ومن ثم فإن أجندة القضايا محل اهتمام هذه المجموعة من الخطابات، كانت أكثر اتساعًا من أجندة القضايا التقليدية للحوارات عن المرأة والعنف والأقليات… حيث امتدت إلى قضايا العدالة العالمية، والتعددية الثقافية، وتجالف الحضارات، والعالمية الإنسانية، ومقاومة الهيمنة، والعولمة المضادة، وحقوق الإنسان.

(3)

وفي المرحلة الثالثة منذ2011، تصدرت تفاعلات الساحة العربية حول الثورات والثورات المضادة، الاهتمامات بالعالم الإسلامي؛ لأن الإسلام والمسلمين والإسلاميين أضحوا بكافة أطيافهم وتنويعاتهم القومية والمذهبية في قلب هذه التفاعلات؛ فلم تكن هذه التفاعلات داخل الأوطان أو الإقليمية العربية أو عبر الإقليمية نحو أقاليم الجوار الحضاري القريب للعرب (تركيا وإيران) أو الأبعد (باكستان وأفغانستان) إلا تجسيدًا حيًا واضحًا وبقوة عن هذه الأهداف الاستراتيجية للقوى الكبرى المتدخلة في المنطقة وأهداف عملائها في المنطقة من العرب وأهداف حليفتها الرئيسية إسرائيل، وكيف أضحت هذه الأهداف توظفها وتستفيد منها -بصراحة وعلنية وفجاجة وبشدة- هذه القوى من الصراعات العربية-العربية، والصراعات العربية-الإيرانية، والصراعات العربية-التركية التي لبست جميعها أردية طائفية مذهبية أو قومية؟

فلقد أضحت هذه الصراعات وأنماط التدخلات الخارجية والإقليمية منها، تحقق أهدافا استراتيجية؛ وهي منع التغيير المجتمعي والسياسي الفعال بقيادة حركات إسلامية سنية حفاظًا على نظم سنية تقليدية (وهابية) أو نظم عسكرية (علوية أو حوثية أو سنية) على حساب شعوب الأوطان ووحدة أراضي الدول الجامعة لهذه الشعوب[10].

وهذه الحالة كانت تصب في مصلحة إسرائيل بالأساس، فلقد اتضح كيف وظف الكيان الصهيوني الاستيطاني واستفاد من تفاعلات هذا العقد المنصرم منذ 2011 على النحو الذي تحول فيه القلق الإسرائيلي عند اندلاع الثورات إلى استعلاء راهن وتباهٍ بعناصر القوة والدور الإسرائيلي المتنامي في المنطقة[11] ولعل مدلولات صفقة القرن تقدم الكثير من الأدلة[12].

ولم تكن حالة هذه الدائرة العربية من العالم الإسلامي ببعيدة التأثير عن أحوال دوائر ثقافية أخرى من هذا العالم الذي يمثل دائرة حضارية جامعة لثقافات وشعوب متنوعة. فلقد اتجهت موازين القوى حول صراعات أخرى ممتدة في أنحاء العالم الإسلامي لفرض تسويتها دون احترام لحقوق الشعوب، ولعل نماذج أقليات الإيجور في الصين والروهينجا في ميانمار ومسلمي كشمير الهندية من أوضح هذه الأمثلة، وناهيك عن استمرار تأزم الوضع في أفغانستان واستمرار إحكام الحصار والعقوبات والتهديدات على إيران من ناحية، وتآكل مدخولات الثروات النفطية في ظل اختلالات الأسواق العالمية التي ضربها التسيس الظاهر.

خاتمة:

تقدم لنا متابعة أحداث العامين الأخيرين (2018-2019) عبر أرجاء العالم الإسلامي، خريطة من أنماط عدة للصراعات المسلحة وغير المسلحة (ولو العنيفة) التي يواجها المسلمون في بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة:

  • فمع اتجاه لتسكين الحرب في أفغانستان وفي إطار ما يسمى الحوار بين طالبان والولايات المتحدة وتوقيع اتفاق الدوحة، تنفجر العراق من جديد منذ اغتيال قاسم سليماني تحت وطأة أشكال عدة من التدخلات العسكرية الأمريكية والإيرانية.
  • استمرار حروب ما بعد الثورات العربية في سوريا واليمن وليبيا، ناهيك عن تداعيات الموجة الثانية من هذه الثورات في لبنان والعراق والجزائر.
  • تعثر مفاوضات السلام بين النظام الانتقالي في السودان ما بعد الثورة والجماعات المسلحة السودانية في الداخل والخارج.
  • تردي أوضاع الأقليات المسلمة في الشرق (الروهينجا في ميانمار والايجور في سيكانج الصين)، وتصاعد التحديات التي تواجه مسلمي أوروبا في ظل استمرار صعود اليمين في أوروبا لأسباب عدة داخلية (أزمات الديموقراطية والاقتصاد والمخاوف من الهجرة على الهوية الأوروبية).
  • صعود القومية الهندوسية المتطرفة منذ 2014 إلى الحكم وتصاعد اضطهادها لمسلمي الهند والذي وصل إلى ضم كشمير الهندية نهائيًا واصدار قانون الجنسية الهندي الجديد وغير ذلك من إجراءات.
  • المأزق في الوضع الباكستاني الإقليمي في ظل تداعيات تصارع المصالح الإيرانية–الخليجية–التركية، وتصاعد التحالف الاستراتيجي الأمريكي-الهندوسي-الإسرائيلي، حيث تبدو السياسة الخارجية الباكستانية مأزومة في ظل سياسات شد أطرافها، جراء متطلبات المعونات السعودية، أو من جراء آثار الجوار الأفغاني والإيراني، ومن جراء دوافع التقارب مع تركيا وماليزيا، وأخيرًا من جراء المواءمات بين التحالفات مع الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
  • تداعي مثلت العلاقات التاريخي بين أركان الأمة الكبرى، العربية (مصر–الخليج) والتركية والفارسية، مع تجدد الصراع العربي الفارسي، والتركي العربي في أثواب جديدة (مذهبية، جيوسياسية وليست قومية فقط) في مقابل صعود مالاوي هادئ في جنوب شرق آسيا تجسده التغيرات في إندونيسيا وماليزيا وخاصة بعد الانتخابات منذ عامين في الدولتين.
  • تكالب التنافس الصيني الأمريكي على أفريقيا وانفجار حروب السيطرة على مواني بحر العرب والساحل الغربي الأفريقي التي تشارك فيها الإمارات والسعودية، وذلك في ظل تداعيات استراتيجية طريق الحرير الجديد الصينية، وانفجار نزاعات شرق البحر المتوسط في ظل صراع من إسرائيلي-مصري -قبرصي -يوناني في ناحية ضد تركيا في ناحية أخرى.
  • تجدد الدور الروسي في مواجهة الأمريكي والأوروبي ليس في الشام فقط، ولكن في أرجاء أخرى من العالم الإسلامي، ولكن على نحو يوحي بتوافق على توزيع الأدوار بين هذه القوى في أقاليمه.
  • ارتداء الدعوات إلى حوارات الأديان والثقافات والحضارات مقارنة بما بعد 2001، أثوابًا جديدة سواء من حيث محدودية الذيوع والاهتمام بها، أو من حيث نقاط انطلاقها وارتكازها؛ لأنها بدأت تنطلق رسميًا من داخل العالم الإسلامي ونحو الغرب وتحت تسميات عدة؛ من أبرزها: تجديد الخطاب الديني، وعلى نحو مشفوع باستراتيجية اعتذارية وجلد للذات. ولا تعني تلك الدعوات من داخل العالم الإسلامي إلا إعادة رسم صورة للإسلام في أذهان المسلمين وفق مقتضيات المطالب الغربية (إسلام علماني منعزل عن الحياة بكل أبعادها، وليس فقط إسلاما غير جهادي أو متسامحا (كما كان بعد 2001)، وعلى نحو يضاعف من الارتباك –لدى العموم- حول العلاقة بين الإسلام والإسلاميين والمسلمين[13].
  • حالة عجز وعدم فعالية المنظمة الجامعة للدول الإسلامية أمام شبكة التحديات والصراعات التي تجتاح العالم الإسلامي سلمًا أو حربًا. ولقد تجلت هذه الحالة بوضوح مع ذكرى مرور 50 عام على تكوينها، وعلى أكثر من مستوى وخاصة مع ما أحاط انعقاد قمة كوالمبور في نوفمبر 2019 من جدالات[14].

خلاصة القول وصلنا وعبر ثلاثة عقود، إلى أن حالة صعود الاهتمام بالإسلام والمسلمين في النظام العالمي المعاصرة قد مرت الآتي:

  • من التحديات التي تواجه المسلمين والإسلاميين إلى تحديات تفرض على الإسلام ذاته.
  • من تحدي دفاع المسلمين والإسلامين ضد اتهامهم من الغرب بالإرهاب إلى تحدى دفاع المسلمين ضد اتهامهم من داخل دولهم بالأساس بالإرهاب.
  • من تحديات إعادة رسم الحدود داخل أقاليم كبرى إلى إعادة تقسيم مكونات كل إقليم.
  • من تحديات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي إلى تحديات وقف الصراعات المسلحة الداخلية (الغرب) والتصدي للقوميات العلمانية المتطرفة (في الهند والصين وأوروبا).
  • من تحديات الحرب العالمية الأولى على الإرهاب بعد 2001 إلى تحديات الحرب العالمية الثانية على الإرهاب منذ 2013.

وجميع هذه المحطات تعني حقيقة مركبة وهي:

من ناحية أولى:

  • أن قوى الهيمنة في النظام العالمي المعاصر، قد فشلت في اثبات احترام ادعاءاتها حول حماية حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية، كسبب لإقرار نظام عالمي جديد بقيادة أمريكية وغربية، أكثر استقرارًا وأمنًا.
  • كما فشلت الدعوات النقدية في الغرب حول الحاجة إلى التعددية الدولية ومقاومة الهيمنة والعولمة الرأسمالية المتوحشة من أجل عالم أكثر ديمقراطية وإنسانية. فلم تقدر القوى الحاملة لهذه الدعوات على التصدي بفعالية لتغيير سياسات الهيمنة الغربية، ولعل حقبة ترامب تشهد معالم المعركة بين الجانبين.

ويقع وضع الإسلام والمسلمين في العالم (أي وضع العالم الإسلامي بتحدياته وصراعاته الساخنة والباردة) في قلب اختبار سياسات هذين الجانبين: الواقعية المهيمنة من ناحية، والنقدية الصاعدة من ناحية أخرى في الدوائر السياسية والإعلامية والفكرية والأكاديمية الغربية.

ومن ناحية أخرى:

  • استحكمت وازدادت عنفًا قوى الدول العميقة عبر أرجاء العالم الإسلامي؛ فهي وإن تدثرت في حماية قوى الهيمنة الغربية، إلا أنها ترفض -بقوة- الإصلاحات والتحولات السياسية والمجتمعية والاقتصادية الحقيقية التي تعيد العافية للمجتمعات والتي تؤسس حكم القانون وتداول السلطة وتمكين المجتمع كقوة تشاركية ورقابية على “نظام الحكم”.
  • وكما تحالفت قوى تدعي “الإسلامية” وتصف نفسها بها مع قوى الدولة العميقة والنظم الحاكمة في عديد من أرجاء العالم الإسلامي في مواجهة قوى إسلامية أخرى تنتهج المعارضة، فإن قوى وحركات اجتماعية وسياسية تصف نفسها بالإسلامية أيضًا، قد تصدت وتصدرت من أجل التغيير، من أجل المقاومة، من أجل الاستقلال والحرية، من أجل الهوية والانتماء والمرجعية الحضارية، من أجل العدالة وضد الظلم من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، من أجل عالم أكثر إنسانية وعدالة وسلامًا وأمنًا للجميع، إلا أن هذه القوى -وغيرها من القوى المعارضة المدنية- لم تعد تجد المساحات الواسعة الحرة لدعواتها وحركتها في ظل استحكام دوائر الحرب العالمية الثانية على الإرهاب، التي ترفض أي حركية فاعلة باسم الإسلام أو أي مرجعية أخرى من أجل تغيير حقيقي.

ومع انفجار جائحة كورونا:

نظل نتحدث -وعبر ثلاثة عقود- عن تصاعد التحديات والصراعات التي تواجه العالم الإسلامي منذ نهاية الحرب الباردة في ظل تغيرات النظام العالم واستراتيجيات القوى الكبرى العالمية.

نظل نتحدث عن تحديات وصراعات القوة الصلدة وامتزاجاتها مع القوة الناعمة في ظل العولمة. وكانت قضايا مثل البيئة والجريمة المنظمة والملكية الفكرية والأمراض العابرة للحدود لا تحظى بقدر الاهتمام الذي تحظى به الحروب الساخنة، والآن مع جائحة كورونا يواجه العالم الإسلامي تحديات مشتركة وجامعة مع العالم أجمع؛ ولكن يظل العالم الإسلامي خصوصيته التي تدفع إلى السطح بعدة أسئلة:

  • هل يمكن أن يمثل تحدي كورونا دافعًا لوقف أو على الأقل تعليق الصراعات الساخنة؟
  • هل ستصبح شعوب العالم الإسلامي، نظرًا لمحدودية عناصر قوة دولها وخاصة العلمية والاجتماعية والصحية المتصلة بالإنسان، الأكثر خسارة في البشر والاقتصاد مقارنة بخسارة الدول الأكثر تقدمًا في هذه المجالات؟ وهل ستحظى إعلاميًا بقدر ما تحظى به حالة الدول الكبرى؟
  • لماذا لا تحظى شعوب العالم الإسلامي باهتمام خارجي بتداعيات كورونا عليها، صحيًا واجتماعيًا واقتصاديًا؟ وفي المقابل، لماذا تحظى أخبار الجائحة في كبرى دول العالم بالاهتمام الأكبر بقدر ما كانت تحوز الصراعات السياسية والعسكرية في العالم الإسلامي من اهتمام من قبل؟
  • هل الجائحة الوبائية ستكشف وتختبر حقيقة دوافع وأهداف التدخلات الخارجية بذريعة الاعتبارات الإنسانية والأمن والسلام العالمي؟ إنسانية من؟ والأمن والسلام لمن؟
  • ألن تكشف هذه الجائحة لشعوب العالم الإسلامي التي تعاني من نظم مستبدة فاسدة تهاونت في خدمة هذه الشعوب وفشلت في توظيف مواردها من أجل حياة أكثر صحية وأكثر أمنًا إنسانيًا؟ والأخطر ألن تكشف عن مدى “عدم شفافية” وعدم فعالية وربما عدم الاستعداد لإدارة أزمة صحية إنسانية نتيجة الفشل المسبق أو الرفض المسبق لإقرار نظم ديمقراطية، تشاورية تقوم على تمكين المجتمعات وليس استبعادها؟
  • بعبارة أخيرة: هل ستنجح شعوب العالم الإسلامي في النجاة من هذه الجائحة بفضل دعوات الصالحين منهم!!! لمشاهدة مولد نظام عالمي جديد يكثر الحديث الآن عنه أم سيولد نظام عالمي جديد على مزيد من خسارات هذه الشعوب؟

*****

هوامش

[1] انظر: د.محمد السيد سليم، العلاقات بين الدول الإسلامية، السعودية، منشورات جامعة الملك سعود،1991.

[2] انظر حول هذه الاختلافات:

  • د.نادية محمود مصطفى، الأقليات الإسلامية في العالم، إطار مقارن للدراسة، في: د.حسن العلكيم محرر، قضايا إسلامية معاصرة، جامعة القاهرة: مركز البحوث والدراسات الآسيوية، 1997.

[3] انظر في هذا:

  • د.نادية مصطفى، التاريخ والعلاقات الدولية: منظور حضاري مقارن، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار البشير للثقافة والعلوم، 2015، القسم الثاني: الدولة العثمانية في دراسات التاريخ الإسلامي والنظام الدولي، ص ص421-464.

[4] د.نادية محمود مصطفى، العالم الثالث في النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة: خريطة أنماط الصراعات وأدوات التدخلات الخارجية 1991- 2011، مجلة الغدير اللبنانية، سبتمبر 2012.

[5] انظر خريطة اتجاهات هذه التحليلات ونماذجها في:

  • د. نادية محمود مصطفى: التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي: بروز الأبعاد الحضارية الثقافية، في: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح محرران، موسوعة الأمة في قرن، عدد خاص من حولية أمتي في العالم، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار الشروق الدولية، 2002، الكتاب السادس، ص ص 87-154
  • د.نادية محمود مصطفى، المنطقة العربية والنظام الدولي الجديد، القسم الأول، في: تقرير الأمة في عام 1992- 1412هـ، القاهرة: مركز الدراسات الحضارية،

[6] د.أماني غانم، الأبعاد الثقافية والعلاقات الدولية: دراسة في اتجاهات نقدية مقارنة، في د.نادية مصطفى محررًا العلاقات الدولية في عالم متغير منظورات ومداخل مقارنة، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2016.

[7] د. نادية محمود مصطفى: التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي: بروز الأبعاد الحضارية الثقافية، مرجع سابق، ص ص109-123.

[8]  انظر الآتي:

  • د. نادية محمود مصطفى: أولى حروب القرن الواحد والعشرين:رؤية أولية، مجلة السياسة الدولية، 2003.
  • د. نادية محمود مصطفى، د.سيف الدين عبد الفتاح إشراف عام، العدد الخامس من حولية أمتي في العالم: تداعيات الحادي عشر من سبتمبر على أمة الإسلام، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2003.
  • د. نادية محمود مصطفى، د.سيف الدين عبد الفتاح إشراف عام، العدد السادس من حولية أمتي في العالم: الحرب على العراق وتداعياتها على الأمة الإسلامية، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2005.
  • د. نادية محمود مصطفى، د.سيف الدين عبد الفتاح إشراف عام غزة بين الحصار والعدوان العدد التاسع من “أمتي في العالم”: كتاب غير دوري، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،2010.

[9] نادية محمود مصطفى، وسام الضويني محرران، حوار الأديان: مراجعة وتقويم، القاهرة: مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بالتعاون مع مؤسسة ميديا انترناشونال، 2010.

[10]  د. نادية مصطفى، تدخلات القوى الدولية والإقليمية المتصارعة ومستقبل الشعوب والأوطان العربية، في فصلية قضايا ونظرات، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد السادس عشر، يناير 2020، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/2gmQ7

[11]  وحول الموقف الإسرائيلي من الثورات والثورات المضادة، وما حققته إسرائيل من مكاسب من وراء حالة الاقتتال العربي العربي، انظر على سبيل المثال:

  • المنظور الإسرائيلي لتحديات الحالة السورية وفُرصها، موقع مركز الإمارات للسياسات،26نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/u7Gpl
  • د.عدنان أبو عامر، السلوك الإسرائيلي إزاء الثورات العربية، موقع عدنان أبو عامر، بتاريخ 16 يناير 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/1t63k
  • نداف بين حور، مايكل آيزنشتات، حرب الشرق الأوسط الكبرى عام 2019، معهد واشنطن، 20 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Xwr3N
  • يسري خيزران، رؤية إسرائيلية للثورات العربية، ملفات مدى، مدى الكرمل المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقة، ديسمبر 2014، ملف رقم 4، 2014.
  • أمجد جبريل، الرؤية الإسرائيلية لمصر بعد 3 يوليو في د.نادية مصطفي، د.سيف الدين عبد الفتاح إشراف عام، العدد الثاني عشر من أمتي في العالم: عامان من تحولات الثورة المصرية يونيو 2012 – يونيو 2014، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/CtSv5

[12]  العدد التاسع من فصلية قضايا ونظرات: القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها ومقاومته، أبريل 2018، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/OAaoq

[13] د. نادية مصطفى، مدحت ماهر، رفع التباس في التمايز والصلة بين الإسلام والإسلامية والإسلاميين، تقرير منشور على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، بتاريخ 8فبراير2014، متاح عبر  الرابط التالي: https://cutt.us/7HMWO

[14] شيماء بهاء، قمة كوالالمبور: تساؤلات حول واقع ومستقبل العالم الإسلامي، بتاريخ 12 يناير2020، دراسة منشورة على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/fbQVC

 

  • نشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات – العدد السابع عشر- أبريل 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى