الإسلام والعلاقات الدولية: نحو عالم أكثر عدلًا وإنسانية

شكر وعرفان:

بسم الله الرحمن الرحيم

إنه حقًّا لشرف عظيم لي أن أُدعى لهذا المؤتمر، وأودُّ من ثَمَّ التوجه بالشكر للدكتورة نادية مصطفى، لقيادتها الفكرية ولشجاعتها وريادتها، وأيضًا لكرم روحها وفِكرها. إنها مسئولية كبيرة فعلًا أن ألقي هذه الكلمة الافتتاحية، وآمل أن ترقى كلمتي لبعض توقعاتكم، على الأقل. وأنتهز هذه الفرصة أيضًا لتوجيه التحية لبعض الدارسين البارزين الحاضرين هنا، ومن بين هؤلاء الدكتور بهجت قرني. فلقد أسهم أولئك الدارسون من العالم الإسلامي إسهامات جليلة في تطوير فهمنا للسياسة العالمية، كما أنهم بدءوا الحوار قبل أن يبدأه أي أحد. ولذلك أعتقد أنَّ من الأهمية بمكان حين نرنو ببصرنا نحو المستقبل، أن نتَّجه بأبصارنا أيضًا تلقاء الماضي، وننظر باتجاه من مهَّدوا لنا الطريق. وعلينا أن نُقِرَّ بدَيْـننا لأولئك الذين بدءوا الحوار عن الحاجة إلى التفكير المستقل؛ اعترافًا بماضي حضارتنا وأوجه قواها.

لقد صار من الرائج الآن التشديد على أهمية ما هو جديد، ولكن يجب علينا أن نحيِّي الأجيال الماضية من الدارسين، الذين بدءوا تلك العملية منذ 30 أو 40 عامًا، بل حتى قبل ذلك. وعلينا أيضًا أن نقدِّر التحديات التي واجهتها الأجيال السابقة من الدارسين، فضلًا عن الأسلوب الذي انتهجوه للتغلُّب على تلك التحديات. أخيرًا، أودُّ الاعتراف بوجود أولئك الدارسين الأصغر سنًّا، في هذا اللقاء المنعقد بشهر أكتوبر(لقاء إلكتروني للباحثين في المؤتمر لمناقشة الأبحاث قبل انعقاد المؤتمر)، ويمثِّل هؤلاء مستقبل المدرسة الحضارية الإسلامية. وممَّا يُثلج الصدر بالفعل رؤية مشهد تسليم المشعل لهذا الجيل الجديد؛ فلقد طالعت أوراقهم راقية المستوى، المقدمة لهذا المؤتمر، بمزيد من التيقُّظ، وأتطلع لقراءة أعمالهم التالية بكل تشوُّق.

المقدمة

يسعى هذا العرض للقيام بثلاثة أمور؛ أولها تأطير السياق الفلسفي الأوسع، الذي يمكن من خلاله التفكير في السياسة العالمية، ويتَّصل هذا السياق الفلسفي بما يسمَّى “المنعطف الأنطولوجي”، الذي يقع في قلب نظرية العلاقات الدولية. وسيركِّز الجزء الثاني، الذي يشكِّل الكتلة الأساسية لهذا العرض، على الإسهام الهام للمدرسة الحضارية بمصر أو المدرسة المصرية، التي قدَّمت إسهامًا متميزًا ودقيقًا للغاية. ثالثًا، سوف أعرِّف بإيجاز ثلاثة مفاهيم، يمكن أن تُستنبت وتُنمَّى لدفع الحوار قُدمًا. ويمكن أن تطور المدرسة الحضارية هذه المفاهيم، ذات الصِّلة بنظرية العلاقات الدولية، بفعالية أكبر من ذي قبل.

بدايةً، فإنَّ أول سؤال يمكن أن يُثار على المستوى الفلسفي يتعلَّق بموقعنا في العالم؛ بمعنى وجودنا في العالم. وبوجه عام، كان هناك دائمًا تياران فلسفيان، ينحدران من منظورات مختلفة، توحيدية وغير توحيدية (علمانية). فتوجد تيارات فلسفية تتَّخذ من فكرة الحلول، بمعنى الإخلاد إلى هذا العالم، أساسًا تقوم عليه، وقد تعرض هذا المنظور الحلولي للرفض من أولئك الذين يؤمنون بالطبيعة المتسامية للواقع. ويُعدُّ التمييز بين هذين المنظورين الكونيين ذا أهمية حيوية، حتى يتمكَّن المرء من أن يجد موضعًا لنفسه. وتنتمي المدرسة المصرية، على نحو لا تُخطئه عين، إلى التيار الفلسفي المرتكز على التسامي، ويعدُّ مفهوم التوحيد الدعامة الرئيسية له. ويمنح التوحيد استدامةً ومعنى  لكافَّة المشروعات الفكرية المرتبطة بهذه المدرسة.

يتعلَّق الأمر الثاني بالتمييز التحليلي بين نظرية العلاقات الدولية وشئون السياسة العالمية. إذ تنصبُّ نظرية العلاقات الدولية بشكل أساسي على النتاج المعرفي؛ بمعنى كيف نفهم العالم ونتصوَّره؟ لكن هذا ليس هو العالم نفسه. وإنما يوجد العالم بشكل مستقل عن نظرية العلاقات الدولية، على الرغم من أنَّ الفئات المفاهيمية الخاصة بنا هي التي تكوِّن العالم وتبنيه. ولذلك ليس من الممكن اختزال السياسة العالمية في نظرية العلاقات الدولية؛ ومن هنا يعدُّ الفصل بين نظرية العلاقات الدولية والسياسة العالمية في منتهى الأهمية. ولو أردنا اتِّباع طريق مستقل في فَهْم السياسة العالمية، فيمكن أن تكون نظرية العلاقات الدولية موردًا هامًّا في هذا الصدد، لكن لا يجوز لنا تقليص فهمنا للعالم من خلال التركيز على نظرية العلاقات الدولية فحسب. ولا بدَّ أيضًا أن يتبع انخراطنا في العالم مسارات متعددة، وليس ببساطة ذلك المسار الذي تقرره نظرية العلاقات الدولية فحسب. ولهذا يعدُّ هذا التمييز التحليلي مهمًّا من أجل تدعيم تفكيرنا المستقل.

أمَّا العنصر الرئيسي الثالث لوجودنا في العالم فيتَّصل بالطبيعة الحالية للمجتمع الدولي؛ أي أنطولوجيا الفضاء السياسي المتصدِّع. ويتعلَّق ذلك بالانقسام والتوتر اللَّذين نجدهما بين الأمة والحضارة، وذلك أيضًا هو الفخ الذي يجد العالم الإسلامي نفسه واقعًا فيه. وجدير بالذكر أنَّ المفهوم الغربي المهيمن للأمة (وهي الترجمة العربية للفظ Nation) ينتمي إلى الإطار الويستفالي. ومن ناحية أخرى، يتعلَّق المفهوم الحضاري للأمة (المفهوم الأصلي الذي ينتمي إلى المرجعية الإسلامية) بتصوُّر مختلف للفضاء السياسي. ويختلف المفهوم الإسلامي للأمة بطبيعة الحال عن ذلك الفَهْم الغربي لها في التيار الرئيسي لنظرية العلاقات الدولية. ولا يمكن بحال تفادي التوتر بين المفهوم الحضاري الإسلامي للأمة والمفهوم الغربي الويستفالي لها، ومن ثم نحن في حاجة إلى الإقرار بوجود ذاك الخلاف.

ويرتبط العنصر الرئيسي الرابع بالمنطقيْن الفاعليْن في العالم؛ وهما يتعلقان بوجه عام بالمنطق الحلولي للسيادة ومنطق الرأسمالية العالمية. ولا يمكن بحال تجنُّب هذين المنطقين؛ لأن العالم الذي نعيش فيه قد بُني على أساس هذين المنطقين. ولو شئنا الحصول على عالم أفضل، فعلينا التعامل مع هذين المنطقيْن؛ ولا يمكن بناء عالم أفضل دون استملاك تنظيرات عن السيادة والرأسمالية العالمية. ويتمتَّع الإطار الحضاري الإسلامي بثروة من المصادر تمكِّنه من التعامل مع هذين المنطقين (Hodgson 1974). وفي هذا الإطار، يختلف التصور الإسلامي للسيادة عن نظيره الويسفالي، إنه ليس التصور الهوبزي للسيادة؛ نظرًا لارتباطه المباشر بالتسامي؛ وبالتالي لا تحل السيادة في الحاكم أو الأمة أو الدولة أو حتى الفرد (كما هو الحال في الليبرالية). بل السيادة لله وحده. وهكذا يتصادم التصور الإسلامي للسيادة مع المنطق الأنطولوجي للسيادة القومية ومنطق الرأسمالية، ولذا لا بدَّ من إيجاد طريقة للتفاعل مع هذين المنطقين.

المدرسة الحضارية

إن إحدى المهام الجسام الملقاة على عاتق المدرسة الحضارية هي القدرة على تقديم مسار مستقل للتعاطي مع نظرية العلاقات الدولية والسياسة العالمية في آنٍ؛ وهو الأمر الذي يعدُّ إنجازًا هامًّا. والهدف الرئيسي لهذه المدرسة هو بناء باراديم، يمكنه التعامل مع كلٍّ من: نظرية العلاقات الدولية؛ والمصادر الإسلامية لإنتاج المعرفة. ولا ينبغي أن يغيب ذاك الهدف المزدوج عن الأنظار حتى يمكن تقييم الإسهامات المعرفية للمدرسة المصرية؛ حيث إنَّ التركيز على الجزئيات يمكن أن يقود إلى سوء الفهم. ولا تسعى المدرسة المصرية إلى مجرَّد إنتاج نظرية بديلة، بل إلى بناء باراديم يمكنه أن يستوعب عددًا من المنظورات، من ضمنها تلك الاقترابات النقدية في نظرية العلاقات الدولية. ويتيح بناء الباراديم إمكانية توليد مفاهيم نظرية، تستطيع سبر غور ديناميات السياسة العالمية وخصوصية الحضارة الإسلامية. ومن الأهمية بمكان إدراك هذا الإسهام الرئيسي للمدرسة الحضارية.

وتوجد أربعة عناصر رئيسية لبناء الباراديم، يجدر ذكرها باختصار: أولها- تلك الفكرة المتعلقة بوجود علم اجتماعي عالمي، له تمظهرات حضارية وثقافية شتى؛ وهي فكرة هامة بطبيعة الحال.  أما العنصر الثاني، وهو مضمر لدى المدرسة المصرية، فهو أنَّ المعرفة مسألة بين-حضارية، بمعنى عدم احتكار حضارة معينة للمعرفة؛ إذ ليس بمقدور حضارة ما أن تعلن -بافتخار- أنَّها مستقلة أو مكتفية بذاتها في طريقة فهمها للعالم. فلقد قدم العالم الإسلامي عناصر أساسية لقيام النهضة الأوروبية؛ حيث كانت تتحدَّد أمور كثيرة في العالم الغربي بما يدور في العالم الإسلامي. وعلى الرغم من أنَّ العالم الغربي يبدو اليوم سبَّاقًا في المجالات الرئيسية للعلم أو التكنولوجيا أو الطب أو الاقتصاد، إلا أنه لم يكن كذلك قبل قرنين أو ثلاثة من الزمان. ومن المتصور أيضًا أن العالم الغربي يمكنه تقديم الموارد اللازمة للتجديد الإسلامي من خلال الحوار بين الحضارات. وبذلك يمكن للحوار أن يمضي قُدمًا. وتعدُّ فكرة رفض إسهامات الحضارات الأخرى، لكونها مختلفة فقط، أمرًا يتَّسم بقصر النظر. ومن هنا نلقى المدرسة المصرية منغمسة في مجال العلاقات بين الحضارات؛ فهي حضارية بقدر ما هي إسلامية، ولكنها أيضًا بين-حضارية.

ويتمثَّل العنصر الرئيسي الثالث في أن العلم يمكن أن يتولَّد عن أي حضارة؛ حيث يؤكد سيد فريد العطاس (1987) أنَّ للمفاهيم والنظريات أصولًا ثقافية مختلفة، ولا يمكن رفض المفاهيم لمجرد أنها نابعة من ثقافات مختلفة، بل يمكن أن يُعاد بناء تلك المفاهيم حتى تستجيب لاحتياجات حضارية معينة. إننا نستطيع العمل على تلك المفاهيم وإعادة بنائها، لكننا لا نستطيع القول ببساطة إنها خالية من المعنى، لمجرد أنها تنحدر من حضارة مخالفة.

أخيرًا، إنَّ كافة الباراديمات ترنو نحو العالمية، لكنها لا تستطيع القفز فوق خصوصيتها الثقافية. ولقد كان تحقيقُ العالمية هو مشروعَ العلم الغربي، وكان هو أيضًا مشروعَ العلم غير الغربي، الذي يتطلَّع هو الآخر للعالمية. ولكن على أيِّ حال، يجب أن تتدبَّر الباراديمات بعناية احتياجاتها الخاصة.

ولعلَّ أصداء هذه المبادئ العامة تتردد في مختلف أوراق المؤتمر عن المدرسة الحضارية؛ إذ يبدو أن هناك أربعة عناصر محددة من نظرية العلاقات الدولية يتم تمحيصها بعناية في تلك الإسهامات. ففي المقام الأول، تتناول هذه الأوراق الأسس ما وراء-النظرية في نظرية العلاقات الدولية؛ أي التي تتعلق بالأبعاد الأنطولوجية والإبستمولوجية، ولا تقتصر تلك الأبعاد على المسائل التقنية. فلا بدَّ من فصل المنهج عن التقنية. وتتمثَّل المشكلة في معظم الاقترابات الوضعية في الدمج بين التقنية والمنهج؛ فبإمكانك استخدام تقنيات مختلفة في البحث، لكن المنهج يقودك في نهاية الأمر إلى ما وراء النظرية. ويرفض التقليد (الهرمنيوطيقي) التأويلي، الذي يلهم التحليل الحضاري، تلك الفكرة المتعلقة بمحاكاة العلوم الاجتماعية للعلوم الطبيعية (Arnason 2010).  فليست العلوم الإنسانية كالفيزياء، ولا تستطيع بوصفك باحثًا أن تطبِّق فكرة انتظام السلوك أو فكرة التنبؤ في العلوم الإنسانية؛ إذ من الصعب في العلوم الاجتماعية العثور على العناصر الداخلة في تكوين العلوم الطبيعية. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أننا ينبغي أن نتخلى عن البحث الإمبريقي، أو حتى نتركه للوضعيين أو الإمبريقيين ليقوموا به، وإنما يعني ذلك وجود اختلاف بين البحث الإمبريقي والمذهب الإمبريقي. إنَّ كل البحوث التاريخية هامة، لكن لا يتحتم أن تكون إمبريقية.

أما المسألة الثانية؛ وهي مضمرة في أوراق المؤتمر عن المدرسة الحضارية، فتتعلق بإمكانية التفكير في النظرية بشكل مختلف. ويعود الأمر هنا بشكل مباشر إلى ماكس فيبر؛ فإمَّا أن يكون لديك تفسير، وهذا هو حُلم الوضعية، أو أن يكون لديك فهم متعاطف (أم عاطفي)، يستند للتأويل بشكل أساسي. وتحررنا فكرة أنَّ العلوم الاجتماعية والإنسانية تأويلية من القبضة الخانقة للتفسير. وفي حين أن بإمكاننا أن نتطلع إلى التفسير، الذي يسعى وراء الإجابات عن سؤال “لماذا” تحدث الأشياء، فمن المهم أيضًا -وبنفس الدرجة- الاعتراف بالبُعد التأويلي للتفسيرات. ويسمح لنا هذا الحدْس بإدراك الحدِّ الفاصل بين العلوم الطبيعية والإنسانية؛ ومن ثَمَّ يتعيَّن على أي مدرسة فكرية تضرب بجذورها في التاريخ الحضاري أن تقاوم إغواء محاكاة العلوم الطبيعية، بل ينبغي عليها أن تنمي العلوم الإنسانية، بدلًا من ذلك.

إنَّ البُعد الثالث في أي نظرية هو ذخيرتها المفاهيمية؛ أي ما المفاهيم التي تولِّدها النظرية؟ ويتعلق هذا السؤال المفتاحي بتميز المفاهيم المستخدمة هنا، أي ما وجه التميز في هذه المفاهيم؟ فعلي سبيل المثال، هل يختلف مفهوم السيادة المستخدم في السياق الإسلامي عن ذلك المفهوم المستخدم عادة في الإطار العلماني الغربي؟ هناك دائمًا مَيْلٌ للبحث عن النظائر الوظيفية، بمعنى أن يعمد المرء لمقارنة فكرة الديمقراطية في السياقات المختلفة؛ إذ إنَّ لدينا فكرة ما عن ماهيتها، ومن ثم نقارنها بما يماثلها. ويعدُّ ذلك نمطًا أساسيًّا للتفكير عبر الثقافات، حيث نبحث عن النظائر الوظيفية في السياقات الحضارية المختلفة. وهذه ممارسة مقبولة بوجه عام، لكن المفاهيم ينبغي أن تكون لها خصوصية ثقافية.

إنَّ أحد الإسهامات الأساسية لنظرية العلاقات الدولية في الغرب، وخصوصًا النظرية الواقعية؛ هو أن لها فَهْمًا شديد الخصوصية لماهية القوة أو ماهية توازن القوة. وقد نختلف مع هذا الفهم، لكنَّ هناك عنصرًا من عناصر الخصوصية في هذا المفهوم، وهناك أيضًا استخدامات ذات خصوصية للمفهوم. ويستخدم كينيث والتز (1979) مفهوم النظام الدولي بمعنى دقيق للغاية، مقارنة -مثلًا- باستخدام هيدلي بول (1977) لمفهوم “المجتمع الفوضوي”. ومن الأهمية بمكان معرفة الدلالات المحددة للمفاهيم التي تُستَخدم للإحاطة بالسياسة العالمية. وينبغي لذلك تجنُّب استخدام المفاهيم الغامضة، فلا يمكننا ببساطة نزع بعض العناصر من هنا أو هناك، ثم إلقاؤها معًا في المفرمة. وفي ذات الوقت، لا تعني الحاجة إلى الخصوصية بالضرورة وجود مَيْل لمحاكاة العلم القياسي -أي الشكل المهيمن للعلم. إننا نستطيع بالفعل التعلم من النماذج القائمة، بل نحن بالفعل في حاجة إلى ذلك، لكننا لا ينبغي أن نجعل منها أصنامًا. وبهذه الروح، لا ينبغي لنا عبادة الفكرة الوضعية عن العلم، التي تقوم على التصور الخاطئ المتعلق بمحاكاة العلوم الطبيعية في إطار العلوم  الاجتماعية. وينطبق الأمر نفسه على نظرية العلاقات الدولية.

وتتمثَّل مشكلة الصورة المهيمنة للعلم في أنَّ نظرية العلاقات الدولية في الغرب كانت تسير في ظلِّ العلم الطبيعي، وفي المقابل كان هناك إخضاع للنظرية غير الغربية لنظرية العلاقات الدولية في الغرب. ويجدر ذكر أربعة عناصر أساسية للإخضاع في هذا المقام. ويتَّصل الأمر هنا بوضوح بالكولونيالية التي أحدثت صدعًا بين الماضي والحاضر، فلقد كان التأثير الأكبر للغرب على العالم الإسلامي، وعلى أجزاء أخرى من بلدان الجنوب، هو إحداث قطيعة بين الماضي والحاضر. ويعدُّ جزءًا من المهمة الملقاة على عاتق المدرسة الحضارية رأبُ ذلك الصَّدع ووصل الحاضر بالماضي؛ ذلك أن القطيعة الكولونيالية أنتجت ذلك الإخضاع. وسيظل شبح الإخضاع الدائم موجودًا، ما استمرَّ وجود الصَّدْع وظلَّ رأبُه غير ممكن. ومن أبرز محاسن المدرسة المصرية رفضها لفكرة القطيعة المطلقة؛ إنها تُقِرُّ بوجود القطيعة، لكنها تؤمن بإمكانية وصلها. ولا يعني وصل ما انقطع الحنين للماضي، إنما إعادة البناء أو التجديد.

إن البُعد الرئيسي الثاني للإخضاع هو الانسداد؛ بمعنى أن ما يوجد في المقدمة يحجب رؤية ما يوجد في الخلفية. فنظرًا لأنَّ نظرية العلاقات الدولية في الغرب ماثلة أمامنا، لا نستطيع رؤية الإسهام النظري الحقيقي أو المحتمل للحضارات الأخرى. وهكذا، بسبب انسداد الرؤية، لم يعد بإمكاننا أن نرى أن هناك موارد ثقافية ثرية متاحة أمامنا. وتمامًا مثل ظاهرة الخسوف، تشل نظرية العلاقات الدولية في الغرب قدراتنا على التفكير في الإسهامات الثقافية المهمة للحضارات الأخرى.

ويلي ذلك بالطبع الإغواء الراسخ للتحديث والتنمية؛ أي الرغبة في محاكاة ما يحدث في الغرب. بالطبع ليس هناك من خطأ في التعلم من الآخرين، غير أنَّ هناك اختلافًا أساسيًّا بين التعلم والتقليد الأعمى؛ لأن الأخير يرتكز على الفكرة المعيبة التي تتعلق بوجود طريقة واحدة فقط للعيش. ومن هنا، تتبع عمليات التفكير وإنتاج المعرفة ببساطة النموذج الغربي، ويغدو التقليد أو المحاكاة أمرًا طبيعيًّا من هذا المنطلق. وهذا هو إغواء “اللحاق”، وتجعل تلك الفكرة من نمط معين للعلم والتنمية صنمًا يُعبد. وإننا لندرك الآن أنه لا يوجد اتِّفاق حتى في العلوم الطبيعية؛ ففي الفيزياء -مثلًا- يوجد خلاف أساسي بين نظرية الكوانتم والنسبية، وهناك حتى نزاع حول الأساسيات في العلوم الطبيعية، بل توجد تصورات مختلفة عن العالم الطبيعي. ولن أعيد هنا قصة التقليد في التحديث والتنمية لأنها معروفة جيدًا.

وبلا شكٍّ فإنَّ هذه التحديات هائلة ومباشرة أيضًا. وعلى الرغم من محاولة العديد من الدارسين وضع بدائل في مواجهة تلك التحديات، فإنَّهم ما زالوا يتحركون في ظل الأكاديميا الغربية. ذلك أن هيمنة نظرية العلاقات الدولية في الغرب حقيقية بالفعل، خصوصًا في السياق التاريخي للهيمنة الغربية، ولا بدَّ لنا هنا من الاعتراف برابطة القوة-المعرفة. ولعلَّ الطريقة الغالبة لتحقُّق رابطة القوة-المعرفة في الواقع هي أن يصير الغرب هو المرجع العالمي للنظرية، في حين يقدم له العالم غير الغربي البيانات؛ فالنظرية تأتي من الغرب، والأدلة تأتي من بقية العالم. وهكذا إن أردت النظرية فعليك بالغرب، أمَّا إن أردت البحث عن التفاصيل أو التباين أو الوقائع التاريخية فعليك بالعالم غير الغربي. وبذلك يصير العالم غير الغربي معمل التجارب بالنسبة لنظرية العلاقات الدولية في الغرب.

على أنه ينبغي رفض تلك الفكرة القائلة بعدم إمكانية أن تنبع النظرية من غير الغرب، وبالإمكان إبراز مثال واحد لدحض هذا التصور؛ ألا وهو العلَّامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع التاريخي. وتوجد أمثلة لا تحصى لمفكرين آخرين نستطيع إبرازهم، لكننا لسنا مطالبين بالذهاب لحدِّ إحصاء كل هؤلاء. فعلى سبيل المثال، لو تأمَّلنا فكرة الدولة لوجدنا أنَّ العديد من النظريات عنها تنحدر من الفلاسفة السياسيين العرب؛ مثل الفارابي. ولكن بسبب الانسداد الذي تحدَّثنا عنه، ستظهر لنا صورة هوبز وحده، وتحجب عنا بالكامل الإسهامات الأخرى، وهكذا يطوي النسيان كل أعمال الأجيال السابقة على هوبز. إننا ببساطة نمحو إسهامات كل الآخرين، وخصوصًا العلماء المسلمين، ليس في العلوم الطبيعية فحسب ولكن في العلوم الإنسانية أيضًا. ولكن الماضي يتطلَّب إعادة بنائه وتعهده بالرعاية.

عند إعدادي لهذا الكلمة الافتتاحية، وبدافع من حب الاستطلاع، ارتأيت أن أتحقق من معنى كلمة الحضارة؛ إذ وجدت إشارات لها في مقدمة كتاب “العبر”؛ العمل الرئيسي لابن خلدون. وكم كانت دهشتي حين وجدت لهذا اللفظ العديد من المعاني في قاموس عربي-إنجليزي، غير أنَّ المعنى الذي لفت نظري على وجه الخصوص هو “الاستنبات”. وإنني على يقين من وجود العديد من الفوارق الدقيقة في المعنى للفظ الحضارة عند الناطقين بالعربية، بما في ذلك فكرة المدنية؛ إذ تعدُّ فكرة التمدن أو الترقِّي مكونًا أساسيًّا لهذا الاصطلاح. وعلى هذا النحو، ليست الحضارة ببساطة كيانًا جغرافيًّا؛ بل هي فكرة أكثر تركيبًا بكثير من هذا. وربما ليس من قبيل المصادفة أن يحمل الموضوع المركزي لهذا المؤتمر طابع الحضارة.

إن التحدي الثالث الذي نجد أنفسنا في مواجهته هو القومية المنهاجية؛ وهو يعني أن معظم التحليلات في العلوم الاجتماعية طَبَّعَت الدولة-الأمة؛ أي جعلت وجودها أمرًا طبيعيًّا، حيث صارت الدولة-الأمة وحدة التحليل الرئيسية المستخدمة في فَهْم الظواهر الاجتماعية. وعلى أية حال، تتنافس هذه الوحدة التحليلية مع وحدات تحليلية أخرى في الدراسات النقدية. وتعدُّ الحضارة –بوصفها وحدةَ تحليل- بؤرةً تحليلية بديلة، خصوصًا في الدراسات الحضارية، ومع ذلك لا يعني الانتقالُ للحضارة بوصفها وحدةَ تحليل نبذَ الدولة-الأمة بوصفها وحدةَ تحليل، وإنما السماح بإمكانية تفادي عمليات التفكير للفخ الذي تقع فيه دومًا. إن التحليل الحضاري يزيح القومية المنهاجية، ويسعى إلى تحرير التحليل من الخضوع اللا وعي إلى حدٍّ كبير لها. وعلى خلفية ذلك، لا يمكن التقليل من الأهمية التاريخية للمدرسة المصرية.

ومن أجل التعمُّق في فَهْم الأهمية التاريخية للمدرسة المصرية، فلا بدَّ من التعريف ببعض العناصر المفتاحية القليلة. ويتَّصل العنصر الأول بما يطلق عليه المفكر الأفريقي العظيم المعادي للكولونيالية، أميلكار كابرال: “العودة للمصدر”. ولا تتعلق هذه الفكرة بالحنين للماضي أو الرغبة في العودة للوطن، لكنها تمثل توجهًا، يعبِّر عن نمطٍ للولوج إلى المنابع العميقة لوجودنا الثقافي. وفي حالة المدرسة المصرية، تتعلق العودة للمصدر بالعودة إلى المصادر الإسلامية. وهناك بطبيعة الحال تراتبية بالنسبة لهذه المصادر؛ فيأتي القرآن الكريم في المقام الأول، ومن بعده السُّنَّة النبوية الشريفة، ويلي ذلك الفقه، وهناك أيضًا التصوف. وبعبارة أخرى، لدينا كل أنواع المصادر العلمية والفلسفية.

ولا تعدُّ العودة للأصول شوقًا عاطفيًّا للماضي، ولكنها استراتيجية لتعبئة الموارد الحضارية، من أجل المعاونة في تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر؛ فالغاية هي وصل القطيعة التي أحدثها الاستعمار؛ ذلك أنَّ استعادة الاستمرارية بين الماضي والحاضر يمكنها تقديم أساس متين لِتَخيُّل مستقبل مختلف. وفي داخل مشروع العودة للمصدر، توجد نواة للنهوض، تنقسم إلى التذكر والتفكيك والتجديد؛ إذ إنَّ هذا المشروع لا يتناول المفاهيم من المصادر الحضارية، بصورة تخلو من أي نقد، ولكنه يعمل على إعادة بنائها بحيث يمكنها أن تخاطب العالم الذي نعيش فيه اليوم. ويمثل تجديد المصادر الإسلامية أحد الأعمدة الهامة للمشروع الفكري للمدرسة المصرية.

والحقيقة أنَّ المدرسة المصرية تجاوزت أيضًا ذلك الجدل العقيم للغاية حول مستوى التحليل أو وحدة التحليل؛ أي ما إذا كانت الحضارة مستوًى أم وحدةً للتحليل. ولعل السبيل المثمر للخروج من هذا الجدل هو تخيل الأمة الإسلامية بصورة مختلفة، ليس عن طريق التصورات المكانية، ولكن عن طريق التصورات الثقافية. وعلى الرغم من وجود بُعد مكاني لفكرة الأمة، فإنَّ ماهيتها ثقافية أو حضارية. وهذا التصور يختلف اختلافًا كبيرًا عن مفهوم المجتمع السياسي المتخيل الذي يقدمه بنديكت أندرسون ([1983] 2016). ذلك أن أندرسون يتحدث بالأساس في سياق القومية والهوية القومية، أما المدرسة المصرية فتفكر بواسطة المفردات الحضارية.

إنَّ الإسهام المفتاحي الرابع للمدرسة المصرية هو ما يمكن فهمه على أنه مركب إبستمولوجي، ويتألف هذا المركب من مزج العلوم الشرعية بالمعاملات في العلوم العملية، أو لو شئنا استخدام لغة الفلسفة لقلنا الجمع بين العقل المحض والعقل العملي. ولما كانت المدرسة المصرية تتَّخذ المصادر الإسلامية أساسًا لها، يغدو بإمكانها سَبْر غور المصادر العلمية الأخرى، وبذلك يتحدى هذا المركب الإبستمولوجي الانقسام الحدي بين الديني والدنيوي/العلماني. وليس هناك من شكٍّ في وجود قابلية للتلفيق في هذا المركب، حيث إن ضمَّ العناصر المتفرقة معًا إلى شكل موحد ممارسة صعبة، خاصة مع استصحاب فكرة التفرقة بين الديني والدنيوي/العلماني. على أن رفض التفرقة بين الديني والدنيوي/العلماني سيمكن من تفادي الكثير من عناصر التلفيق.

ولوضع الأمور في سياقها التاريخي، لا بدَّ من القول إن فكرة الدنيوي/العلماني هي فكرة مسيحية، وغريبة عن الرؤية الكونية الإسلامية؛ غير أنها للمفارقة فكرة دينية. ولكن في السياق الإسلامي، جرى تأطير المجال الدنيوي/العلماني بشكل مختلف. ففي جذر التصور الإسلامي للمعرفة، توجد فكرة تراتبية المعارف التي تتأسس على طبيعة الموضوع، حيث إنَّ تناول الأبعاد العملية للمجتمع أو السياسة، على سبيل المثال، يتطلب نوعًا من المعرفة يختلف عن ذلك اللازم للتعامل مع الأمور الدينية. وتستدعي الحاجة وجود تصورات مختلفة على مستويات المعرفة المختلفة، التي يتم إنتاجها وتعهُّدها بالعناية. فعلى مستوى العلوم الشرعية مثلًا، لا يوجد فصل أو تحديد حادٌّ بين الدِّيني والدنيوي/العلماني؛ لأن الأمر يتعلق في النهاية بالغايات التي تخدمها المعرفة. ويعدُّ الاعتراف بهذه الغايات بديلًا أفضل للتفرقة البسيطة بين الديني والدنيوي/العلماني.

وتسعى المدرسة المصرية لوضع يدها على الذاتيات والخبرات والمنظورات ذات الصلة بالحضارة الإسلامية، مع وضعها في صورة رموز في السياق العالمي. وعلى هذا النحو، تهتم المدرسة المصرية بالمنظورات البديلة داخل نظرية العلاقات الدولية في الغرب، خصوصًا تلك التي جرى تهميشها بسبب عمليات إنتاج المعرفة المهيمنة.

بعد ذلك العرض المختصر للعناصر الرئيسية للمدرسة المصرية، يمكن متابعة النقاش وصولًا للتحليل الحضاري ذاته. ويستدعي الأمر هنا التشديد على نقاط ثلاث في منتهى الوضوح والبداهة، لدرجة أن تكرارها يعدُّ أمرًا مبتذلًا. على أن التحليل الحضاري لن يكون ممكنًا من دون الإشارة لهذه النقاط. أولها هو الاعتراف بأنَّ أية حضارة تتمتع بإمكاناتها الخاصة أو بتعبيرها الجمعي عن ذاتها. ولكن ما هي هذه الإمكانات؟ وكيف تظهر؟ ثانيها يتعلق باليوتوبيات التي تنتجها كل حضارة، فلا بدَّ من التمييز بين تلك اليوتوبيات القابلة للتحقق في الواقع وتلك التي لا تقبل ذلك. ويمكن بالطبع إثارة اعتراض بشأن جدوى تلك اليوتوبيات أصلًا، ولكن اليوتوبيات بمعنى أعمق هي بمنزلة تجسيد للآمال الجمعية. ولا يوجد خطأ بشأن التفكير اليوتوبي، فكافة المشروعات الكبرى تبلورت حول أفكار يوتوبية، وإنما السؤال المحوري هو إن كانت اليوتوبيات قابلة للتحقق في الواقع أم لا. ويتبع ذلك مباشرة النقطة الثالثة: هل بإمكان الباراديمات (البدائل) الجديدة أن تعبر عن الآمال الجمعية لحضارة معينة؟ هل تكشف المدرسة الحضارية عن إمكانات للنهوض والتجديد؟

في السياق الإسلامي، تعود فكرة الحضارة، التي تتَّسم بالتركيب الشديد، إلى مقدمة ابن خلدون. ويرى أرماندو سالفاتوري  (2010:100-101)أن من الملامح الرئيسية لهذه المفهوم هو أنه “لا يقدم صورة فوتوغرافية لوحدة جغرافية – ثقافية، لكنه يشير إلى عملية، تتشكل بواسطة التصورات الأصلية للعالم، وأنماط العيش في العالم، والاقترابات اللازمة لبناء عالم مشترك”. ويتيح التركيز على الطبيعة العملياتية للمفهوم وعلى “التصورات الأصلية للعالم” العودة للمصادر الإسلامية، وعلى نفس القدر من الأهمية ذلك التركيز على “أنماط العيش في العالم”؛ أي طريقة توجيه الوجود في العالم. وبالنظر إلى هذا التوجه، تقع الرغبة في بناء عالم مشترك في قلب مفهوم الأمة.

يتَّصل الجدال المتعلِّق بأسلمة المعرفة اتصالًا مباشرًا بالرغبة في بناء عالم مشترك، حسبما يتصوَّر المعتقد الإسلامي (Abul-Fadl 1989; 1990a; 1990b). واستنادًا إلى جدال أسلمة المعرفة، فقد دفعت المدرسة المصرية بالنقاش في اتجاهات جديدة. ومن هذه الزاوية، يعدُّ الإسهام الأبرز للمدرسة المصرية هو تجاوز الحدود الضيِّقة لهذا الجدال عن طريق الترويج للتوجُّه البين-حضاري. ويعدُّ التفاعل مع الاقترابات النقدية في نظرية العلاقات الدولية جزءًا لا يتجزَّأ من هذا التوجُّه.

وبوجهٍ عام، كان هناك أمام المدرسة الحضارية استراتيجيتان ممكنتان لتحقيق أهدافها الأساسية؛ وترتبط الاستراتيجية الأولى بمقاربة الأسئلة الحضارية باعتبارها أسئلة إسلامية، وحينئذٍ يمكن للعلوم الاجتماعية أن تقوم بالفحص الدقيق للمسائل المتعلقة بالحكم والإدارة الاقتصادية والتماسك الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية. وكذلك يمكن تناول تلك المشكلات، مثل البطالة بين الشباب أو الانفجار الديمجرافي، عن طريق تطبيق أساليب العلوم الاجتماعية على تلك المشكلات الخاصة بالمجتمعات المسلمة. ومن ناحية أخرى، تعتمد الاستراتيجية الثانية على تطبيق النظريات والمناهج العلمية النابعة من الرؤية الكونية الإسلامية. ولعلَّ الافتراض الرئيسي هنا هو أنَّ الرؤية الكونية الإسلامية قائمة بذاتها.

ولقد تجنَّبت المدرسة المصرية الاعتماد الحصريَّ على أيٍّ من هاتين الاستراتيجيتين، لكنها عملت بدلًا من ذلك على دمج الاثنتين بطرق خلاقة. واعترافًا منها بالطبيعة بين-الحضارية للإنتاج المعرفي، نهلت المدرسة المصرية في المقام الأول من المصادر الإسلامية، ثم وظَّفت العلوم الاجتماعية لتقديم تحليلات مجدية بواسطتها. وتقوم الرؤية الكونية بين-الحضارية للمدرسة المصرية على فكرة عدم وجود حضارة معزولة عن العالم؛ ومن ثم ينفي هذا المنظور فكرة الاستثنائية الحضارية، التي هي قلب المفهوم المهيمن للتقدم التاريخي، المتمركز حول أوروبا.

إنَّ فكرة الاستثنائية الأوروبية هي التي تسوِّغ ذلك التصوُّر بأنَّ وظيفة الحضارة الإسلامية كانت مجرد بناء جسر بين عالم اليونان القديمة وأوروبا في عصر النهضة. ولا تؤدي فكرة الجسر تلك إلى تهميش الإسهام الحضاري للإسلام في تاريخ العالم فحسب، بل إنها تُبطِل أيضًا الحساسية بين-الحضارية. ومن سوء الحظ أن العديد من الدارسين الغربيين للإسلام، خصوصًا من ذوي الميل الاستشراقي، ما يزالون يرون في الإسلام وحضارته مجرد جسر ينتمي للعصور الوسطى.

إنَّ حل الإشكال هنا يتمثَّل في وجود رؤية كونية إسلامية، تمدُّ الفكر بمفاهيم معينة لكنها بين-حضارية، وتحتوي تلك المفاهيم على بذور التفكير العلمي الاجتماعي، التي تحتاج إلى استنباتها وتعهدها بالرعاية. ويسمح التشديد على الطابع بين-الحضاري لتلك المفاهيم بالاعتراف بالخصوصية الحضارية لها، لكنه يساعد بنفس الدرجة على تفادي فخ النسبية. وتقدم المدرسة الحضارية فكرة علم اجتماعي عالمي، بغرض دحض التصور القائل بأن المفاهيم النابعة من الباراديم الإسلامي يمكنها فقط أن تعالج المشكلات الإسلامية. يقينًا هناك تصورات معينة تناسب بعض الحساسيات الإسلامية على وجه الخصوص، لكن جاذبية تلك التصورات لا يمكن تقييدها، ذلك أنَّ الفارق بين هذين النمطين من التفكير دقيق وخادع أيضًا.

يعدُّ مفهوم الأمة مفهومًا مركزيًّا لدى المدرسة المصرية، وتستدعي تلك الفكرة العديدَ من الطرق للتفكير فيها؛ إذ يمكن النظر إلى الأمة من زاوية كونها مجموعة من الدول القومية، ولكن ماذا يحدث حينما يسعى أعضاء الأقليات المسلمة في بعض البلدان إلى التماهي مع الأمة؟ في هذه الحالة سوف تخترق الحساسية الإسلامية حدود الدولة ذات الإقليم، فهل يمكن للمفهوم أن يتجاهل السكان المسلمين حيثما يشكلون أقلية سكانية؟ إن طريقة تفادي هذا الفخ هو التفكير في الأمة باعتبارها الوعي الذاتي للانتماء الجمعي الإسلامي الذي يتخلله إحساس بالتاريخ. ويتجاوز الوعي الذاتي للانتماء الجمعي، أي الإحساس المشترك بالجماعة، تلك الولاءات الضيقة. وفي هذا السياق، لن تكون الأمة مجرد رابطة للدول الإسلامية، مثل منظمة التعاون الإسلامي؛ ذلك أن الإحساس بالجماعة يتجاوز الروابط القومية أو بين-الدولية. ولعل الطريقة الثالثة للتعامل مع مفهوم الأمة هي التشديد على طابعها الديني، خصوصًا الطابع الديني المرتبط بالثقافة الإسلامية، من زاوية العقيدة الأساسية والتاريخ والذاكرة المشتركين والممارسة المقننة دينيًّا. وبحسب هذا التمثيل للأمة، فهي لن تكون مرادفةً لمزيج من الدول الإسلامية، لكن ذلك لا ينفي أهمية الدولة-الأمة كوحدة سياسية، وإنما يعني الاعتراف بوجود روابط دينية مشتركة بين المسلمين عابرة للحدود بين الدول القومية. ويقود التفكير في الأمة بهذه الطريقة إلى فصلها عن أية مؤسسة سياسية مثل الخلافة.

ويوجد بالأساس بُعدان للتفكير في الأمة؛ هما البُعد الرأسي والبُعد الأفقي. أمَّا البُعد الرأسي فيتمثل في  مبدأ التوحيد، وهو العمود الرئيسي للدين الإسلامي، إذ لا إسلام دون توحيد. وتفترض فكرة العلم التوحيدي أو المنظور التوحيدي (Abul-Fadl 1994) أن هذا المبدأ مبدأ تأسيسي. ويسمح التوحيد كمبدأ ما ورائي بالتفكير في طبيعة الوجود، والوجود في العالم، ومن نحن، وما هو مصيرنا. ويقوم البُعد الرأسي بإدماج المسلمين على اختلاف تنويعاتهم الثقافية أو الإقليمية. ويوجد بطبيعة الحال البُعد الأفقي الذي يرتبط بالحضور المكاني للمسلمين في المناطق الثقافية المختلفة، حيث تتميز المناطق الثقافية الإسلامية بالتنوُّع الشديد، وإن كان يوحدها الإحساس بالانتماء الجمعي.

ويمكن إكمال التفكير في الأمة من خلال البُعدين الأفقي والرأسي بالبعد الزماني، أي التطور التاريخي للإسلام ككيان حضاري متميز. إنَّ أحد الأبعاد غير المعروفة في التاريخ الإسلامي هو قدرة الإسلام على التجديد من خلال ترحيل مراكزه الثقافية عند مواجهته للتحديات. فيرتبط انتشار الحضارة الإسلامية وتطورها وتوطيد دعائمها ارتباطًا وثيقًا بالحركة من مدينة كبرى إلى أخرى، ومن منطقة ثقافية إلى أخرى. وفي مراحل التاريخ الإسلامي المختلفة، تنقَّل المركز الرئيسي للحضارة بين مدن مختلفة (مكة أو المدينة أو دمشق أو بغداد أو القاهرة). وسمحت هذه العملية باستدامة الحضارة الإسلامية، على الرغم من حلول الهيمنة الأوروبية. وفي الإطار الأوسع، يكتسب الباراديم المصري أهمية أعظم، حيث صار التجديد الفكري محوريًّا في هذا الباراديم، في المرحلة الحالية للحضارة الإسلامية.

وبالمثل يكشف التفكير في الأمة من منطلق الدولة والمجتمع المدني صورة مثيرة للاهتمام بنفس القدر. فلطالما تبخَّرت أو انهارت الدول المسلمة في لحظة تاريخية ما، ولكن الإسلام ظلَّ صامدًا منذ نشأته على مستوى المجتمع المدني؛ حيث تمكَّن الحيِّز المجتمعي من امتصاص صدمات القدر وتقلباته. وفي السياق الحديث، حافظت الروح الإسلامية على استمراريتها بالرغم من كافة محاولات العلمنة؛ وليس ذلك من قبيل الدفاع عن الماضي. وتتَّسم المدرسة المصرية بدرجة عالية من الوعي بوجوب التخلي عن أية مشاعر دفاعية، ومن هنا تعكس العودة لمفهوم الأمة موقف الثقة بالذات، غير أن على هذا الموقف مواجهة بعض التحديات الأساسية.

ويتعلَّق التحدي الأول بالتفكير في المكانة الفعلية للأمة في المجتمع الدولي؛ حيث يقتضي بذل جهد مُعَدٍّ لإيضاح الخطوات اللازمة لبناء الجسور بين المأمول والواقع القائم في المجتمع الدولي. وعلى سبيل المثال، يتيح الباراديم الإسلامي موارد هائلة لإعادة التفكير في العلاقة بين الفرد والجماعة. ويتمثل التحدي الرئيسي هنا في توظيف هذه الموارد من أجل كشف أوجه القصور في النظام الويستفالي الحالي، فضلًا عن تقديم ملامح نظام بديل له. ولكن للنقد حدوده.

وعلى مستوًى أوسع، لا يتعلق التحدي فقط بتلك العلاقة بين الفرد والجماعة، ولكن أيضًا بالعلاقة بين كليهما والكون. وتُظهر أزمة المناخ، وكذلك جائحة كورونا الحالية، التصدعات الكامنة في نظام الدولة-الأمة الويستفالي. فأي هداية كونية يمكن للمصادر الإسلامية أن تقدمها حتى يمكن تخيل علاقة الإنسانية بالطبيعة والكون على نحو مغاير؟ ولا يواجه المسلمون هذا التحدي الواسع لكونهم ببساطة مسلمين، وإنما لكونهم بشرًا. وبناءً على ذلك، لا بدَّ للأفق المحدود المتعلق بالدولة-الأمة أو حتى بمجموعة من تلك الدول-الأمة أن يخلي مكانه لرؤية أوسع. ويعدُّ من مكامن القوة في الباراديم الإسلامي وعيه بالمحدودية الإنسانية؛ ويمتزج الاعتراف بمحدودية الإنسان في علاقته مع الله بالمسئولية الملقاة على عاتق البشر في أرض الله. والسؤال هو: كيف يمكن للمسلمين، كأفراد وكجماعة أن يوفوا بهذا الالتزام؟

ويتمثَّل التحدِّي الملحوظ الأخير في تحقيق الاستمرارية في عملية استنبات الباراديم الإسلامي، ولا تتصل هذه المهمة بالحفاظ على الذاكرة التاريخية، وإنما بترجمتها إلى ممارسة حية. ومِمَّا يبشِّر بالخير رؤية المدرسة المصرية وهي تجدد باستمرار تقاليدها الفكرية. ولعل القوة المميزة للجيل الثالث من الباحثين في هذه المدرسة هو تمكُّن هذا الجيل من المصادر الإسلامية للمعرفة وكذلك من العلوم الاجتماعية الغربية. وبهذا المعنى، يتوافر ما يدعو للكثير من التفاؤل بأنَّ هذا الجيل سوف يتصدَّى لتلك التحديات، بفعالية وبإبداع.

وتلخيصًا لما سلف، فإنَّ المدرسة المصرية تمزج فَهْم نظرية العلاقات الدولية بالمصادر الإسلامية. ويتمثَّل الهدف الأساسي للمدرسة الحضارية، فيما يتعلق بنظرية العلاقات الدولية على وجه الخصوص، بالبحث والتنظير لمكانة الأمة. وعلى الأرجح، فسوف تتصدى المدرسة الحضارية أيضًا، وفي الوقت المناسب، لذلك السؤال الأوسع عن وجود الإنسانية ومكانها في العالم. ومع التحدي العالمي لتغير المناخ والأزمات الأخرى، فلسوف تطول قائمة أعمال المدرسة الحضارية. وعلى أية حال، فالمهمة الأساسة في الوقت الحالي شديدة الأهمية، ألا وهي استكشاف مجالات جديدة لتجديد الأمة.  

ويتعلَّق تدعيم الهُوية الثقافية للمسلمين في الفضاء العالمي بالتأويل المناسب، الذي يمكنه المساعدة في استنقاذ مفهوم الأمة من أيدي الذين شوَّهوا الفكرة، وخصوصًا أولئك الذين استخدموا فكرة الأمة لخلق الفتنة وبثِّ الفوضى ونشر العنف. وبالمثل يعدُّ التركيز على مفهوم العدل في منتهى الأهمية، فهو يعدُّ دعامة أساسية، لكونه مبدأً سياسيًّا يمكنه المساعدة في إعادة تخيُّل العلاقة بين الفرد والدولة في السياق الأوسع للأمة. وبدلًا من التركيز على الديمقراطية والتحول الديمقراطي، على سبيل المثال، هناك حاجة إلى إيلاء اهتمام أكبر بالعدالة. ولكن إلى أيِّ مدًى تتمسك الوحدات المختلفة داخل الأمة بهذا المبدأ؟ كيف انحازت حكومات الدول الإسلامية إلى متطلبات العدالة؟ ولا بدَّ من أن تكون فكرة العدالة هي المعيار الموجه عند إعادة تخيل الأمة.

عند بناء المدرسة المصرية لمنظور بين-حضاري، فهي تتفادى المركزية الإسلامية؛ وهو التصور القاضي بأنَّ الإسهامات الإسلامية متفوقة جوهريًّا. ولكن على خلاف ذلك، تبدي المدرسة المصرية إحساسًا أعمق بالتواضع، عن طريق الإقرار بأوجه النقص في الإنتاج المعرفي البشري. ويُعلي هذا المنظور من شأن المعتقد الإسلامي بأنَّ البشر ليسوا كائنات ذات سيادة؛ بل السيادة لله وحده. ويتيح رفض المركزية الإسلامية، في المدرسة المصرية، أيضًا التفاعل بشكل خلاق مع المنظورات المخالفة في نظرية العلاقات الدولية في الغرب، ويتضمَّن ذلك الانتقادات النابعة من النظرية النقدية وما بعد الوضعية وما بعد الكولونيالية. ونظرًا لكون هذه الانتقادات تعدُّ جزءًا من الباراديم الغربي، فإن ذلك يمنع الاستغراب. وسوف يثري ذلك التمازج الناتج عن التفاعل الدائم مع المنظورات النقدية عملية تطوير باراديم إسلامي، حيث يبرز الانفتاح على العناصر النقدية في الباراديم الغربي الملمح الأبرز للمدرسة المصرية؛ ألا وهو أنها لا تروِّج لرؤية كونية دينية.

وتقيم المدرسة الحضارية أيضًا تفرقة تحليلية بين الفقه الإسلامي والمصادر الأخرى، وتعدُّ هذه التفرقة في غاية الأهمية؛ لما كانت الغاية الرئيسية للمدرسة المصرية هي بناء باراديم علمي وليس دينيًّا. وبهذا المعنى، تتجاوز المدرسة المصرية مشروع إسلامية المعرفة، حيث يعتمد السعي لإنتاج معرفة عالمية على حشد المصادر المختلفة للمعرفة، بما في ذلك المصادر الدينية، ولكن دون الترويج لباراديم ديني. وهذا ملمح مميز للمدرسة المصرية. ومما يتضمنه سَعْيُ المدرسة المصرية لإنتاج علوم إجتماعية عالمية اعتناقها للمبادئ العلمية التي تتحرك في إطار مفهوم مرن للعلم. وتتجنَّب هذه الاستراتيجية ذلك السجن المتمثل في التصور الوضعي عن العلم الواحد؛ الأمر الذي يسمح للهرمنيوطيقا بلعب دَور مماثل في الأهمية في توليد المعرفة.

خارطة الطريق

عند التأمُّل في هذا المؤتمر الهام، بل حتى التفكير على نطاق أوسع، تثور التساؤلات التالية: ما هو الطريق أمام الحضارة الإسلامية؟ وما هي فُرص التجديد أمامها؟ وهل توجد إمكانات مستترة فيها تتطلب الكشف عنها؟ وتلك أسئلة تصعب الإجابة عنها، بَيْدَ أنَّ ما يظهر بوضوح هو أنَّ الحضارة الإسلامية أَبَتْ أن تزول، على الرغم من مُضِيِّ ما يربو على القرنين من الهيمنة الغربية. وعلى خلاف الحضارات العديدة الأخرى التي صعدت وسقطت، ما تزال الحضارة الإسلامية كيانًا حيًّا، وتلك حقيقة ليست بالهينة على الرغم من المخاطر الكبرى القائمة. كذلك، يوجد اليوم أيضًا وعي ثقافي أرقى بكثير مما كان لدى الجيل السابق، وهناك أيضًا ثقة أعظم بالذات تتجاوز مجرَّد الإحساس بالضغينة. ويحتاج ذلك الوعي الذاتي إلى النظر إليه على خلفية التحديات التي واجهها المفكرون الإسلاميون في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته. وهناك الآن اهتمام متنامٍ بالمصادر الإسلامية للإنتاج المعرفي، ويعكس ذلك الاهتمام بتجديد مصادر الحضارة، كتلك المصادر التي تتعهدها الدراسة المصرية بالرعاية، ذلك المناخ الفكري الجديد.

ويتيح اكتشاف وإعادة بناء المصادر الإسلامية، ليس فقط للفقه أو العلوم الشرعية، وإنما اللغة والتاريخ والفنون والموسيقا والجمال والحساب والطب، فرصًا حقيقية للتجديد الحضاري. لكن هذه العمليات تحتاج بأي حال إلى أن يُنظَر إليها على خلفية التطورات السياسية والثقافية غيرالمواتية. ويحوي إغواء التحديث الاقتصادي المتسارع في سياق العولمة، بين طياته، القابلية للقضاء على التمايز في التعبير الثقافي.

ويساعد إدراك أنَّ الإنتاج المعرفي اليوم لا يمكن أن يحدث إلَّا في سياق العولمة على مجابهة أي انجراف محتمل نحو المحلية أو التقليد. ففي سياق العولمة، صارت إمكانية بناء أشكال للتمازج بين مختلف التصورات الحضارية عن “عملية تمثيل العالم” (worlding) متاحة بالفعل أكثر من ذي قبل. وصار الانفتاح الفكري على المنظورات النقدية وغير الغربية مهمًّا بصورة متزايدة. فعلى سبيل المثال، يقدِّم مفهوم تيانكسيا (أي الكل تحت السماء) الصيني متوازيات مثيرة للاهتمام مع مفهوم الأمة الإسلامي. وعلى الرغم من الاختلافات الأساسية بين الأُسس الفلسفية لكلٍّ من التيانكسيا والأمة، تقدم مهمة تخيل عالم ما بعد ويستفاليا نموذجًا للتلاقي.

ويحوي التوجه بين-الحضاري للمدرسة المصرية بالفعل موارد هائلة للتفاعل مع المنظورات الكوزمولوجية المتفاوتة النابعة من الحضارات الأخرى. وقد أنجز الكثير من العمل في الكونيات المحلية، مثلما لدى شعب المواري (Moari)  في نيوزيلاندا أو الأمم الأصلية في كندا، ويعد المكون الرئيسي لتلك الكونيات هو أنها تقدم نموذجًا أكثر سلمية لدمج البشر والطبيعة، بالمقارنة مع نموذج العلم عند بيكون مثلًا. ويجد الاحترام لمبدأ حرمة أشكال الحياة في الإسلام أصداء له في العديد من تلك المنظورات الكوزمولوجية غير الغربية البديلة. ولعلَّ الميزة الكبرى للتفاعل مع الأفكار الحضارية الأخرى هو أنها تستطيع المساعدة في إعادة بناء فكرة القيم العالمية، حيث إنَّ الانفتاح على المنظورات الأخرى يعوق الميل للتمركز حول الذات. كما يساعد التفاعل مع النماذج البديلة أيضًا على تفادي الجمود الفكري، الذي عادة ما يصاحب النزوع نحو المحلية. وفوق كل هذا، فإنَّ القِيَم ليست استاتيكية، لكنها متطورة أبدًا.

وفي حين تكمن وراء التحديات التي تواجهها الحضارة الإسلامية ديناميات داخلية، فهي تكتسب بشكل متزايد طابعًا عالميًّا. ويحتوي التوجُّه بين-الحضاري للمدرسة المصرية على المصادر الفكرية للتعامل بفعالية مع مشاكل المسلمين تحديدًا، مع الاعتراف بالسياق العالمي لتلك المشكلات. وتوجد، بطبيعة الحال، تحديات جديدة سوف تتطلَّب تجديدًا نظريًّا؛ فتغيُّر المناخ -على سبيل المثال- يعدُّ تهديدًا وجوديًّا سوف يتطلَّب الفحص المستديم للمصادر الإسلامية، فضلًا عن إعادة توظيفها بشكل خلَّاق.

إنَّ القوة الرئيسية للمدرسة المصرية هو أنها ليست مسجونة في الحداثة العلمانية، التي تنزع للاعتماد بشدة على الحلول التقنية للمشكلات الإنسانية. وتقدِّم المصادر المقدسة على وجه الخصوص مبادئ فلسفية وأخلاقية متينة، يمكنها المساعدة في التخلص من الأفق الضيق للعقلانية الأداتية. وهكذا يمكن تصوُّر عقد “طبيعي” جديد يؤسِّس لِعَقد اجتماعي أكثر إنسانية.

أخيرًا، سوف أُنهي هذا العرض بتسليط الضَّوْء باختصار شديد على ثلاثة مفاهيم تحتاج إلى تعهُّدها بالرعاية؛ وهذه المفاهيم جزء لا يتجزَّأ بالفعل من المدرسة المصرية، لكنَّها تتطلَّب صياغة أكثر وضوحًا. واستنادًا للمصادر الإسلامية.

أول مفهوم هو الاستخلاف، الذي يتَّصل بالعقد الطبيعي المذكور سلفًا. ويتضمَّن هذا المفهوم بُعدان، هما: المحدودية الإنسانية، وهي مستمدة من عقيدة التوحيد؛ والمسئولية. ويباين هذان البُعدان المفهومَ الغربيَّ للسيادة، سواء بالنسبة للفرد أو الدولة. وتشير المحدودية الإنسانية إلى الحدود التي يفرضها القانون الأخلاقي، وعلى خلاف المفهوم الغربي الذي يُضفي القداسة على الفرد أو الدولة، تغذِّي المحدودية الإنسانية تواضعَ الإنسان في عَلاقته بالكون. وفي المقابل، تُناقض فكرةُ المسئولية العقلانيةَ الأداتية، وتُعلي من شأن العقلانية القيمية؛ ذلك أن الملمح الحيوي للمسئولية هو احترام حُرْمة كافة أشكال الحياة. ويقف هذا الملمح في تناقض صارخ مع الخطاب عن الحقوق، كما يقتلع الإجلال للآخرين والمسئولية تجاههم وتجاه الطبيعة سردية المذهب الفردي، التي تخدم المصالح الذاتية للفرد فحسب.

إنَّ المفهوم الرئيسي الثاني، المضمر في الباراديم الحضاري، هو مفهوم السلام، غير أنه لا يتم تصوره على أنه مجرد غياب للحرب أو الصراع، ولكن كمبدأ فعَّال ينتج ويدعم باستمرار التسامح والتعايش. ولعلَّ الافتراض الأساسي الكامن هنا هو الاعتراف بوحدة النوع الإنساني. ولا يكرر المنظور الكلي للسلام الفعال التقسيم التقليدي للمعمورة، في القانون الإسلامي للأمم، إلى دار الإسلام ودار الحرب، بل إنه يتخذ وحدة النوع الإنساني مسلَّمة أساسية، يمكن أن تُبنى عليها العلاقات العابرة للحدود الدولية. ويحتاج مفهوم السلام الفعَّال إلى مزيد من الاستكشاف والتطوير، فمع تزايد الاعتماد المتبادل لم يَعُدْ بالإمكان استمرار التقسيم التقليدي بين الأمم والثقافات والشعوب.

وأخيرًا، ينبع المفهوم الثالث؛ ألا وهو العالمية (الكوزموبوليتانية) الإسلامية، بشكل مباشر من المنظور بين-الحضاري للمدرسة المصرية. ولمفهوم العالمية نَسب ممتد في نظرية العلاقات الدولية في الغرب، ولكن في السياق الإسلامي يمكن أن تُعاد موضعة العالمية بحيث تحيط بالأمة والإنسانية بوجه عام. وفي كلتا الحالتين، تشدِّد الفكرة على قيمة الحفاوة تجاه الآخرين؛ ومن بينهم الغرباء. ويدلُّ الفهم الأعمق للحفاوة على التسامح والاحترام للآخرين؛ سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. ويجعل النطاق الممتد للحفاوة بالإمكان تحقيق الروح الحقيقية للإسلام كدين للسلام. وعن طريق إبداء المدرسة المصرية للانفتاح على الحضارات الأخرى، فهي تُعلي من شأن الحفاوة بأوسع معانيها.

لا بدَّ أن أتوقف هنا، وأتوجَّه بالشكر مرة أخرى للأستاذة الدكتورة نادية مصطفى على إتاحة هذه الفرصة الكريمة لي، كي أشارك معكم هذه الأفكار التمهيدية.

_________________________

ترجمة: د. محمد صفار

*الكلمة الختامية في المؤتمر العلمي الأول (نحو مدرسة حضارية في حقل العلاقات الدولية) (7 مارس) 2021

المراجع

Abul-Fadl, Mona (1989) Paradigms in Political Science Revisited: Critical Options and Muslim Perspectives. The American Journal of Islamic Social Sciences, 6(1):119-124.

Abul-Fadl, Mona (1990a) The Enlightenment Revisited: A Review Essay. The American Journal of Islamic Social Sciences, 7(3):417-435.

Abul-Fadl, Mona (1990b). Foundations of Islam: The Islamic View of Man (Agency, Rationality, and Morality through the Qur’an). (Draft).

Abul-Fadl, Mona (1994) Contemporary Social Theory: Tawhidi Projections. The American Journal of Islamic Social Sciences, 11(3):305-347.

Alatas, Syed Farid (1987) Reflections on the Idea of Islamic Social Science. Comparative Civilizations Review, 17(Fall):1-27.

Anderson, Benedict (2016) [1983] Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. London: Verso.

Arnason, Johann P. (2010) Domains and Perspectives of Civilizational Analysis, European Journal of Social Theory, 13(1):5-13.

Bull, Hedley (1977) The Anarchical Society: A Study of Order in World Politics. London: Macmillan.

Hodgson, Marshall G.S. (1974) The Venture of Islam: Conscience and History in a World Civilization, 3 vols. Chicago: University of Chicago Press.

Salvatore, Armando (2010) Repositioning ‘Islamdom’ The Culture–Power Syndrome within a Transcivilizational Ecumene, European Journal of Social Theory, 13(1):99-115.

Waltz, Kenneth (1979) Theory of International Politics. London: Addison-Wesley Publishing.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى