استراتيجية العدوان الإسرائيلي: أثر طوفان الأقصى على مسيرة العدو في التفوق الإقليمي والمكانة العالمية

“إسرائيل ليست دولة أخلاقية وليست قوة إقليمية ولن تنتصر في المعركة”!

(يائير لابيد، زعيم المعارضة في الكنيست)

منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، شهدت قضية فلسطين والمنطقة العربية والمشروع الصهيوني ذاته، في شهرين من الزمان، تحولات هائلة على مستوى التاريخ والاجتماع والاستراتيجية لم تشهدها عقود مديدة من الصراع العربي الصهيوني والكفاح الفلسطيني من أجل التحرر الوطني وإنهاء الاحتلال والمظلومية التاريخية، وكذلك محو الإهانة البالغة التي لحقت بالأمة والعرب وشعب فلسطين منذ الحرب العالمية الأولى.

بعض هذه التحولات كانت نتيجة التراكم التاريخي لكفاح الأمة في سبيل النهوض والتحرر، على نحو قانون الجدل التاريخي أو التفاعل الكلي: التغيرات الكمية تؤدي إلى تغيرات نوعية، والعكس صحيح. وهناك تحول معرفي Paradigm Shift أو ربما انهيار في نموذج الاستراتيجية الإسرائيلية التي كانت قائمة على المُبادأة والمُفاجأة وخوض المعارك على أرض الخصم (الدول العربية)، لتصبح المعارك في عقر دار الكيان الصهيوني وعلى بُعد عشرات الكيلومترات من عاصمته التي أصبحت، كما كل بقعة في الكيان المحتل، عُرضةً لصواريخ المقاومة الفلسطينية.

ويشهد العالم صحوة كبيرة تُناصر قضية فلسطين ورواية النكبة الفلسطينية، شملت العالم الثالث والجنوب العالمي، بل شملت -ليس فقط مراكز الميتروبوليتان في الغرب مثل واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وبروكسل وبرلين- بل حتى مدنا صغيرة ومتوسطة بمختلف أصقاع الغرب. وهذا يطرح بقوة أسوأ كوابيس الصهاينة؛ خاصة بنيامين نتنياهو؛ وهو نزع الشرعية deligitimization عن إسرائيل، وخاصة في الأجيال الجديدة هناك.

يتصدر هذه الحراكات والتظاهرات أحيانًا جيل شاب من اليهود في الغرب، نشأوا في عائلات صهيونية راسخة، لكنهم تمردوا على السردية الصهيونية لصالح السردية الفلسطينية، بل امتد الوعي نحو التعرف على الإسلام والقرآن، بل هناك منهم شابات أسلمن واعتنقن الإسلام. وقد لاحظتُ أن بعض المعارضين جذريًّا لإسرائيل والمشروع الصهيوني ينتمون أيضًا إلى جيل الناجين من المحرقة النازية وكذلك قطاع من جيل أحفادهم. تقول شابة يهودية بريطانية من أحفاد الناجين من الهولوكوست: الصهيونية حركة عنصرية توسعية.

وأكثر ما لفت الغربيين إلى الإسلام هو ما شهده العالم من صمود غير مسبوق لأهالي غزة؛ الذين ينهض أفرادهم من تحت الأنقاض ليحمدوا الله سبحانه وتعالى، ويفوضوه في أمرهم، ويحتسبوا كل ذلك عنده رغم الدمار الشامل ومقتل الأحبة تحت الأنقاض!

في الثمانينيات والتسعينيات الماضية، كان باري روبين (أكاديمي أميركي يهودي صهيوني)، يشكو من أن إسرائيل تنتصر دائمًا والعرب لا يعترفون بالهزيمة، كما فعلت مثلا ألمانيا واليابان نهاية الحرب العالمية الثانية! وقد فاته أن الشعوب، -وليست الأنظمة والنخب الحاكمة- هي التي لا تعترف بالهزيمة؛ لأنها لم تُهزم ولم يُسمح لها أن تخوض معارك الأمة لأجل التحرر.

وعبر عن ذلك منذ خمسين عامًا المفكرُ والأكاديمي الفلسطيني الدكتور هشام شرابي، أستاذ تاريخ الفكر الأوروبي بجامعة جورجتاون بواشنطن، في مقدمة كتابه (مقدمات لدراسة المجتمع العربي)، عندما قال إن كل مواطن في العالم يتوقع أن يكون له دور في الدفاع عن وطنه إلا المواطن العربي؛ فهو محظور عليه ذلك. وقد أكد المستشار طارق البشري -غير مرة- أن الجيوش الرسمية غير مؤهَّلة أو مناسِبة لخوض الصراع مع الكيان الصهيوني، وأن المقاومة الشعبية أثبتت أنها أكثر كفاءة في التصدي لهذا الكيان. بل إن جمال حمدان، المفكر والمؤلف الموسوعي، قد أشار إلى أن وظيفة الجيوش العربية هي أن تحارب الداخل وتسالم الخارج!

الجريمة غير عقلانية

إذا كانت العقلانية شرطًا أساسيًّا في قيام واستمرار وازدهار وإدارة الاجتماع البشري وأي ظاهرة اجتماعية، كما أكد ماكس فيبر، في أكثر من عمل من أعماله، فإن الكيان الصهيوني هو ظاهرة غير عقلانية بامتياز.

فقد شهدنا خلال الشهرين الماضيين، بل خلال عقود، اضطراب عملية اتخاذ القرار في الكيان الصهيوني، في ضوء تآكل كيانية الاحتلال وانقساماته الداخلية. وقد حذر توماس فريدمان القيادةَ الإسرائيليةَ من “التيه في أنفاق حركة حماس”، وافتقاد المعنى والجدوى والغاية خلال حملة القصف والتدمير الجنوني جوًا وبرًا وبحرًا، ثم غزو قطاع غزة وإيقاع عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى وتشريد مئات الآلاف، والتورط في حرب مدن عبثية تكبده خسائر فادحة لم يشهدها من قبل.

وأصبحت آليات الاحتلال وأطقمها قيد القنص والتدمير بالعشرات يوميا في بيت حانون وجحر الديك وبني سهيلة وكل محاور التوغل؛ مما اضطر العدو إلى الكذب وإخفاء خسائره الحقيقية التي يقدرها الخبراء العسكريون بعشرة أضعاف ما يتم الإعلان عنه، ويعلم الجميع أنه بمجرد انتهاء القتال وقيام لجان التحقيق بعملها سيتم الكشف عن هذه الخسائر الفادحة.

وقد حذر فريدمان قادة الكيان، وهو مخلص لهم، من أنهم “يسعون خلف أهداف متعددة متناقضة”. والحقيقة أن تناقض الأهداف السياسية والعسكرية يؤدي عقلاً ومنطقًا إلى العجز عن تحقيق أي منها. بل إن السعي إلى إعادة احتلال قطاع غزة واستيطانه بمستوطنات جديدة تخبُّط جنوني لا يأخذ العبرة من تجربة الاحتلال الطويلة (1967-2005) التي انتهت بقرار حكومة ليكود بقيادة أرئيل شارون وعضوية نتنياهو؛ بالانسحاب الأحادي وتفكيك مستوطنات غزة مع تصاعد مقاومة ذات إمكانات متواضعة جدا آنذاك، مع العلم أنه حتى بالمعايير الأميركية، تقتضي السيطرة على السكان المدنيين تحت الاحتلال نشر قوات كثيفة بمعدل جندي واحد لكل 11 مدنيًا.

فهل هناك افتقاد للعقل والمنطق أكبر من دعوة بنيامين نتنياهو إلى تلقين أطفال غزة “محبة إسرائيل”؟! وهل هناك جنون أكثر من استخدام القنابل الأمريكية الثقيلة (900 كيلوغرام)Bunk Buster لتدمير منازل فقيرة وقتل وتقطيع أطراف أهلها الفقراء الذين أقاموها بِشقِّ الأنفس؛ وهي المخصَّصة أصلاً لدكِّ التحصينات القوية والملاجئ العميقة تحت الأرض؛ مما يظهر المدى الذي وصل إليه العلو الإسرائيلي الكبير في الأرض.

وكان الشهيد الفريق عبد المنعم رياض، منذ 56 عاما، قد لفت إلى أن مقتل هؤلاء القوم هو في الغطرسة الشديدة والغرور الأعمى. ومن المأثورات التي تتناقلها كتب التاريخ والسياسية عن حكماء الغرب الاستعماري أن العاقل لا يسعى خلف أهداف متناقضة في وقت واحد. بل ويحذر الرئيس الأميركي الرابع، توماس جيفرسون من التورط في مشروع كبير بأغلبيةٍ هشة: You don’t pursue a major undertaking with a fragile majority، فكيف بكيان تعتريه الانقسامات والتشققات والكراهية الداخلية العميقة؟!

لو كان هذا المشروع الصهيوني الاستيطاني الإمبريالي الإحلالي قائمًا على أدنى درجة من العقلانية والحداثة لاكتفى بالحدود التي كان عليها يوم الرابع من يونيو 1967 والتي كانت أكثر حدود آمنة وقابلة للاستدامة في تاريخه الدموي. بل يعتبر بعض المؤرخين والمفكرين الإسرائيليين أن حرب 1967 وما أدت إليه من احتلال أراضٍ تضم كتلاً سكانية وازنة، قد أدى إلى انطلاق طاقة استيطانية أفلت زمامها من قبضة الصهيونية العلمانية الكلاسيكية المؤسسة للكيان الصهيوني؛ لتنتهي قيادة المشروع الصهيوني إلى تيار ديني استيطاني تلمودي لا يتسق مع المرجعية الإمبريالية الاستيطانية الغربية؛ بل سيؤدي إلى عزل الكيان الصهيوني ليس فقط عن مجتمعات الغرب الإمبريالية التقليدية، بل عن المجتمعات اليهودية المزدهرة ضمن إطار وقيم الحداثة الغربية.

انحطاط استراتيجي

وصل الكيان الصهيوني إلى قمة العلو والغطرسة والغرور بنهاية عدوان يونيو 1967 ليبدأ الهبوط أو الانحطاط الاستراتيجي بعد أيام في معركة رأس العش، ثم حرب الاستنزاف (1967-1970) التي شنتها مصر وكبَّدته خسائر موجعة، ولم تتوقف إلا من أجل بناء حائط صواريخ الدفاع الجوي المصري.

ثم جاءت حرب 6 أكتوبر 1973 (10 رمضان 1393) وكانت ضربة قاسية زلزلت الكيان الصهيوني، وأهالت التراب على خط بارليف وتحصيناته، وعلى استراتيجية الحدود الآمنة، ومُنيت قواته بهزيمة قاسية وإهانة مذلة. في أيام حرب أكتوبر، نشرت الصحافة أن ضابطًا مصريًّا أسر ضابطًا إسرائيليًّا وسأله: ماذا حدث لكم.. لماذا تغيرتم؟ فأجابه الإسرائيلي: بل أنتم الذين تغيرتم يا سيدي!

العبرة هنا هي أن الانحطاط الاستراتيجي للكيان مرهون باستمرار القتال والمواجهة معه على كل الجبهات وإرهاقه المستمر، خاصة بالحروب غير المتناظرة asymetric wars بين المقاومة الشعبية والاحتلال على النمط الفلسطيني واللبناني. يُذكر أن سفير إيطاليا في بيروت قال لتوماس فريدمان إن قوة الولايات المتحدة الضخمة المدججة تشبه قوة فيل لا نفع منه في القتال إلا ضد فيل مثله!

لذلك سيؤدي استمرار المقاومة الشعبية وتكتيكات حروب العصابات إلى إرهاق معنوي ومادي لجيوش ضخمة عُدةً وعديدًا، لكنها غير مؤهلة بنيويًّا وتدريبيًّا ومعنويًّا للتعامل مع هكذا حروب ومقاومة. وكان المستشار البِشري يستدعي، في هذا السياق، قواعد اشتباك حروب العصابات التي اشتمل عليها كتاب ماو تسي تونغ “حرب العصابات”، وترجمه من الصينية إلى الإنكليزية ضابط من الجيش الأميركي، غالبا في سنوات حرب فيتنام؛ لأنه كان مُلهمًا ومرشدا لثوار “فيت كونغ” في فيتنام الجنوبية.

مرت مياه كثيرة في نهر الصراع مع الكيان الصهيوني حتى وصلنا إلى حرب تموز 2006 في لبنان؛ إثر عملية أسرٍ لجنود الاحتلال نفذتها المقاومة اللبنانية لتحرير أسرى لبنانيين من سجون الاحتلال. في تلك الجولة من الصراع، تعرّض الكيان الصهيوني، لحلقة جديدة ومهمة من الانحطاط الاستراتيجي الذي هدد موقعه وأهميته ودوره في خدمة وبنية الإمبريالية الغربية، كما تعرضت قدرته على الردع الاستراتيجي التقليدي للتآكل والتراجع بشكل لا يخفى، في مواجهة قوة لا ينطبق عليها تعريف وسمات وإمكانات الدولة، وشارك في المعركة أقل من ألف عنصر لبناني. وكانت أول حرب عربية إسرائيلية يُقتل فيها من العسكريين الإسرائيليين أكثر من عدد شهداء المقاومة.

الدمار الذي لحق بطوابير المدرعات الإسرائيلية، باستخدام صواريخ موجَّهة أو قذائف محلية الصنع مضادة للدبابات، يفاقم تآكل الردع والانحطاط الاستراتيجي الإسرائيلي. يقول المؤرخون العسكريون إن القلاع الحصينة انتهى دورها باختراع وتطوير المدافع ومتفجراتها؛ لتصبح الدبابات في الحروب الحديثة قلاعا متحركة صامدة، فهل تحيل قذائف محلية الصنع (تكلف بضعة دولارات) هذه القلاع إلى متاحف التاريخ العسكري في ضوء توفر مقاتلين حفاة يطلبون الشهادة ويشتبكون من المسافة صفر؟!

في صيف 2006، ثبت مقاتلو المقاومة اللبنانية بمواقعهم بمواجهة قوات الكيان الصهيوني في معارك كانت تمتد بطول 12 ساعة، وتمكنوا من التنصّت على اتصالات الإسرائيليين، بل وأعطبوا سفينة حربية إسرائيلية.

لاحقًا، ذكرت “واشنطن بوست” أنه عقب توقف القتال مباشرة، انخرط خبراء البنتاغون وغيرهم في جدل، قد يغير طرائق الحرب الأميركية في المستقبل. فقد اعتُبِرت، وبشكلٍ واسع، نتائج حرب إسرائيل على لبنان كارثة للعسكرية الإسرائيلية. وبمجرد انتهاء القتال، حذّر قادة عسكريون أميركيون من أن الحرب القصيرة الدموية التقليدية نسبياً ألقت بظلالها على الكيفية التي سيقاتل بها أعداء الولايات المتحدة مستقبلياً. ثم بعث البنتاغون 12 فريقاً لإجراء مقابلات مع الضباط الإسرائيليين الذين قاتلوا في لبنان، وأجرى الجيش ومشاة البحرية (المارينز) سلسلة مناورات حربية لاختبار أداء القوات الأميركية في قتال عدو مماثل، ونظم خبراء “مختبر القتال بمشاة البحرية” في كوانتيكو خمس مناورات ركّزت على نمط وأداء المقاومة.

يشير كبار المسؤولين العسكريين للمعارك القصيرة باعتبارها لعبة معنويات، توضح ثمن التركيز الشديد على “قمع التمرد” على حساب “القتال التقليدي”. ولاحظوا أن القوات الإسرائيلية، تورطت بشدة في مهام احتلال الأراضي الفلسطينية وقمع احتجاجات وانتفاضات الجماهير في الشوارع. تم تشكيل قوات أميركية متخصصة في قتال الشوارع والمدن واستنقاذ الرهائن والمهام الخاصة؛ ومنه “قوة دلتا” المعروفة والتي خاضت حروب مدن في الفلوجة والموصل بالعراق وأصبح جنرالها “الخبير” الذي يشار إليه بالبنان في حرب المدن.

وفي طوفان الأقصى، لم تبخل الإدارة الأميركية بخبرات الجنرال وأفراد “قوة دلتا” على الكيان الصهيوني الوكيل عنها بالمنطقة؛ فأرسلت ألفين منهم للمساعدة في استرداد المختطفين، وألفين آخرين لمهام أخرى. ربما نتذكر أن أولى محاولات التوغل الإسرائيلي بريًّا جاءت شرق خانيونس ووقعت في كمين مُحكم للمقاومة، وألحقت بالمتوغلين قتلى وجرحى، ودمرت دبابة وجرافة على الأقل. المفارقة أنه بعد أيام من الواقعة، صدر بيان عسكري أميركي حول مقتل خمسة أفراد من القوات الأميركية شرق المتوسط في حادث مروحية أثناء التزود بالوقود! لكن الشكوك حامت حول الرواية بعد أن ذكر الكولونيل دوغلاس ماكريغور، مستشار وزير الدفاع الأميركي السابق، أن أفرادًا من القوة الأميركية “حاولوا دخول غزة لكنهم عادوا أشلاء”.

***

يقال في إسرائيل وغيرها أن كل دولة في العالم لها جيش إلا إسرائيل فهي جيش له دولة! وهذا يلقي ظلالا كثيفة على مستقبل الكيان الصهيوني مع تدهور أداء هذا الجيش بفعل استمرار الفعل المقاوم ومرونته وقدرته على الابتكار والتكيف، وتربية عناصره على نحو يجعلهم أكثر جسارة في المواجهات، وأحرص على الشهادة من حرص عدوهم على البقاء.

وهذا يؤكد أن منحنى الانحطاط الاستراتيجي في تصاعدٍ يهدد فعلا موقع الكيان العدو وأهميته ودوره في بنية الإمبريالية الغربية؛ مما يمثل أيضًا نذير شؤم للغرب وهيمنته على منطقتنا والعالم والنظام الدولي أحادي القطبية. بل تُعتبر حالة المشروع الاستيطاني الصهيوني -ضعفًا وقوةً- مؤشرا مُهما على قوة أو تراجع المشروع الغربي بركائزه الثلاثة الرئيسة: الإمبريالية والفاشية والرأسمالية.

هل منا من يتذكر أن الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور (1952-1960)، قد حذّر قبل نهاية رئاسته، من خطورة المجمع العسكري الصناعي في أميركا وسيطرة مصالحه على السياسة والحكم؟! وهذا باختصار هو عنوان التشكيل الإمبريالي الفاشي الرأسمالي للغرب.

خاتمة

يبدو أن المسألة الشرقية التي طرحها الغرب قبل قرون لاحتواء العالم الإسلامي وهزيمته وإسقاط وحدته وخلافته، ثم استعماره وتجزئته والسيطرة على مقدراته؛ هي في طريقها إلى الحل، وقد تدفن تحت أنقاض منازل جباليا وبيت لاهيا وكافة مناطق قطاع غزة المحاصر منذ 16 عاما. ستُدفن المسألة الشرقية، ومعها أسوأ نظام هيمنة شهده العالم في تاريخه، برغم ما يصيب أهلنا من لأواء وبرغم نهر الدماء والتضحيات والآلام وعشرات الآلاف -وقد يصبحون مئات الآلاف- من الشهداء والجرحى والمنكوبين والجثامين الملقاة في الطرقات تنهشها الكلاب ويعجز الأهل عن دفنها في المقابر.

في رواية أمين معلوف، (الحروب الصليبية كما رآها العرب)، واستعان فيها بنصيَّن تاريخيين لمؤرخين؛ لعلهما ابن عساكر وابن الدمشقي، يلفت معلوف إلى ظاهرة مهمة في سياق استجابة المسلمين للحملات الصليبية؛ وهي أن المسلمين كانوا منذ البداية يحققون انتصارات وإنجازات جزئية على الصليبيين، لكنهم كانوا يفتقدون القدرة على تحقيق التراكم التاريخي وما يولده من زخم وتصعيد وتسارع وموجات طاردة؛ بمواجهة هذه الموجات الهمجية من الغزاة الذين وصفهم معاصرهم الأمير أسامة بن منقذ بأنهم: “وحوش كاسرة لا فضيلة لها إلا القتل والقتال”.

يعتقد بعض مفكري المقاومة الفاعلين أن هذه الموجة الصهيونية الاستيطانية الغازية لن يتم الانتصار عليها أو تصفيتها بالضرية القاضية، بل سيتم الفوز عليها بالنقاط وبالإنجازات المتتالية والتراكم التاريخي وتوحيد ساحات المواجهة؛ والأهم استمرار الفعل المقاوم، واستنزاف العدو، والقدرة على استيعاب التضحيات البالغة على هدي {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}(النساء:104)، وهو ما لمسه رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق بسؤاله: هل تخلى رب موسى وهارون عن شعب إسرائيل؟ وتحدث عن أشباح تقاتل جيش الاحتلال!

في كل مراحل الصراع، هناك إرادة الله سبحانه غالبة، ولو شاء لانتقم منهم {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}(البقرة:65 لكنه هو الحق وقوله الحق ووعده الحق، وقد قضى أنه {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}(الإسراء:104). ولذلك اقتضت إرادته أن يكون الحل: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}(الإسراء:7).

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف:21).

 

تعقيبات ومداخلات·

أ. العدو ومساندوه واستراتيجيته

  1. إن العدو –في معركة طوفان الأقصى الجارية- ليس طرفًا واحدًا، إنما هو حزمة أطراف، وحزمة مصالح، وشبكة مواقف متكاملة. والداعمون ليسوا نمطًا واحدًا؛ وخاصة الظاهرين منهم مثل الولايات المتحدة؛ فبعض أطراف هذا النمط الداعم منهم المحافظون الجدد، ومنهم اليمين سواء من منطلق ديني أو قومي أو عرقي، .. لكن كلهم -ومعهم إسرائيل- لديهم هدف واضح هو: القضاء على المقاومة، وتوفير حصانة مزيدة لدولة إسرائيل. لكن الخطورة الحقيقية ليست في الداعمين الظاهرين المباشرين، إنما في غير المباشرين؛ ومنهم دول إقليمية نعلم بعضها على الأقل، خاصة من يقدمون اليوم خدمات لوجيستية. ومن هذا النمط من الداعمين هؤلاء الذين يمكنهم مساعدة الفلسطينيين ولكن لا يفعلون ما يمكن أن نسميه (الدعم بالامتناع أو الدعم العكسي)؛ أي الدعم للعدو بالامتناع عن دعم المقاومة. هؤلاء الداعمون للعدو غير المباشرين لديهم أهداف أخرى مختلفة؛ منهم من يتحرك من منطلق أمن قومي، وليس معنيا بتصفية القضية على حساب الفلسطينيين أو على حساب غيرهم، لكنه معني بالدرجة الأولى بألا يُمسَّ هو، وأن تستمر القضية حية ليستمر دوره هو الذي تقلص. ودول الطوق غير المناصرة تقع في هذا الإطار. والغاية النهائية لهذا الدعم غير المباشر هي: تجنب مخاطر استراتيجية من وجود المقاومة كما تعتقد، خاصة بطابعها الإسلامي.. لأن التيار الإسلامي يوفر بديلاً لهذه النظم ويظهر الفجوة بينها وبين الشعوب.
  2. العدو في هذه المعركة ظاهر قريب هو العدو الصهيوني الذي يمارس العدوان المشهود، لكنه لا يمكنه أن يقوم بشيء من ذلك ولا ان يتحمل تداعياته إلا بدعم كامل من الولايات المتحدة. فالعدو الحقيقي هو العدو البعيد وهو الإدارة الأمريكية، ودعمها شرط ضروري كاف للعدوان الراهن. والفرق كبير بين اعتبار الولايات المتحدة عدوا أو مساندا. فاعتبار الولايات المتحدة عدوًا يعني مواجهتها – بالطبع ليس مواجهة عسكرية، ولكن لابد من البحث في مواجهة هذا العدوان وتحويله أن نحول العدوان إلى انتصار على الولايات المتحدة ولو “معنويًا”. فلماذا تعتدي الولايات المتحدة على غزة؟ ذلك مرتبط بمفهوم “محور الشر” الذي بدأ استخدامه منذ 11 سبتمبر 2001، وها هي المقاومة الفلسطينية ترتبط بإيران التي لا تزال ضمن المحور الجديد (الصين، روسيا، إيران)، ومحورها الذي يملك زمام المبادرة، وهي من محور الشر بالنسبة للأمريكيين، وبالأخص في دائرة عمليات قيادتهم الوسطى في الشرق الأوسط. وإيران ستحاول استنزاف الولايات المتحدة على طريقة روسيا في حرب أوكرانيا، وثمة حساسية من توسعة تالصراع واحتمالات تدخل الصين وروسيا –بشكل من الأشكال- في مواجهة الولايات المتحدة، والكل يحذر ذلك. فطوفان الأقصى يختبر قدرة الولايات المتحدة على كبح جماح إيران، التي تتصرف ومحورها بحذر شديد حتى لا يقعوا فيما وقعت فيه روسيا في حرب أوكرانيا؛ من الاستنزاف المتبادل، وهم مستمرون في أدائهم الحذر فيما يبدو انتصارا مرحليا. وأهداف أمريكا في غزة هي نفس أهداف الكيان الصهيوني، والتي تتعرض الآن لانتقادات وإعادة صياغة أحيانا. ولا يزال التماهي الدائم بين السياسة الأمريكية والأهداف الإسرائيلية قائما، بتفسيراته المختلفة. لكن رغبة الولايات المتحدة في استئصال المقاومة ربما ترتبط بأن 7 أكتوبر مثلت هزيمة ساحقة للاستخبارات الأمريكية مثلها مثل الاستخبارات الصهيونية، مع استعصاء المقاومة على الترويض رغم الحصار الطويل، وإفشالها للمخططات الأمريكية للصراع المتمثلة في صفقة القرن، وكون هذه المقاومة رقما صعبا في معادلة القضية.
  3. من المهم في فهم استراتيجية العدو، أن نفهم استراتجية مسانديه، وخاصة “فكرة الدعم المطلق”/ اللانهائي/ غير المحدود. فنحن كنا نحسب للغربيين حدًّا أدنى من الرشادة في إدراك الأشياء، وحدًّا أدنى من القيم ولو ظاهريا، فكيف يتدفقون ويندفعون –وبإصرار وإعلان- وراء عدوان غير مشكوك فيه، ومن نمط فاضح في وحشيته ولاإنسانيته، وأيضا في خسارته وإشكالياته الاستراتيجية؟ فم السبب؟ هل هو التزام مبدئي أخلاقي راسخ تجاه من نجوا من المحرقة، أو ما إليها؟ يعني هو (مبدأ أخلاقي)؟ أم هي المصالح البراجماتية حيث يرون أن إسرائيل تمثل لهم مصلحة حيوية لا توازنها أو تعوض منها مصلحة أخرى (حساب مصلحي)؟ كلا التصنيفين تعترضه إشكاليات: فلا يوجد اعتبار أخلاقي يستمر بدون أية لحظة استفاقة مع تطور العدوان وتبين لاأخلاقيته المطلقة؟ فماذا عسى يسمى ما يرونه غير أنه (إبادة جماعية) و(تطهير عرقي)؟ فأين هذه المصالح في هذا العدوان؟ وألا تبدو إسرائيل -بالنسبة للإدارة الأمريكية وحكومات الدول الأوروبية الداعمة والمشاركة في العدوان- في وضعية “الحليف المزعج” المثير للمشكلات، الذي يستفيد أكثر مما يُستفاد منه (كما عبر مثلا كتاب ميرشايمر ووالت عن اللوبي الصهيوني وغيره من الكتابات)؟ كلا التصنيفين تعترضه إشكاليات. فلا أخلاق في الأمر حيث لا نجد حتى لحظة استفاقة أمام بشاعة الموقف، وروح الانتقام العمياء وحرب التطهير العرقي، ولكن أيضًا فتكاليف الدعم عالية باعتبارات كثيرة، والعوائد محل شك كبير. وطبعا هذا السؤال قديم عن دور إسرائيل في الاستراتيجية الأمريكية. ما يجري الآن قد يؤدي إلى انفصام لا رجعة فيه في السياسة الأمريكية بين قوتها الصلدة وقوتها الناعمة (النموذج الأمريكية وقيمه الليبرالية..)؛ ذلك المزيج الذي تقوم عليه الهيمنة الأمريكية. فثمة حالة رفض شعبية ومدنية عالمية للنموذج الأخلاقي والثقافي الأمريكي الراهن، وكثيرون يصفونها الآن بأنها غير جديرة بالاحترام، وبعض أساتذة الجامعات مضطرون لبدء محاضراتهم باعتذار عما كانوا يروجونه من قبل عن هذه الحضارة.
  4. الوصف الأقرب إلى الدعم الغربي الجاري للعدوان الإسرائيلي هو إلى “التورط” أكثر منه دعمًا: حالة من الانغماس في مستنقع سياسي، غير محددة بأهداف ولا استراتيجية من قبل إسرائيل. والغريب أنه بالنسبة للإسرائيليين أنفسهم ربما تمثل هذه الأزمة تجربة خاسرة، لكن حتى لو قرروا الذهاب بالبطش إلى أبعد مداه فإنهم يخلقون بأيديهم هولوكوست جديد يسلب الهولوكوست اليهودي طابعة (الأيقوني)، والأخير مشهود عالميا ولن يحتاج إلى جهد في إثباته أو ترويجه، ومن ثم سوف تفقد إسرائيل جزءا كبيرا مما تعتبره رصيدها المعنوي لدى العالم.
  5. وبالنسبة لمساندي العدو، فنحن نتحدث عن الغرب الإمبريالي، وهذا صحيح نظرا وعميلاـ ولكن عن اي غرب نتحدث؟ وهل من مصلحتنا أن نسلم بالتحالف بين إسرائيل والغرب أم إن من مصلحتنا أن نعمق الفوارق بين الغرب وإسرائيل وان نبين كيف أن إسرائيل أصبحت عالة على الغرب وهم يحققون مصالحها ولكنها هي تضر بهم (كما يجري للإدارة الأمريكية الراهنة التي تخسر الكثير بالنسبة لفرص الانتخابات الرئاسية القادمة) ، وليس أن ندمجهم في بعض ونسلم بتحالفهم الأبدي. ونحن للأسف لا نؤثر على المصالح الغربية ولا نهددها بشيء، ومثال ذلك دول الخليح رغم أنهم يمتلكون موارد أكثر مما تمتلكها إسرائيل. ومن ناحية أخرى: فإن مساندي إسرائيل لا يستحون من التصريح أنهم يهود.. وهذا ليس عيبًا وكذلك ليس من العيب أن نقر أننا مسلمون ونتحرك من منظور إسلامي، ونريد الجهاد وهذا الجهاد إنما هو ضد الظلم ومع القيم الإنسانية. ويجب أن نفعل العمل الإسلامي الجهادي.
  6. أهمية تسكين مشهد إسرائيل ومسانديها في مشهد حداثي؛ لأن إشكاليات الحداثة تفرض نفسها على المشهد والسياق، كما في إطار فكرة: التأرجح والتذبذب في النموذج المعرفي الغربي، وفيما يقوم عليه من علمانية وضعية، وفكرة الخوف من الارتداد عن الديمقراطية في السياق الغربي وإمكان الاستغناء عن أي قيم متى أضرّت، وفكرة الرشادة والمنطق الخالي من الأبعاد القيمية كما في النظر إلى الهولوكوست (كما أشار زيجمونت باومان)، وكذلك التذبذب والتأرجح في العلمانية التي تركت الغرب عاريا من أي غطاء وجودي ما لفتهم إلى الإسلام مع رؤية نموذج غزة وكأن العلمانية لم تكن شيئا مع إعادة البحث عن غاية للوجود، وكذلك فكرة توظيف الدين في خدمة الدولة القومية وتخديم اليهودية لصالح الصهيونية والدولة الصهيونية، التي تحولت إلى شراسة في مواجهة الفلسطينيين، بخلاف حضور الدين في الحالة الإسلامية كمصدر للقيم والاخلاق. ويرتبط بذلك فكرة (إرث الاستعمار)؛ فالغرب يشعر بإشكالية وجودية؛ حيث يساند إسرائيل لتبرير وجودهم والاستمرار في دعوى أنهم أصحاب المهمة السامية؛ ومن ثم وضعنا الطوفان أمام نقطة تماسّ جديدة في مواجهة قوى التجبر والطغيان.
  7. من المهم الاهتمام بخطط وتكتيكات العدو المرتبكة بالفعل والتي تتغير نتيجة إرباكها وعدم تحقيقها. وهي تطورت وإن كانت مستمرة، والهدف الواضح هو عدم تكرار ما حدث في 7 أكتوبر، والهدف الأأقل وضوحا أن تخرج إسرائيل من هذه المعركة في موقف أقوى أو تغير قواعد الوضع بالنسب للقضية الفلسطينية؛ ومن ذلك محاولات تهجير أهل غزة أو احتلال غزة كليًا أو جزئيًا. ينبغي أن نركز على هذه الأهداف للتعامل معها ومحاولة إفشالها. ومساندو الاحتلال تتطور أهدافهم كذلك أو تتراجع (مثلا من مساندة التهجير القسري ثم الطوعي ثم أصبحوا يعارضون التهجير واحتلال القطاع)، لكنها أهداف مستمرة ومتصلة بأهداف إسرائيل؛ التي لم تتنازل عن هدف التهجير، والدلائل تشير إلى هذا الطريق. فيجب أن ندرك هذه الخطط، والتفكير في التعامل معها.

ب- الطوفان والمقاومة ومواجهة العدو

  1. الطوفان واقعة جديدة، لكن جزءا كبيرا منه يشبه الجولات السابقة، ويمكن الإشارة إلى عدوان 2008/2009: مذابح مشابهة، ورد الفعل الدولي مشابه، لكن ما لبثت أن نجحت إسرائيل والدول المساندة لها من تجاوز المعارضة الدولية لعدوانها ذلك. لكن الجديد اليوم أن الطوفان هو في حجم ومسار وأثر هجمات المقاومة على إسرائيل، فقد أحدثت صدمة شديدة، وأوضحت أن هذا الكيان غير مستقر وهش ويمكن أن يتبخر في أي وقت، إذا تم التعامل معه بالطريقة الصحيحة.
  2. في هذا الإطار تتجلى ظاهرة (المقاومة)، لا من حيث هي فعل، إنما من حيث هي (ظاهرة) ضمن (الفواعل من غير الدول) المؤثرين في السياسة الدولية. وهذا يضرب في منظومة التنظير الدولي القائمة على الدولة والقومية والمصلحة ومفهوم معين للعدو وخصائصه، وهوية معينة وطريقة تصرف معينة في إطار حداثي عقلاني.. وهكذا، فإذا بهذا الفاعل يضرب بذلك كله عرض الحائط، ويستبدل أساس (المصلحة) الذي تقوم عليه الدولة القومية بأساس (قيمي) ما يمكن أن يمثل هاجسا لهذه المنظومة؛ فهي لا تستطيع تحديد ماهية المقاومة بوصفها العدو غير المقولب في صورة الدولة، فتنكره وتشيطنه، ولعل ذلك ما يقف وراء أن التحركات الإقليمية الداعمة لهذه المقاومة إنما تأتي من الدول الأضعف مركزيًا (مثل لبنان، اليمن، العراق،…).
  3. التاريخ يثبت أن إسرائيل لا تتحرك إلا تحت الضغط؛ فإذا تحدثنا عن تسوية أو حل فما فعلته حماس هو عين الصواب؛ لأن إسرائيل لا تتحرك إلا تحت ضغط، ومن يعتقد أنه قوي لا يتحرك إلا تحت ضغط، وأن يكون الشعار (وإن عدتم عدنا). ويرتبط بذلك فكرة خوض الحرب على جبهتين أو الحرب متعددة الجبهات؛ وهذه فكرة مرعبة للدول حتى الفكر الاستراتيجي الأمريكي. والآن أمريكا تخوض حربين على جبهتين (في أواكرانيا، وفي فلسطين)، وهذا يجعل المشهد مخيفا لهم وليس لنا فقط. وبالنسبة لإسرائيل فهي أمام جبهات مختلفة في الداخل والخارج: القطاعات الاقتصادية المنهارة والعمالة وغيرها، والتنوع الداخلي في إسرائيل، والاخبار عن الرحيل (قيايا على نسبة ضيلة جدا عند أهل غزة!!)، الاختراق من الجواسيس، الضعف في البنية السياسية الداخلية، التكلفة المادية للحرب، القليل جدا الموجود من الديمقراطية وحرية الرأي يفتت الجبهة الداخلية أكثر، ومظاهرات عن ضرورة وقف الحرب. وطالما حاربت إسرائيل على أكثر من جبهة فإن الحرب تكون لصالحنا، وينبغي الحفاظ على ذلك، مع جودة الخطة من المقاومة، فإن ذلك سيكون كفيلا بتحقيق النصر إن شاء الله. وهذا يتصل بالسؤال: هل بعد 7 أكتوبر سيظل الكيان الصهيوني قادرًا على تقديم الأمن والحماية لمواطنيه أم لا؟
  4. هل نحن بإزاء تهديدات أخرى جديدة أمام توحش العدو في غزة وأمام اتساع مفهوم العدو؟ وهذا يصلنا بالإطار الأوسع للصراع وتأثيرها على البلدان العربية المحيطة بالصراع. إعادة صياغة الصراع في إطار مشكلات الممرات الاستراتيجية، ومصادر الطاقة (وتهميش مصر، لبنان، سوريا لصالح دور السعودية ثم الإمارات)، فالإطار إمبربالي رأسمالي، وفوائد التطبيع تستفيد منها الرأسماليات الكبرى في الخليج وإسرائيل وعلى حساب البقية. وهذا يعني اسمرار طرح السؤال عن مستقبل التطبيع في المنطقة الذي يقوم على الاقتصاد والمنافع المادية لتجاوز الأيديولوجيا والكلام عن الحقوق وتقرير المصير وما إليه، ووراء هذا الطرح قوى ذات عنفوان، قد لا تنجح، لكن يجب التنبه لها، وخاصة في حديثهم عن ترتيبات اليوم التالي. ويرتبط بذلك مسألة التهجير، وما يحصل واضح وأهداف واضحة لا اضطراب ولا شيء، وهذه الحرب هدفها التدمير للبشر والأرض حتى لا تكون صاحة للسكن ويكون التهجير ضمن مشروع حياة أفضل في مكان آخر، ويمكن أن يكونوا في مصر (التي فيها من كل الجنسيات).
  5. أهمية رسم خريطة المساندة في الغرب وبالأخص في الولايات المتحدة؛ حتى نعرف مع من سنتعاون ومع من سنتصارع، وفي الوقت نفسه، تحتاج المقاومة غلى مبادرة سياسية استراتيجية تكمل المبادرة الاستراتيجية العسكرية في 7 أكتوبر. ومن المهم أن تهتم المقاومة بشروط وقف إطلاق النار؛ فطوفان الأقصى ليست نسخة من الصراعات السابقة، ولن يعود لا القطاع ولا العدو ولا الإقليم إلى ما كان قبل 7 أكتوبر.

يمكن تحميل الدراسة من خلال الرابط التالي

_____________

  • شارك مشكورين في إبداء هذه التعقيبات والمداخلات الأساتذة: سامح راشد، شريف عبد الرحمن، معتز أحمدين، أميرة أبو سمرة، أحمد علي سالم، أحمد خليفة، عمر سمير، هشام جعفر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى