إيران وتركيا والحرب على العراق

قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، بدت أهمية خلق عراق موال للولايات المتحدة بعد الإطاحة بنظام صدام حسين متمثلة في تحقيق التوازن في مواجهة إيران. إذ طالما ظل صدام حسين حاكمًا فلن يكون العراق جزءًا من أي جهد لتحقيق توازن في المنطقة. فضعفه الشديد لكى يوازن إيران، وقوته الكبيرة بالنسبة إلى أمن جيرانه الخليجيين، وعدائيته الشديدة للولايات المتحدة جعلت منه ورقة خطيرة دائمة[1].
إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، التي شارك فيها بحسب المزاعم الأمريكية خمسة عشر مواطنًا سعوديًا من أصل المنفذين التسعة عشر أدت إلى توسيع دور العراق المستقبلي؛ بحيث يشمل حربًا غير معلنة حتى الآن، على المملكة العربية السعودية.
فوفقًا لما أكده رئيس مشروع القرن الأمريكي الجديد (New American Century) وليم كريستول في شهادته أمام لجنة “الشرق الأوسط وجنوب آسيا (التابعة للجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي)؛ فإن “التعاليم الوهابية”، والمدارس الدينية، والمال السعودي، قد شجعوا الشباب المسلم في بلدان مختلفة من العالم على الجهاد كتحريض ضد غير المسلمين. إن اتحاد العقيدة الوهابية مع المال السعودي قد أسهم في خلق الراديكالية ومناهضة النمط الأمريكي(Anti– Americanization) في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي، أكثر من أي عامل آخر؛ ومن ثم فإن إزاحة نظام الرئيس صدام حسين سيكون خطوة ضخمة لتخفيض النفوذ السعودي”[2]، وهو ما كان قد أكده دبلوماسي أمريكي في وقت سابق بأن “إعادة تأهيل العراق هو البديل الوحيد المنطقي بعيد المدى من المملكة العربية السعودية”؛ بحيث يبدو تغيير النظام في بغداد ضرورة استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية[3].
وهكذا؛ فإن السيطرة الأمريكية على العراق ونفطه -من خلال نظام موال- ستمكن من ممارسة الضغط (بما في ذلك ماليًا) على السعودية؛ بما يسمح للولايات المتحدة -بالتالي- بتجفيف أحد أهم الموارد المالية للإرهاب “الإسلامي”، الذي يشمل أيضًا حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس، والتي لعبت السعودية دورًا محوريًا في دعمها[4].
لقد كانت تداعيات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 حاكمة بدرجة كبيرة لصانع القرار الأمريكي نحو العراق، لكن طموحات تيار المحافظين الجدد المسيطر داخل الإدارة الأمريكية ونفوذه القوى في الكونجرس كانت تفوق حدود ردود الفعل على أحداث 11 سبتمبر؛ لتشمل الدعوة الإمبراطورية الأمريكية كتوجه أمريكي عالمي، والتي اعتبرت الحرب على الإرهاب بصفة عامة، والحرب ضد العراق بصفة خاصة؛ بمثابة الحرب العالمية الرابعة؛ على حد وصف جيمس وولسى، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. ففي خطاب له أمام مؤتمر حلف شمال الأطلسي (الناتو) في براغ (نوفمبر/ تشرين الثانى 2002) كشف وولسى دور الحرب على العراق في ترسيخ الهيمنة الأمريكية عالميًا، ودورها في ترتيب الأوضاع إقليميًا بقوله: “يمكن أن يعتبر العراق المعركة الأولى في الحرب العالمية الرابعة؛ فبعد حربين عالميتين وواحدة باردة كانت متمركزة في أوروبا؛ فإن الحرب العالمية الرابعة ستكون من أجل الشرق الأوسط”[5]. وبعد احتلال القوات الأمريكية للعراق قال: “الآن وقد أصبحت القوات الأمريكية في بغداد؛ دعونا نقوم بصياغة أحداث الحاضر من منظور تاريخي. فبمعنى من المعاني دخلنا الحرب العالمية الرابعة، وهي حرب لنشر الديمقراطية ومواجهة أخطار تهدد الحضارة الليبرالية التي سعينا لإفاقتها والدفاع عنها عبر القرن العشرين في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة؛ أي الحرب العالمية الثالثة، وآمل ألا تكون هذه الحرب طويلة، كما هو حال الحرب العالمية الثالثة التي استغرقت ما يزيد على 40 عامًا، ولكنها ستكون بالتأكيد أطول من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ومن المحتمل أن تستغرق عقودًا”[6].
مثل هذا التوقع يوضح مدى ضخامة المهام في هذه الحرب الجديدة التي يتحدث عنها وولسي والتي ربما تستغرق عقودًا، وقد بدأت في العراق ولن تقتصر عليه، ولعل هذا ما يفسر أسباب التحول إلى منطق جديد ومختلف للحرب ضد نظام صدام حسين؛ وهو منطق استخدام العراق “كحجر زاوية” لإعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط.
فبعد أن توقف تقريبًا عن الحديث عن “أسلحة الدمار الشامل العراقية” -التي لم يظهر لها أي أثر داخل العراق- صرح الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بأن “ظهور عراق حر وسلمى أمر هام لاستقرار الشرق الأوسط، وشرق أوسط مستقر أمر هام بالنسبة لأمن الشعب الأمريكي”. وكان بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع الأمريكي قد صرح يوم الأحد (27 يوليو 2003) في مقابلة مع شبكة “إن.بي.سي” التليفزيونية الأمريكية بأن: “معركة ضمان السلام في العراق هي الآن المعركة المركزية في الحرب العالمية ضد الإرهاب. وهذه التضحيات لن تجعل فقط الشرق الأوسط أكثر استقرارًا، وإنما أيضًا بلادنا أكثر أمنًا”. كذلك قال نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني إن: “العراق سيصبح مثالًا للشرق الأوسط بأكمله، وبالتالي سيساهم مباشرة في أمن أمريكا وأصدقائنا”!، وركز مسئول كبير في الإدارة الأمريكية على هذه النظرية عندما قال إن الولايات المتحدة قد بدأت “التزامًا لأجيال” حيال العراق، مشابهًا لجهودها لإعادة صياغة ألمانيا في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية[7].
هذا المسئول الكبير الذي يعمل مستشارًا للرئيس الأمريكي حدد استراتيجية طويلة المدى تنشر فيها الولايات المتحدة قيمها عبر العراق ومنطقة الشرق الأوسط. بالضبط، كما فعلت مع أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين. وطبقًا لهذه الخطة؛ فإن الالتزام الأمريكي تجاه العراق والشرق الأوسط سيكون أكثر كلفة مما ذكرته الإدارة للرأي العام قبل بدء حرب العراق. وأوضح هذا المستشار أن: “الهدف الأعظم للولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، التي استهدفت بلدًا بأهمية وقوة الولايات المتحدة؛ هو نشر قيمنا، وفهم أن قيمنا، وأمننا متداخلان كما كان في أوروبا، ولكنها مرتبطة بالشرق الأوسط أيضًا”[8].
بهذا المعنى نستطيع أن نفهم أن الغزو الأمريكي للعراق، بل والاحتلال الأمريكي للعراق ليس نهاية لمشوار طويل استغرقته “الأزمة الأمريكية المفتعلة” مع نظام صدام حسين، ولكنه بداية لمشوار أمريكي أطول يربط القيم الأمريكية والأمن الأمريكي بإقامة “عراق حر يستخدم منطلقًا للتغيير في المنطقة كلها، وفي قلبها بالطبع الخليج والصراع العربي/الإسرائيلي”.
لذلك كله، كان منطقيًا أن يرفض جناح الصقور في الإدارة الأمريكية (بقيادة ديك تشيني نائب الرئيس، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز، وريتشارد بيرل رئيس مجلس السياسات الدفاعية) اللجوء إلى مجلس الأمن -من الناحية المبدئية- قبل القيام بغزو العراق؛ على اعتبار أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى قرار جديد من مجلس الأمن؛ حيث إن العراق -من وجهة نظرهم- قد انتهك القرار رقم 687 الذي يوجب استخدام القوة لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية إذا لم تتجاوب بغداد. كما رأي هذا الفريق أن حرب الخليج الثانية عام 1991 (حرب عاصفة الصحراء) قد انتهت بهدنة بين الولايات المتحدة والعراق، ولم تنته باتفاق سلام؛ ومن ثم فإن الحرب يجب أن تُستأنف؛ لأن العراق انتهك شرط الهدنة المتمثل في نزع أسلحة الدمار الشامل[9].
إقدام الولايات المتحدة وبريطانيا على غزو العراق واحتلاله دون قرار من مجلس الأمن كان منطقيًا وفقًا لتلك الرؤى والأهداف، ولكن السؤال الأجدر في هذا الصدد مفاده: كيف تعاملت القوى الدولية والإقليمية الأخرى مع هذه الرؤى والأهداف الأمريكية في العراق؟
تركز هذه الدراسة على تحليل التعامل الإيراني والتركي مع الرؤى والأهداف الأمريكية في العراق من خلال تحليل مقارن للمواقف الإيرانية والتركية من الغزو والاحتلال، وكذلك التعرف على المحددات التي حكمت كلًا من التعامل الإيراني والتركي مع حادثة الغزو الأمريكي/ البريطاني للعراق، وكيف أثرت تطورات الغزو والاحتلال على كل من إيران وتركيا؟

القسم الأول- إيران والأزمة العراقية من الغزو إلى الاحتلال

أولًا- محددات المواقف الإيرانية من الأزمة العراقية:

هناك العديد من المحددات الثابتة التي تحكم علاقات إيران مع العرب عمومًا، ومع العراق بصفة خاصة؛ بعضها تاريخي وثقافي وبعضها الآخر اقتصادي واستراتيجي، وهناك محددات أخرى متغيرة. وإذا كانت المحددات الثابتة تشكل الخلفية المحددة للمواقف الإيرانية في التعامل مع العرب؛ فإن المحددات المتغيرة هي التي تحدد التمايز في هذه المواقف، أو هي التي تعكس العوامل الحاكمة لتحديد المواقف.
فإيران تنظر بتشكك وارتياب شديدين لأي وجود أجنبي في الخليج، باعتبار أن مثل هذا الوجود الأجنبي يمثل انتقاصًا مباشرًا من النفوذ الإيراني في المنطقة، دون تمييز بين ما هو عربي أو غير عربي. وإيران رغم أولوية البعد الإسلامي ومسئولياته باعتباره الأيديولوجية الحاكمة للجمهورية الإسلامية، مازالت محكومة بمحددات تفرضها الاعتبارات القومية الفارسية، دون تجاهلٍ بالطبع للاعتبارات الاستراتيجية؛ ولذلك فهي تفضل أن تتعامل مع الدول العربية كدول منفردة، أي أن تتعامل مع كل دولة على حدة، ولا تفضل أن تتعامل معها كوحدة أو كتكتل عربي.
فالإيرانيون يعتبرون مفهوم الوحدة العربية مرادفًا للقومية العربية؛ باعتبارها النهج الفكري للقومية العربية أو الهدف الأساسي لها؛ وذلك من خلال محددين هما: استقلال العالم العربي، واتحاد جميع أجزائه في دولة واحدة، مما يدل على تلازم وتلاحم هذين المفهومين. وهذا، بطبيعة الحال، يجعل الوحدة العربية، في أي شكل من أشكالها، مواجهة لأي قومية أخرى في المنطقة كالقومية الإيرانية، أو لأي قطب من أقطابها مثل إيران. لذلك لم تنظر إيران بارتياح إلى المحاولات والتجارب العربية التي كانت ترمي للتوحد أو للتكتل، ولم تفضل التعامل مع أي من التجمعات أو التكتلات العربية؛ مثل جامعة الدول العربية، أو مجلس التعاون الخليجي، على سبيل المثال. كان ذلك واضحًا جدًا في الموقف الإيراني الرافض لـ “إعلان دمشق” الذي كان يعني وجودًا عسكريًا مصريًا وسوريًا في الخليج -حتى ولو كان رمزيًا- بعد ما سمي بـ”حرب تحرير الكويت” عام 1991.
مثل هذه المحددات الثابتة تنافسها محددات أخرى متغيرة أو طارئة بعضها داخلي، وبعضها الآخر تفرضه اعتبارات إقليمية وعالمية. ولقد كانت أهم المواقف والسياسات الإيرانية نحو أبرز القضايا العربية عام 2003 (وهي “الأزمة العراقية”) محصلة لتفاعل حزمة من المحددات الثابتة والأخرى الطارئة، وبالذات لعاملين رئيسيين هما: الصراعات السياسية العنيفة في الداخل بين تياري الإصلاحيين والمحافظين من ناحية، وتطور أزمة العلاقات الإيرانية/ الأمريكية، والتي بلغت ذروتها بتفجير الولايات المتحدة قضية البرامج النووية الإيرانية، وسعيها إلى رفع ملف هذه البرامج من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس الأمن؛ لفرض سيناريو انتقامي على إيران، شبيه بالسيناريو الذي فرض على العراق وتطور إلى غزوه واحتلاله.
هذان المتغيران كان لهما الدور الأساسي في صياغة إيران لسياساتها ومواقفها نحو العرب عام 2003، سواء كانت في شكل حرص على التنسيق والتعاون أحيانًا، أو في شكل تراجع وتحسب شديدين عن اتخاذ مبادرات خلاقة؛ سواء نحو القضية العراقية، أو القضية الفلسطينية، أو تطوير العلاقات مع بعض الدول العربية. إضافة إلى هذين العاملين هناك الميراث التاريخي للعلاقات الإيرانية/ العراقية، وبالذات ميراث الحرب العراقية/ الإيرانية، وتوازن القوى الإقليمي في الخليج بعد حرب الخليج الثانية عام 1991.

1- الصراع السياسي الداخلي:

وصل الصراع السياسي وحدّة الاستقطاب بين القوى المنتمية إلى تياري الإصلاحيين والمحافظين إلى ذروته عام 2003، لدرجة باتت تهدد مستقبل الجمهورية الإسلامية، ولدرجة أخذت تطرح تساؤلات حول هذا المستقبل، وتتسبب في إصابة السياسة الخارجية الإيرانية بقدر كبير من العجز والشلل، وعدم القدرة على اتخاذ مواقف ومبادرات خلاقة إزاء القضايا الساخنة في المنطقة؛ فبدت مترددة أحيانًا، وعازفة عن الفعل في أحيان أخرى؛ بسبب الانقسام الحاد على السلطة، وتراجع شعبية النظام بصفة عامة على النحو الذي ظهر بوضوح في التراجع الحاد في نسبة المقترعين في الانتخابات البلدية؛ وهي الانتخابات التي ألقت نتائجها بتحديات هائلة أمام المشروع الإصلاحي كله، وليس فقط على حركة الإصلاحيين وتجمعاتهم وأحزابهم.
أ – الانتخابات البلدية:
أجريت الانتخابات البلدية يوم 28 فبراير 2003 وجاءت بنتائج لم تصدم الإصلاحيين فقط، ولكنها صدمت النظام كله. فقد صدمت الإصلاحيين بسبب اكتساح مرشحي التيار المحافظ لأغلب الدوائر، وصدمت النظام كله بسبب الانخفاض الشديد في نسبة المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات، والتي لم تتجاوز 25% من إجمالى من يملكون حق التصويت، مقابل 60% في الانتخابات البلدية السابقة عام 1999. فإذا كان المحافظون قد فازوا في المدن الكبرى وخاصة بلدية طهران وبلدية أصفهان؛ فإن هذا الفوز أهدرت قيمته بتخلف ثلاثة أرباع الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم[10].
كانت نتائج هذه الانتخابات بداية لتحول في موازين القوة لصالح المحافظين، وجاء ذلك مصحوبًا بتراجع شعبية النظام بسبب الانتكاسات التي واجهت المشروع الإصلاحي الذي بدأه الرئيس محمد خاتمي منذ انتخابه رئيسًا للجمهورية عام 1997؛ فقد أسفرت نتائج الانتخابات عن فوز ساحق للتيار المحافظ علي حساب التيار الإصلاحي، واستطاع المحافظون أن يفوزوا بمعظم المقاعد المخصصة للبلديات الكبرى؛ حيث حصدوا أكثرية المقاعد المخصصة للبلديات الكبرى في “قُم” في الجنوب، وبلدية “مشهد” في الشرق، وبلدية “أصفهان” في الوسط؛ بما يعنى أن سيطرتهم عمت البلاد ولم تكن مركزة في منطقة بعينها. كما حققوا نصرًا كبيرًا في بلدية العاصمة طهران التي تمثل مركز الثقل السياسي والاقتصادي في البلاد بعد أن حصلوا على (14) مقعدًا من (15) مقعدًا، وحل مصطفى تاج زاده (الذي كان في مقدمة قائمة حزب جبهة المشاركة الذي يعتبر التكتل الأهم داخل معسكر الإصلاح) في المرتبة السادسة عشرة ليخرج من السباق على مقاعد بلدية العاصمة. وقد اعتبر هذا الفوز الذي حققه المحافظون من قبل كثيرين دليلًا على انكسار حاد حدث في مسيرة المشروع الإصلاحي، وذهب البعض إلى أبعد من ذلك بالقول ببداية نهاية هذا المشروع.
بيد أن هذا الرأي –الذي ربما تكون نتائج الانتخابات البرلمانية قد أضافت له المزيد من الصدقية- يفتقد إلى الدقة نظريًا على الأقل؛ استنادًا إلى عوامل عدة، يتمثل أهمها فيما يلي[11]:
– من المعروف أن الناخب حينما يصوت في انتخابات البلديات يكون تصويته وفقًا لمعايير خدمية وليست سياسية. وبعبارة أخرى؛ فإن الذي يدفع الناخب إلى اختيار هذا المرشح أو ذاك هو مقدرته على تقديم الخدمات لأهالي البلدية التي سوف يمثلها، وليس انتماؤه لهذا الحزب أو ذاك.
– سجلت الانتخابات نسبة مشاركة متدنية تعد من أقل مستويات المشاركات الانتخابية التي شهدتها إيران منذ الثورة الإسلامية في العام 1979. وعلى سبيل المثال؛ ففي بلدية طهران حيث 4 ملايين و681 ألفًا لهم حق التصويت؛ فإن من صوَّت فعلًا كان حوالى 556 ألفًا و522 شخصًا؛ أي بنسبة 21.2%. وبلغت نسبة التصويت الإجمالية نحو 49.2% من جملة من لهم حق الاقتراع.
– حداثة العمل بنظام الانتخابات المحلية؛ حيث إن هذه الانتخابات هي الدورة الثانية فقط التي تشهدها إيران بعد الدورة الأولى التي أجريت في العام 1999. وإذا ما أضيف إلى ذلك سوء أداء المجالس البلدية في دورتها الأولى؛ فإن ذلك قد شكك في فعالية هذه المجالس، ومن ثم الثقة في جدوى المشاركة في انتخاباتها.
وعلى الرغم من القول بأن نتائج الانتخابات البلدية لم تمثل هزيمة للتيار الإصلاحي؛ فإن هذه النتائج مثلت جرس إنذار له من عدة زوايا، فقد خاض الإصلاحيون تلك الانتخابات بقوائم عدة متنافسة، وليس بقائمة موحدة كما جرت العادة. وكان من بين هذه القوائم؛ القائمة الخاصة بحزب جبهة المشاركة، وقائمة حزب كوادر البناء المحسوب على الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني؛ الأمر الذي يعني حدوث تصدعات كبيرة في صفوف المعتدلين. في الوقت الذي خاض فيه المحافظون الانتخابات بقائمة واحدة؛ ومن ثم ورغم أنهم قد حصلوا على عدد أقل من الأصوات، مقارنة بما حصل عليه التيار الإصلاحي؛ فقد حققوا هذا النصر بفعل عامل تكتيل الأصوات.
ب- ملف المظاهرات الطلابية:
كانت المظاهرات الطلابية التي شهدتها إيران خلال شهر يونيو من العام 2003 من أهم الأحداث التي مرت بها البلاد خلال العام المذكور. وعلى الرغم من أن هذه المظاهرات اندلعت في الأصل احتجاجًا على خطة مقترحة لخصخصة الجامعات، وإحياءً لذكرى المظاهرات الطلابية التي اندلعت في العام 1999. وتمت مواجهتها بعنف شديد من قبل قوات الأمن؛ إلا أن نطاقها سرعان ما اتسع كمًا وكيفًا لتشمل الآلاف، ولتطرح مطالب ليست فقط خاصة بمجتمع الطلبة؛ وإنما مطالب عامة خاصة بتكريس المشروع الإصلاحي، في ضوء تعثر هذا المشروع. وقد اندلعت هذه المظاهرات على الرغم من أن المرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي حذر الطلبة من تنظيمها؛ ومن ثم فقد كانت أشبه بنوع من استعراض القوة من قبل التنظيمات الطلابية[12].
وقد جاءت المظاهرات الطلابية لتكشف حجم الأزمة التي تعيشها البلاد على الصعيد الداخلي؛ حيث أدى استمرار تعثر المشروع الإصلاحي بعد نحو ستة أعوام من حكم الرئيس خاتمى إلى خلق حالة من الإحباط العام في أوساط قطاعات عريضة من المجتمع الإيراني، بفعل حالة الصراع المزمن بين المحافظين والإصلاحيين والذي حال دون تثبيت المشروع الإصلاحي وترجمته على أرض الواقع[13].
وكان قد سبق هذه المظاهرات رسالة بعث بها أكثر من 100 عضو من مجلس الشورى (البرلمان) الذي كان يسيطر عليه التيار الإصلاحي إلى مرشد الثورة السيد علي خامنئى مطالبين بإطلاق الحريات، وعندما اندلعت المظاهرات وقَّع أكثر من 250 شخصية إيرانية لها وزنها في المجتمع على إعلان شدد على حق الشعب الإيراني في انتقاد القيادات وفي إقصائهم، واعتبر أن الاحتفاظ بالسلطة المطلقة ضربًا من “الهرطقة”.
وعلى هذا النحو، يمكن القول إن الأزمة التي تعانيها إيران على الصعيد الداخلي -والتي كانت المظاهرات أحد مؤشراتها تنبع بالأساس من تنامي حدة الاستقطاب السياسي في المجتمع؛ بسبب عدم الاتفاق على المرتكزات الأساسية للنظام وبالذات حول المرجعية الأساسية للحكم؛ هل هي الإرادة الشعبية، أم إرادة الولي الفقيه. ففرض مرجعية الولي الفقيه أدى إلى تهميش دور المؤسسات المنتخبة (البرلمان والرئاسة) لصالح المؤسسات المعيَّنة التي يسيطر عليها التيار المحافظ؛ مما تسبب في حدوث نوع من الفجوة بين النظام السياسي والمجتمع، بمعنى خلق أزمة في شرعية هذا النظام؛ وهي الأزمة التي كانت تتعقد بسرعة خلال العامين الأخيرين، بسبب تشديد المحافظين لقبضتهم على النظام السياسي وحصارهم الشديد للإصلاحيين الذين خسروا أكثر من معركة خاضوها خلال العام 2002 من أجل تكريس عملية الانفتاح السياسي.
وقد مُنىَ مشروع الوفاق الوطني الذي طرحته جبهة المشاركة -التي تمثل العمود الفقري لتكتل الإصلاحيين- بالفشل؛ وهو مشروع كان يدعو إلى اعتبار العام 2002 عامًا للوفاق الوطني تناقش فيه كل القضايا محل الخلاف بين المحافظين والإصلاحيين؛ من أجل الاتفاق على جدول أعمال وطني يدعم السياسة الإصلاحية للرئيس خاتمي؛ وهو ما لم يحدث بعد أن قوبل هذا المشروع بالرفض ثم التجاهل من قبل المحافظين. في السياق نفسه؛ جاءت نتائج الانتخابات المحلية –وكما اعتبرها البعض- بمثابة رسالة احتجاج قوية وجهت إلى المحافظين والإصلاحيين على حد سواء؛ فقد كانت نسبة المقترعين من أدنى معدلات التصويت في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
هذا المشهد المسكون بالإحباط كان أحد الدوافع القوية لتلك المظاهرات التي جاءت كنوع من الاحتجاج الصاخب على استمرار تعثر المشروع الإصلاحي؛ وإن كان الذي فجرها بداية عوامل خاصة بالمجتمع الطلابي[14].
وعلى الرغم من أن هذه المظاهرات ليست هي الأولى من نوعها التي تشهدها إيران؛ حيث سبقتها مظاهرات مماثلة في العام 1999، وشهدت البلاد أيضًا مظاهرات أخرى هزت أصفهان في منتصف أغسطس 2003، وقع خلالها ثماني ضحايا ونحو 150مصابًا على يد قوات الأمن؛ إلا أن هذه المظاهرات قد عدت بمثابة أكبر احتجاج على النظام؛ حيث شارك فيها عشرات الآلاف واستمرت ستة أيام متواصلة، وشهدت قيام قوات الأمن باقتحام الحرم الجامعي على غرار ما كان قد حدث في مظاهرات عام 1999، وكانت شعارات هذه المظاهرات من العنف والقوة في التنديد بشكل لم تعهده إيران؛ حيث هتف المتظاهرون بالموت لخامنئى.
أضف إلى ذلك أن التوقيت الذي اندلعت فيه كان حرجًا؛ حيث جاءت تالية لسقوط نظام صدام حسين. ومما عقد من وضع هذه المظاهرات تلقف الولايات المتحدة لها وإشادة كل من الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير علنًا بها؛ وهو ما دفع خامنئى إلى اتهام المتظاهرين بأنهم مرتزقة يعملون لحساب العدو.
وقد خلفت أزمة المظاهرات عدة نتائج مهمة؛ منها استقالة وزير التعليم العالي والعلوم والبحوث والتكنولوجيا مصطفي معين احتجاجًا على أسلوب القمع الذي واجهت به قوات الأمن الطلاب المتظاهرين، إضافة إلى عودة بعض المنظمات المتشددة مثل حزب الله لتكون في صدارة المسرح السياسي؛ حيث طرحت تلك المنظمات نفسها باعتبارها خط الدفاع الأول عن النظام الإسلامي.
جـ – الصراع بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور حول لائحتى رئيس الجمهورية:
جاء الصراع العنيف بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور (مجلس الرقابة على القوانين) حول لائحتى رئيس الجمهورية ليؤكد عمق أزمة المشروع الإصلاحي في إيران. وقد رفض مجلس صيانة الدستور مشروعي لائحتي رئيس الجمهورية متحديًا الرئيس والحكومة ومجلس الشورى معًا، ولم يكن هذا الرفض حدثًا مفاجئًا في ظل الانقسام الحاد حول مشروع الإصلاح بين المحافظين والإصلاحيين.
اللائحتان اعتبرهما الرئيس رهانًا له على مستقبل المشروع الإصلاحي؛ حيث كانت اللائحة الأولى الخاصة بتعديل قانون الانتخابات ترمي إلى الحد من سلطات مجلس صيانة الدستور على العملية الانتخابية، وبالذات مسألة استبعاد مرشحين في الانتخابات -أيًا كانت هذه الانتخابات بلدية أم نيابية أم رئاسية- كما أنها كانت ترمي إلى الحفاظ على نزاهة الانتخابات وحيدتها. ولم يكن متصورًا أن يوافق المجلس على لائحة تستهدف تقليص صلاحياته وطموحاته التي تعتبر من أهم أدوات التيار المحافظ في التأثير على السلطة.
أما لائحة تعزيز صلاحيات الرئيس؛ فكانت ترمي إلى تخويله الحق في إبطال ما يراه مخالفًا للدستور؛ فقد كان هدف الرئيس خاتمى من اللائحة هو تمكينه من ممارسة حقه الدستوري في تنفيذ الدستور؛ لذلك دعا الرئيس في هذه اللائحة إلى تأسيس هيئة للرقابة والمتابعة على تنفيذ الدستور لمواجهة أي انتهاكات يتعرض لها من أي مؤسسة من مؤسسات الدولة. كما دعت هذه اللائحة إلى تكليف الرئيس بالتصدى لأي انتهاكات يتعرض لها الدستور، وإعلام مجلس الشورى بهذا الانتهاك، وإطلاع الشعب عليه. وكان منطقيًا أيضًا أن يرفض مجلس صيانة الدستور هذه اللائحة؛ لأنه لا يريد تمكين الرئيس من الانطلاق في تنفيذ مشروعه الإصلاحي؛ ليس بدافع رفض المشروع الإصلاحي فقط، ولكن من منطلق عرقلة التيار الإصلاحي وإحباط مشروعه، ومن ثم إسقاطه شعبيًا بعد تحويله إلى تيار عاجز عن الإنجاز[15].
د – الخلاف حول ميزانية مجلس صيانة الدستور:
عكس هذا الخلاف واقع الصراع الذي تعيشه إيران على محور المجالس التشريعية؛ وهو الواقع الذي يتدنى بأهمية وقيمة مجلس الشورى (ذي الغالبية الإصلاحية) في الحياة السياسية في مقابل صلاحيات مجلسى صيانة الدستور وتشخيص مصلحة النظام اللذين يسيطر عليهما التيار المحافظ.
وقد بدأت هذه القضية عندما أدرج مجلس صيانة الدستور في ميزانيته المقترحة لعام 2003 – 2004 زيادة قدرها 16 مليار تومان للإنفاق منها على مكاتب المجلس المنتشرة في أنحاء البلاد، والمكلفة بالإشراف على الانتخابات التشريعية التي أجريت في فبراير من العام الحالي (2004)؛ مما أثار حساسية خاصة لدى أعضاء مجلس الشورى الإسلامي من التيار الإصلاحي؛ لأن زيادة ميزانية مكاتب مجلس صيانة الدستور تمنحها القدرة على زيادة طاقتها وفعاليتها في إيجاد الذرائع التي تسمح للمجلس برفض من يريد من المرشحين.
ومع مناقشة هذه الميزانية في مجلس الشورى الإسلامي، ونظرًا للأغلبية الإصلاحية في المجلس؛ فقد رفضت الزيادة المقترحة. ولما رفعت الميزانية العامة للدولة إلى مجلس صيانة الدستور لإقرارها ووجدها لم تتضمن الزيادة التي طالب بها؛ أعادها إلى مجلس الشورى الإسلامي لإصلاحها[16].
لكن مجلس الشورى الإسلامي رفض مطالب مجلس صيانة الدستور؛ مما أدى إلى تدخل رئيس الجمهورية للتوسط بين المجلسين التشريعيين، واقترح تعديل الميزانية بزيادة 6 مليارات تومان، وقد وافق أعضاء المجلس على هذه الزيادة بشرط أن تكون من احتياطي الميزانية لاعتبارات الإنفاق على عملية الإشراف على انتخابات هذا العام، دون أن تدرج في ميزانية المجلس؛ حتى لا تصبح حقًا مكتسبًا له في الميزانيات القادمة، ولكن مجلس صيانة الدستور رفض هذا الشرط وأصر على تدوين الزيادة في المخصصات المالية للمجلس من الموازنة. وإزاء هذا الخلاف رفع مجلس الشورى الإسلامي الأمر لمجمع تشخيص مصلحة النظام للفصل بينه وبين مجلس الرقابة؛ فقام مجمع تشخيص المصلحة بعقد اجتماع لبحث هذا الخلاف دعا إليه الأطراف المتخاصمة، لكن المناقشات سارت في غير الاتجاه الذي يرضى الإصلاحيين؛ مما دفع مهدي كروبي (رئيس مجلس الشورى الإسلامي وهو أحد زعماء الإصلاحيين) إلى الانسحاب من الجلسة وتبعه محمد خاتمي (رئيس الجمهورية) وكان من الطبيعى أن يقوم آية الله هاشمي رفسنجاني (رئيس مجمع تشخيص المصلحة ورئيس الجلسة) برفع الجلسة لتدارك الأمر، إلا أنه لم يفعل ذلك وقرر استمرار المناقشة للتوصل إلى قرار حول هذا الخلاف، وقد تم ذلك بالموافقة على إدراج مبلغ 6 مليارات تومان زيادة في ميزانية مجلس الرقابة[17].
ورغم أن المجمع يكون بذلك قد خفض مطالب مجلس صيانة الدستور حتى أصبحت ميزانيته 100 مليار تومان (حوالى 12 مليون دولار)؛ إلا أن قراره قد لقي اعتراضًا كبيرًا من جانب الإصلاحيين، وعقد تكتل جبهة الثاني من خرداد اجتماعًا برئاسة على شكورى راد وضم 140 عضوًا من قيادات التكتل، وتقرر بالإجماع رفض قرار مجمع تشخيص مصلحة النظام، وكذلك طالب 150 عضوًا بمجلس الشورى بإلغاء القرار في رسالة مفتوحة موجهة إلى رئيس المجمع؛ لأن هذا القرار يعتبر تدخلًا في التشريع وهو حق من حقوق المجلس.
هـ – الانتخابات البرلمانية:
جاءت المواجهة الأكبر بين التيارين ممثلة في أزمة انتخابات مجلس الشورى السابع (التي أجريت يوم 20 فبراير/ شباط 2004) ودفعت -من حدتها- البعض إلى القول بأن درجة الاحتقان في النظام السياسي الإيراني وصلت إلى مرحلة حاسمة يمكن أن تدفع إلى حدوث انفجار اجتماعي وسياسي إذا لم يتحرك النظام لإنقاذ نفسه وإقرار تغييرات دستورية وهيكلية بات وجودها حتميًا لإنقاذه من الانهيار.
تفجرت أزمة انتخابات مجلس الشورى السابع بسبب القرار الذي اتخذه مجلس صيانة الدستور برفض ترشيحات 3600 مرشح، أغلبهم من الإصلاحيين، منهم حوالى 82 عضوًا في مجلس الشورى (المجلس السادس)؛ أي ممن سبق حصولهم على جواز خوضهم العملية الانتخابية.
كانت ردود الفعل عنيفة، وهدد فيها الرئيس بالاستقالة مرة، وبتأجيل الانتخابات مرة أخرى، واعتصم فيها النواب داخل مجلس الشورى، وهدد فيها وزراء بالاستقالة. لكن اللافت للنظر هنا هو موقف المرشد الأعلى للجمهورية السيد علي خامنئي الذي اتخذ موقفًا سلبيًا من الأزمة في بدايتها ملتزمًا الحياد وعدم التدخل، لكنه وأمام عنف احتجاجات النواب واعتصامهم في المجلس ودخول الصحافة الإصلاحية طرفًا في المواجهة؛ خاطب مجلس صيانة الدستور بمراجعة الملفات مرة أخرى. لكن المجلس لم يغير موقفه كثيرًا؛ مما دفع بالنواب إلى التصعيد وإلى عودة الرئيس خاتمي ومعه مهدي كروبي رئيس مجلس الشورى إلى المطالبة بتأجيل الانتخابات. وهنا تدخل المرشد بشكل حاسم وقاطع رافضًا التأجيل ولو ليوم واحد؛ مما اضطر الرئيس خاتمي ومهدي كروبي إلى التراجع عن التأجيل؛ وهو التراجع الذي دفعا ثمنه فادحًا فيما بعد باستئثار المحافظين بثلثي مقاعد المجلس الجديد، وسقوط كروبي نفسه في الانتخابات؛ ففي رسالة وجهها السيد خامنئي إلى الرئيس خاتمي ومهدي كروبي (بتاريخ 8 فبراير/ شباط 2004) قال: “إن بلادنا تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى الوحدة والوفاق بين المسئولين”. وأضاف: “إن الانتخابات تكتسب أهمية حيوية لمصالح أمتنا وبلادنا، ويجب أن تجرى في أجواء سليمة ودينامية وحماسية”، وقال في رسالته التي جاءت ردًا على رسالة بعث بها إليه خاتمي وكروبي (يوم الجمعة 6 فبراير/ شباط 2004): “هذا أحد واجبات المسئولين حيال الأمة الورعة ونضال الشهداء، ويجب تجاوز المآخذ المتبادلة بين بعض الهيئات، وتحقيق هذا الواجب المهم يدًا بيد”[18].
كان واضحًا أن تدخل المرشد جاء لصالح المحافظين؛ الأمر الذي استفز العناصر المتشددة في الإصلاحيين داخل مجلس الشورى، ودفعهم -في جلسة نادرة من جلسات المجلس عقب إعلان فوز المحافظين- لتفجير موقف درامي غير مسبوق (شديد المعاني والإيحاءات) عندما وقف النائب الإصلاحي البارز علي أكبر موسوي خوئيني ها (وهو واحد من عشرات النواب الذين منعهم مجلس صيانة الدستور من تجديد ترشيحهم لانتخابات المجلس السابع)؛ ليفجر الصراع على أشده مع المحافظين، وليطرح علامات استفهام كبيرة حول مستقبل العلاقة بين التيارين (الإصلاحيين والمحافظين) من الآن وحتى مايو/ آيار 2005 (موعد إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية وانتهاء الولاية الثانية والأخيرة للرئيس محمد خاتمي) وليطرح علامات استفهام أخرى حول مستقبل المشروع الإصلاحي ومعه مستقبل الجمهورية الإسلامية؛ فقد طلب خوئيني ها من “مجلس الخبراء” (وهو الهيئة المخولة باختيار المرشد وتقييم أدائه) بأن يشكل لجنة لمراجعة أداء المرشد السيد علي خامنئي ومراقبة نشاطاته. وطالب كذلك بالتحقيق فيما إذا كان خامنئي قد تصرف بشكل سليم في شأن الخلافات حول الانتخابات البرلمانية الأخيرة؛ في إشارة إلى مساندته قرار مجلس صيانة الدستور بمنع آلاف المرشحين الإصلاحيين من خوض الانتخابات. لم يكد يكمل على أكبر موسوى خوئينيها كلامه حتى اندفع نحوه نواب محافظون وانتزعوا منـه مكبـر الصـوت، وانفجـرت معركة من الصفعات والركلات والشتائم؛ لتؤكد أن ما هو قادم خطير[19].
هذه المواجهة الساخنة بين التيارين كانت لها مقدمات قوية قبيل إجراء الانتخابات مباشرة عندما قامت صحيفتا شرق (الشرق)، وياسى نو (الياسمين الجديد) يوم الأربعاء 11 فبراير/شباط 2004 بنشر رسالة موجهة إلى المرشد من النواب الإصلاحيين الذين قدموا استقالاتهم من مجلس الشورى (البرلمان) احتجاجًا على قرار مجلس صيانة الدستور بمنع ترشيح أعداد كبيرة من المرشحين الإصلاحيين، تحدثوا فيها عن دور معين للمرشد في رفض الترشيحات.
كتب النواب في هذه الرسالة التي تشكل سابقة: “إن السؤال يكمن في معرفة كيف كان لدى أعضاء مجلس صيانة الدستور القدرة على مخالفة أوامركم؟ أو إذا كانوا حصلوا بطريقة أو بأخرى كما تقول الشائعات خلافًا لبعض التصريحات العلنية على إذن من جانبكم للإصرار على المضي في رفض أعداد كبيرة من الترشيحات بصورة غير قانونية”. وفور نشر هذه الرسالة تم إغلاق الصحيفتين. وقد أسفرت الانتخابات عن فوز ساحق للمحافظين، في مقابل انكسار واضح للإصلاحيين، بعد أن حصد المحافظون نحو ثلثي مقاعد البرلمان.
وعلى الرغم من أن هذه النتيجة، بدت في تصور البعض حتمية بعد إقصاء عدد كبير جدًا من المرشحين الإصلاحيين -كان من بينهم حوالي سبعين مرشحًا أعضاء في مجلس الشورى السادس- ومقاطعة بعض التنظيمات الإصلاحية للعملية الانتخابية؛ إلا أن هزيمة الإصلاحيين لم تكن فقط بسبب هذا العامل؛ فقد كانوا موجودين بقوة في العملية الانتخابية، ودخلوا الانتخابات بقائمة موحدة، وكانت لهم دعاياتهم المكثفة للحصول على دعم الناخبين لهم، ومن قاطع العملية الانتخابية كان أيضًا في قلب المعركة -ولكن على طريقته الخاصة- بالدعوة لمقاطعة الانتخابات.
وقد فشل الإصلاحيون في تحقيق أي من الهدفين؛ فقد حصلوا على ما يوازي ثلث مقاعد مجلس الشورى فقط، ولم يستطيعوا أن يوقفوا زحف الناخبين لصناديق الاقتراع، فسجل معدل المشاركة ما يوازي أكثر من 50 بالمائة من جملة من لهم حق الاقتراع، وصحيح أن هذه النسبة أقل من الانتخابات السابقة -سواء البرلمانية أو الرئاسية التي جرت منذ عام 1997- ولكنها نسبة ليست قليلة إذا ما قورنت بالمعدلات العالمية للمشاركة في الانتخابات، وتصبح هذه النسبة كبيرة إذا ما أخذ بعين الاعتبار طبيعة الأجواء التي جرت خلالها العملية الانتخابية، وبخاصة حالة الإحباط التي سيطرت على الناخبين بعد فشل الإصلاحيين في إنجاز الحد الأدنى من وعودهم التي انتخبوا على أساسها[20].
وفي الواقع؛ فإن هزيمة الإصلاحيين تعود إلى عدة أخطاء جوهرية في ممارساتهم السياسية منذ سيطرتهم على البرلمان؛ فمن ناحية، لم يستطع الإصلاحيون أن يبلوروا مشروعهم الداعي إلى الإصلاح بشكل واضح؛ حيث ظل هذا المشروع براقًا من الناحية النظرية، ولكنه لم يترجم في شكل أولويات واضحة، كما فشلوا أيضًا في تكوين جبهة قوية بعيدة عن التيارات الانتهازية التي اندست في صفوفهم، وأدخلتهم في صراع صوِّروا فيه على أنهم خارجين على جوهر النظام الإسلامي، بالرغم من أن هذه التيارات ليست ذات ثقل معتبر في التكتل الإصلاحي. ومن ناحية ثانية؛ فقد انصبت جهودهم على قضايا غيـر ذات صلة مبـاشرة بالهمـوم الحياتية للمواطن الإيراني؛ ممـا أبعدهم عن أجندة هموم الشارع الذي انتخبهم أكثر من مرة.
والمشكلة الأكبر كانت في العقلية المراهقة التي سيطرت على التفكير السياسي للإصلاحيين؛ فقد عمدوا إلى إثـارة قضايـا كبـرى مثـل تحـديـد صلاحيات رئيس الجمهوريـة؛ مما يعني تقزيم صلاحيات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية نفسه، وإعادة هيكلة دور مجلس صيانة الدستور، وكلها قضايا كان من المتوقع أنهم سوف يفشلوا في إنجاز مآربهم من طرحها، وقد كان من المنطقي أن يركزوا في البداية على القضايا الحياتية للمواطن لتثبيت وجودهم، ثم ينطلقوا لاحقًا لفتح ملفات حرجة من هذا القبيل؛ بحيث يضمنوا التأييد الشعبي في معاركهم في هذه القضايا بالغة الحساسية.
هـذه الأخطـاء كانـت وراء تراجع نفوذ الإصلاحيين في الشارع السياسي، على نحو ما أوضحته الانتخابات البلدية الأخيرة التي أجريت قبل نحو عام تقريبًا من موعد إجراء الانتخابات البرلمانية، ومنى فيها الإصلاحيون بهزيمة منكرة.
وفي الواقع، فإنه يمكن القول إن المعركة الانتخابية لو كانت شهدت مشاركة طبيعية من الإصلاحيين؛ فإنها لم تكن لتحقق لهم ما حققوه من انتصارات سابقة، ليس فقط استنادًا إلى مؤشر نتائج الانتخابات البلدية -كونها تمثل تحقيقًا جزئيًا- ولكن استنادًا إلى هذه المجموعة الكبيرة من الأخطاء التي وقعوا فيها، والتي خلقت حالة واضحة من الانفصال بينهم وبين المجتمع. وللتدليل على حدوث مثل هذا الانفصال بالفعل نشير إلى أن الشارع لم يتحرك إطلاقًا لدعم الإصلاحيين بعد أن رفض مجلس صيانة الدستور ترشيح المئات منهم.
وفي الوقت الذي كان فيه الإصلاحيون يخوضون معارك بعيدة عن أجندة أولويات المواطنين؛ فقد استفاد المحافظون كثيرًا مما طرح من أفكار حول الإصلاح؛ فغذت أوساطهم طروحات جديدة أكدت على ضرورة الانفتاح السياسي. وقد خاضوا انتخابات التجديد لخاتمي عام 2001 ببرامج أكثر تطورًا، وكان هذا ما حدث في الانتخابات البلدية وتجلى بشكل أكبر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي كانت برامج المحافظين فيها أكثر انفتاحًا وركزت بشكل كبير على القضايا ذات الأولوية بالنسبة للمواطن؛ والذي يهمه في المقام الأول توفير مستوى معيشي أعلى له. وفي السياق نفسه فقد شهدت قوائم المرشحين المحافظين عملية تجديد كبيرة، وتم اختيار المرشحين أصحاب الكفاءات الذين يمتلكون القدرة على إقناع الناس بهم.
وبهذه النتائج التي أسفرت عنها العملية الانتخابية؛ يصبح البرلمان خاضعًا لسيطرة المحافظين، ويعود مرة أخرى إلى حوزتهم بعد خسارتهم في انتخابات العام 2000؛ ليكملوا سيطرتهم على كافة مفاتيح النظام السياسي باستثناء منصب رئاسة الجمهورية الذي سوف تجرى انتخاباته في منتصف العام القادم.
وعلى الرغم من أن سيطرة المحافظين على البرلمان لا تعني حدوث تغيير في معادلة القوة في النظام السياسي بفعل سيطرتهم على المؤسسات الأهم التي تقبض على هذا النظام، وفي مقدمتها منصب الولي الفقيه ومجلس صيانة الدستور؛ إلا أن هذه السيطرة ذات دلالات عدة هامة. فقد كانت سيطرة المحافظين على المؤسسات المعينة التي تتحكم بمقادير النظام السياسي -وفي الوقت نفسه سيطرة الإصلاحيين على البرلمان- تعني أن المحافظين يحكمون ويسيطرون بدون سند شعبى، وكان ذلك يخلق مفارقة مثيرة. أما الآن فقد اختلفت الأمور بعد أن أصبحوا يسيطرون على مؤسسة البرلمان المنتخبة من قبل الشعب. وهذا الوضع الجديد في حقيقة الأمر سوف يعني انسجامًا أكثر في أداء مؤسسات النظام السياسي، وسوف ينهي الصراع بين مجلس صيانة الدستور ومجلس الشورى، قبل أن يجعل المحافظين مشدودين بشكل أكبر لجهة تحقيق مصالح الجماهير التي أتت بهم مرة أخرى إلى زعامة البرلمان، ولضمان استمرار كسب التأييد الشعبي لهم في المستقبل.
وعلى أي الأحوال، فإن السؤال الأهم الآن يدور حول مستقبل عملية الإصلاح وآفاق النظام الإسلامي برمته. وإذا كان البعض يرى أن المشروع الإصلاحي قد انتهى عند هذه المحطة من عمر تطور النظام الإسلامي فإن ذلك ليس صحيحًا؛ فما طرحه الإصلاحيون من أفكار للتطوير سوف يمثل تحديًا أمام المحافظين لجهة مواصلة عملية الانفتاح، وهم قد بدأوا في ولوج هذا الطريق بالفعل، ولن يكون في إمكانهم العدول عنه.

2- أزمة العلاقات مع الولايات المتحدة حول الملف النووي:

شهد عام 2003 تصعيدًا للخلافات بين الولايات المتحدة وإيران حول عدد من الملفات أبرزها الملف النووي وأسلحة الدمار الشامل، وملف دعم وإيواء “الإرهاب”. وجاء هذا التصعيد متزامنًا مع تعهد الأمريكيين بتسخين الأجواء مع العراق تمهيدًا لغزوه واحتلاله؛ بما يوحي بأن هذا التسخين كان محاولة أمريكية لردع الإيرانيين وفرض موقف الحياد -إن لم يكن المساعدة- من عملية الغزو الأمريكي/ البريطاني للعراق. وهو الردع الذي يمكن القول إنه تحقق بدرجة كبيرة باضطرار إيران إلى انتهاج سياسة “درء المخاطر”، وتجنب أي صدام مع الولايات المتحدة في العراق.
كانت الولايات المتحدة حريصة على تسخين ملف التسلح النووي الإيراني ونقله من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس الأمن؛ كي يتسنى لها استصدار قرارات شبيهة بالقرارات سيئة السمعة التي صدرت ضد العراق قبيل الغزو؛ لذلك استبقت موعد تسليم الدكتور محمد البرادعي (المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية) تقريره الخاص بإيران، وأوردت تقريرًا (أصدرته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية) يؤكد أن إيران تسعى بنشاط إلى امتلاك أسلحة نووية وكيميائية وبيولوجية، وأن إيران أرادت الحصول على تكنولوجيا تساعد على إنتاج مواد قابلة للانشطار ضمن برنامجها للأسلحة النووية. وأضاف التقرير وأن صورًا للأقمار الصناعية أظهرت أن إيران تخفي منشأة لتخصيب اليورانيوم بواسطة الطرد المركزي تحت الأرض في مدينة “ناتانز”، التي تبعد 160 كيلو مترًا جنوب طهران، وأن إيران تسعى أيضًا إلى الحصول على وقود نووي من اليورانيوم والبلوتونيوم، وأنها سعت إلى امتلاك مفاعل لأبحاث الماء الثقيل يمكن أن ينتج بلوتونيوم لأسلحة نووية.
وجاء هذا التصعيد الأمريكي مع إيران بشأن الملف النووي ضمن جملة مطالب أمريكية أخرى من طهران عززها النجاح الأمريكي في احتلال العراق؛ منها مطالب بتسليم عناصر تنظيم القاعدة الموجودين على أراضيها، والتوقف عن دعم حزب الله وحركتي حماس والجهاد في فلسطين، إضافة إلى مطالب أخرى غير معلنة تخص إيران، وبالتحديد ما هو مطلوب وما هو محظور بالنسبة لإيران في العراق[21].
بهذا المعنى يمكن القول إن التصعيد الأمريكي بالملف النووي الإيراني كان أداة من أدوات الضغط الأمريكية على إيران في حزمة من القضايا التي ارتبطت بالتدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، كما أنه (أي هذا الملف) كان في حد ذاته موضوعًا للصراع بين الولايات المتحدة وإسرائيل في جانب وإيران في جانب آخر، في ظل تصعيد إسرائيل لما يمثله خطر التسلح الإيراني على المصالح والأهداف الإسرائيلية، وبالذات صاروخ شهاب (3) القادر على الوصول إلى إسرائيل، وربما شهاب (4) الذي يتجاوزها.
ورغم أن قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية (الصادر في 27 فبراير/ شباط 2003) اكتفى بإدانة إيران دون تصعيد الأمر بنقل الملف إلى مجلس الأمن -كما تريد واشنطن- فإن الضغوط الأمريكية لم تتوقف؛ مما اضطر إيران إلى القبول بالتوقيع على بروتوكول إضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية يتيح لها حق التفتيش المفاجئ على أي من المنشآت النووية الإيرانية في أي وقت تشاء دون موعد مسبق[22].
ورغم هذا التوقيع لم تتراجع الأزمة، وظلت ورقة أمريكية ضاغطة باستمرار على إيران لتكبيل قرار السياسة الخارجية الإيرانية تجاه قضايا تراها الولايات المتحدة مهمة للمصالح الأمريكية والإسرائيلية. ولذلك تفجرت أزمة رفض إيران لمجئ المفتشين الدوليين وإرجاء موعد زيارتهم، ثم اضطرارها للقبول بهم بعد أن وصلت الأزمة مع الوكالة الدولية -بضغط أمريكي- إلى “حافة الهاوية” التي تريدها واشنطن لنقل الملف برمته إلى مجلس الأمن؛ مما اضطر إيران إلى القبول بإعلان توقفها عن تطوير معدات نووية ابتداءً من موعد التاسع من أبريل/ نيسان 2004.
وقد أعلن ذلك غلام رضا أغا زادة رئيس مؤسسة الطاقة الذرية الإيرانية في مؤتمر صحفي مع الدكتور محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية (7/4/2004)، وصرح البرادعي في هذا المؤتمر بأن إيران التزمت بأن تبذل قصارى جهدها للإسراع بعملية “حل القضايا القائمة”، وأن الجانبين اتفقًا على ضرورة تسريع التعاون.

3- العلاقات الإيرانية –العراقية وتطورات الصراع في الخليج:

لعبت العلاقات الإيرانية/ العراقية -وهي في الأغلب علاقات صراعية- دورًا مهمًا في تحديد التوجهات الإيرانية نحو الأزمة العراقية، وأيضًا لعبت أنماط التفاعلات الخليجية/ الخليجية -بعد حرب الخليج الثانية، وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة فاعلًا رئيسيًا في النظام الإقليمي الخليجي- دورًا لا يقل أهمية في تحديد التوجهات الإيرانية نحو تلك الأزمة. فقد أبدت الولايات المتحدة (التي كانت قد كثفت من وجودها العسكري المباشر في الخليج ابتداءً من منتصف عام 1987، بدعوة كويتية، وتحت غطاء حماية ناقلات النفط أثناء الحرب العراقية/ الإيرانية) اهتمامًا كبيرًا بمقاومة القوى الإقليمية التي يمكن أن تهدد المصالح الأمريكية، بعد أن كان التركيز في السابق على مواجهة الخطر الناجم عن التهديدات السوفيتية. وكان إقليم الخليج من أبرز الأقاليم في العالم التي حظيت بهذا التوجه الاستراتيجي الأمريكي، وكان العراق ومن بعده إيران هما محور الاهتمام في هذا التوجه.
ففي مطلع عام 1990 طلب ديك تشيني (وزير الدفاع الأمريكي حينذاك) من هيئة الدفاع الأمريكية التوقف عن التخطيط لمقاومة غزو سوفيتي لإيران باتجاه حقول النفط في الخليج؛ حيث “لم يعد ينطوي الآن على مصداقية”، ويجب أن يتم التركيز على “ضمان إمدادات النفط التي قد تتعرض للتهديدات من قوى إقليمية في المنطقة يدعمها الاتحاد السوفيتي”؛ لذا يجب التركيز على “الدفاع عن شبه الجزيرة العربية. فهناك لاعبون إقليميون لديهم إمكانيات كثيرة كالعراق وإيران”[23].
كان هذا التوجه الاستراتيجي الأمريكي الجديد يعني أن واشنطن قد تخلت عن سياسة “توازن القوى” التي التزمت بها طيلة عقدى السبعينيات (بدعم إيران في مواجهة العراق)، والثمانينيات (بدعم العراق في مواجهة إيران)، وأنها أمام طموحات الهيمنة الإقليمية العراقية والإيرانية في الخليج باتت معنية بمواجهة القوتين معًا، بعد أن استنفدت القوة العراقية أغراضها في تعطيل المشروع الأيديولوجي والسياسي للثورة الإيرانية، تمامًا كما استنفدت إيران الشاه أغراضها في إعطاب المشروع القومي الراديكالي للعراق.
وقد أخذ هذا التوجه الاستراتيجي الأمريكي الجديد ثلاثة أبعاد هي:
الأول- العمل على عدم تمكين أي من القوتين الإقليميتين (العراق وإيران) من امتلاك القدرة على تهديد المصالح الأمريكية في الخليج، أو تهديد أمن واستقرار الدول الخليجية الصديقة.
الثانى- الاستعداد للتدخل العسكري في الخليج واللجوء إلى خيار استخدام القوة، بدعوة أو بدون دعوة من أي من دول الخليج.
الثالث- فك “التحالف” الذي فرضته أخطار التهديد الإيراني والحرب العراقية/ الإيرانية بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي. أو على الأقل، تجريد هذا التحالف من عمقه الدولي، الذي هو في الأساس عمق أمريكي/ أوروبى.
وهناك ما يؤكد أن الولايات المتحدة بدأت منذ عام 1988 (مع انتهاء الحرب العراقية/ الإيرانية) مشروع هدم لعلاقات العراق مع دول مجلس التعاون الخليجي معتمدة على آليات معلنة وأخرى خفية[24].
وقد جاء الغزو العراقي للكويت (في 2 أغسطس 1990) ليخلق المواجهة المنتظرة والحتمية بين القوتين العالمية والإقليمية الطامحتين للهيمنة في الخليج. ولعل هذا ما يفسر الحرص الأمريكي الشديد على إفشال الخيار السياسي للأزمة، وفرض الحل العسكري كحل أوحد كانت تأمله الولايات المتحدة لفرض مرحلة جديدة ليس فقط بالنسبة للعلاقات الأمريكية/ الخليجية، ولكن أيضًا بالنسبة للعلاقات الخليجية/ الخليجية والعلاقات الإيرانية/ الأمريكية.
لقد فرضت حرب الخليج الثانية تداعيات كثيرة كان من أبرزها فرض الولايات المتحدة كطرف رئيسي ومباشر في النظام الإقليمي الخليجي؛ في واحدة من أهم التطورات بالنسبة للنظم الإقليمية؛ وذلك بوضع نهاية للفهم الجغرافي التقليدي للنظم الإقليمية؛ وإعلاء شأن حجم ومستوى التفاعلات كأساس لعضوية النظم الإقليمية.
وبدخول الولايات المتحدة النظام الإقليمي الخليجي خاصة عقب توقيع اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي الثنائية بين كل من دول مجلس التعاون والولايات المتحدة وتوارى مثلث علاقات الهيمنة التقليدي[25]، فرض مستطيل التوتر نفسه على الإقليم ليصبح هيكل التفاعلات قائمًا على أساس أربع قوى هي: إيران والعراق ومجلس التعاون والولايات المتحدة، وليزداد عمق الصراع في الإقليم ليشمل كل العلاقات البينية فيما عدا العلاقات بين مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة[26].
فالعلاقات ظلت صراعية أكثر منها تعاونية بين العراق وإيران، وأصبحت صراعية بين العراق ومجلس التعاون، والعراق والولايات المتحدة، واستمرت صراعية بين إيران ومجلس التعاون، خصوصًا في ظل السياسات التي وضعتها إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لفرض هيمنتها على الخليج، والقضاء على التهديدات التي تواجه مصالحها في المنطقة. من أهم هذه السياسات أربع هي:
الأولى- إعطاء أولوية لاستخدام القوة العسكرية والتدخل المباشر لمواجهة أي تهديد للنفوذ والمصالح الأمريكية في الخليج. وقد أكسبت خبرة استخدام القوة في حرب الخليج الثانية هذه السياسة قدرًا كبيرًا من المصداقية والفاعلية بالنسبة للولايات المتحدة، وتشمل هذه السياسة (حسب بيان استراتيجية الدفاع الأمريكية لعام 1995) ثلاثة محاور هي[27]:
– تحسين القدرات الدفاعية المحلية لكل من دول مجلس التعاون الخليجي الست كي تستطيع كل منها تحمل المسئولية الأساسية للدفاع عن أمنها.
– تشجيع تعزيز الدفاعات الإقليمية الجماعية بين دول المجلس لتمكينها من التعاون معًا خلال فترة التوتر الشديدة في المنطقة.
– تعزيز القدرات العسكرية للولايات المتحدة في الخليج. ويعتبر هذا المحور الأخير هو الركيزة الأساسية في هذه السياسة الأمريكية.
الثانية- الاحتواء المزدوج للعراق وإيران، والهدف المباشر لهذه السياسة يكمن في أن للولايات المتحدة مصلحة كبرى في منع ظهور أي قوة تحمل نزعة سيطرة إقليمية في أي بقعة من بقاع العالم، ولا سيما إذا كانت قوة قادرة على تهديد الاستقرار العالمي عبر استخدام القوة[28].
الثالثة- تدعيم وتقوية الاعتماد المتبادل بين الشقين الشرقي والغربي من إقليم الشرق الأوسط، أي بين إقليم الخليج والمشرق العربي باعتباره مركزًا لنظام الصراع العربي/ الإسرائيلي؛ وذلك بالربط بين نظام الأمن الإقليمي في الخليج، ومساعي إنجاح عملية التسوية السلمية للصراع العربي/ الإسرائيلي.
الربط الجديد بين أمن الخليج وعملية التسوية من منظور إدارة كلينتون طرحه مارتن أنديك، وقت أن كان مستشارًا لشئون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي، في خطاب شهير أمام مركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعرض فيه تفاصيل سياسة الاحتواء المزدوج للعراق وإيران، وربط فيه بوضوح بين الدعوة لإحكام الاحتواء على العراق وإيران، وبين نجاح عملية التسوية. ففي رأي الإدارة الأمريكية أن احتواء إيران والعراق في الخليج يعزز مساعى إحلال السلام في الشرق الأوسط، كما أن تعزيز مساعى السلام تلك تزيد من القدرات الأمريكية على احتواء إيران والعراق. كما أن إخفاق واشنطن في احتواء العراق وإيران في الخليج سيعوق قدرة واشنطن على إنجاح عملية التسوية التي تريدها للصراع العربي/ الإسرائيلي، وإخفاق عملية التسوية هذه يعوق بدوره قدرة واشنطن على احتواء العراق وإيران في الخليج[29]. من هنا اكتسب الربط بين العمليتين أهمية كبيرة في التخطيط الاستراتيجي الأمريكي.
الرابعة- القيام بجهود نشطة لكبح انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتعزيز تصور منطقة أكثر ديمقراطية وازدهارًا، ولقد حظي الشق الأول من هذه السياسة بكل الأولوية، في حين تم إرجاء الشق الثاني لأجل غير معلوم.
هذه السياسات الأمريكية الأربع تتمحور في توجه استراتيجي واحد، يمكن أن يأخذ صفة السياسة الأمريكية الجديدة في الخليج؛ وهي سياسة الاستفراد بالخليج عن طريق فرض الهيمنة الكاملة من خلال ثلاثة مسارات هي[30]:
أ – فرض الوجود العسكري والاقتصادي الأمريكي على إقليم الخليج، واحتواء القوتين الإقليميتين المناوئتين (إيران والعراق) كضرورة لاكتمال الهيمنة.
ب– استبعاد القوى الدولية المنافسة وخاصة فرنسا وروسيا والصين، وبدرجة أقل بريطانيا واليابان.
جـ– تقريب إسرائيل وتركيا لأداء دور مساند للدور الأمريكي في الخليج.
في ظل هذا الوجود العسكري الأمريكي المكثف والنفوذ المتصاعد ليس فقط في الخليج بل وفي إقليم الشرق الأوسط، وفي ظل الحصار المحكم على العراق وفرض مناطق حظر الطيران في شماله وجنوبه، والتوتر الأمريكي المستمر مع إيران؛ تداعت كل فرص القوتين الإقليميتين في الطموح إلى زعامة أو هيمنة إقليمية، وبدت أمامهما فرص تأسيس مرحلة جديدة من علاقات التعاون، أو على الأقل التنافس السلمى. لكن هذه المرحلة الجديدة بقدر ما كانت محكومة بالتحدي الأمريكي المشترك والذي يفرض على طهران وبغداد سياسة تفاهم وتقارب وتعايش؛ فإنه كان محكومًا أيضًا بمتغيرات إقليمية لا تقل أهمية، وهي تدفع في اتجاه التباعد؛ أبرزها: السياسة التي اتبعتها طهران إزاء حرب الخليج الثانية والتي كانت تستهدف مغازلة واشنطن واسترضاء السعودية والكويت ودول مجلس التعاون أكثر مما كانت تستهدف إبراز نوايا حسنة نحو العراق، وميراث الحرب العراقية/ الإيرانية الذي لم تسدده بغداد، والاستمرار في إيواء فصائل المعارضة في البلدين (إيواء إيران لفصائل معارضة عراقية في الأراضي الإيرانية، وإيواء العراق لمنظمة مجاهدى خلق أبرز فصائل المعارضة الإيرانية المسلحة داخل الأراضي العراقية)، وأخيرًا اعتبارات توازن القوى الإقليمى بين إيران والسعودية والعراق.

أ– المواقف الإيرانية من الغزو العراقي للكويت وحرب الخليج الثانية:

على الرغم من المبادرة العراقية المتمثلة في الرسالة التي بعث بها الرئيس صدام حسين للرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني (في 15/8/1990) والتي جدد فيها اعتراف العراق باتفاقية الجزائر بخصوص شط العرب وترسيم الحدود بين البلدين، واستعداد العراق لإرسال وفد إلى إيران لإعداد الاتفاقيات والاستعداد لتوقيعها، والإعلان عن بدء سحب القوات العراقية من الحدود الإيرانية (في 17/8/1990).
على الرغم من هذه المبادرة التي كانت تعني أيضًا انسحاب القوات العراقية من مساحة ألفي كيلو متر مربع كان العراق يحتلها بالفعل من الأراضي الإيرانية، وعلى الرغم من أن هذه المبادرة سجلت اعترافًا علنيًا ورسميًا بانتصار إيران في حرب الثماني سنوات؛ فإنها لم تؤثر في الموقف الإيراني على نحو ما كانت تأمل بغداد؛ إذ ظلت طهران حريصة على عدم تورطها في الحرب وتفجير خلافات مع الولايات المتحدة، وإعطاء أولوية لكسب ود السعودية والدول العربية الخليجية الأخرى، ولكن دون الدخول في عداء صريح مع العراق[31].
لقد لخصت المواقف الإيرانية من الغزو العراقي للكويت وتداعيات حرب الخليج الثانية هذه الاهتمامات؛ فقد اتخذت إيران موقفًا صارمًا وثابتًا في معارضة هذا الغزو، وطالبت بضرورة معاقبة المعتدى العراقي وإجباره على الانسحاب الكامل، كما عارضت أي تسوية للنزاع من شأنها تمكين العراق من الاحتفاظ بجزيرتي “وربة وبوبيان” الكويتيتين، أو حصول العراق على مكاسب إقليمية أخرى من شأنها تغيير الوضع الجيواستراتيجي في الخليج، ووصل الأمر إلى درجة التهديد بأنها سوف تقدم على احتلال أي أرض يحصل عليها العراق كفدية للخروج من الكويت.
وكان واضحًا أن جذور التنافس على الزعامة الإقليمية ما تزال متأصلة حتى ذلك الوقت لدى الإيرانيين. كما أعلنت إيران موقفًا متشددًا في البداية من الوجود العسكري الأجنبي في الخليج؛ لكنها عادت وقبلت به مع اشتداد الأزمة ضمن غطاء مفاده أن يكون مؤقتًا بانتهاء الأزمة، كما أكدت إيران أيضًا أنها ستبقى على الحياد في الحرب ضد العراق، ولم تفلح محاولات العراق بتوريط إيران في الحرب ضد الولايات المتحدة، وكانت أهم هذه المحاولات إرسال أعداد كبيرة من طائراته المقاتلة وطائرات النقل العسكري إلى إيران ابتداءً من 26 يناير 1991 لتفادي تدميرها من جانب قوات التحالف الدولي[32].
وبدلًا من أن تتورط إيران في الحرب إلى جانب العراق مع الولايات المتحدة؛ وقفت إلى جانب الانتفاضة الشيعية التي تفجرت في جنوب العراق ضد النظام الحاكم (في مارس 1991) واستمـرت إيران بعدها في احتضان فصائل المعارضة الشيعية العراقية[33].

ب– ميراث الحرب العراقية/ الإيرانية:

عندما أقدم العراق على اجتياح الكويت لم تكن مجمل الخلافات المثارة بين إيران والعراق من مخلفات حرب الثماني سنوات قد حسمت بعد. فقد انتهت مفاوضات جنيف (25/8 – 7/9/1988)، ثم مفاوضات نيويورك (1/10 – 5/10/1988)، ثم مفاوضات جنيف (31/10 – 11/11/1988) إلى لا شيء بخصوص القضايا الخلافية، التي عرضت للبحث في تلك المفاوضات، وبخاصة حرية الملاحة، وتطهير شط العرب من الألغام والسفن الغارقة فيه[34]. كما انتهي عام 1989 أيضًا دون تسوية شاملة للمشكلات الخاصة بتفسير وتنفيذ بنود القرار الدولى رقم 598. وفي مطلع عام 1990، تقدم الرئيس العراقي بمبادرة تهدف إلى تسوية شاملة للقضايا الخلافية، كما تقضى بعقد اجتماعات دورية لقيادة البلدين من أجل التوصل إلى فهم مشترك للقرار 598، لكن إيران وصفت هذه المبادرة بأنها “خدعة.. ودعاية للرئيس العراقي”[35].
ولم تسفر مبادرة تقدم بها الأمين العام للأمم المتحدة عن شيء جديد في تذويب الخلافات بين البلدين وتنفيذ القرار 598. لكن العلاقات تحسنت بعض الشيء في أعقاب تلقى الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني رسالة من الرئيس العراقي في مايو 1990 تضمنت مقترحاته السابقة ورغبته في لقاء الرئيس الإيراني في مكة المكرمة. وأبدت إيران اهتمامًا غير عادى بهذه المبادرة، ووصفها رفسنجانى بأنها “بادرة على حسن النية من جانب العراق”[36]، لكن الغزو العراقي للكويت أطاح بكل هذه النوايا الحسنة وجدد المواجهة والتوتر بين البلدين.

جـ– خريطة التحالفات الإقليمية:

كان واضحًا بعد انتهاء حرب الخليج الثانية أن إيران أمام مأزق الاختيار بين المملكة العربية السعودية ومعها باقي دول مجلس التعاون، وبين العراق. فالعراق كان يهمه بعد الحرب استعادة العلاقات مع السعودية ودول مجلس التعاون الأخرى، واستئناف علاقات التفاهم وحسن النوايا مع إيران. وإذا استبعدنا احتمال التقارب السعودي/ العراقي في ذلك الوقت؛ فإن الكرة باتت في ملعب إيران لتختار بين السعودية والعراق؛ نظرًا لاستحالة الجمع بينهما في ذلك الوقت.
في السنوات الأولى كان الأمر ميسرًا لإيران في ظل الوضع العدواني الصعب في الخليج ضد العراق. لكن بروز بعض التحول في مواقف دول عربية خليجية باتجاه العراق (خاصة قطر وسلطنة عمان والإمارات) ثم وضع واشنطن لكل من إيران والعراق معًا تحت لواء (احتواء) مزدوج واحد زاد من تعقيد الخيار الإيراني بين السعودية والعراق؛ فقد أدركت إيران أن هناك بعض ما يجمعها مع العراق مثل[37]:
1- وجود نظرة دولية وإقليمية لهما باعتبارهما دولتين خطيرتين؛ مما أدى إلى عزلتهما دوليًا.
2- عداؤهما للولايات المتحدة وعداء الولايات المتحدة لهما.
3- النفور من مجلس التعاون الخليجي باعتباره مؤسسة “استبعادية” لهما معًا.
4- كراهية دعاوى ومطامح القيادة السعودية، ومحاولتها استثمار الخطر العراقي من أجل الحصول على أسلحة أمريكية متطورة، والحصول على التزامات أمريكية بالدفاع عن آبار النفط السعودية، والسعي لاسترداد المكانة المفقودة، وامتلاك النفوذ الإقليمي ومنافسة القوة الإيرانية.
5- معارضتهما لعملية السلام الأمريكية للصراع العربي/ الإسرائيلي.
لكن إيران كانت تدرك في الوقت ذاته أن هناك مسائل تباعد بينها وبين العراق أبرزها[38]:
1- الاختلاف حول الدور الإقليمي لكل منهما.
2- الاختلاف على أنماط التحالف مع دول الخليج العربية الأخرى.
3- القضايا الخلافية الثنائية.
4- المشكلات التي ستترتب على عودة العراق إلى سوق النفط.
وكان واضحًا أن عدم الثقة بين إيران والعراق يفوق التخوفات الإيرانية من السعودية، ومن هنا كانت أولوية إيران بتحسين العلاقات مع السعودية والكويت ودول الخليج الأخرى، مع الوضع في الاعتبار الإبقاء على فرص معاودة التحسين التدريجي للعلاقات مع العراق، ولكن دون إضرار بالعلاقات المتنامية مع السعودية التي وصلت في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى تبادل الزيارات على أعلى المستويات القيادية، وتوقيع اتفاقية أمنية ثنائية مع السعودية، ثم توقيع اتفاقية أمنية وأخرى عسكرية مع الكويت.
وفق هذه المعادلات يمكن فهم محاولات التقارب الإيراني المترددة في التعامل مع العراق، لكن إقدام السعودية على فتح منافذ للحدود مع العراق، ومشاركتها في معرض بغداد الدولي أزاح الكثير من العوائق أمام إمكانية تطوير العلاقات الإيرانية مع العراق، ولكن هذا التطوير كان محكومًا بعاملين أولهما- مدى تأثير هذا التقارب الإيراني/ العراقي على فرص فتح حوار إيراني/ أمريكي لتحسين العلاقات، وثانيهما- عدم حل المشكلات الثنائية، وتجدد التوترات بسبب الأنشطة العدوانية لمنظمة مجاهدين خلق داخل الأراضي الإيرانية.
وقد قادت مجمل هذه التفاعلات إلى إحداث بعض التفكيك في معادلة “مستطيل التوتر”؛ لتفرض أولوية التفاعلات التعاونية بين أغلب الأطراف الخليجية بعد أن كانت هذه التفاعلات قاصرة فقط على العلاقات بين مجلس التعاون والولايات المتحدة؛ وذلك بسبب تنامى العداء الشعبي في دول مجلس التعاون ضد الولايات المتحدة، خصوصًا بعد انتفاضة الأقصى والدعم الأمريكي للسياسة العدوانية الإسرائيلية، وتصاعد التأييد الشعبي للعراق بسبب ضخامة الثمن الفادح الذي يدفعه تحت ضغوط الحصار والاعتداءات العسكرية الأمريكية/ البريطانية المتكررة. وامتدت هذه التوجهات إلى المستوى الرسمي نحو العراق، وشهدت العلاقات الإيرانية/ العراقية؛ بعض التطور الإيجابي في شكل زيارات متبادلة على مستوى الوزراء، وتزايد أعداد الإيرانيين الذين اجتازوا الحدود لزيارة الأماكن المقدسة للشيعة في العراق.
وكانت أبرز التطورات على صعيد العلاقات الإيرانية/ العراقية؛ اللقاء الذي تم في كراكاس عاصمة فنزويلا بين الرئيس الإيراني محمد خاتمي وطه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي (على هامش اجتماعات قمة دول منظمة الأوبك في أكتوبر عام 2000) وتلا هذا اللقاء زيارة وزير النقل العراقي أحمد مرتضى إلى طهران لبحث فتح المجال الجوي الإيراني أمام الملاحة من وإلى العراق، مقابل السماح بمرور الطائرات الإيرانية في الأجواء العراقية وهي في طريقها إلى دمشق، بدلًا من المرور في الأجواء التركية لتفادي عمليات التفتيش التي تمارسها السلطات التركية مع الطائرات الإيرانية المتجهة إلى دمشق، خشية أن تكون محملة بالأسلحة إلى حزب الله. لكن أعمال منظمة مجاهدي خلق داخل المدن الحدودية وفي العاصمة طهران؛ دفعت الحكومة الإيرانية إلى التراجع عن قرارها السابق.
وفي محاولة لتفادي هذه الانتكاسة في العلاقات أقدمت بغداد على إرسال مجموعة من الوفود الرسمية إلى طهران (في أواخر عام 2000) لتفعيل لجان للتطبيع كان قد اتفق على تأسيسها بعد القمة الإسلامية التي عقدت (عام 1997) في طهران. وفي المقابل أقدمت إيران على إرسال وزير خارجيتها إلى بغداد (في نوفمبر 2000)؛ حيث التقى بالرئيس العراقي، في تطور أقرب إلى تحدى الحظر الأمريكي المفروض على العراق؛ حيث جاءت زيارة كمال خرازي بطائرة إيرانية أقلعت من طهران مباشرة إلى بغداد.
كما أقدمت إيران على اتخاذ خطوات تطبيعية أخرى مع العراق؛ منها الإفراج عن معظم الأسرى العراقيين غير المسجلين لديها، وتنشيط حركة التجارة الإنسانية مع العراق عبر الحدود، ومارست ضغوطًا على المعارضة العراقية؛ حيث اقترحت إغلاق محطتين تليفزيونيتين تبثان من إيران والعراق ضد البلد الآخر؛ وهما تليفزيون “الانتفاضة” التابع للمعارضة الشيعية العراقية، وتليفزيون “المجاهد” الذي تدعمه بغداد والناطق بلسان منظمة مجاهدي خلق.
هذا التنامي في العلاقات كان يواجه بالتردد والانتكاس بين حين وآخر؛ بسبب تصاعد عمليات المعارضة الإيرانية من الأراضي العراقية، ورد القوات الإيرانية عليها، أو بسبب العجز المشترك عن إيجاد حلول للمشكلات العالقة من تركة الحرب العراقية/ الإيرانية، خاصة قضية التعويضات التي تطالب إيران بها، وتقدرها الأمم المتحدة بـ 116 مليار دولار، في حين تقدرها طهران بـ “تريليون دولار”، ومشكلات ترسيم الحدود، وملف الأسرى، وأخيرًا ملف منظمات المعارضة في البلدين.
وقد كان من الممكن أن تتغلب رغبة البلدين في تطوير العلاقات -بإغراء من تحسن العلاقات بين أغلب دول مجلس التعاون الخليجي والعراق- ولكن انفجارات 11 سبتمبر بالولايات المتحدة وتداعياتها -خاصة انطلاق الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، التي تجاوزت حدود الحرب ضد حركة طالبان وتنظيم “القاعدة” ووصلت إلى الخليج ضمن سباق أمريكي محموم لغزو العراق عسكريًا- وضعت حدًا للتقارب الإيراني/ العراقي، ولم تمهل دول النظام الخليجي فرصة للانفلات من قيود الهيمنة الأمريكية التي فرضت على المنطقة منذ حرب الخليج الثانية.

ثانيًا- إيران والغزو الأمريكي/البريطاني للعراق

أدركت إيران منذ تفجر الأزمة بين الولايات المتحدة والعراق حقيقة الأهداف الأمريكية، وبالذات الدعوة الأمريكية لإعادة رسم الخرائط السياسية في المنطقة، وتسوية الصراع العربي/ الإسرائيلي وفقًا للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، عبر حزمة من السياسات من بينها العزم على إجراء تغييرات سياسية تحت عنوان الإصلاح الديمقراطي، ومن بينها أيضًا تغيير أنظمة الحكم التي تعتبر مسئولة، من وجهة النظر الأمريكية عن “تفريخ الإرهاب” في المنطقة.
هذا المخطط أدركت إيران أنها جزء أساسي منه، وبسببه تم وضع إيران والعراق تحت ضغوط سياسة الاحتواء المزدوج وربط بينهما وبين كوريا الشمالية كدول ثلاث فيما أسمته واشنطن بـ “محور الشر”، وكان ذلك إشارة أمريكية لـ”وحدة المصير” العراقي/ الإيراني؛ وهو ما لم تقتنع به للأسف كثير من القوى السياسية الإيرانية خاصة في صفوف تيار الإصلاحيين المندفعين نحو فتح حوار إيراني مع الولايات المتحدة. ولكن الخطوة التي اتخذها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (يوم 30 يناير 2002) بإعلانه في “خطاب الاتحاد” السنوي أمام الكونجرس وضع إيران مع كل من العراق وكوريا الشمالية باعتبارهم يشكلون “محور الشر” في العالم؛ كانت بمثابة إصرار أمريكي على فرض “المصير الواحد” على كل من إيران والعراق.
وتحليل المواقف الإيرانية من الأزمة الأمريكية/ العراقية يكشف عن حرص إيراني شديد على رفض هذا المصير ومحاولة تجنبه بشتى الوسائل. ولعل هذا ما يفسر وجود تباين أو غموض في المواقف الإيرانية من هذه الأزمة؛ فقد عكست هذه المواقف مدى نجاح أو إخفاق إيران في التعامل مع الولايات المتحدة لإبعاد شبح المصير الواحد. ويمكن التمييز بين ثلاث مراحل مرت بها مواقف إيران من الأزمة.

(1) المرحلة الأولى:

تبدأ هذه المرحلة بإصدار مجلس الأمن القرار رقم 1441 (في 8 نوفمبر 2002) وهو القرار الذي يطالب العراق بالاستجابة الكاملة لمطالب نزع أسلحته والتعاون مع المفتشين الدوليين، وإلا تعرض لعواقب وخيمة. ومنذ صدور هذا القرار لم تترك الولايات المتحدة فرصة للاجتهادات حول نواياها الحقيقية؛ فقد استبقت أي تقارير يمكن أن يقدمها هانز بليكس رئيس المفتشين الدوليين عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، والدكتور محمد البرادعي رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبادرت بإرسال قواتها إلى الخليج وبالقرب من السواحل التركية، وأعلنت أنها عازمة على شن الحرب لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، سواء بقرار جديد من مجلس الأمن أو بدونه، كما تمادت في إضافة نوايا وأهداف أخرى تتعلق بإعادة رسم الخرائط وإجراء تغييرات تخدم المصالح الأمريكية.
أمام هذه الحقيقة لم يغفل الإيرانيون مدى المخاطر التي يمكن أن تهدد إيران إذا أقدمت واشنطن فعلًا على شن الحرب؛ سواء كانت أخطارًا مباشرة (مثل شن الحرب على إيران بعد العراق، أو السماح لإسرائيل بأداء هذه المهمة) أو كانت غير مباشرة (مثل خطر الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق على الأمن القومي الإيراني، وخطر شن عدوان أمريكي/ إسرائيلي على حزب الله وسوريا في مرحلة لاحقة من الحرب الأمريكية في المنطقة).
وبوحي من هذا الإدراك، اتخذت إيران أربعة مواقف أساسية لمواجهة هذه الأخطار: أولها- الرفض المطلق لنوايا الغزو الأمريكي للعراق، وثانيها- تجنب أي مواجهة أو خلافات سياسية مع العراق يمكن أن تفسر على أنها تأييد إيراني غير مباشر للحرب، وثالثها- الحرص على تنسيق المواقف مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى وبعض الدول العربية والإقليمية؛ في محاولة لخلق مصالح وروابط مشتركة مع هذه الدول يمكن أن تبعد شبح أي حرب أمريكية أخرى على إيران، ورابعها- الحرص على تجنب أي مواجهة مع الولايات المتحدة.
(أ) الرفض المطلق للحرب:
جاء هذا الموقف في أولوية المواقف الإيرانية؛ لأن منع الحرب سيعفى إيران من كثير من المخاطر. لكن هذا الرفض المطلق للحرب ضد العراق الذي أعلنه أكثر من مسئول إيراني (وخاصة الرئيس محمد خاتمي) تحول من موقف إلى سياسة هدفها منع الحرب، ومن هنا اكتسبت هذه السياسة اسم “الحياد الإيجابي”. فإيران ترفض الحرب من حيث المبدأ، وإذا وقعت لن تنحاز إلى أي من طرفيها، لكنها ستعمل على تجنيب المنطقة حدوثها، بأداء إيراني عمل في اتجاهين؛ الأول- التأكيد على إعطاء مجلس الأمن وحده سلطة إعلان الحرب على العراق لحرمان الولايات المتحدة من حق التفرد بإعلان الحرب، ومن ثم ضبط التوجه الأمريكي المتعجل لشن الحرب، والثانى- مطالبة العراق بالتجاوب الكامل مع كل مطالب المفتشين، وحرمان الولايات المتحدة من أي ذريعة لشن الحرب.
عبر عن هذه المعاني كمال خرَّازي وزير الخارجية الإيراني الذي أكد رفض بلاده أي إجراء عسكري تقوم به الولايات المتحدة ضد العراق. كما رفض خرَّازي وصف موقف بلاده بأنه “محايد” إزاء أي عمل من هذا النوع؛ حيث أكد أن: “طهران تدين مسبقًا أي هجوم على بغداد”، وذكر أن بلاده أعلنت معارضتها تنفيذ “عملية أمريكية أحادية الجانب” ضد العراق[39].
تصريحات خرَّازي هذه جاءت في أعقاب تصريحات مختلفة على لسان الأدميرال على شمخاني وزير الدفاع قال فيها إن: “إيران لن تواكب أو تغامر في أي مواجهة عسكرية بين العراق والولايات المتحدة”. وقد فسر هذا التصريح على أنه مجرد “حياد عسكري” فقط وليس حيادًا سياسيًا، ولكن في مسألة الحياد السياسي هذه أعلن محمد رضا آصفي (المتحدث بلسان الخارجية الإيرانية) أن: “إيران لن تبقى على الحياد في حال شن ضربة أمريكية على العراق” ونقلت عنه الإذاعة الإيرانية قوله: “إن مصالحنا القومية لا تسمح بالبقاء على الحياد في مواجهة هجوم أمريكي محتمل ضد العراق”، لكنه أضاف: “لن نكون أيضًا إلى جانب العراق” وقال: “نحن نعارض هجومًا عسكريًا على العراق، ولكننا لن نكون إلى جانب هذا البلد”[40].
هذا الإعلان بكل ما فيه من غموض دفع على شمخاني لتقديم تفسير لموقفه بخصوص مسألة الحياد التي تحدث عنها، ولخص ذلك بقوله إن موقف الجمهورية الإسلامية إزاء العراق في الظروف الراهنة هو: “لا للمواكبة، ولا للمغامرة”. وكان يعنى أنه إذا اندلعت الحرب فعليًا، فإن إيران “لن تواكب” أي تحرك عسكري أمريكي تشارك فيه المعارضة العراقية، وبالتالي فإنها لن تقدم أي تسهيلات أو قواعد لجماعات المعارضة العراقية المقيمة على الأراضي الإيرانية. وفهم من هذا القول أن إيران لن تسمح لقوات “بدر” (التي توجد على أراضيها، وتمثل الذراع المسلحة للمعارضة العراقية في إيران) بالقيام بأي دور في هذه الحرب. أما “لا للمغامرة”، فإنها تعني أن إيران –التي لن تواكب الحرب ضد العراق– لن تغامر بالتورط في الحرب إلى جانب العراق في مواجهة القوات الأمريكية.
(ب) تجنب أي مواجهة مع العراق:
حرص الإيرانيون -في تلك المرحلة- على تجنب أي خلافات أو مواجهات سياسية مع العراق حتى لا تؤول على أنها انحياز للموقف الأمريكي. وقد شاءت الأقدار أن يتزامن هذا الحرص مع أزمة تعمد الجانب العراقي أن يفجرها بصورة “مثيرة” للانتباه لمدى عنفها. -وفق ما جاء على لسان طه يسين رمضان نائب الرئيس العراقي يوم 31 أغسطس 2002 أمام وفد إعلامي أردني في بغداد- فقد وصف إيران بأنها: “كانت دومًا إلى جانب الصهاينة”، وأن “الأطماع الإيرانية في المنطقة لا تقل عن الأطماع الأمريكية والبريطانية”، ونفي وجود أي تحالف مع إيران[41].
هذه الانتقادات فسرت على أنها ربما تكون قد جاءت بدافع من وجود تشكك عراقى بوجود اتصالات سرية إيرانية/ أمريكية، وتفاهم على دور مستقبلي للشيعة في حكم العراق بعد صدام حسين، كما فسرت على أنها تعبير عن استياء بغداد من رفض الاستجابة للمطالب التي أشيع أن قصي صدام حسين (النجل الأصغر والأقوى للرئيس العراقي) قدمها لمضيفيه من الإيرانيين الذين التقوا به في زيارة سرية لإيران. كما أشيع أن هذه المطالب كانت تشمل رغبة العراق في شراء معدات عسكرية من إيران نقدًا أو بأسعار مضاعفة (وبالذات صواريخ إيرانية من طراز شهاب 1، 2، 3) كما شملت هذه المطالب رغبة بغداد في استرداد الطائرات العراقية العسكرية والمدنية التي هربتها بغداد إلى إيران قبيل شن قوات التحالف هجماتها على العراق في يناير 1991. هذه المطالب ذكر أنها عرضت على القيادة الإيرانية العليا، وجاء الرد سريعًا وحاسمًا برفض أي تعاون مع العراق في الجوانب العسكرية والأمنية، مع الاستعداد لتأمين احتياجات العراق الأساسية من المواد الغذائية والطبية، باعتبار أن الشعب العراقي سيستفيد منها[42].
الرد الإيراني ينسجم مع موقف “الحياد العسكري” الذي أعلنته طهران، والهجوم العراقي العنيف وعت إيران أنه يخدم مصالحها، ويؤكد موقفها الحيادى أمام الولايات المتحدة، والأهم من ذلك أنها كانت حريصة على احتواء الأزمة؛ فقد اكتفت باستدعاء القائم بالأعمال العراقي، وأبلغته احتجاجًا شديد اللهجة على تصريحات طه يسين رمضان، وصرح وزير الخارجية كمال خرَّازي أن: “على السلطات العراقية أن تكف عن مفاقمة مصير الشعب العراقي وتفادي إطلاق تصريحات معادية لإيران”. هذا الموقف المنضبط نجح في احتواء الأزمة وأعطى للعراق فرصة التراجع والتهدئة؛ حيث صرح طه ياسين رمضان بعد ذلك أمام محطة تليفزيون الجزيرة أن: “علاقات بغداد بطهران طبيعية”[43].
(جـ) التنسيق مع دول مجلس التعاون:
حرصت إيران على تنسيق مواقفها مع مواقف دول مجلس التعاون، وكان هذا الحرص متبادلًا، وتمثل ذلك في زيارة الرئيس الإيراني للسعودية ولقائه مع الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد، ثم زيارة ملك البحرين لطهران ثم زيارة وزير الخارجية السعودي لطهران هو الآخر. حيث كان التأكيد المشترك على مسألتين: الأولى- رفض أي عمل عسكري “منفرد” ضد العراق؛ بما يعني أنه لو صدر قرار من الأمم المتحدة يسمح بتوجيه هجوم عسكري ضد العراق، فإنه لن يلقى معارضة، والثانية- هي إعطاء أولوية الاهتمام للشعب العراقي؛ بما ينم عن وجود توافق حول موقف رافض للنظام العراقي.
(د) تجنب أي مواجهة مع الولايات المتحدة:
حرصت إيران في تلك المرحلة على تخفيف حدة الانتقادات الموجهة للولايات المتحدة، وأخذ التيار الإصلاحي زمام المبادرة للدعوة إلى ضرورة التقارب مع الولايات المتحدة، أو على الأقل إظهار حسن النوايا والتبرؤ من إيواء أو حماية ودعم الإرهاب.
ولدعم هذا التوجه قامت السلطات الإيرانية بتسليم المملكة العربية السعودية 16 فردًا من أعضاء تنظيم “القاعدة”، ممن يحملون الجنسية السعودية.
واضح من خلال هذه المواقف الأربعة في هذه المرحلة أن إيران كانت حريصة على إظهار جديتها في رفض الحرب، اعتقادًا بأن إعلان مواقف قوية وحاسمة من دول المنطقة يمكن أن يقنع الإدارة الأمريكية بالتراجع عن قرار الحرب. كما أنها في الوقت ذاته كانت حريصة على التهدئة مع كل الأطراف (العراق والولايات المتحدة)، وكسب ود الدول المجاورة في الخليج؛ لعل ذلك يفيد مستقبلًا في تطوير علاقات إقليمية تعاونية إذا تراجع شبح الحرب.

(2) المرحلة الثانية:

في هذه المرحلة كانت إيران حريصة على مهادنة الولايات المتحدة وإرسال إشارات تكشف عن الحرص على التقارب، بعد أن تأكدت أن الحرب واقعة لا محالة، وإن كانت ستؤجل بسبب الضغوط الأوروبية. ولذلك أعطت إيران الأولوية للتنسيق مع الولايات المتحدة بالقدر الذي يحمي المصالح الإيرانية ولا يضر السمعة والمكانة الإيرانية، وبالقدر الذي يحقق التوازن بين مطلب المصلحة الوطنية والاعتبارات الأيديولوجية الإسلامية.
الأهداف الإيرانية بهذا الخصوص كانت واضحة ومحددة؛ وهي: إبعاد فرص أو احتمالات وضعها على أجندة الحرب الأمريكية ضد “الإرهاب” بعد انتهاء الحرب ضد العراق، والحد من فرص الاحتكاك مع الولايات المتحدة، والتطلع لمجئ نظام حكم جديد في بغداد يحرص على نهج سياسة تعاون وصداقة مع طهران. بمعنى آخر كانت إيران تسعى إلى درء المخاطر بقدر سعيها إلى تعظيم المكاسب.
وقد عبرت إيران عن هذا التوجه عبر مجموعة من المواقف أبرزها:
أ- الإقدام على بعض الإصلاحات الداخلية ذات المغزى والعلاقة بالدعوة الإمريكية للتغيير والإصلاح الديمقراطي في دول منطقة الشرق الأوسط؛ مثل استقبال فريق دولي لحقوق الإنسان[44]، ورفع الإقامة الجبرية المفروضة على آية الله حسين منتظري أبرز زعماء المعارضة[45]، والإعلان عن ترحيل أكثر من 500 عضو بالقاعدة[46].
ب- زيارة كمال خرَّازى وزير الخارجية للعاصمة البريطانية من أجل الحصول على ضمانات من الحكومة البريطانية بعدم تعرض إيران لأي هجوم عسكري في نهاية الحملة الأمريكية/ البريطانية ضد العراق[47].
وقد تزامن مع هذه الزيارة تسريب مسئولين أمريكيين معلومات تفيد بلقاء تم في عاصمة أوروبية بين ممثلين للإدارة الأمريكية مع وفد إيراني (في شهر يناير 2003) بغرض الحصول على وعود إيرانية بتقديم مساعدات إنسانية، وعلى تأكيدات بأن إيران لن تتدخل في مجرى العمليات العسكرية إذا قررت الولايات المتحدة إعلان الحرب على العراق. وأفاد هؤلاء المسئولون أن الدبلوماسيين الأمريكيين كانوا مزودين بتعليمات دقيقة، وأنهم طلبوا من إيران المشاركة في عمليات البحث والإنقاذ للطيارين الأمريكيين الذين تسقط طائراتهم، كما طلبوا من الحكومة الإيرانية عدم إيواء المسئولين العراقيين الهاربين الذين قد يجتازون الحدود الإيرانية ويحاولون التجمع لمحاربة الحكومة العراقية الجديدة. وأضاف هؤلاء المسئولون أن الشخصيات الرسمية الأمريكية أبدت تطلعها ألا تقف إيران حجر عثرة في حالة إسقاط القوات الأمريكية نظام صدام حسين وتنصيبها حكومة جديدة موالية لواشنطن. وألمح هؤلاء المسئولون إلى أن إشارات مشجعة صدرت عن طهران بخصوص هذه المطالب رغم إصرار الحكومة الإيرانية على تأكيد موقفها المحايد وأنها تعارض الحرب[48].
وبغض النظر عن مدى مصداقية هذه المعلومات؛ فالأمر اللافت للانتباه ما جاء على لسان الناطق باسم الحكومة الإيرانية عبد الله رمضان زاده بأن إيران لن تسمح للرئيس العراقي أو المسئولين العراقيين بدخول أراضيها إذا قامت الحرب[49]؛ فمثل هذا التصريح يتوافق ويتزامن مع مطلب المسئولين الأمريكيين في لقائهم المذكور مع الوفد الإيراني في تلك العاصمة الأوروبية.
جـ- دعم إيران لمؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في لندن (ديسمبر 2002)، وتقربها من فصائل المعارضة بجميع اتجاهاتها، وبالذات المعارضة الشيعية والكردية، وخاصة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية برئاسة محمد باقر الحكيم. فهذا المجلس كان له دور قوي وفعال في مؤتمر لندن من خلال رئيس وفده بالمؤتمر عبد العزيز الحكيم، وكان لهذا الدور أثره البارز في إنجاح هذا المؤتمر؛ وهو النجاح الذي حرصت إيران على أن تؤكد أن لها نصيبًا كبيرًا فيه.
د – التجاوب الإيراني مع دعوة عبد الله جول رئيس الحكومة التركية لعقد المؤتمر الإقليمي في إسطنبول؛ وهو المؤتمر الذي خرج بتوجه محدد يركز على مطالبة العراق بالتجاوب مع المفتشين الدوليين دون ممارسة أي ضغط على الولايات المتحدة للتراجع عن استمرارها في الاستعدادات لغزو العراق، واعتبر بيان هذا المؤتمر بمثابة “إبراء ذمة” مشترك لحكومات الدول المشاركة، ومبررًا لشن العدوان الأمريكي[50].
هـ– استقبال قادة وزعماء المعارضة العراقية بحفاوة في إيران من جانب كبار المسئولين الإيرانيين؛ وهم في طريقهم إلى شمال العراق لحضور مؤتمر المعارضة في أربيل. ولم يكتف الإيرانيون بتكليف قوات حرس الثورة بتأمين انتقالهم من إيران إلى شمال العراق؛ بل عرضوا توفير الحماية لهم داخل الأراضي العراقية[51].
و- لم يكتف الإيرانيون بذلك؛ بل حرصوا أيضًا على عدم التورط في أي سياسة يمكن أن يفهم منها أن إيران تقف ضد ما تريده وتسعى إليه الولايات المتحدة مع العراق.
وجاء رفض استقبال ناجي صبري وزير الخارجية العراقي في طهران، ووضع شروط مستفزة للسماح له بالزيارة متوافقًا مع هذا التوجه الإيراني، وقد أدى هذا الرفض إلى خلق توتر في العلاقات مع سوريا، وكان سببًا في إلغاء زيارة كان الرئيس السوري بشار الأسد سيقوم بها إلى طهران. هذه الشروط التي وضعتها إيران جاءت على لسان محمد علي أبطحي مساعد الرئيس؛ وهي: دفع الغرامات المترتبة على حرب الثماني سنوات بين الجانبين، واعتذار الرئيس صدام حسين للشعب الإيراني أسوة باعتذاره للكويت، وإطلاق من تبقى من الأسرى الإيرانيين لدي العراق، والعودة إلى اتفاقية الجزائر لعام 1975 بين البلدين وتطبيقها بصورة تامة[52]. هذه الشروط تكشف حقيقة النوايا الإيرانية لاختلاق أسباب لإرجاء أو إلغاء زيارة وزير الخارجية العراقي؛ حتى لا تحسب على طهران، في وقت كان الهدف فيه هو كسب الود الأمريكي.

(3) المرحلة الثالثة:

هي مرحلة التراجع عن المهادنة وتصعيد التوتر مع واشنطن بعد أن كشفت إيران حقيقة النوايا الأمريكية إزاءها؛ وذلك بالتأكيد على اختيار حاكم عسكري أمريكي للعراق[53]؛ بما يعنى إفساد كل رهانات طهران على حكومة موالية لها في بغداد بعد إسقاط حكم صدام حسين، وبما يعنى وضع إيران في دائرة الخطر وتهديد الأمن القومي الإيراني من خلال الوجود العسكري الأمريكي داخل الأراضي العراقية.
سوء النوايا الأمريكية ظهر لطهران أيضًا من خلال مسعى ديك تشيني (نائب الرئيس الأمريكي) وأنصاره لتقليص دور إيران وسط المعارضة العراقية؛ وذلك بالحد من دور المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في “لجنة التنسيق والمتابعة” التي شكلها مؤتمر المعارضة في لندن للإشراف على تشكيل الحكومة العراقية الجديدة؛ فقد سعت واشنطن إلى توسيع عضوية هذه اللجنة من 65 عضوًا إلى مائة عضو[54].
بسبب هذه التطورات السلبية؛ اتجهت إيران إلى تصعيد التشدد في موقفها بالمبادرة بالإعلان عن أنها “لن تشارك في الحرب المزمعة ضد العراق حتى إذا وافق مجلس الأمن الدولي على بدء العمليات العسكرية، وأن قواتها سوف تتصدى لأي طائرة أمريكية تنتهك المجال الجوي الإيراني”[55].
كما شددت موقفها بخصوص فتح منشآتها النووية خلال زيارة الدكتور محمد البرادعي (مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية لطهران)، ورفضت إيران بالتحديد مطلب التفتيش المفاجئ، لكنها تعهدت بإطلاع هيئات المراقبة الدولية على إنشاء مواقع نووية جديدة فور اتخاذ قرار بذلك[56]. كما اتجهت إلى تشديد الهجوم على النوايا الأمريكية في العراق، وكذلك عزم الولايات المتحدة التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة؛ فقد اعتبر هاشمي رفسنجاني رئيس الجمهورية السابق ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام أن أسوأ الحلول للأزمة العراقية “سيكون إقامة ديكتاتورية موالية للأمريكيين”[57]. وبادر السيد علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية بوصف الأمريكيين بأنهم “متوحشون في زي متحضر”[58]، والأهم من ذلك أن إيران استقبلت وزير الخارجية العراقي رغم قيام مائة عضو بمجلس الشورى (البرلمان) بتقديم طلب لإعفاء وزير الخارجية الإيراني كمال خرّازي من منصبه بسبب هذه الزيارة.

ثالثًا- إيران والاحتلال الأمريكي للعراق

هذا التشدد الإيراني تراجع بشكل ملحوظ مع بدء الحرب الأمريكية/البريطانية على العراق، ومع سرعة سقوط بغداد ومعها نظام صدام حسين. هذا التراجع كانت له مؤشراته الفعلية قبيل الغزو عندما شاركت إيران في المؤتمر الأول لدول الجوار العراقي في إسطنبول، ووافقت على مقرراته، وفي مقدمتها تحميل العراق الوزر الكامل لاحتمال تعرضه للعدوان الأمريكي، دون تحديد أي مسئولية على الولايات المتحدة. ومع بدء العدوان منعت إيران قوات “فيلق بدر” التابع لـ”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” برئاسة السيد محمد باقر الحكيم الموالي لطهران من التورط في الحرب لصالح أي من الطرفين الأمريكي أو العراقي، ومع سقوط بغداد وانهيار نظام صدام حسين، ثم اعتقاله؛ لم تستطع إيران إخفاء سعادتها بهذه النهاية لصدام حسين ونظامه، باعتبار أن سقوط نظام صدام حسين يعنى انتفاء أحد مصادر تهديد الأمن القومي الإيراني، كما أن هذا السقوط يتيح الفرصة أمام تواصل إيران مع الطائفة الشيعية في العراق التي تمثل أغلبية الشعب العراقي، فضلًا عن أنه يتيح فرصة للتخلص من قوات مجاهدي خلق التي لقيت كل الدعم والتأييد من نظام صدام حسين، وكانت مصدر إزعاج دائم وورقة استعملها صدام حسين في صراعه ضد إيران.
وبدافع من هذه المنافع المتوقعة التزمت إيران موقفًا معتدلًا أو متعقلًا -كما يحلو للبعض وصفه- من الاحتلال الأمريكي/ البريطاني للعراق، وبدأت تتكيف مع الاحتلال باعتباره أمرًا واقعًا، رغم حرص كبار القادة الإيرانيين وخاصة المرشد الأعلى السيد علي خامنئي على إدانة الاحتلال.
مؤشرات هذا التكيف الإيراني مع الواقع المرير الجديد في العراق كثيرة؛ من أبرزها مشاركة إيران في المؤتمرات الإقليمية لدول الجوار، واستضافة أحدها في طهران على هامش اجتماعات منظمة المؤتمر الإسلامي. ففي أبريل/ نيسان 2003 شاركت إيران في المؤتمر الإقليمي لدول جوار العراق بالرياض، ووافقت على بيانه الختامي الذي لم يتضمن أي إدانة للاحتلال أو مطالبة بجلاء القوات الأجنبية المحتلة عن العراق؛ لكنه اكتفى بمناشدة قوات الاحتلال حفظ الأمن والاستقرار، وعدم التصرف في الثروات الطبيعية للعراق، ودعوة الأمم المتحدة للقيام بدور أكبر في العراق. وشاركت بعد ذلك في مؤتمر دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول 2003 الذي لم يساند المقاومة العراقية، وبدلًا من أن يدين الاحتلال أدان ما أسماه “العمليات الإرهابية” التي تحصد أرواح الأبرياء، ودون إشارة لما تحصده قوات الاحتلال من أرواح مئات من الأبرياء العراقيين. كما وافق هذا المؤتمر -تحت ضغوط بعض أعضائه- على حضور وزير خارجية العراق هوشيار زيباري للمشاركة فيه، لكنه لم يقبل الحضور لاعتراضه على عدم تقديم الدعوة للعراق قبل انعقاد المؤتمر.
وبعد ذلك اعترفت إيران بمجلس الحكم الانتقالي رسميًا في 17 نوفمبر/ تشرين الثانى 2003، وقبل ذلك كان الرئيس الإيراني محمد خاتمي قد صرح بأن: “تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في العراق يعد خطوة تجاه ضمان مطالب الشعب العراقي في حال أدى هذا المجلس إلى إقرار حكومة شعبية”. ثم شاركت إيران في مؤتمر المانحين الدوليين في مدريد، وقدمت عرضًا بتصدير نفطها للعراق بما يقدر بـ350.000 برميل يوميًا، وتعهدت بتقديم اعتمادات للموردين بما يقدر بـ300 مليون دولار، بخلاف إعلان استعدادها لتزويد العراق بالغاز والكهرباء. الأهم من هذا كله أنها رضيت بمشاركة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الموالي لها في مجلس الحكم الانتقالي؛ ومن ثم كانت طرفًا في معادلة الحكم في العراق من خلال مشاركة هذا المجلس؛ بما يعنيه ذلك من دعم مطلب “التهدئة” للأوضاع في العراق، والحرص على عدم تورط الشيعة العراقيين في المقاومة التي ظلت توصف بالإرهاب من جانب مجلس الحكم الانتقالي.
هذه الممارسات كانت تعكس أحد وجهي الإدراك الإيراني لما يعنيه سقوط نظام صدام حسين من ناحية، ووقوع العراق تحت قبضة الاحتلال الأمريكي من ناحية أخرى؛ فالغبطة الإيرانية بسقوط نظام صدام حسين وإتاحة الفرصة التاريخية أمام إيران وشيعة العراق لإثبات الوجود في وجه معادلات القوة الإقليمية بالمنطقة، كانت تعادلها وربما تتفوق عليها المخاوف من مخاطر الاحتلال الأمريكي/ البريطاني للعراق. ففي واقع الأمر واجهت إيران بسقوط نظام صدام حسين والاحتلال الأمريكي للعراق ما يمكن تسميته بـ”الخيارات المتناقضة”.
فالمكاسب التي تحققت لإيران من سقوط نظام صدام حسين، تبدو بمثابة فرص مفقودة، فضلًا عن التهديدات المباشرة للاحتلال الأمريكي للعراق؛ وهو ما يمكن تبيانه على النحو التالي[59]:
– يمثل نجاح الولايات المتحدة في القضاء على النظام العراقي تهديدًا مباشرًا لإيران بالنظر إلى أنها تحتل المرتبة الثانية فيما يسمى بـ”محور الشر”، ومما يضاعف من خطورة هذا الجانب أن الولايات المتحدة قد شنت الحرب دون أي اعتبار لعدم مشروعيتها.
– إذا كانت إيران بسقوط النظام العراقي قد تخلصت من المصدر الرئيسي لكبح طموحاتها الإقليمية؛ فإن الواقع الحالي في العراق بعد سيطرة الولايات المتحدة عليه سوف يمثل قيدًا أكبر خطورة على نفوذ إيران الإقليمي، وبعبارة أخرى؛ فقد تخلصت إيران من قوة إقليمية لتجد نفسها أمام قوة دولية، مع تثبيت عامل العداء بين إيران وكلتا القوتين.
– على الرغم من أن سقوط النظام العراقي يتيح الفرصة أمام تفعيل دور شيعة العراق -وذلك ما يفهمه البعض على أنه يصب في مصلحة إيران- فإن هذا القول ينبغى ألا يؤخذ على إطلاقه، بالنظر إلى وجود خلاف تقليدي بين إيران وفصائل أساسية في شيعة العراق (مثل “حزب الدعوة” الذي يرفض مبدأ ولاية الفقيه) كما أن سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين سوف يمنح الفرصة لمرجعية “النجف الأشرف” لاستعادة مكانتها مرة أخرى؛ وهو ما سيكون على حساب مرجعية “قم”، التي سوف تفقد مكانتها كمرجعية أولى للشيعة في العالم.
– ومن ناحية ثانية فإن تأسيس نظام ديمقراطي تعددي في العراق -إذا ما حدث هذا بالفعل- سوف يؤثر سلبًا على الوضع السياسي في إيران التي يعانى نظامها السياسي خلال الفترة الأخيرة من أزمة في عدم شرعيته بفعل تهميش دور المؤسسات المنتخبة لصالح المؤسسات المعينة التي يسيطر عليها التيار المحافظ.
– وبالإضافة إلى ذلك فإن سيطرة الولايات المتحدة على العراق تعني سيطرتها على نفطه، وبالتالي التحكم في سوق النفط العالمية؛ الأمر الذي سوف يؤدي إلى حدوث خسائر كبيرة للاقتصاد الإيراني.
لذلك كله كانت إيران حريصة كل الحرص على النيل من الاحتلال الأمريكي للعراق، ولكن دون التورط في دعم مكشوف للمقاومة العراقية تحسبًا لتجنب أي مواجهة مع الولايات المتحدة. وقد كانت المعادلة شديدة الصعوبة؛ فالمصالح الإيرانية تتعارض كلية مع تثبيت الاحتلال الأمريكي في العراق، والمصالح الإيرانية ذاتها تفرض على إيران تجنب التورط في أي مواجهة مع الولايات المتحدة؛ لذلك ظهر الموقف الإيراني متحمسًا حينًا ومترددًا في أحيان أخرى، لكنه لم يفوت فرصة للنيل من الاحتلال الأمريكي، أو التشفي في أزماته داخل العراق.
فعقب انكشاف الجرائم البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية في العراق ضد الأسرى والمعتقلين، صعد السيد علي خامنئي (المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية) من هجومه ضد الولايات المتحدة، ووصف الاحتلال الأمريكي في العراق بأنه “ذئب وقع في الفخ”. وقبل شهر من هذا التصريح قال هاشمي رفسنجاني (الرئيس الإيراني السابق ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام حاليًا) في10/4/2004 أن على العراقيين “أن يلقنوا الوحش الأمريكي الجريح درسًا لئلًا تغامر الولايات المتحدة بمهاجمة بلد آخر”. وأضاف أن: “الوضع في العراق يشكل تهديدًا كما يشكل فرصة. يشكل تهديدًا لأن الوحش الأمريكي الجريح يمكن أن يقوم بردود غاضبة، لكنه فرصة أيضًا؛ لأن هذا الوحش يتلقى درسًا بألا يغامر بمهاجمة دولة أخرى”. هذان التصريحان يكشفان عن حقيقتين تميزان الموقف الإيراني بخصوص ما يحدث في العراق؛ الحقيقة الأولى- هي أن إيران تشعر بسعادة غامرة لأي انتكاسة تواجه المشروع الأمريكي. فإيران حريصة كل الحرص على فشل المشروع الأمريكي وهذا يعني -منطقيًا- أن تكون مستعدة لدعم كل ما يمكن أن يؤدي إلى هذا الفشل. أما الحقيقة الثانية- فهي أن إيران حريصة كل الحرص على ألا يكون نجاح أو فشل المشروع الأمريكي في العراق مقدمة أو سببًا لتورط أمريكي ضدها؛ بما يفيد بأن إيران بقدر حرصها على فشل المشروع الأمريكي في العراق، فهي حريصة أيضًا على ألا تدفع ثمن فشل أو نجاح هذا المشروع[60].
تلك هي معضلة إيران الحقيقية في العراق كما تكشفها دراما العلاقة بين إيران والسيد مقتدى الصدر؛ فالشائع في هذه العلاقة أن إيران وقفت بقوة إلى جانب الزعيم الشاب مقتدى الصدر؛ سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عن طريق السيد كاظم الحائري المرجع الديني الشيعي المقيم في مدينة قم الإيرانية (عراقي مبعد من أصل إيراني) باعتباره المرجعية للسيد مقتدى الصدر. فأعضاء كثيرون في مجلس الحكم الانتقالي روجوا لذلك بعد أن هالهم تقدم تيار الصدر وانخراطه في مقاومة عنيفة ضد قوات الاحتلال في أغلب مناطق تركز الشيعة، في تزامن مثير مع ملحمة صمود وبطولة مدينة الفلوجة (ذات الأغلبية السنية)؛ مما يعطى للمقاومة في العراق هوية وطنية غير فئوية، وهوية شعبية بعيدًا عن وصم المقاومة بأنها مقاومة تقتصر على الإرهابيين الوافدين للعراق وبقايا أنصار صدام حسين[61].
من بين الشائعات التي ترددت عن دعم إيران لتيار مقتدى الصدر أن حجم المساعدات النقدية الإيرانية المدفوعة إلى مقتدى الصدر خلال الأشهر الأخيرة تجاوز سقف 80 مليون دولار، إلى جانب تدريب رجاله وإرسال معونات إنسانية شملت الغذاء والأدوية والمعدات والأثاث. ومن بين هذه الشائعات أيضًا أن المئات من عناصر فيلق القدس (الإيراني) واستخبارات الحرس الثوري الإيراني الموجودين في العراق يقودون العمليات الموجهة ضد قوات التحالف، كما أن الحملات الدعائية الموجهة ضد مراجع الشيعة الكبار (من أمثال على السيستاني وحسين الصدر ومحمد سعيد الحكيم وإسحق فياض) من قبل أنصار مقتدى الصدر؛ هي أيضًا حملات مدروسة وموجهة تحت إشراف هؤلاء العناصر.
مجمل هذه الشائعات حاولت تصوير مقتدى الصدر على أنه “صناعة إيرانية”، وأنه من المستحيل أن يشق عصا الطاعة لإيران باعتباره مقلدًا لآية الله كاظم الحائري، وباعتبار الحائري يعيش في إيران، وقريب جدًا من أوساط المرشد السيد علي خامنئي.
وفي هذا السياق وجهت الولايات المتحدة تحذيرًا قويًا لإيران عبر شخصية بريطانية ذات علاقة وثيقة بسكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي حجة الإسلام حسن روحاني، مؤكدة لها أنها تمتلك من الوثائق والمستندات ما يكفي لمعاقبة إيران، واتخاذ إجراءات متشددة بحقها. وجاء في التحذير الأمريكي أيضًا أن الأبواب لا تزال مفتوحة أمام إيران كي تلعب دورًا بناءً في العراق في سبيل تهدئة الوضع، والقضاء على ظاهرة مقتدى الصدر في المدن الشيعية، و”أنصار الإسلام” و”القاعدة” فيما يعرف بـ”المثلث السنى”.
هذه التحذيرات جاءت في أعقاب انقلاب الموقف برمته في العراق ضد قوات الاحتلال، والقتال الضاري الذي شنته المقاومة العراقية في الفلوجة وقوات جيش المهدي في مناطق متفرقة من العراق ضد قوات الاحتلال، وبالذات في النجف وكربلاء والكوفة ذات الرمزية المقدسة لدى الشيعة في العراق وخارجه.
وقد صعد الحاكم المدني الأمريكي السابق في العراق بول بريمر من موقفه ضد مقتدى الصدر، واعتبره مطلوبًا للعدالة في اتهامات تخص قضية مقتل آيه الله الخوئي في النجف، وحدد لمقتدى الصدر مصيرًا لا يتجاوز القتل أو الاعتقال، وكان هذا يعني أن التحذيرات الأمريكية غير المباشرة -وعبر الوسطاء- لإيران سوف تتحول إلى تحذيرات علنية، وقد تستتبعها مواقف تصعيدية أمريكية، وبالذات في ملف البرنامج النووي الإيراني واتهام إيران برعاية الإرهاب؛ مما يجعل منها هدفًا عاجلًا للسياسة الأمريكية.
أمام هذا التصعيد بدأ التحول في الموقف الإيراني نحو مقتدى الصدر.
لقد حاول الرئيس خاتمي أن يفرض هذا التحول قبل ذلك بعدة أشهر؛ ففي لقائه مع إبراهيم الجعفري عضو مجلس الحكم الانتقالي العراقي (حزب الدعوة الشيعي) الذي ذهب إلى طهران في مهمة ذكر أنها لإقناع الإيرانيين باستضافة مقتدى الصدر كمخرج لأزمته مع قوات الاحتلال؛ لمح خاتمي إلى عدم موافقة طهران على تحركات مقتدى الصدر الأخيرة، وقال إن أسلوب الشيعة هو منطق الاعتدال، وأكد على ضرورة حرية الشعب العراقي، ووضع الأمور في يد الشعب؛ وهو ما يتجلى في مواقف حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، ومواقف المرجع الشيعي علي السيستاني. كما أكد خاتمي على أن إيران ترفض أي تحرك عنيف من شأنه أن يؤزم الوضع في العراق، ويعرض الاستقرار العراقي والإسلام والشيعة للضرر[62].
تلميحات خاتمي لم تجد أصداءً قوية لها في أوساط مصادر القوة الحقيقية في إيران. لكنه (أي خاتمي) تحول من التلميح إلى التصريح عقب التحذيرات الأمريكية القوية، وقال في اجتماع للمجلس الأعلى للأمن القومي إن الشيعة في العراق -ولأول مرة في تاريخهم الحديث- عثروا على طرف أجنبي يرغب في ضمان حقوقهم، وأوضح أن الولايات المتحدة: “قضت خلال عامين على أخطر وأشرس أعداء إيران” (في إشارة إلى نظام طالبان في أفغانستان، ونظام صدام حسين في العراق)، وأضاف أنه: “بدلًا من أن ننتهز هذه الفرصة التاريخية لترميم صورتنا ونظهر كشريك قوي للولايات المتحدة في المنطقة؛ قمنا باتخاذ سياسات جعلتنا في خندق واحد مع طالبان وصدام حسين”[63].
هذه اللغة الحادة والصريحة غير المعهودة على الرئيس خاتمي كانت مؤشرًا لتحول حقيقي في الموقف الإيراني ضد مقتدى الصدر بدعم من السيد علي خامنئي؛ الذي ذكر أنه أمر بوقف الدعم عن مقتدى الصدر، كما أمر بتجميد أنشطة اللجنة الخاصة التي شكلها مكتبه -بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين- لتحديد سياسات ومواقف إيرانية تعرقل الأهداف الأمريكية في العراق من ناحية، وتدعم الموقف الإيراني في العراق من ناحية أخرى.
وجاء إيفاد حسين صادقي (مدير إدارة الخليج) إلى العراق بقرار اتخذ في جلسة طارئة للمجلس الأعلى للأمن القومي؛ كمحاولة لطمأنة مجلس الحكم الانتقالي العراقي بأن إيران لن تساند مقتدى الصدر بعد الآن، وستمنع دخول عناصر “أنصار الإسلام” ومجموعات عراقية أخرى متمردة إلى العراق عبر الأراضي الإيرانية، وأنها تعلن دعمها المعنوي للمرجعية العليا المتمثلة في آية الله علي السيستاني[64].
الانقلاب الدرامي في الموقف الإيراني من مقتدى الصدر عبر عنه غلاة المتطرفين في التيار المحافظ -بوصفهم أنصار مقتدى الصدر- بتنظيم “مجاهدي خلق” الإيراني المعارض الذين درج على وصفهم في إيران بـ”المنافقين”، واعتبارهم أن مقتدى الصدر “يـزرع بـذرة النفـاق في أوساط الشيعة في العراق” على نحو ما كتب رسول جعفريان على موقع “بازتاب” الخاص بمحسن رضائى القائد السابق للحرس الثوري، حيث أسهب في توجيه انتقادات لاذعة لآية الله محمد صادق الصدر (الشهيد الصدر الثاني) والد مقتدى الصدر، وأسهب في امتداح محمد باقر الحكيم مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الموالي لطهران وكذلك آية الله على السيستاني.
هنا بالتحديد يطرح سؤال مهم نفسه وهو: هل الانقلاب في الموقف الإيراني من مقتدى الصدر مجرد استجابة للتهديدات الأمريكية، أم أنه تعبير عن مخاوف تجسدها حركة مقتدى الصدر، وبالذات تحدي الصدر لمرجعية السيستاني “الصامتة”، وإعلائه من شأن مرجعية الصدر “الناطقة” القادرة على إعلان التحدي والمطالبة بالتغيير؛ وهي المرجعية التي وقفت في مواجهة مبدأ “ولاية الفقيه” الذي أرسى قواعده الإمام الخميني، ويؤمن به السيد علي خامنئي وتيار المحافظين المتشددين في إيران؟.
الأخطر من هذا أن حركة الصدر؛ في تلاحمها مع المقاومة السنية، وتجاوز أطر الطائفية الضيقة، وإبراز وطنية المقاومة؛ تقف بذلك في مواجهة مع الحرص الإيراني على إبراز الدور الشيعي في العراق وقيادته عبر أعوان يشاركون في مجلس الحكم الانتقالي، وقد تجاوزتهم زعامة مقتدى الصدر وفضحت تعاونهم مع قوات الاحتلال، وإمعانهم في إذلال الشعب العراقي وامتهان كرامته على نحو ما حدث في معتقل أبو غريب وغيره من المعتقلات.
هذا يعني أن الانقلاب الإيراني على مقتدى الصدر له أسبابه الإيرانية الوطنية والطائفية؛ فأسبابه الطائفية معروفة؛ وهي أن التواصل الذي يجسده السيد مقتدى الصدر مع السنة في العراق -وبالذات مع المجاهدين في “الفلوجة”- يتعارض مع الطموح الإيراني لإعلاء الروح الطائفية لدعم دور مميز للشيعة في النظام السياسي العراقي الجديد. أما الأسباب الوطنية فلها علاقة مباشرة بالتهديدات الأمريكية لإيران، وبالذات العودة لتسخين الملف النووي الإيراني الذي يعتبر من أهم تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق على إيران.
ولذلك يلاحظ أن المواقف الإيرانية من التطورات العراقية المتلاحقة -وبالذات تصاعد المقاومة العراقية، وانكشاف الورطة الأمريكية في العراق، وفضائح التعذيب في أبو غريب- كانت تتراوح بين التصعيد والتهدئة وفقًا لتطور الملف النووي الإيراني مع الولايات المتحدة بشكل خاص، ومجمل تطورات العلاقات الإيرانية/ الأمريكية عمومًا. كما أن حالة الملف النووي الإيراني مع الولايات المتحدة كانت تنعكس تصعيدًا وتهدئة بشكل عام في المواقف الإيرانية من التطورات العراقية. فعندما احتدمت المواجهة بين إيران والولايات المتحدة حول الملف النووي؛ لمحت إيران باللجوء إلى “العراق” لمواجهة الضغوط الأمريكية؛ فقد دعا آية الله أحمد جنتي إلى دعم المقاومة العراقية لكن على طريقة المرجع الشيعي العراقي المعتدل آية الله علي السيستاني، وقال جنتي: “يجب دعم العراقيين الذين يقاومون وعلى الأخص سكان النجف”[65].
وقد حرص كبار المسئولين الإيرانيين على إظهار التشفي في الموقف الأمريكي المتردي في العـراق قبيل رحيل الحاكم الأمريكي السابق بـول بريمر، وصـدور القرار 1546 من مجلس الأمن. ففي الوقت الذي وصف فيه هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام “أحلام الأمريكيين في العراق بأنها تحولت إلى كابوس”[66]؛ هاجم السيد علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية الولايات المتحدة متوقعًا انهزامها واضمحلالها في العراق، وندد بدعمها لإسرائيل و”المجرم شارون” وقال: “إن قوات الاحتلال في العراق مثل الذئب الذي وقع في الفخ، مثل الصهاينة. إنها تقمع المدنيين لكن قوة الشعبين الفلسطيني والعراقي ستنتصر في آخر المطاف على الغطرسة الأمريكية والصهيونية”[67].

القسم الثاني- تركيا والأزمة العراقية من الغزو إلى الاحتلال

أولًا- محددات المواقف التركية من الأزمة الأمريكية-العراقية

إذا كانت إيران قد نجحت في حصر الأزمة الأمريكية/ العراقية وما أعقبها من غزو واحتلال في إطارها النخبوى؛ فإن هذه الأزمة تحولت في تركيا إلى قضية شعبية؛ لأنها وضعت تركيا في مأزق المشاركة وعدم المشاركة، في حين أن وضع العلاقات الإيرانية/ الأمريكية المتوتر أعفى إيران من هذا المأزق. لذلك فإن السياسة التركية تركزت حول كيفية الخروج من هذا المأزق إن لم يكن بأعلى المكاسب فبأقل الخسائر، بينما عملت إيران على درء مخاطر التعرُّض للمصير العراقي.
وبقدر ما كانت السياسات الإيرانية نحو الأزمة وتطوراتها تعبيرًا عن واقع إيراني داخلي وإقليمي ودولي حكمته مجموعة من المحددات؛ فإن السياسات التركية نحو هذه الأزمة هي الأخرى كانت تعبيرًا عن واقع تركي داخلي وإقليمي ودولي حكمته مجموعة من المحددات أبرزها الأوضاع الداخلية التركية، وخصوصية العلاقات التركية مع الولايات المتحدة، والمصالح التركية في العراق، كما أكدتها خبرة حرب الخليج الثانية (1990 – 1991)، وكذلك خريطة التفاعلات الإقليمية التي قدمت مؤشرات مهمة لصانع القرار التركي في اختيار السياسات الأنسب والأكثر ملاءمة للمصالح التركية.

1- الأوضاع الداخلية في تركيا

يمكن تحديد ثلاثة تطورات مهمة داخل تركيا تزامنت مع تفجر الأزمة بين الولايات المتحدة والعراق، ولعبت دورًا مهمًا في تحديد المواقف والسياسات التركية من الأزمة: تشارك أم لا تشارك في الحرب الأمريكية على العراق، تتدخل أم لا تتدخل في تطورات العراق في مرحلة الاحتلال. هذه التطورات الثلاثة هي؛ فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية التركية (نوفمبر 2002)، والعوامل الأمنية خاصة بعد التفجيرات التي شهدتها مدينة إسطنبول، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية التركية.

أ- فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية التركية

شهد العام الذي تلا أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 الكثير من الصراعات السياسية بين القوى السياسية الشريكة في الائتلاف الحاكم بزعامة بولنت أجاويد؛ وهي الصراعات التي أدت إلى شلل العمـل الحكومـي، ووضعت الحكومـة في طـريـق مسدود لم تجـد منـه مخـرجـًا غير اللجـوء إلى الشعـب التركي ليقول كلمته في انتخابات مبكرة في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2002.
وفجر الشعب التركي أهم مفاجآته في وجه القوى السياسية التقليدية الحاكمة في أنقرة عندما مكن “حزب العدالة والتنمية” بزعامة رجب طيب أردوغان من اكتساح هذه الانتخابات، وعزل كافة القوى السياسية التركية عن السلطة باستثناء حزب الشعب الجمهوري الذي استطاع المشاركة في البرلمان دون غيره من الأحزاب الأخرى. لقد استطاع حزب العدالة والتنمية أن يحصل على 43.3% من أصوات الناخبين والفوز بـ363 مقعدًا من مقاعد البرلمان البالغ عددها 550 مقعدًا، وقد وفر ذلك له أغلبية كبيرة مكنته من تشكيل الحكومة منفردًا دون حاجة إلى أي تحالفات مع أي حزب تركي آخر بعد 15 عامًا من سيطرة الحكومات الائتلافية المضطربة على السلطة في البلاد.
هذا الفوز بقدر ما كانت له دلالاته الواضحة على مجمل فعاليات العملية السياسية في تركيا؛ كانت له أيضًا قيوده وتحدياته على الحزب الحاكم الجديد الذي اختاره الشعب.
أهم وأبرز هذه الدلالات أن الشعب التركي أراد أن يقول بعد استياء طويل ومرير من صخب الصراع السياسي بين الأحزاب السياسية -بل ومجمل مؤسسات العمل السياسي بما فيها الحكومة والجيش- أنه (أي الشعب) هو صاحب الحق الأوحد في أن يحسم ذلك الصراع السياسي الدائر في البلاد في الاتجاه الذي يريده، وأن يسلم السلطة للتيار السياسي الذي يراه أجدر على تحقيق الأهداف والطموحات والمصالح التي يؤمن بها الشعب التركي.
وبهذا الاختيار الحاسم الذي قام به الشعب التركي لحزب العدالة والتنمية؛ فإنه فرض قيودًا لا يستهان بها على هذا الحزب المتهم، أو المعروف، بأنه حزب إسلامي الهوى إن لم يكن إسلامي الاتجاه؛ فبقدر ما فرض على الحزب الالتزام بإرادة الناخبين وتوجهات الرأي العام، ومواقف الشارع التركي في سياساته وتوجهاته؛ بقدر ما فرض عليه أعباءً مضاعفة لإظهار التزامه واحترامه للقواعد الحاكمة للنظام السياسي في تركيا، وللتحالفات الاستراتيجية التركية، وبالذات التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتأكيد العزم على مواصلة الجهود التركية الدءوبة على مدى عقود مضت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
لقد فرضت نتائج الانتخابات واقعًا سياسيًا جديدًا على معادلة العلاقة التقليدية بين الجيش والسلطة في تركيا. فالضعف النسبي للحكومات التركية الناتج عن احتدام الصراعات السياسية بين الأحزاب والقوى السياسية التركية تسبب في استقواء الجيش وتنامي دوره في الحياة السياسية التركية، من خلال هيمنته على مجلس الأمن القومي، والمكانة القوية لهذا المجلس في عملية صنع القرار السياسي، لدرجة مكنت الجيش من إقالة حكومات وفرض الحكم العسكري أحيانًا، والهيمنة على القرار السياسي في أحيانٍ أخرى كثيرة.
هذا الاختلال في توازن القوى بين الجيش والحكومات لصالح الجيش واجه تحديًا قويًا وطارئًا بالواقع السياسي الجديد الذي فرضه الشعب على الحياة السياسية التركية، كما أكدته نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أدت إلى قيام حكومة قوية مسنودة بإرادة شعبية أقوى؛ الأمر الذي زاد من حساسية العلاقة بين الحكومة الجديدة والجيش، وكان عليها أن تظهر قدرًا أكبر من احترام النظام العلماني الذي يلتزم الجيش بالدفاع عنه منذ عهد أتاتورك، وأن تسعى إلى كسب ود العسكريين وطمأنتهم على النظام الذي ورثوه عن أتاتورك، وعلى تحالفات تركيا مع الولايات المتحدة، واستمرار العمل من أجل الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن دون تجاهل للواقع السياسي الجديد الذي فرضته نتائج الانتخابات، ودعم الشارع التركي للحكومة الجديدة لحزب العدالة والتنمية.
وبالفعل عمل قادة الحزب على طمأنة كافة القوى السياسية والجيش والقوى الخارجية بإصدار خطاب تصالحي أعلنوا فيه احترامهم للنظام العلماني، كما حرصوا على كسب ود الجيش بالرغم من محاولات الجيش للحيلولة دون تمكين حزب العدالة والتنمية من المشاركة في الانتخابات. من أمثلة هذا الخطاب التصالحي إعلان زعيم الحزب رجب طيب أردوغان تخليه عن أفكاره السابقة حين كان عضوًا قياديًا في حزب الفضيلة بزعامة نجم الدين أربكان الذي أقال الجيش حكومته عام 1997.
ونفى أردوغان عن حزبه أن يكون حزبًا دينيًا إسلاميًا بالمعنى المتعارف عليه، موضحًا أن حزب العدالة والتنمية يضم بين أعضائه الكثير من المتعلمين والأكاديميين والليبراليين والمهنيين الذين يحسبون أنفسهم على يمين الوسط، ويطمحون في بناء تركيا على نمط الأحزاب الديمقراطية المسيحية التي تنتشر في الغرب. أما عبد الله جول (وزير الخارجية حاليًا) الذي تولى رئاسة الحكومة قبل أن يتولاها رجب طيب أردوغان؛ والذي كان قد حرم من المشاركة في الانتخابات البرلمانية (نوفمبر 2002) بحكم قضائي لإدانته في قضية اتهم فيها بإثارة الفتنة الدينية؛ فقد نفى “تهمة” أن تكون لديه أجندة إسلامية، وأعلن أنهم في حزب العدالة والتنمية “ليسوا إسلاميين”؛ وإنما أعضاء في حزب محافظ، وغاية ما يمكن أن يوصفوا به أنهم “ديمقراطيون مسلمون؛ مثل الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا”. وفي محاولة لخطب ود الجيش قال جول: “إن الجيش مبعث لفخرنا، وإنه يؤدي مهمته في خدمة الوطن”[68].
كل هذه التصريحات التصالحية لم تقنع العسكريين ولا الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار بالثقة في النوايا الحقيقية لحكومة حزب العدالة والتنمية؛ فقد ظل التربص بالحكومة وسياساتها دون هوادة؛ وبالذات في اتجاهين أولهما- ما يخص أو ما يمس “مبدأ العلمانية” باعتباره “حجر الزاوية في بناء الجمهورية التركية” حسب وصف الرئيس سيزار (في كلمته أمام مؤتمر الشبـاب والرياضة) في إعلانه معارضته لقانون إصلاح التعليم الذي أجازه البرلمان؛ حيث أكد أنه: “لا يسمح بأن تحكم أي قواعـد أو قوانين دينية أيًا من المجالات الاجتماعية والعدلية والسياسية والاقتصادية في الدولة”[69]. وثانيها- الإصلاح الديمقراطي استجابة لما يعرف بـ”معايير كوبنهاجن” التي وضعها الاتحاد الأوروبي كشرط لانضمام تركيا للاتحاد؛ وهو الإصلاح الذي يخشاه الجيش، ويعتبره تجاوزًا لأدواره، وبالذات دوره في الشئون السياسية. فقـد اعترض الجيش، وبقـوة، على اتجـاه الحكومة لتخفيـف القيـود على التحاق طلبـة ما يسمى بمدارس “الإمام الخطيب” الثانوية بالجامعة (وهي مدارس تمولها الحكومة لتخريج أئمة) وبموجب خطط الحكومـة سيكـون لطلبـة هذه المدارس (الذين ينحدرون في الأغلب من أسر فقيرة) فرصة أكبر للالتحاق بالتعليم الجامعي، ويسمح لهم بدراسة مواد أخرى. وقد حذر الجيش الحكومة من هذه الخطوة، ومن زيادة أعداد المتخرجين من هذه المدارس عن العدد الحالي (وهو 25 ألفًا) وقال اللفتنانت جنرال لكيربا شبوح (الرجل الثاني في هيئة الأركان العامة للجيش): “إن الحكومة تحاول تشجيع مدارس الإمام الخطيب لأهداف سياسية”[70].
وتحركت إحدى نقابات المعلمين الأتراك ضد الحكومة، ورفعت ضدها دعوى قضائية بسبب قرار اتخذته يقضي بتخفيف القيود على دراسة القرآن الكريم في المدارس التركية، معتبرة أن هذه الخطوة من شأنها إضعاف البناء العلماني للجمهورية[71].
وتعالت أصوات تطالب الجيش بالتدخل والسيطرة على مقاليد الحكم من حكومة حزب العدالة والتنمية، وشارك نحو 20 ألف طالب من 72 جامعة من المدافعين عن العلمانية في تركيا في مسيرة حاشدة نظمها رؤساء الجامعات وعمداء الكليات بقيادة كمال جوروس رئيس مجلس التعليم العالي، ورفعوا خلالها شعارات تطالب الجيش بالتدخل وتسلم مهام الحكم في البلاد، ووقف سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية الرامية إلى تعديل قانون التعليم، وتعزيز القوى الأصولية الدينية، وإبعاد تركيا عن النهج العلماني[72].
هذه التطورات شجعت كبار الجنرالات بالجيش التركي لتوجيه تحذير إلى حكومة أردوغان من التساهل مع النشاطات الإسلامية، داعين إياها إلى اتخاذ إجراءات أكثر تشددًا حيال التهديدات المتزايدة (القاعدة والجماعات الإسلامية التركية المتطرفة)[73].. وكشفت صحيفة “حـرّيـت” التـركيـة النقـاب عـن أن قـادة الجيش أكدوا لأردوغان أن مقولته الشهيرة: لا أستطيع سماع كلمة “إرهاب إسلامي” تعني أنه يرغب في رؤية المفهوم الحقيقي لـ”الإرهاب”. كما أكدوا أن حزب العدالة والتنمية الحاكم مستمر بشكل محموم في سياسة تعيين كوادره ذات الجذور الإسلامية في كافة المؤسسات الحكومية بشكل كبير، في الوقت الذي يقوم فيه أعضاء الحزب الحاكم في المناطق المحلية التابعة للمدن بتقديم الدعم للفعاليات الدينية التي يصفونها بـ”الرجعية”[74]. وكان الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار قد رفض 181 تعيينًا أقرها أردوغان منذ توليه منصب رئيس الحكومة في مارس 2003، في حين صدق على 539 تعيينًا آخر في مناصب حكومية؛ مما يمثل توجيه ضربة قوية لأردوغان، وبرر سيزار هذا الرفض بوجود فساد أو شبهات فساد في ملفات البعض، ووجود ما يوصف بنشاط ديني رجعي للبعض الآخر، ووجود شبهة المحاباة عند الآخرين[75].
المصدر الثاني للاحتكاك بالرئيس والجيش يتعلق بخطوات الإصلاح السياسي التي اتخذتها الحكومة تنفيذًا لمعايير كوبنهاجن التي فرضها الاتحاد الأوروبي. ولقد حذر قادة الجيش رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان من أن معظم التعديلات والقوانين الجديدة التي تم تمريرها على أساس الانسجام مع قوانين الاتحاد الأوروبي للانضمام لعضويته تخدم الانفصالية والفعاليات الدينية، مؤكدين أن الحكومة ستتحمل مسئولية ذلك في حالة عدم تحديد موعد لبدء مفاوضات الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي. جاء هذا التحذير في الوقت الذي قرر فيه المجلس العسكري الأعلى إبعاد ضابطين من صفوف القوات المسلحة -وتحديدًا من القوات البحرية- بسبب ما اعتبروه استمرار صدامهم مع “فعاليات دينية”؛ علمًا بأن المجلس كان قد قرر في أغسطس 2003 إبعاد 18 ضابطًا ليبلغ عدد الضباط المبعدين منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم وحتى نهاية عام 2003 سبعة وعشرين ضابطًا[76].
هذا الموقف العسكري المتشدد من الإصلاحات يرجع إلى أن بعض هذه الإصلاحات تمس مصالح العسكريين ودورهم السياسي، كما تمس سلطات رئيس الجمهورية. فقد أقر البرلمان التركي الذي يسيطر على أغلبيته حزب العدالة والتنمية مجموعة إصلاحات تلبي مطالب الأوروبيين، وتُحد من نفوذ الجيش في الحياة السياسية، وتقلص بالتحديد من سلطات ومسئوليات مجلس الأمن القومي؛ الذي يعد أبرز جهاز في اتخاذ القرار السياسي في البلاد؛ حيث يمارس الجنرالات نفوذهم على إدارة الشئون العامة، ويتكون هذا المجلس (الذي يجتمع مرة كل شهر) من رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية والعدل والاتصالات، إضافة إلى خمسة مسئولين في الجيش.
وقد أقر الرئيس التركي مشروعات قوانين تلك الإصلاحات التي نصت على اتخاذ إجراءات لمنع التعذيب، وأخرى لتشجيع الحريات المدنية وحرية التعبير؛ لكن أهمها ما يتعلق بتقليص دور مجلس الأمن القومي وأمانته العامة؛ حيث بات انعقاد المجلس مرة كل شهرين بدلًا من الاجتماع كل شهر، كما أصبحت أمانته العامة من حق مدنيين بعد أن كانت حكرًا على العسكريين[77]. ولعل ذلك ما دفع ضباطًا كبارًا إلى اتهام الحكومة ذات الجذور الإسلامية باستغلال الإصلاحات التي يتطلبها الانضمام للاتحاد الأوروبي من أجل الحد من نفوذ الجيش حارس العلمانيين في البلاد[78].
وبالفعل تم في 17 أغسطس 2004 تعيين يغيت البوغان أمينًا عامًا جديدًا لمجلس الأمن القومي في تركيا، واعتبرت هذه الخطوة حدثًا تاريخيًا في تاريخ هذه المؤسسة؛ حيث إن البوغان هو أول مدني يتبوأ هذا الموقع المهم لكونه المنسق بين العسكر والسلطة السياسية، وكان قد عمل قبل تعيينه سفيرًا لبلاده في قبرص ومن أهم خبراء تركيا في الشأن اليوناني وأحد المساهمين في تأسيس مرحلة الصداقة الجديدة بين أنقرة وأثينا[79].
لم تكتف حكومة حزب العدالة والتنمية بذلك، ولكن وزير العدل جميل تشجيك أعلن عزمها على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الخاصة باستخدام حق الفيتو على قرارات الحكومة، وكذلك إلغاء محاكم أمن الدولة، لكنه أوضح أن هذه الخطوة لا تعني تجريد رئيس الجمهورية من جميع صلاحياته؛ وإنما من جزء من هذه الصلاحيات (من بينها إلغاء إحالة قرارات الحكومة إلى استفتاء شعبي في حالة استخدام الرئيس حق الفيتو ضد قرارات الحكومة التي يتم تمريرها من البرلمان)، كما أكد الوزير ضرورة إجراء التعديلات على بعض القوانين الدستورية في تركيا من أجل الانسجام مع معايير الاتحاد الأوروبي بشرط التوافق مع المجتمع التركي، مشيرًا إلى أنه بالإضافة إلى صلاحيات رئيس الجمهورية فإنه من الضرورى إجراء تعديلات على صلاحيات العديد من مؤسسات الدولة، منها صلاحيات الحكومة والمحكمة الدستورية وقانون محاكم أمن الدولة، وإلغاء جميع هذه المحاكم، ونقل اختصاصاتها إلى المحاكم المدنية؛ بهدف تقليل أعداد القضايا المرفوعة بحق تركيا أمام المحاكم الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي يطالب أصحابها بتعويضات مادية ضخمة بسبب الأحكام الصادرة بحقهم من محاكم أمن الدولة[80].
هذه الممارسات من جانب الحكومة تعـد تجربـة فريدة على الحيـاة السياسية التركية؛ فإذا كان حزب العدالة والتنمية قد تحسب لردود فعل سلبية من جانب الجيش للالتفاف على الإرادة الشعبية التي أظهرتها انتخابات نوفمبر 2002؛ في ضربة استباقية أو إجهاضية للإطاحة بحزب العدالة والتنمية، وإذا كان الحـزب وحكومته قــد حرصًا على تقديم كل مـا يطمئن الجيش إزاء احترام كافة الأسس والقواعد الحاكمة للجمهورية التركية وخاصة مبدأ العلمانية؛ فإنهما لم يتجاهلا الموقف الشعبي الداعم للحكومة لفرض ممارسات جديدة تحد من سطوة العسكريين وترسى قواعد احترام الديمقراطية تحت غطاء شعار الاستجابة لمطالب الاتحاد الأوروبي و”معايير كوبنهاجن”.
هذه التجربة التي فرضها الواقع السياسي الجديد والتي شهدت أنماطًا من التفاعلات الجديدة بين الحكومة والجيش تدور ما بين التصعيد والمهادنة؛ كانت أحد المحددات المهمة والبارزة التي حكمت الموقف التركي من الأزمة الأمريكية/ العراقية (الغزو– الاحتلال) الذي بدا مترددًا وغير حاسم بين الرفض الصريح للمطالب الأمريكية استجابة لموقف الشارع التركي، والقبول المتردد تمشيًا مع موقف العسكريين الأتراك؛ فقد أظهرت أغلب استطلاعات الرأي التي أجريت قبل الغزو الأمريكي رفضًا شعبيًا مطلقًا لهذه الحرب ومشاركة تركيا فيها؛ على نحو ما أظهرت استطلاعات الرأي التي أجراها معهد ” أنار” في أنقرة، والتي كشفت أن 94% من الأتراك المشاركين في هذا الاستطلاع يرفضون حدوث الحرب، وأن 78% منهم يطالبون بألا تكون تركيا طرفًا فيها[81]، هذا في الوقت الذي كان الجيش حريصًا على التجاوب مع المطالب الأمريكية.

ب- العوامل الأمنية وتفجيرات إسطنبول

بشكل عام كانت الحالة الأمنية ومخاوف حدوث أي ردود فعل عنيفة في حالة الاستجابة الحكومية التركية للمطالب الأمريكية بالمشاركة في غزو العراق وتقديم التسهيلات المطلوبة؛ أحد العوامل الحاكمة للموقف الحكومي من الأزمة الأمريكية/ العراقية، وجاءت تفجيرات إسطنبول لتزيد حرج الموقف الحكومي المزدوج؛ الحرج المترتب على الحزب والحكومة أمام الجيش والغرب عمومًا (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا) من ناحية انتماء المسئولين عن هذه التفجيرات للإسلاميين بشكل عام، والحرج المترتب على اهتزاز الحالة الأمنية بما يضعف موقف الحكومة أمام الجيش، ويعيد تمكين الجيش من امتلاك القدرة على المبادأة في اتخاذ القرارات، وبالذات ما يتعلق بالحرب في العراق.
جاءت تفجيرات إسطنبول عبر موجتين متتاليتين؛ استهدفت الأولى معبدين يهوديين، أما الثانية فاستهدفت بعض المصالح البريطانية مثل القنصلية البريطانية وأحد البنوك البريطانية في المدينة. وبقدر ما وضعت هذه التفجيرات تركيا في قلب الحرب ضد الإرهاب بما يفرضه ذلك من اندماج تركي في الحرب الأمريكية على الإرهاب -الأمر الذي قد يجرها إلى التورط في العراق مع القوات الأمريكية- بقدر ما أعادت الحديث حول حركات الإسلام السياسي المتشددة في تركيا؛ بما يفرضه ذلك من ضغوط على حزب العدالة والتنمية وحكومته بزعامة رجب طيب أردوغان، وبما يفرضه أيضًا من ضغوط من جانب الحركة الإسلامية التركية على حزب العدالة والتنمية؛ حيث جاءت هذه التفجيرات بمثابة عقاب للحزب من الأجنحة المتطرفة داخل هذه الحركة على قبوله بقواعد اللعبة السياسية في تركيا، وعلى مصالحته مع العلمانية، وتحالفه الوثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، واستمراره في عضوية حلف شمال الأطلسي، وسعيه للاندماج في الاتحاد الأوروبي[82].
وجهة النظر هذه يدعمها تبني تنظيم “القاعدة” لتلك التفجيرات التي أثبتت التحقيقات أنها نفذت بواسطة عناصر تركية؛ فقد أطلق تنظيم “القاعدة” على تلك التفجيرات اسم “عملية المطرقة الحديدية الإسلامية” وكرر بيان حمل توقيع “كتيبة أبي حفص المصري” القائد العسكري للتنظيم الذي قتل في الغارات الأمريكية على أفغانستان تحذير بريطانيا وإيطاليا وأستراليا واليابان؛ باعتبارهم “أذنابًا لأمريكا” وقال إنها “فرصة ذهبية لباقى العملاء أن يفهموا الرسالة وأن ينسحبوا من التحالف الصليبي ضد الإسلام والمسلمين وإن لم يفهموا لغة الكلام فإن لغة سيارات الموت جديرة بأن تفهمهم”.
ووجه البيان تحذيرًا خاصًا للرئيس الأمريكي جورج بوش قال فيه: “وقعت في فخ أفغانستان والعراق كما رسمنا لك، ولقد دخلت في حرب مع قوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.. فجهز نفسك لما هو آت”، وحدد البيان شروطًا لوقف “سيارات الموت المفخخة” وقال: “لن نتوقف حتى ترضخ لشروط المجاهدين وتتلخص في ما يأتي: أن تطلقوا أسرانا الذين هم في السجون الأمريكية، خصوصًا أسرى جوانتانامو والشيخ المجاهد عمر عبد الرحمن، ومن كان في سجون أذناب أمريكا من العرب والعجم والفرس واليهود، وأن تكفوا عن حربكم على الإسلام والمسلمين في أنحاء العالم باسم مكافحة الإرهاب، وتطهير كل الأراضي الإسلامية من دنس اليهود والأمريكان بما فيها القدس وكشمير، وألا تتدخل أمريكا بيننا وبين الحكومات الطاغوتية التي تحكم بلاد المسلمين، ونقيم دولة الخلافة الإسلامية الراشدة”[83].
وإذا كان المستشار الألماني جيرهارد شرودر قد رفض قبول وجود أي آثار سلبية لهذه التفجيرات على مساعى تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي -في رده على تصريحات من هذا النوع جاءت على لسان فولفجانج بوسياخ نائب زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي- فالأمر الذي لاشك فيه أنها قد ضاعفت من أعباء الحكومة التركية لتحقيق شروط التحاقها بالاتحاد الأوروبي، كما ضاعفت من أعباء موقفها إزاء ما يحدث في العراق. وكان فولفجانج بوسياخ قد صرح بأن “تفجيرات إسطنبول تمثل انتكاسة لمحاولة تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي”، وحذر من أن مثل هذا الانضمام سيجلب الإرهاب إلى قلب أوروبا[84].

جـ– الوضع الاقتصادي الداخلى

لعب الوضع الاقتصادي داخل تركيا دورًا مهمًا في الضغط على الحكومة التركية للتجاوب مع المطالب العسكرية الأمريكية لغزو العراق. فالعجز المتفاقم في الميزان التجاري وصل في عام 2002 إلى 15.75 مليار دولار[85]. ناهيك عن الخسائر الاقتصادية التركية من حرب الخليج الثانية واستمرار فرض الحصار على العراق لما يزيد عن 11 عامًا (والتي تجاوزت حدود المليارات الثلاث سنويًا) كما أن العراق كان مرشحًا أكثر من غيره في المنطقة لتلقى المزيد من الصادرات التركية من السلع والخدمات في السنوات القادمة؛ وهذا بدوره عامل ضاغط في الاتجاه المعاكس للقبول بالمطالب العسكرية الأمريكية، ناهيك عن تأثيرات سلبية أخرى للغزو الأمريكي للعراق على السياحة التركية (أنفق 13.5 مليون سائح زاروا تركيا عام 2002 حوالي 11.9 مليار دولار)[86].
تأتي الآثار الإيجابية للمشاركة في الحرب لتمثل إغراءً أقوى أمام الخسائر المحتملة؛ فعلاوة على المساعدات الأمريكية فإن مشاركة تركيا في الحرب والسماح لها بالتمركز في كركوك والموصل الغنية بالنفط يعطي لتركيا فرصًا تاريخية؛ ليس فقط بالاستفادة المادية، بل ولتأكيد حقوقها التاريخية في هذه المنطقة، والدخول كطرف إقليمي قوي نفطيًا إلى جانب قوته المائية المشهودة ممثلة في نهري دجلة والفرات.
هذه الإغراءات حسمت لسبب آخر أهم هو أن الديون التركية لا يمكن كبح جماحها دون قروض جديدة من صندوق النقد والبنك الدوليين، وهذا لن يحدث دون ضوء أخضر أمريكي سيصعب الحصول عليه في حالة تقاعس تركيا عن التجاوب مع المطالب العسكرية الأمريكية[87].
وهكذا يمكن القول إن الأوضاع الداخلية لعبت دورًا أساسيًا وحاسمًا في الموقف التركي المتردد من التجاوب مع المطالب العسكرية الأمريكية.
2- خصوصية العلاقات التركية/الأمريكية
تكتسب العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة خصوصية مميزة في علاقات تركيا الدولية تقوم على روابط أمنية واستراتيجية (مبيعات الأسلحة، التعاون العسكري، وعضوية حلف شمال الأطلسي)، وعلى روابط اقتصادية مهمة تقوم على الدعم الاقتصادي والمالي الأمريكي المباشر أو غير المباشر عبر مؤسسات الإقراض الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، وكذلك على استيراد المعدات والمعرفة العلمية والتكنولوجية من الولايات المتحدة[88]. هذه العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة اكتسبتها تركيا لما تمثله من أهمية استراتيجية للولايات المتحدة طيلة سنوات الحرب الباردة، وفي خدمة المصالح الأمريكية بالشرق الأوسط في مرحلة ما بعد انهيار نظام القطبية الثنائية، وأخيرًا في مرحلة الحـرب الأمريكية على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي شهدت تركيزًا أمريكيًا على خوض ثلاث معارك متداخلة ومتزامنة معًا هي: معركة التحديث العسكري سواء فيما يتعلق بالجيش الأمريكي وأنماط التسليح أو بالنسبة للاستراتيجيات العسكرية التي بدأت تركز على استراتيجية الضربات الاستباقية أو الوقائية كمحور للفكر الاستراتيجي الأمريكي، ومعركة الحرب على الإرهاب، ومعركة الحرب على النفط سواء كانت بالسيطرة على حقول النفط أو على وسائل النقل وخاصة مشروعات الأنابيب أو على تسويق وتسعير النفط بما يخدم المصالح الأمريكية.
هذه المعارك الأمريكية الثلاث ذات العلاقة المباشرة بإقليم الشرق الأوسط -والتي ركزت على استغلال التفوق العسكري الساحق لتحقيق مصالح استراتيجية وإعادة تشكيل الخرائط والتحالفات السياسية في المنطقة بما سوف يستتبعه من تغيير للأدوار وللمكانة بالنسبة للدول الإقليمية الشرق أوسطية وفي مقدمتها تركيا- لعبت دورًا مهمًا في تشكيل موقف القيادة التركية من الأزمة الأمريكية/ العراقية وتطوراتها (الغزو والاحتلال) في ظل خصوصية العلاقة التي تربط تركيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
فالتردد أو رفض التجاوب مع المطالب الأمريكية من تركيا كان يعني أولًا- تهديد المصالح التركية في العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة على المستويين الاستراتيجي والاقتصادي، وكان يعني ثانيًا- تهديد فرص الصعود الإقليمي لتركيا في إقليم الشرق الأوسط في إطار التحالف مع الولايات المتحدة وبالذات الطموحات التركية في العراق، كما كان يعني ثالثًا- تعريض تركيا لتبعات خلق أزمة في العلاقات مع الولايات المتحدة في ظل التوجهات الأمريكية الجديدة في أعقاب 11 سبتمبر 2001، وفي ظل وجود حزب يوصف بأنه حزب له جذور إسلامية على رأس السلطة في تركيا.
فقد فرضت الظروف الحرجة التي مر بها العالم عقب 11 سبتمبر 2001 -والتطورات التي لحقت بالسياسة الأمريكية- الكثير من القيود على حرية حركة أي تنظيم ذي توجه إسلامي حتى لو كان حزبًا سياسًيا شرعيًا فاز في انتخابات ديمقراطية. هذه التطورات ضاعفت من الأثمان التي يمكن أن تدفعها تركيا في حالة رفض المطالب الأمريكية أو التردد في قبولها؛ فهي لم تعد تقتصر على الخسائر المباشرة في أنماط العلاقات التي ربطت تركيا بالولايات المتحدة استراتيجيًا واقتصاديًا -والتي قامت في الأساس على دبلوماسية المكافأة- بل كانت ستتحول إلى دبلوماسية العقاب ربما للمرة الأولى في تاريخ العلاقات التركية/ الأمريكية، والعقاب هنا في ظل وجود حزب له جذور إسلامية في هذا الوقت بالذات سيكون مضاعفًا.
وزاد من أعباء مثل هذا الرفض أو التردد عاملان آخران هما:
الأول- أن الموقف التركي بالنسبة للحرب الأمريكية على الإرهاب منذ 11 سبتمبر 2001 تمثل في مساندة الولايات المتحدة في هذه الحرب؛ فقد كان هناك تعاون وثيق بين تركيا والولايات المتحدة فيما يخص الحرب الأمريكية على الإرهاب، ولا سيما في مجال الرقابة المالية على الأفراد والجماعات لتجفيف ما تسميه الولايات المتحدة الأمريكية منابع تمويل الإرهاب. وكان هناك تعاون واضح في المجال الاستخباراتي؛ حيث تم تعيين ضباط اتصال للتعاون المشترك وتبادل المعلومات.
وباعتبارها عضوًا في حلـف شمال الأطلسي (الناتـو) دعت تركيـا لتطبيـق المادة رقم 5 من ميثاق الحلف، وأيدت دومًا الرؤية القائلة بأن الإرهاب هو التهديد الجديد الذي لابد من مواجهته في المفهوم الاستراتيجي الجديد. وشاركت تركيا في جميع جهود منظمة الأمن والتعاون الأوروبي الخاصة بمكافحة الإرهاب، واشتركت في المؤتمر الدولى لتقوية الأمن والاستقرار في آسيا الوسطى “تقوية الجهود الشاملة المضادة للإرهاب” (في ديسمبر 2001) كما ساندت تركيا المبادرات الإقليمية لمكافحة الإرهاب، إضافة إلى التعاون القائم بين الاستخبارات التركية والأمريكية في تتبع الجماعات الإسلامية الراديكالية في تركيا[89].
كل هذه المجالات من التعاون المشترك التركي/ الأمريكي في مكافحة الإرهاب، والدعم التركي الكامل للجهود الأمريكية لمحاصرة نظام صدام حسين انطلاقًا من الأراضي التركية -وبالذات فيما يتعلق بإقليم كردستان العراقي- كان التراجع عنه في الظروف الساخنة للأزمة الأمريكية/ العراقية سيفسر على أنه انقلاب تركي على العلاقات التركية/ الأمريكية المميزة؛ بكل ما يعنيه ذلك من خطر على هذه العلاقات.
الثاني- الوعي التركي بأن الأهداف المحتملة للاستراتيجية الأمريكية بعد العراق (مثل إيران ومنطقة آسيا الوسطى) وخاصة قضية نقل الطاقة (النفط والغاز) من منطقة بحر قزوين كلها أهداف مرتبطة بالجوار الإقليمي لتركيا[90]. فالحرب الأمريكية على العراق كانت تعني “بوابة لمرحلة جديدة” في السياسة الأمريكية في المنطقة كان من الضرورى أن تحدد تركيا موقفها منها؛ هل هي في موقف التحالف أم في موقف العداء والصدام.
الإدراك التركي لهذا كله كان يدفع بصانع القرار إلى ضرورة مجاراة السياسة الأمريكية نحو العراق، وكان يعي خطورة رفض أو التردد في القبول بالمطالب الأمريكية؛ ومن ثم كان لابد أن تدفع تركيا ثمن هذه الخصوصية في علاقاتها مع الولايات المتحدة، والذي يتمثل في كل هذه الضغوط على صانع القرار التركي: هل يستجيب أم يرفض المطالب الأمريكية؟
3- المصالح التركية في العراق
تعتبر المصالح التركية في العراق من أهم محددات السياسة التركية في حرب الخليج الثالثة، كما تعتبر الخبرات التركية المكتسبة من حرب الخليج الثانية -سواء كانت إيجابية أم سلبية- مؤشرًا أساسيًا في تحديد التوجهات التركية نحو هذه الحرب الثالثة في الخليج.
لقد لوحظ أن الموقف التركي من الغزو العراقي للكويت عام 1990 كان واضحًا وسريعًا؛ إذ انضمت تركيا إلى قوات التحالف، وشاركت في حرب عاصفة الصحراء، وأغلقت أنبوبي النفط العراقيين اللذين يمران في الأراضي التركية، ووفرت القواعد الجوية.
هذه السرعة وهذا الوضوح كان لهما أسبابهما الاستراتيجية والاقتصادية؛ فقد كانت تركيا تطمح في تجديد مكانتها الاستراتيجية كحليف للولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو، وتراجع دورها في حلف شمال الأطلسي، وكانت مشاركتها الفعالة في التحالف الأمريكي ضد العراق فرصة لتجديد مكانتها الاستراتيجية، كما كانت تركيا تطمح في مكاسب اقتصادية من خلال تعويضات أمريكية مأمولة كانت في أمس الحاجة إليها بسبب الأوضاع الاقتصادية التركية الصعبة.
لكن هذه المشاركة التركية في التحالف الأمريكي ضد العراق (90-1991) كانت لها أثمان فادحة أيضًا على الصعيدين الاستراتيجي والاقتصادي؛ فعلى الصعيد الاستراتيجي أعطت حرب عاصفة الصحراء -وفرض الحظر الجوى على العراق طيلة عقد التسعينيات بعد انتهاء الحرب عام 1991- دعمًا قويًا للحركة الانفصالية الكردية في شمال العراق لتزيد التقارب بين أهم فصيلين في هذه الحركة (جلال طالباني ومسعود برزاني)، ولتساهم في خلق كيان كردي في شمال العراق تحول إلى عنصر تهديد للمصالح الوطنية التركية، وبالذات بالنسبة للأزمة الكردية ونشاط حزب العمال الكردستاني؛ الأمر الذي فرض على تركيا السعي بشتى السبل لخلق مجالات تعاون ومصالح مع حزبي طالباني وبرزاني لتأمين خطر ظهور كيان كردي مستقل في شمال العراق يمثل إغراءً لأكراد تركيا للانفصال.
وعلى المستوى الاقتصادي؛ فاقت الخسائر التركية الاقتصادية كل التوقعات؛ بسبب إغلاق خطي أنبوبي النفط، وبسبب توقف التبادل التجاري مع العراق. وتراوحت الخسائر التركية خلال الأزمة ما بين 40 – 50 مليار دولار، ووصلت إلى حوالي 80 مليار دولار خلال السنوات اللاحقة من عقد التسعينيات[91]. وبسبب هذه الخسائر شهد الاقتصاد التركي تراجعًا ملحوظًا في أعقاب حرب الخليج الثانية، كما تزايدت الأصوات المعارضة للسياسة التركية المنحازة للولايات المتحدة خلال حرب الخليج الثانية، وظهرت بالتحديد شكوك لدى العسكريين الأتراك تجاه الخطط الأمريكية في الفترة التي أعقبت تلك الحرب، وأبدوا معارضتهم للتعاون العسكري التركي مع الولايات المتحدة أثناء الأزمة، ورأوا أن هزيمة صدام حسين وتجزئة العراق -كما تكشفت ملامحها في منطقة الحظر الجوي في شمال العراق حيث نشاط أكراد العراق- يمكن أن تقود إلى ظهور منطقة كردية مستقلة تحت المظلة الأمريكية، خصوصًا مع وجود أصوات أمريكية تحبذ هذا الاحتمال[92].
ولذلك عملت تركيا خلال سنوات ما قبل تفجر الأزمة الأمريكية/ العراقية (الغزو والاحتلال) على تحقيق هدفين؛ أولهما- الحرص على الحفاظ على العلاقات القوية مع الولايات المتحدة. وثانيهما- العمل -بشتى السبل- على مواجهة السلبيات الناتجة عن تطورات فرض الحظر الأمريكي على العراق طيلة عقد التسعينيات؛ فبدافع الحرص على العلاقات مع الولايات المتحدة رفضت حكومة بولنت أجاويد طلبًا عراقيًا حمله إليها طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي أثناء زيارته لأنقرة (15-16/2/1999) والتي لم يستقبله خلالها الرئيس سليمان ديميريل؛ بشأن منع استخدام الطائرات الأمريكية والبريطانية لقاعدة “أنجيرليك” في هجماتها ضد العراق؛ حيث أكدت الحكومة التركية التزامها بالسماح لهذه الطائرات باستخدام القاعدة في تنفيذ “الحظر الجوي” على شمال العراق. وكان وزير الخارجية التركي في ذلك الوقت إسماعيل جيم قد أكد الموقف نفسه في 13/2/1999، مبررًا ذلك بأن: “قرار تركيا في هذا الخصوص صادر عن البرلمان ولن يطرأ عليه أي تغيير”.
هذا الموقف كان يعني حرصًا تركيًا على مشاركة الولايات المتحدة وبريطانيا في الضغط على العراق، والاستنزاف المنظم لقدراته، خصوصًا مع تزايد عدد ما تنفذه الطائرات الأمريكية والبريطانية منذ نهاية عملية ” ثعلب الصحراء” في ديسمبر 1998 من طلعات جوية وعمليات قصف لأهداف عسكرية ومدنية في شمال العراق، بما في ذلك ضرب أحياء سكنية في الموصل[93].
وبحرص على مواجهة سلبيات الوضع العراقي على المصالح الاستراتيجية التركية في العراق وبالتحديد القضية الكردية وحماية الأقلية التركمانية؛ سعت تركيا إلى التقارب مع حزبي طالباني وبرزاني من ناحية، ومحاولة فرز المصالح التركية عن المصالح الأمريكية لتأمين المصالح الوطنية التركية؛ فقد اهتمت تركيا بالقيام بدور وساطة بين حزبي جلال طالباني ومسعود برزاني رغم تحفظها على اتفاق واشنطن (في 17/9/1998) بين هذين الحزبين بشأن تشكيل “حكومة انتقالية موحدة مؤقتة في شمال العراق”. وكان هذا التحفظ يتعلق بالأساس بمخاوف تركيا من استمرار فرض تقسيم الأراضي العراقية في ظل التوجهات الداعية إلى إقامة فيدرالية عراقية.
هذه المخاوف لم تمنع تركيا من أن تخلق لها وجودًا بين أكراد العراق؛ بل كانت الدافع الأساسي لهذا الوجود من خلال التوسط بين الحزبين؛ حيث قام دبلوماسي تركي بمصاحبة دبلوماسية أمريكية بزيارة شمال العراق (في الفترة من 15– 19 يناير 1999) والتقيا طالباني وبرزاني في مدينة صلاح الدين، وتوصلا إلى “ضرورة الالتزام ببنود الاتفاق”. ووصف هذا الاجتماع بأنه خطوة لتصفية الخلافات بين الحزبين الكرديين وتوحيد صفوفهما[94].
وفي الوقت نفسه أعلنت تركيا (في 2 فبراير و13 مارس و23 مايو 1999) رفضها المشاركة في الخطة التي وضعتها الولايات المتحدة مع بريطانيا (ابتداءً من يناير 1999) لإسقاط نظام الحكم العراقي بالقوة؛ وهي الخطة التي قامت في إطارها الإدارة الأمريكية في 20/1/1999 بالموافقة على تقديم دعم مادي وعسكري بقيمة 97 مليون دولار لسبع جماعات عراقية معارضة -منها حزب برزاني وحزب طالباني، والمؤتمر الوطني العراقي (أحمد الجلبي)، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية (محمد باقر الحكيم)، والملكيين الدستوريين- كي تتولى مهمة قلب نظام الحكم في العراق، كما قامت واشنطن في 7/2/1999 بتعيين أحد كبار دبلوماسييها في تركيا “ريتشارد ديون” كمنسق لصفوف المعارضة العراقية، وأعلن مؤتمر المعارضة العراقية المنعقد في نيويورك في 1/11/1999 عن تشكيل لجنة مركزية من 51 عضوًا لتنسيق الجهود بين مختلف فصائلها للإطاحة بالنظام العراقي[95].
الرفض التركي للمشاركة في هذه الخطة أو دعمها جاء على أساس تقدير عدم وجود معارضة حقيقية قادرة على قيادة العراق في حالة إسقاط النظام الحاكم، وأن هذه العملية ستؤدى إلى إشاعة الفوضى وإفراز أزمات جديدة في المنطقة وتهدد وحدة أراضى العراق وسيادته عبر قيام الفصائل الكردية العراقية بمحاولة إقامة دولة كردية في شمال العراق؛ مما سيعرض تركيا لمخاطر أمنية كبيرة.
هذه التجربة التركية مع حرب الخليج الثانية وتداعياتها طيلة عقد التسعينيات وحتى تفجر الأزمة الأمريكية/ العراقية بعد تمكن الولايات المتحدة من إسقاط حكم طالبان في أفغانستان؛ كانت محددًا أساسيًا للموقف التركي من حرب الخليج الثالثة من منظور الحرص على تجنب حدوث خسائر استراتيجية واقتصادية تركية من جراء هذه الحرب؛ ومن ثم كانت عامل ضغط على صاحب القرار التركي للعمل على تجنب حدوث الحرب في العراق تحسبًا لحدوث خسائر تركية على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى القضية الكردية.
رغم ذلك كان هناك عامل إغراء آخر يدفع باتجاه القبول بالمطالب الأمريكية، وكان نابعًا من المطامع التركية في نفط الموصل وكركوك، وفي دعم دور مميز للأقلية التركمانية في العراق الجديد.
فتركيا مازالت تتطلع إلى استرجاع ولاية الموصل وعاصمتها كركوك التي يتنازع على هويتها كل من العرب والأكراد والآشوريين والتركمان المدعومين من تركيا، والتي تكتسب هويتها من كونها مصدرًا لثروة نفطية تقدر بعشرة مليارات برميل من النفط الخام كاحتياطيات مؤكدة. وفي بداية القرن العشرين وبعد اكتشاف النفط على نطاق واسع كانت تركيا شريكًا في تحالف دولي بين الشركات Consortiu لاستغلال نفط الموصل وبغداد وقد تم توزيع الحصص فيه على النحو التالي[96]: 50% بنك مللي (السلطنة العثمانية)، 25% رويال دتش- شل (هولندا- بريطانيا)، 25% دويتشه بنك (ألمانيا).
وفي سنة 1914 اشترت شركة النفط البريطانية/ الفارسية نصيب السلطنة العثمانية في الشركة القابضة، وبعدها اشترت الحكومة البريطانية أغلبية الحصص في شركة النفط البريطانية/ الفارسية، وأصبحت بالتالي هي المالك الرئيسي لنفط الموصل. وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى تغير شكل السيطرة على نفط الموصل بسبب تغير موازين القوى نتيجة للحرب. ففي أكتوبر 1918 وقعت السلطنة العثمانية اتفاقية Mudros لوقف إطلاق النار مع قوات الحلفاء، وبمقتضى هذه الاتفاقية وقعت الموصل تحت السيطرة العسكرية البريطانية بعد أن وقعت البصرة وبغداد في يد بريطانيا قبل ذلك بعام. ومنذ ذلك التاريخ ورغم تأسيس العراق بحدوده الراهنة ابتداءً من عام 1921؛ ظلت تركيا تأمل في استعادة لواء الموصل، الذي كان أحد القضايا البارزة في مؤتمر لوزان عام 1923 الخاص بتحديد الشكل القانوني للممتلكات العثمانية في البلاد المختلفة بعد قيام الجمهورية التركية التي لم تتخل عن مطالبها في لواء الموصل، ولكنها وبعد أن قررت عصبة الأمم في ديسمبر عام 1925 تبعية الموصل للمملكة العراقية؛ اعترفت بخط الحدود الذي عينته عصبة الأمم[97].
وعلى الرغم من ذلك ظلت تركيا متحفزة في كل لحظة مناسبة لتجديد الحديث عن الموصل وكركوك، وتأكيد حرصها على حماية مصالح وحقوق الأقلية التركمانية في المنطقة، وبالذات في أربيل وكركوك والموصل؛ في كل مرة تشعر فيها بالخطر على هذه الأقلية، مثلما حدث قبيل الغزو الأمريكي/ البريطانى للعراق عندما أرسلت منظمة تركمانية تركية مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة تبلغه فيها قلقها على الأقلية التركمانية في إقليم كردستان العراق، وأشارت إلى احتمالات إبادتهم من قبل ميليشيات الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني، أما الأكراد فهم دائمًا يتهمون تركيا بالتذرع بحجة حماية الأقلية التركمانية لتبرير تدخلها في شمال العراق[98].
مجمل هذه الاعتبارات كانت تمثل عامل ضاغط على صانع القرار التركي للمشاركة في الحرب الأمريكية على العراق. فهذه المشاركة حسب التصورات التركية يمكن أن تؤمن لتركيا وضع يدها على نفط الموصل وكركوك بما يؤمن لها قدرات هائلة تطمح إليها لتكون قوة إقليمية، كما أن هذه المشاركة يمكن أن تحول دون أي محاولة كردية للسيطرة على مدينة كركوك في ظل طموحات كردية لجعل المدينة عاصمة للجزء الكردي في فيدرالية عراقية يطمح الأكراد لفرضها في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين.
وهكذا فإن المصالح التركية في العراق كانت تشكل عامل رفض لأي مشاركة تركية في الحرب على العراق، كما أنها كانت، في الوقت نفسه، عامل تشجيع لهذه المشاركة.
4- خريطة التفاعلات الإقليمية
تلعب البيئة الإقليمية دورًا أساسيًا في التأثير على قرارات السياسة الخارجية لدول الإقليم الذي تنتمي إليه. فقرار السياسة الخارجية لم يعد مجرد انعكاس للأوضاع والتطورات الداخلية في الدول، ولكنه أيضًا يتأثر بالتطورات التي تحدث داخل الدول المجاورة وبسياساتها الخارجية وبمجمل التفاعلات الإقليمية، الأمر الذي بات يدفع في اتجاه إعطاء أهمية متزايدة للدراسات الإقليمية لفهم السياسة الخارجية للدول أعضاء الأقاليم في العالم[99].
قرار السياسة الخارجية التركي أضحى أكثر اهتمامًا بالتفاعلات الإقليمية منذ تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال دول وسط آسيا ذات الجذور العرقية واللغوية والثقافية والعلاقات التاريخية مع تركيا. كما أن انهيار حلف وارسو وتراجع المكانة التركية داخل حلف شمال الأطلسي زاد من توجه تركيا نحو الشرق وبالذات الشرق الإسلامي والعربي بتشجيع أمريكي؛ حيث بات ينظر إلى تركيا في الكثير من الكتابات الأمريكية خاصة والغربية عامة باعتبارها نموذجًا للدولة الإسلامية التي يرغب العالم الغربي في التعامل معها باعتبارها “الدولة الإسلامية الوحيدة ذات الاتجاه العلماني المعتدل”، والتي تقدم بديلًا مدعمًا غربيًا لما سمى بـ”الفعالية الإسلامية” وموازنًا للتوسع السوفيتي سابقًا والإيراني حاليًا، بالإضافة إلى أنها تطرح نموذجًا للتطبيع بين دولة مسلمة وإسرائيل، وقبل ذلك فهي مثال للاندماج في الغرب. وقد عبر الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عن ذلك بقوله: “إنه في تركيا حيث أوروبا والعالم الإسلامي يمكن أن يتلاقوا في سلام وانسجام”[100].
وجاء وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بانتصار انتخابي ساحق في نوفمبر 2002 ليزيد من ضرورة الوعي بدلالات الموقع التركي وبالهوية الثقافية التركية بشقيها الغربي والشرقي الإسلامي. وقد عبر وزير الخارجية التركي الأسبق إسماعيل جيم عن تنامي هذا الوعي التركي الجديد وحتى قبيل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في محاضرة عن الهوية متعددة الأبعاد، وأكد أن “العمل على الاندماج في الاتحاد الأوروبي وتكريس الوضع المحوري لتركيا في أوراسيا لا يتناقضان بل يتكاملان. فالهوية التركية هي أوروبية وبحر متوسطية وقوقازية وبلقانية وشرق أوسطية، وتمتد جغرافيتها التاريخية والثقافية العريضة من البلقان لآسيا الوسطى، وأن الهوية التركية نتاج لعدة حضارات وثقافات”. وأعلن انطلاقًا من ذلك أنه ومنذ خمس سنوات أعيد تعريف السياسة الخارجية التركية بناءً على خمس نقاط: أولًا- التركيز على هدفين خلال العقد الأول من القرن العشرين؛ هما الانضمام للاتحاد الأوروبي ولعب دور حاسم في منطقة أوراسيا، ثانيًا- التأكيد على الأبعاد الثقافية والتاريخية في السياسة الخارجية التركية، ثالثًا- تطوير علاقات تركيا مع جغرافيتها الثقافية والتاريخية، رابعًا- مخاطبة سوء التفاهم الموروث من الماضي وإعادة تعريف مفهوم “الغرب”، خامسًا- العمل من خلال إدراك أن تركيا المعاصرة تمثل في وقت واحد سبعة قرون من العثمانية مع الثورة والجمهورية[101].
هذا التعريف الجديد لأبعاد السياسة الخارجية التركية يزيد من وزن وتأثير العامل الإقليمى والتطورات الإقليمية ومواقف وسياسات القوى الإقليمية في السياسة الخارجية التركية، وكان أوضح ما يكون في تحديد السياسات التركية من الأزمة الأمريكية/ العراقية. فقد أعطت الحكومة التركية أهمية بارزة لمواقف القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة في تحديد سياساتها ومواقفها إزاء الأزمة، وجاءت مبادرة عبد الله جول وقت أن كان رئيسًا للوزراء قبل تسلم رجب طيب أردوغان مهامه كرئيس للوزراء بالدعوة إلى عقد اجتماع لوزراء خارجية دول الجوار الإقليمي للعراق، وقيامه بجولة في عدد من عواصم دول المنطقة لهذا الغرض، لتؤكد أهمية وتأثير مواقف دول الجوار على السياسة الخارجية التركية وبالذات على الموقف من الأزمة الأمريكية/ العراقية. فقد لعبت مواقف هذه الدول، ومداولات وزراء الخارجية وتوجهاتهم نحو الأزمة وسبل حلها خلال اجتماع إسطنبول -وهو الاجتماع الأول لدول الجوار الإقليمي للعراق ضمن سلسلة اجتماعات مشابهة- دورًا مؤثرًا في صنع القرار التركي إزاء الأزمة.
ولقد لقيت جولة عبد الله جول التي سبقت اجتماع إسطنبول استهجانًا كبيرًا في واشنطن وتل أبيب، خاصة بعد الترحيب الكبير الذي قوبل به في العواصم العربية التي زارها والتي عبرت عن استعدادها للحوار والتنسيق مع أنقرة لمنع وقوع الحرب في المنطقة.
لكن في الوقت نفسه سعت أوساط داخلية تركية لعرقلة هذه الجولة والتقليل من أهميتها بالوسائل المختلفة لمنع حكومة جول من تطبيق برنامجها الجديد في الانفتاح على الدول العربية. وركزت هذه الأوساط على تذكير الشارع التركي بارتباط معظم الأنظمة العربية بواشنطن، وأن هذه الأنظمة لن تتردد في التخلي عن وعودها لأنقرة وتسبقها في التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد العراق[102].
لقد ترددت أنباء من داخل تركيا في ذلك الوقت تؤكد على أن عبدالله جول كان يعقد آمالًا كبيرة على سياساته تجاه العرب، ويأمل من الحكومات العربية أن تكون على مستوى المشاعر التي يحملها هو وحكومة حزب العدالة والتنمية تجاه العرب خاصة أن أي موقف عربي عملي في الرد على سياسات أنقرة الجديدة سيمنح جول وحكومته المزيد من القوة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي ستستمر في التشكيك في العرب ومواقفهم تجاه تركيا[103].
ولسوء الحظ جاء اجتماع إسطنبول وبيانه الختامي أقرب إلى “رفع العتب” عن كاهل الدول الست المشاركة فيه (تركيا وإيران ومصر والسعودية وسوريا والأردن)؛ فقد ورد في البيان عبارة أن “شبح الحرب يبدو كبيرًا في العراق”؛ كمستند يبرر فيه المجتمعون الفقرات الموجهة بشكل رئيسي إلى بغداد حول “تحمل مسئولياتها بكل صدق، وعدم العودة إلى الوراء، وتحقيق المصالحة الوطنية، والإيحاء بالثقة تجاه الجيران، والتعاون مع المفتشين، وتأكيد الالتزام بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة”[104].
لم يهتم البيان بمواجهة الأطراف التي تريد الحرب وتعمل لها على مدار الساعة وتواصل استقدام الحشود والتعزيزات لشنها، وتسعى إلى افتعال الذرائع التي تبرر لها إشعال فتيلها، وحمّل البيان العراق المسئولية وإن كان قد خاطب مجلس الأمن الدولى هو الآخر بتحمل مسئولياته، وظهر جليًا أن الدول المشاركة في اجتماع إسطنبول غير مستعدة أو غير معنية باتخاذ مواقف حاسمة ضد الولايات المتحدة لمنع الحرب.
هذا الموقف الذي اتخذته دول الجوار كان مؤشرًا واضحًا لأنقرة كي تميل أكثر نحو الليونة في مواقفها إزاء المطالب الأمريكية.
ثانيًا- تركيا والأزمة الأمريكية/العراقية
للوهلة الأولى يبدو الموقف التركي من الأزمة الأمريكية/العراقية موقفًا مترددًا على أكثر من مستوى. فهو يبدو مترددًا بين الاستمرار في دعم الجهود السلمية لحل الأزمة من خلال مجلس الأمن والحيلولة دون فرض الحل العسكري، وبين مجاراة الولايات المتحدة في استعداداتها لغزو العراق أخذًا بمقولة رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم (قبل أن يتولى رئاسة الحكومة) إن: “تركيا إذا خرجت من المعادلة من بدايتها، فقد لا تكون في وضع يمكنها من السيطرة على التطورات في نهايتها مما يعرضها للخطر”[105]. وهو يبدو مترددًا بين موقف شعبي رافض للحرب على العراق يعبر عنه في الشارع السياسي وداخل البرلمان التركي، وبين موقف رسمي (الرئيس– الحكومة– الجيش) حريص
على درء أي مخاطر قد تتعرض لها تركيا من جراء نشوب الحرب، مع طموح غير مستتر للحصول على أعلى المكاسب؛ بما يفرضه ذلك من استجابة للمطالب الأمريكية. وهو يبدو أيضًا مترددًا بين الإقدام بحماس للتفاوض مع الولايات المتحدة حول شروط أو ثمن الاستجابة التركية للمطالب الأمريكية، وبين الإحجام والعزوف والحرص على تصعيب المهمة أمام الأمريكيين بالتشدد في الشروط التي كان يمكن تفسيرها على أنها كانت تهدف إلى إفشال التفاوض مع الأمريكيين.
هذا التردد كان مجرد تعبير ظاهري عن حالة تفاعل داخلي مكثفة أخذت في اعتباراتها كافة المحددات والعوامل الداخلية والخارجية التي حكمت الموقف التركي.
لقد تحدث رجب طيب أردوغان في مقال شهير له تحت عنوان “رؤية استراتيجية مشتركة” في صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عن هدفين رئيسيين حكما التعامل التركي مع الأزمة الأمريكية/ العراقية؛ هما الهدف الاستراتيجي أو الاعتبارات الاستراتيجية، والهدف الاقتصادي أو الاعتبارات الاقتصادية التي فرضتها تجربة حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) وتداعياتها السلبية على الاقتصاد التركي.
تحدث أردوغان عن أن شمال العراق يشكل تحديًا مستمرًا لأمن تركيا القومي، وأن القلق ظل يساور تركيا والولايات المتحدة بشأن الأثر الذي يمكن أن ينتج عن مخلفات المشكلة العراقية، خاصة أنشطة المنظمات الإرهابية أو الكوارث الإنسانية التي سببتها سياسة نظام صدام حسين، وكذلك الحال بشأن الاستقرار السياسي والاقتصادي طويل المدى في المنطقة. ومع اعتراف أردوغان بأن الولايات المتحدة كقوة عالمية رائدة يترتب عليها أن تتصدر مواجهة هذه المشكلات فإنه يرى أن تركيا -التي تعد نفسها أيضًا من الزعامات القيادية في المنطقة- يتوجب عليها أن تتصدر لمواجهة هذه المشكلات وهي تواجه نزاعًا على حدودها مباشرة؛ وهذا يتطلب منها “الاستجابة والتصدي ممارسة لحقوقها الشرعية”[106].
أما من ناحية الاعتبارات الاقتصادية فيرى أردوغان أن الموقف التركي المساند لحرب تحرير الكويت “كان وبالًا على تركيا وشعبها. لقد نتج عن ذلك أزمات وكساد اقتصادي على بلادنا لم نتمكن من الخروج منها إلا مؤخرًا، كما تقاطر علينا نصف مليون لاجئ طلبًا للمساعدة الإنسانية، فضلًا عن وقوع العديد من العمليات الإرهابية المشينة، قامت بها عناصر انفصالية دخلت تركيا بعد الحرب؛ مما تسبب في إزهاق آلاف الأرواح البريئة”. وبرغم ذلك فإن الدعم التركي لكل من الولايات المتحدة والأمم المتحدة لنزع سلاح النظام العراقي “ظل قويًا وشاملًا”. ومع علم تركيا بما سيلحقها من ضرر وأذى، فقد ظلت حريصة على مساندة الأمم المتحدة لفرض عقوبات اقتصادية على العراق. لقد سمحت تركيا باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية للمساعدة في إمداد اللاجئين بالضرورات الإنسانية، ولاحقًا كقاعدة مساندة ومراقبة حينما تقرر إبقاء شمال العراق منطقة خالية من الطيران في ما أطلق عليها “عمليات المراقبة الشمالية”[107].
هذا الدور التركي في خدمة السياسة الأمريكية دفعت تركيا ثمنه غاليًا، وأراد أردوغان أن يقول إن مشاركة تركيا في حرب جديدة في العراق ستدفع تركيا ثمنًا أفدح له؛ الأمر الذي يفرض عليها أن تبحث في التعويضات الاقتصادية مسبقًا قبل أن تتورط مع الولايات المتحدة في هذه الحرب، وأن تعمل -من باب أولى- على منع وقوع هذه الحرب.
وبدافع من هذين الاعتبارين جاء التعامل التركي مع الأزمة الأمريكية/ العراقية حريصًا على الاستعداد لمختلف الاحتمالات بما يحقق لتركيا هدفين رئيسيين هما: درء المخاطر، وتعظيم المكاسب. وقد عبرت تركيا عن التزامها بهذين الهدفين من خلال اتباع مسارين أساسيين فرضتهما تطورات الأزمة: مسار الحل السلمي ومسئولياته لدرء مخاطر حدوث الحرب سواء كانت تلك المخاطر استراتيجية أم اقتصادية، ومسار الانخراط في الحل العسكري لتحقيق أعلى قدر من المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية أيضًا. وفي كلتا الحالتين كان التقدم والتراجع التركي في التعامل مع هذين المسارين محكومًا بالمحددات والعوامل الرئيسية التي حكمت التفاعل التركي مع الأزمة وتداعياتها، وفرضت عليه ذلك التردد الظاهرى الذي كان في حقيقته يعكس حرصًا على حل المتناقضات بين دوافع وموانع التورط في الحرب إلى جانب الولايات المتحدة ضد العراق.
وقد التزمت تركيا بنهج هذين المسارين دون انفصال بينهما طيلة الأشهر التي شهدت سخونة الأزمة بين الولايات المتحدة والعراق حتى وقوع الغزو، ولكن في ظل الاحتلال حدثت متغيرات جديدة في الأزمة فرضت تطوير التعامل التركي معها بما يتلاءم مع تداعياتها ولكن دون تفريط في الحرص على درء المخاطر والسعي لتعظيم المكاسب.

1- مرحلة ما قبل الغزو

كان المزج المتزامن بين مسارى الحل السلمي والاستعداد للاستجابة لمطالب الحرب الأمريكية على العراق واضحًا على التفاعل التركي مع الأزمة لدرجة دفعت البعض إلى وصف الموقف التركي بالتردد بين خياري السلام والحرب وبازدواجية المواقف.

أ– مسار الحل السلمي

كان الحل السلمي في كل الأوقات هو الحل الأمثل والمفضل لتركيا حكومة وشعبًا. فالشعب التركي حسم موقفه مبكرًا من الأزمة، فقد أكدت استطلاعات الرأي أن 94% من الأتراك يرفضون الحرب الأمريكية على العراق، أي إن من يؤيدون الحل السلمي 94% من الشعب التركي، كما أكدت تلك الاستطلاعات أن 78% يرفضون أي مشاركة تركية في هذه الحرب في حالة حدوثها.
ولم يكن بمقدور حزب العدالة والتنمية -وهو الحزب الذي حظى بدعم شعبي غير مسبوق في انتخابات نوفمبر 2002- أن يتجاوز مثل هذا الموقف الشعبي، وألا يضعه على أولوية التزاماته في تعامله مع الأزمة ولكن دون تقاعس عن الدفاع عن المصالح الوطنية التركية عندما تكون الحرب هي الخيار الوحيد المفروض.
كانت هناك اعتبارات أخرى لدى حكومة حزب العدالة والتنمية؛ وهي تؤكد حرص تركيا على فرض الحل السلمي للأزمة. كانت هناك اعتبارات العلاقات التركية مع الدول العربية المجاورة، واعتبارات العلاقات التركية/ الأوروبية؛ حيث وقفت أغلبية الدول الأوروبية الفاعلة في الاتحاد الأوروبي خاصة فرنسا وألمانيا ضد الاندفاع الأمريكي/ البريطاني لفرض الحل العسكري. فتركيا لم تكن مستعدة -في ظل حكم حزب العدالة والتنمية- لتحمل مسئولية المشاركة في احتلال دولة عربية؛ حرصًا منها على عدم استعادة عداوات تاريخية وذكريات ثقافية مؤلمة لدى الشعوب العربية. كما أنها لم تكن مستعدة للدخول في صدامات مع الاتحاد الأوروبي في وقت تحرص فيه على نيل عضويته. كانت الأزمة الأمريكية/ العراقية فرصة أمام تركيا للتقارب مع الموقف الفرنسي/ الألماني، ولكن مع حرص على عدم الصدام المكشوف مع الموقف الأمريكي، وعدم تعريض مصالح استراتيجية تركية للخطر في حالة التورط في مثل هذا الصدام.
ولقد أعطت تركيا أكثر من إشارة لمعارضتها الحرب على العراق وإعطاء الأولوية للحل السلمي. من بين هذه الإشارات إرسال وفد ضخم يضم 350 من رجال الأعمال الأتراك برئاسة وزير الخزانة والتجارة الخارجية كورشاد توزمان إلى العراق لبحث فرص زيادة التبادل التجاري بين البلدين، وأيضًا لنقل رسالة مهمة إلى الرئيس العراقي صدام حسين من رئيس الوزراء التركي عبد الله جول، في الوقت الذي كان قد بدأ فيه جول زيارته للسعودية ضمن جولة تشمل عددًا من الدول العربية وإيران للبحث في حل إقليمي للأزمة يحول دون وقوع الحرب ضد العراق. وعلى الرغم من محاولة وزير الخزانة والتجارة الخارجية التركي التقليل من أهمية البعد السياسي لزيارته إلى بغداد؛ فإنه أقر بأن الرسالة التي يحملها إلى الرئيس العراقي تحثه على ضرورة الالتزام بقرارات الأمم المتحدة من أجل تجنيب المنطقة خطر الحرب[108].
وجاءت جولة عبد الله جول رئيس الحكومة التركية آنذاك لسوريا والأردن ومصر والسعودية وإيران للبحث في ضرورة التوصل إلى دور إقليمي يسفر عن حل إقليمي سلمي للأزمة؛ لتؤكد على هذا التوجه التركي الداعم للحل السلمي، وهو التوجه الذي قاد إلى عقد اجتماع إسطنبول لدول الجوار الإقليمي للعراق في 23 يناير 2003. وكانت الصحف التركية المعتدلة (خاصة “يني سافاك” و”ميللي جازته” و”يني آسيا” و”حرّيت”) قد أكدت أن حكومة جول تسعى لتكوين جبهة سلام مشتركة بينها وبين مصر والأردن وسوريا والسعودية وإيران لمواجهة سيناريو الحرب الذي تعده الولايات المتحدة. وكان جول قد شدد في تلك الجولة التي سبقت اجتماع إسطنبول على الخسائر الاقتصادية والقومية التي ستترتب على ضرب العراق؛ من حيث صعوبة جبر الكسر الذي سينتج عن تدمير وحدة العراق، وأيضًا صعوبة إعادة الوضع في المنطقة إلى حالته الأولى في حالة قيام الحرب بالنظر إلى تعدد قضايا الإثنيات والعرقيات والطوائف المختلفة التي ستتصاعد مخاطرها مع الحرب[109].
وفي تعليقه على نتائج اجتماع إسطنبول السداسي (مصر وتركيا وإيران والسعودية وسوريا والأردن) قال عبد الله جول إن: “العراق وحده القادر على المساهمة في الالتزام بالقرارات الدولية بشكل تام وتبرئة ساحته في التقارير”[110]، ويقصد تقارير المفتشين الدوليين بخصوص موضوع أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة.
هذا التركيز التركي على مسئولية الجانب العراقي -دون التعرض إلى المسئولية الأمريكية في تصعيد وربما افتعال الأزمة- هو ذاته الموقف الذي عبر عنه اجتماع إسطنبول؛ أي هو نفسه موقف الدول الخمس الأخرى بما فيها إيران بالطبع؛ حيث دعت الدول الست المشاركة في الاجتماع العراق إلى الالتزام بقرارات الأمم المتحدة عبر التعاون الكامل مع مفتشي نزع الأسلحة. وأكدت في الوقت نفسه أن مجلس الأمن هو صاحب القرار في إجازة أي عمل عسكرى ضد العراق، وهذه الفقرة اعتبرت إشارة إلى الولايات المتحدة برفض الدول الست لأي عمل عسكري أمريكي بقرار منفرد خارج عن الشرعية الدولية.
وقد حرص يشار ياقيش (وزير الخارجية التركي آنذاك) على أن يوضح بعد انتهاء اجتماع إسطنبول أن المجتمعين تجنبوا أي إشارة مباشرة إلى الولايات المتحدة مفضلين الضغط على بغداد قائلًا: “إن الرسالة كانت موجهة أكثر إلى العراق”[111]. هذا التأكيد يعيدنا إلى اقتراح كان قد جاء على لسان يشار ياقيش نفسه ويدعو إلى خروج صدام حسين من العراق حلًا للأزمة. ولكن عبد الله جول في زيارته للقاهرة قبيل انعقاد اجتماع إسطنبول -وردًا على سؤال حول تصريحات ياقيش بأن حل مشكلة العراق سيتم من خلال نفى الرئيس العراقي وما إذا كانت تركيا تود استضافته- حرص على القول “إن هذه التصريحات قد تعرضت لسوء الفهم كغيرها من التصريحات” غير أنه عاد ليقول إنه: “يتعين علينا التفكير في الكثير من البدائل والأمور والاحتمالات نظرًا لأن الحرب ليست أمرًا محمودًا”[112].
وفي تفسيره لما سمي بـ”المبادرة الدبلوماسية التركية النشطة” التي قام بها رئيس الوزراء التركي آنذاك عبد الله جول من خلال جولته بالمنطقة واستضافته اجتماع إسطنبول السداسي قال البروفيسور أحمد داود أوغلو (كبير مستشاري جول للشئون الخارجية) إنه بسبب خصوصية العراق العرقية والمذهبية والجيوبوليتيكية والتي يمكن اعتباره بسببها شرق أوسط صغير تمامًا -مثلما يمكن اعتبار أفغانستان آسيا وسطى مصغرة واعتبار يوغسلافيا بلقان مصغر- يعتبر الاستقرار في العراق استقرارًا للشرق الأوسط كله. وتركيا تعتبر الاستقرار الإقليمى هدفًا استراتيجيًا لها. ومن هنا جاءت المبادرة الدبلوماسية النشطة للسلام التي قامت بها تركيا بهدف خلق أرضية للتشاور مع القوى الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط، وطرح بديل سلمي مقنع بالنسبة للولايات المتحدة وتجنيب العراق الفوضى[113].
وظلت تركيا حريصة على هذا الحل السلمي، لذلك فإن عبد الله جول رئيس الحكومة التركية آنذاك عندما وصلت الأزمة إلى مراحلها الصعبة وبدأت الضغوط الأمريكية على تركيا تزداد كثافة تعمد تحميل الدول العربية مسئولية الوضع الذي آلت إليه بلاده، وقال: “فضل بعض أشقائنا العرب العمل من خلال جامعة الدول العربية وتهربوا من التنسيق معنا”. وقال إنه سعى لعقد قمة عاجلة في دمشق وأقنع الرئيس أحمد نجدت سيزار بالمشاركة فيها، وتحدث بشأنها إلى الرئيسين السوري والمصري والعاهل الأردني، لكنه قال إن دعوته لم تلق الاهتمام والحماس من بعض الزعماء العرب، واستغرب التوقيت الزمني لدعوة الجامعة العربية لعقد قمتها. وتساءل: “أين كان العرب طوال الفترة الماضية”[114]. ولفتت مصادر مقربة إلى رئيس الحكومة التركية الانتباه إلى الضغوط التي يتعرض لها جول يوميًا من الأوساط السياسية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية؛ والتي لم تتردد في تهديده وتهديد بلاده بشكل عام. وقالت إن المسئولين الأمريكيين وعلى أعلى المستويات -وأحيانًا الأوروبيين- يتصلون يوميًا بجول، في حين لم يفكر أي من الزعماء العرب في الاتصال به لإبلاغه بمساعي الدول العربية لعقد قمة لم تدع تركيا إلى حضورها ولو بصفة مراقب[115].

ب- مسار الحل العسكري

أدركت النخبة التركية الحاكمة مبكرًا أنها إن لم تستطع تحقيق نجاحات ملموسة في مسار الحل السلمي للأزمة الأمريكية/ العراقية؛ فإنها لا تستطيع أن تكون خارج قرار الحرب، ولكن بالشروط التي تكفل حماية المصالح الاستراتيجية التركية، وبالثمن الذي يتناسب مع حجم وفداحة الخسائر والتضحيات التي سوف تتحملها تركيا في حالة المشاركة في الحرب؛ سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عن طريق تقديم الدعم اللوجستي المطلوب للقوات الأمريكية التي سوف تقوم بغزو شمال العراق انطلاقًا من الأراضي التركية.
وفق هذا الإدراك يمكن فهم الإقدام التركي على إظهار الحرص على الاستجابة للمطالب الأمريكية والتراجع المفاجئ عن تقديم المزيد من المطالب والشروط، وكذلك يمكن فهم تباين الموقف بين الحكومة والجيش من جانب وبين البرلمان التركي من جانب آخر؛ على أنه بمثابة مساع لتعظيم المكاسب التركية وتحقيق أعلى قدر من الأمان بالنسبة لمصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي، كما يمكن فهمه أيضًا على أنه حرص من جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم على إظهار قدرٍ عالٍ من الالتزام بالموقف الشعبي الرافض بشدة للحرب على العراق وللمشاركة التركية فيها.
والولايات المتحدة أدركت من جانبها هذا الفهم التركي وتعاملت معه في الحدود التي تتناسب مع أهمية الدور التركي في الحرب على العراق وبما لا يتجاوز هذا الدور. ولأن الدور التركي كان على قدر كبير من الأهمية فقد بادرت واشنطن بإيفاد كل من وكيلى وزارتي الخزانة والخارجية الأمريكيين جون تايلور ومارك جروسمان لإجراء مباحثات مع مسئولين في الحكومة التركية تتعلق بتفاصيل الـ20 مليار دولار ذُكر أن واشنطن قد وعدت بتقديمها لأنقرة مقابل موافقتها على المطالب الأمريكية[116].
وهذه المطالب وردت في رسالة من سبع صفحات سلمتها الإدارة الأمريكية للسفير التركي في واشنطن، وتضمنت قائمة المطالب فتح المطارات والموانيء التركية أمام القوات الأمريكية، ونشر 100 ألف جندي أمريكي على الحدود بين تركيا والعراق، كما تضمنت مطالبة تركيا بحشد 35 ألف جندي تركي للمشاركة في المعركة مقابل وعد بإلغاء كافة الديون العسكرية المستحقة على تركيا والتي تبلغ 7 مليارات دولار، وإنهاء المشكلات المتعلقة بتوريد الأسلحة الأمريكية لتركيا.
إزاء هذه المطالب الأمريكية ظهر التباين في الموقف التركي بما يعكس ترددًا بين القبول والرفض لهذا الطلب. ففي حين ألمح عبد الله جول (رئيس الحكومة آنذاك) في حديث مع شبكة “سي.إن.إن” الإخبارية الأمريكية خلال جولته في الشرق الأوسط إلى أن تركيا ستسمح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها العسكرية في حالة شن حرب على العراق، لكنه حرص على أن يقول إن: “القرار يعود إلى البرلمان التركي”، وعاد ليكرر نفس المعنى المزدوج ويقول ردًا على سؤال هل ستسمح تركيا لواشنطن بالقيام بطلعات عسكرية ضد العراق انطلاقًا من الأراضي التركية: “نحن حلفاء استراتيجيون، ونريد تعميق وتعزيز علاقاتنا مع الولايات المتحدة بالتأكيد. فعلاقاتنا قديمة جدًا، وفي المستقبل، سوف نتعاون من دون أي شك، لكن بالتأكيد البرلمان هو الذي سيقرر”. وأوضح جول: “نحن بلد ديمقراطي، وحسب دستورنا، بعض الأشياء لا يمكن أن يتخذ أي قرار بشأنها إلا في البرلمان”[117].
أما وزير الخارجية يشار ياقيش فقد أعلن أن حكومة بلاده غير مستعدة -على عكس ما تشير إليه الصحف التركية- لنشر أو مرور وحدات عسكرية أمريكية من تركيا، كما أن الرأي العام التركي غير مستعد لهذا أيضًا. وأضاف ياقيش المزيد عن الموقف التركي في حديث لصحيفة “حرّيت” التركية قائلًا: “لن ندخل مع الولايات المتحدة يدًا بيد إلى منطقة شمال العراق، ولكن في حال اندلاع الحرب ستشهد منطقة شمال العراق تطورات مختلفة ستتضرر معها المصالح الوطنية التركية وستظهر أوضاع سلبية تؤثر في تركيا”. وقال أيضًا إن: “أمن تركيا وكذلك مصالح الأقلية المتحدثة بالتركية في شمال العراق يعنى أن تركيا لها مصلحة في استقرار المنطقة الواقعة عند حدودها الجنوبية الشرقية”.
الأهم من هذا هو حديث ياقيش عن طموحات تركيا في الموصل وكركوك والثروة النفطية في شمال العراق، ففي رده على سؤال عما إذا كانت تركيا ترى أن لها حقوقًا في نفط كركوك والموصل قال: “إننا ندرس الموضوع حاليًا لمعرفة ما إذا كان لنا حقوق أم لا، وإذا كان لنا حق فمن الضروري الحصول عليه؛ ليس من خلال استخدام القوة وإنما من خلال شرح الأمر للمجتمع الدولي لتأمين حقوقنا”[118]، وهذه هي المرة الأولى التي يعلق فيها مسئول تركى بهذا المستوى حول المعاهدات الدولية التي أبرمت في عشرينيات القرن الماضى بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، ويبرز اعتزام تركيا أن يكون لها كلمة مسموعة في مستقبل النفط العراقي بعد الحرب، خصوصًا وأن ياقيش ذكر: “إن محامين يدرسون الوثائق حاليًا.. بمعنى آخر لابد أن نتأكد مما إذا كان هناك أي شيء في سنوات لاحقة أدى إلى إلغاء تلك الحقوق”[119].
وتوالت الشروط التركية بعد ذلك؛ فقد ربط الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار موافقة بلاده على نشر قوات أمريكية على أراضيها بضرورة صدور قرار عن الأمم المتحدة يجيز تدخلًا عسكريًا ضد العراق قبل أن تفتح تركيا أراضيها لنشر جنود أمريكيين[120]، وكان عبد الله جول رئيس الوزراء التركي آنذاك قد أعلن في جولته الشرق أوسطية قبيل انعقاد اجتماع إسطنبول لدول الجوار أن أنقرة “تعتبر أن قرارًا ثانيًا من مجلس الأمن الدولي ضرورى قبل أي استخدام للقوة ضد العراق”[121]. أما رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية فقد دعا (قبل أن يتولى رئاسة الحكومة) الولايات المتحدة إلى “إبداء تجاوب أكبر مع مطالب أنقرة بشأن تقديم مساعدات اقتصادية في حال نشوب حرب في العراق”، وحذر من أن تركيا قد تتراجع عن التزاماتها إلى جانب حليفها الأمريكي[122].
وقد حرص عبد الله جول رئيس الحكومة في معرض ابتزاز الإدارة الأمريكية وتعويض خسائر بلاده في حرب تحرير الكويت على توظيف قرار البرلمان للحصول على مزيد من المعونات الاقتصادية المباشرة، فقد أعلم جول الإدارة الأمريكية أنه ليس من السهل الحصول على موافقة البرلمان طالما أن معظم النواب وأعضاء حكومته معارضون للحرب الأمريكية على العراق، ولذا فإنه على الولايات المتحدة الموافقة على المطالب التركية لتسهيل تصويت البرلمان لصالح نشر القوات الأمريكية[123].
وامتدت المطالب التركية إلى التعويضات بجانب المساعدات، ووصلت هذه التعويضات المطلوبة إلى حقول نفط شمال العراق، أو الحصول على نسبة 10% من النفط العراقي بعد إسقاط نظام صدام حسين؛ حيث أبلغت تركيا المسئولين الأمريكيين بأن الخسائر التركية ستصل إلى 28 مليار دولار بسبب الحرب، ناهيك عن النفقات العسكرية للحرب[124].
لم تقتصر الشروط والمطالب التركية على ذلك، ولكنها امتدت لمطالب أخرى تتعلق بتأمين تركيا من أي عدوان أو ردود فعل عراقية في حال مشاركتها في الحرب إلى جانب الولايات المتحدة. فقد طلبت من حلف الأطلسي توفير الحماية اللازمة للدولة التركية ضد أي اعتداء متوقع من العراق على الأراضي التركية على سبيل الانتقام بسبب مشاركة تركيا في الحرب، وتقديمها دعمًا لوجستيًا واستراتيجيًا للولايات المتحدة. واقترح المسئولون الأتراك أن يقوم حلف الأطلسي بنشر بطاريات صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ في الأراضي التركية. كما طالب السفير التركي لدى حلف الأطلسي بتطبيق المادة الرابعة من ميثاق الحلف مع تركيا؛ وهي المادة التي تدعو الدول الأعضاء إلى عقد اجتماع طارئ في حال استشعار أي عضو لخطر يهدد أمنه وسلامته.
وقد دعمت واشنطن هذا الطلب الذي اعترضت عليه بلجيكا وفرنسا وألمانيا؛ الأمر الذي تسبب في إحداث أزمة حقيقية داخل الحلف انتهت بموافقة الدول الثلاث على قيام الحلف بتزويد تركيا ببطاريات صواريخ باتريوت فضلًا عن طائرات للرادار المحمول جوًا من طراز “أو إكس”، إلى جانب وحدات عسكرية خاصة معنية بالتعامل مع احتمالات استخدام العراق لأسلحة دمار شامل[125]، كما وافقت واشنطن على منح تركيا 6 مليارات دولار كمنح و10مليارات دولار كقروض، كما وعدت بإجبار العراق على دفع تعويضات الحرب، وأن يتم تعويض تركيا من خلال صندوق تعويضات الحرب المزمع تأسيسه عقب انتهاء الحرب.
وعادت الحكومة التركية لتقبل فكرة نشر قوات أمريكية فوق الأراضي التركية؛ بحيث تركزت المفاوضات ليس على المبدأ ذاته بل على شروط تنفيذه، وكثر الحديث عن شروط تركية للموافقة على ذلك منها: عدم السماح بإقامة دولة كردية في شمال العراق، وأن يكون الشعب العراقي مسئولًا عن اختيار نظام حكمه الجديد، وأن يحصل التركمان على نفس حقوق الفصائل الكردية في حالة إقامة فيدرالية عراقية، مع تعهد واشنطن بعدم تسليح الفصائل الكردية بأسلحة ثقيلة، وعدم توفير حماية لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض، وأن يتم السماح للقوات التركية بالتوغل إلى عمق 75 كم داخل العراق. كما أعلن رجب طيب أردوغان أن بلاده لا تستطيع وحدها المشاركة في الهجوم الأمريكي المرتقب على العراق، وأكد على ضرورة وجود تحالف مع دول مثل مصر والسعودية وسوريا، لأن خسائر تركيا ستكون كبيرة إذا شاركت وحدها، ويبدو أن جولة عبد الله جول رئيس الحكومة في بعض عواصم المنطقة قبيل انعقاد اجتماع إسطنبول كانت من أجل البحث في هذا الموضوع.
واضح من كل تلك الشروط التركية التي وصل بعضها إلى الإعلان عن أن تركيا سوف تحتل مدينتى كركوك والموصل بدعوى حماية تركمان العراق، ومنع الأكراد من السيطرة على نفط هاتين المدينتين[126]، أن الحكومة التركية كانت تضغط لتعظيم المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية التي ستحصل عليها من الولايات المتحدة من جهة، وأنها كانت تريد أن تؤمن نفسها أمام الشارع التركي الرافض للحرب، وأن تحافظ على صورتها أمام دول المنطقة من جهة أخرى، لكن الحكومة التركية كانت حريصة أيضًا على إظهار جديتها في التعامل مع سيناريو الحرب لإقناع الولايات المتحدة بتقديم الثمن المطلوب.
ففي سياق الاستعداد للحرب قال مسئول حكومي تركي إن بلاده أوقفت استيراد النفط الخام بواسطة الصهاريج من العراق، كما أنها أوقفت حركة التجارة البرية عبر حدودها الجنوبية مع العراق، وأعلن وزير الخارجية أن أنقرة أجلت دبلوماسييها من سفارتها في بغداد كإجراء احترازي بسبب احتمال وقوع “أعمال غير منضبطة” قد تنتج عن قرار الحكومة التركية فتح أراضيها أمام القوات الأمريكية[127].
ومثلما ضغطت أنقرة على واشنطن كانت واشنطن حريصة هي الأخرى على الضغط المباشر وغير المباشر على أنقرة. فقبل الإعلان عن إخفاق الجانبين التركي والأمريكي في التوصل إلى اتفاق قالت واشنطن إنها في حاجة إلى رد عاجل، وبعد ذلك صرحت بأنه لم يتبق الكثير من الوقت بشأن ضرورة موافقة أنقرة على نشر قوات أمريكية فوق أراضيها للمضي في الحملة العسكرية ضد العراق، وذكرت مصادر أن واشنطن هددت أنقرة بإيقاف المساعدات الأمريكية والدولية عنها، وبعدم دعمها في الملف القبرصي، والتصويت على قرار دولي يحملها مسئولية مذابح الأرمن عام 1915.
وأعلن آرى فلايشر أن واشنطن قدمت عرضًا نهائيا للمساعدات الاقتصادية إلى تركيا بهدف تأمين فتح قواعدها أمام قوات أمريكية تنتظر رد أنقرة، إلا أنه لم يبق كثير من الوقت لانتظار هذا الرد وقال: “أتت اللحظة التي يتعين فيها وضع الخطط واتخاذ القرارات ولا يمكن تمديدها إلى أجل غير مسمى”[128].
كما هدد بول وولفوتيز مساعد وزير الدفاع الأمريكي أنقرة قائلًا إنه إذا لم يصدر البرلمان التركي الإذن المطلوب في موعد أقصاه اليوم (الثلاثاء 18/2/2003) فإن السفن التي تحمل الجنود الأمريكيين والموجودة بالقرب من قبرص ستغير وجهتها إلى البحر الأحمر والخليج وسيتم الاستغناء عن الجبهة الشمالية والدور التركي تمامًا[129].
وقد نقل السفير الأمريكي في أنقرة روبرت بيرسون تفاصيل العرض الأمريكي لتركيا وتضمن التعهد بالتبرع بأربعة مليارات دولار كمساعدات مالية لتركيا، ووعد بشطب ملياري دولار من ديون تركيا العسكرية السابقة، والاعتراف لتركيا بامتيازات وأولويات خاصة في التجارة مع الولايات المتحدة، كما أبلغت واشنطن أنقرة أنها ستخصص لها مليار دولار من نفط العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، وتخلت واشنطن عن طلبها وضع القوات التركية شمال العراق تحت قيادة عسكرية أمريكية، واكتفت بالتأكيد على ضرورة توظيف ضباط أتراك في مقر القيادة العسكرية الأمريكية في الدوحة وديار بكر تكون مهمتهم التنسيق بين الجيشين الأمريكي والتركي خلال العمليات العسكرية شمال العراق.
لكن الحكومة التركية تحفظت على هذه المقترحات واعتبرتها غير واضحة ولا يمكن الاعتماد عليها، وقالت إن الإدارة الأمريكية واصلت ضغوطها وهددت بإيقاف المساعدات المالية الأمريكية والدولية، وأنها لن تستطيع بعد الآن إقناع الكونجرس بضرورة مساعدة تركيا سياسيًا واقتصاديًا[130].
ورغم هذه التحفظات من الحكومة التركية إلا أنها اضطرت ربما بعد التأكد من جدية التهديدات الأمريكية، إلى تقديم مذكرتها إلى البرلمان يوم السبت الأول من مارس 2003 التي تطالب فيها بنشر 62 ألف جندي أمريكي فوق الأراضي التركية، ولكن البرلمان رفض هذه المذكرة بعد أن أيدها 264 نائبًا وعارضها 250 وامتنع 19 نائبًا عن التصويت حسب تصريحات أدلى بها رئيس البرلمان بولند أدينج، ولذا تم استبعادها لأنها نالت تأييدًا أقل من غالبية النواب الحاضرين أثناء التصويت.
الملفت للانتباه بهذا الخصوص هو الموقف الأمريكي الذي لم يتوقع رفض البرلمان لمذكرة الحكومة؛ فقد أعلن مسئولون في وزارة الخارجية الأمريكية يوم تصويت البرلمان التركي على مذكرة الحكومة أن بيانًا أمريكيًا معدًا سلفًا “لم يعد له أي قيمة”. وفي هذا البيان كانت الولايات المتحدة ستعبر عن “الترحيب بحرارة بقرار البرلمان التركي بالسماح للقوات الأمريكية بدخول تركيا تحسبًا لعمليات عسكرية محتملة في العراق، وتهنئة القيادة الشجاعة للحكومة التركية”. وكانت الخارجية الأمريكية ستقول أيضًا إن الولايات المتحدة وتركيا “تتقاسمان الرؤية نفسها حيال عراق متحرر من كل أشكال القمع على طريق مستقبل حر وسلمى ومزدهر وفقًا لمبادئ الأمم المتحدة[131].
وبعد التصويت طلبت وزارة الخارجية الأمريكية استيضاحًا من تركيا بشأن عملية التصويت، إلا أن الناطق باسم السفارة الأمريكية في أنقرة سارع بالرد قائلًا إن الولايات المتحدة تحترم هذا القرار لأنه يأتي نتيجة عملية ديمقراطية[132]، وقد اعتبر جوني دايمون مراسل بي.بي.سي في أنقرة أن نتيجة التصويت تمثل ضربة قوية للحكومة التركية التي تولت السلطة قبل أربعة شهور والتي تحظى بأغلبية كبيرة في البرلمان، لكنه أضاف أن نتيجة التصويت تتفق مع الرفض الشعبي الواسع لشن حرب على العراق؛ فقد تظاهر الآلاف في شوارع تركيا بالتزامن مع عملية التصويت في البرلمان، وردد المتظاهرون شعارات “لا للحرب” و”لا نريد أن نكون جنودًا لأمريكا”[133].
هذا التفسير يبرئ الحكومة التركية، من أي تواطؤ مع البرلمان ضد المذكرة التي قدمتها بخصوص نشر القوات الأمريكية فوق الأراضي التركية بدليل التساهل الذي أبدته الحكومة ورئاسة الأركان قبل أن تحصل على موافقة البرلمان على مذكرة جديدة قدمتها إليه. ففي انتظار الموافقة البرلمانية على نشر القوات الأمريكية أنزلت سفينة أمريكية بالفعل معدات وعربات حربية في ميناء الإسكندرونة، ولم تنتظر واشنطن قيام الحكومة التركية بتقديم مشروع ثان للبرلمان وقامت بإرسال السفينة الحربية “إنتربرايز” وعلى متنها أعداد ضخمة من الجنود وكميات كبيرة من العتاد للمشاركة في الحرب المحتملة انطلاقًا من الأراضي التركية. وكانت واشنطن قد اختارت مدينة ديار بكر مقرًا لقيادة العمليات الجوية وكمقر لقيادة العمليات التركية. كما اختارت مدينة ماردين بنفس المنطقة لقيادة العمليات البرية انتظارًا للانطلاق منها عند موافقة البرلمان على شن الحرب من الأراضي التركية، واستمرت في تجهيز قاعدة أنجرليك، وهذا التجهيز أعطى غطاء لتحركات كثير من القوات الأمريكية على الأراضي التركية. وهناك اعتقاد بأن إنزال السفن الأمريكية لجنود وعتاد في ميناء الإسكندرونة حدث بضوء أخضر من الجنرال أوزكوك رئيس الأركان التركي الذي أكد أن موقف الجيش هو موقف الحكومة، وأنه يحترم قرار البرلمان إلا أن نشر القوات الأمريكية في جنوب تركيا يسمح بتقصير مدة الحرب وتقليل الخسائر، ولذا فإنه يعتقد بأن المشروع عندما يقدم مرة أخرى سيحظى بالموافقة، وأن تركيا قد حصلت على ضمانات أمنية ومالية من الولايات المتحدة، لكن رئيس البرلمان التركي انتقد تحركات القوات الأمريكية في الأراضي التركية، وأعلن رفضه لسياسة الأمر الواقع وأن هذه التحركات قد اخترقت القانون[134].
موقف رئيس البرلمان يتوافق مع توجهات الرأي العام التركي التي عبر عنها البرلمان برفضه الموافقة على مذكرة الحكومة وهو الرفض الذي يمكن إرجاعه للأسباب التالية:
(1) أن الولايات المتحدة صورت تركيا على أنها مجرد بائع يهمه زيادة مكاسبه من الصفقة.
(2) أن القوات الأمريكية التي وصلت مع عتادها إلى ميناء الإسكندرونة كانت تنتظر نتيجة التصويت لتنتشر على الأراضي التركية، وبدا ذلك وكأنه استهزاء بالإرادة المستقلة لنواب الشعب التركي.
(3) أن المذكرة نفسها تفتقد إلى المشروعية الدولية بموجب المادة 92 من الدستور التركي التي لا تبيح تمركز قوات أجنبية على الأراضي التركية وإرسال قوات تركية إلى الخارج إلا ضمن الشرعية الدولية، ولم يكن هناك قرار دولي أو آخر صادر عن حلف شمال الأطلسي أو اعتداء على تركيا من جانب العراق يسوغ شن الحرب على العراق.
(4) أن تركيا لم تحصل على ضمانات كافية وحاسمة بشأن أكراد العراق؛ الأمر الذي جعل الجيش غير متحمس للمذكرة، ولم يقدم اجتماع مجلس الأمن القومي الذي عقد قبل يوم واحد من اجتماع البرلمان أي إشارات مشجعة إلى النواب للموافقة على المذكرة.
هذه الأسباب لم تغب عن ذهن الأمريكيين أنفسهم، فعلى الرغم من النقد الذي وجهه جراهام فوللر النائب السابق لرئيس مجلس الاستخبارات القومي في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لقرار مجلس النواب الذي وصفه بالازدواجية والتناقض والغموض، والذي أرجعه إلى ما أسماه “سقوط النظام الإسلامي الجديد (ويقصد حزب العدالة والتنمية الحاكم) وانصياعه للرأي العام التركي”؛ فإنه وجد مبررات لاحترام الجيش التركي لقرار مجلس النواب وعدم تجاوزه. فهو يرى أن العسكريين الأتراك المعروف ثقلهم السياسي ونزعتهم لمساعدة حلفائهم الأعزاء في الولايات المتحدة لم يعترضوا على قرار مجلس النواب”، لكنهم كانوا غاضبين من أسلوب الولايات المتحدة الأخرق في طلبها المساعدة؛ لذلك رفض الجيش ممارسة قدر كبير من الضغوط لحشد التأييد لطلب واشنطن”. الأهم من ذلك أن فوللر يقر بأن الأتراك -في أغلبهم- باتوا يشعرون بارتياح أكبر حيال صدهم لواشنطن الذي يبدو أن له العديد من الآثار الإيجابية. فالرفض التركي رفع قيمة أسهم تركيا في أوروبا كمرشح بقوة لدخول الاتحاد الأوروبي؛ حيث أظهر الرفض أن أنقرة بالفعل ليست من ذيول الولايات المتحدة المنقادين وراء المصالح الأمريكية، كما أن العالم العربي الذي يعادى الحرب أشد العداء شاهد الحكام العرب الديكتاتوريين غير المنتخبين وهم يسايرون واشنطن خوفًا وطمعًا، في حين عكست الديمقراطية التركية صوتها الرافض للحرب وأعطته الشرعية، وقد كانت في ذلك عبرة قوية للعرب حول قوة وفاعلية تشريع المؤسسات الديمقراطية[135].
وعلى الرغم من إدراك الأمريكيين لوجود مبررات قوية لدى البرلمان لرفض مذكرة الحكومة لنشر القوات الأمريكية على الأراضي التركية، فإنهم أخذوا يتحركون في اتجاهين: الأول- سياسي وهو الضغط على الحكومة التركية لتقديم مذكرة ثانية إلى البرلمان طمعًا في أن تحظى بالقبول، والثانى- عسكري عبر نشر قوات عسكرية ضخمة جنوب تركيا قرب الحدود العراقية في تكتم شديد وإجراءات أمنية مشددة من ناحية[136]، وعبر الاستعداد لخوض الحرب من جبهة واحدة فقط هي جبهة جنوب العراق، فقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أن الولايات المتحدة ستحقق أغراضها من المسألة العراقية بدعم تركي أو بدونه، وأعلن تومى فرانكس قائد القوات في القيادة المركزية المعدة لغزو العراق عن وجود خطط بديلة دومًا، لكنه أشار إلى أن الولايات المتحدة تتعاون مع كل من ممثلي تركيا وممثلي الأكراد وتعمل على حل الخلافات الناشئة، وشدد على أهمية الحصول على الموافقة التركية لفتح الجبهة الشمالية للحرب المتوقعة، وفعلًا قام وفد أمريكي برئاسة رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب بزيارة إلى تركيا بهدف دفع الحكومة التركية لتقديم مشروع ثان إلى البرلمان.
أما الحكومة التركية فقد عملت هي الأخرى في اتجاهين: الأول- الحصول على موافقة البرلمان على مذكرة جديدة لنشر قوات أمريكية على الأراضي التركية، والثانى- إعداد الخطط العسكرية التركية للتحرك باتجاه الجنوب؛ حيث واصلت القوات التركية تدفقها إلى شمال العراق وتراوحت تقديرات حجم هذه القوات بحوالى 40 ألف جندي هدفها الأول منع إعلان وقيام دولة كردية في شمال العراق وإبقاء اللاجئين بعيدًا عن الحدود التركية.
وقد حدد رجب طيب أردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، وهو يستعد لتولي رئاسة الحكومة عقب حصوله على عضوية البرلمان في انتخابات تكميلية، أن “هناك خطوات يتعين على الولايات المتحدة اتخاذها قبل تقديم الحكومة التركية مذكرة ثانية إلى البرلمان للسماح بنشر قوات أجنبية”، وأوضح أردوغان أن كثيرًا من نواب البرلمان التركي “الذين صوتوا ضد المذكرة في المرة الأولى أبلغوه بأنهم سيصوتون لمصلحتها إذا أرسلت مرة ثانية إلى البرلمان”[137] دون أن يقدم أي مبررات لتحول موقف هؤلاء النواب. وبالفعل قدمت الحكومة المذكرة الثانية للبرلمان التي تقضي بالسماح للولايات المتحدة باستخدام المجال الجوي التركي في العمليات العسكرية ضد العراق، وأعلن البرلمان موافقته على هذه المذكرة في 2 مارس 2003، كما وافق على نشر قوات تركية في المنطقة الكردية شمال العراق[138].
2– مرحلة الغزو والاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق:
بنجاح القوات الأمريكية والبريطانية في غزو العراق واحتلاله نشأ واقع جديد أمام تركيا لم يعد أمامها مفر من التعامل معه، ولم يعد هناك مجال لمسار من العمل السياسي أو الدبلوماسي إلا في الحد الأدنى من خلال الاجتماعات شبه الدورية لما سمى باجتماعات وزراء خارجية دول الجوار للعراق؛ حيث عقد أول اجتماع في إسطنبول ثم عقد بعد انتهاء الحرب مباشرة في الرياض وبعدها في دمشق وطهران والكويت والقاهرة، أو من خلال مجلس الأمن؛ فمجال العمل الأساسي أصبح مع الولايات المتحدة باعتبارها قوة احتلال مسئولة بحكم قرار صادر من مجلس الأمن.
وإذا كانت الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية قد لعبت الدور الأساسي في تحديد التعامل التركي مع الأزمة في مرحلة ما قبل الغزو؛ فإن الاعتبارات الاستراتيجية كادت تكون المحدد الأساسى للتعامل التركي مع الواقع الجديد المأزوم في العراق، بالطبع دون إنكار طموحات تركية اقتصادية ترمي للفوز بنصيب معقول من كعكة إعادة إعمار العراق بعد الحرب وتأمين المصالح النفطية التركية في العراق.
لقد بدأت تركيا هذه المرحلة وهي في أزمة وظلت في أزمة مع الولايات المتحدة؛ إذ ظل قرار البرلمان التركي -برفض منح الولايات المتحدة موافقة على نشر 62 ألف جندي على الأراضي التركية لفتح جبهة شمالية لغزو العراق- مخيمًا على العلاقات التركية/ الأمريكية رغم موافقة البرلمان التركي يوم 20 مارس 2003 على المذكرة الثانية التي قدمتها الحكومة بالسماح بفتح المجال الجوي للطائرات الأجنبية دون السماح بإطلاق صواريخ من الأراضي التركية، ورغم اعتراف تقارير أمريكية بأن تركيا قد ساهمت في جهود الغزو، ربما أكثر من أي حليف آخر في حلف الناتو باستثناء بريطانيا؛ فقد حلقت الطائرات الأمريكية فوق تركيا في أكثر من 400 غارة على العراق، وسمحت أنقرة للطائرات الأمريكية في حالة المحنة باستخدام القواعد التركية مثل قاعدة باتمان، وسمحت في بداية الغزو بمرور 204 مركبة إلى شمال العراق لدعم القوات الأمريكية[139].
ولقد سيطر منطق الأزمة على التعامل التركي مع الوضع العراقي الجديد. فالاحتلال الأمريكي بتداعياته وضع تركيا في أزمة سياسات، وأزمة دور، وأزمة تحالف بعد أن اهتز بعنف التحالف الأمريكي/ التركي، وظلت الأشهر الممتدة من بداية الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003 وحتى زيارة رجب طيب أردوغان لواشنطن في يناير 2004 في أزمات متصلة؛ كان أولها أزمة الانتشار العسكري التركي في شمال العراق، ثم أزمة اعتقال قوات الاحتلال الأمريكي لعدد من الجنود والضباط الأتراك في السليمانية في يوليو 2003، ثم أزمة إرسال قوات تركية لمشاركة القوات الأمريكية في القتال في العراق.
أ– أزمة الانتشار العسكري التركي في شمال العراق
أدركت تركيا مبكرًا المأزق الاستراتيجي الذي تواجهه بسبب قيام الولايات المتحدة بتنفيذ غزوها للعراق من الجبهة الجنوبية دون حاجة للجبهة الشمالية عن طريق الأراضي التركية؛ ولذلك حرصت على أمرين: أولًا- أن تبادر بخلق الأزمة لتأكيد وجودها وأهميتها ومكانتها للولايات المتحدة عن طريق دفع المزيد من القوات التركية للانتشار في شمال العراق. وثانيًا- أن تعيد إلى أذهان الأمريكيين وأكراد العراق المبادئ التي سبق الاتفاق عليها مع الولايات المتحدة بخصوص مستقبل العراق بعد الغزو وبالذات الإصرار على وحدة أراضي العراق وعدم قيام دولة كردية في شمال العراق.
هذا التوجه التركي قوبل برفض أمريكي وكردي مزدوج. وكان الرفض الكردي له أسبابه الواضحة وهو أنه يتعارض مع المصالح المباشرة للأكراد ويتحدى طموحاتهم الوطنية، أما الرفض الأمريكي فكان نتيجة لتغير الشروط الحاكمة لانتشار القوات التركية في شمال العراق.
فوفقًا لخطة الغزو الأولى، أي غزو العراق عن طريق فتح جبهتين واحدة في الشمال انطلاقًا من تركيا والأخرى في الجنوب انطلاقًا من الخليج؛ كان انتشار القوات التركية سيتم ضمن توظيفها في العملية العسكرية الأمريكية، أما الانتشار التركي المنفرد فإنه سيكون موجهًا لخدمة أهداف تركية خالصة.
الرفض الأمريكي الصريح لتوسيع الدور التركي في شمال العراق جاء على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي أعلن أن الولايات المتحدة لا تريد حضورًا تركيًا عسكريًا في شمال العراق[140]. وفي الوقت نفسه اتجهت الولايات المتحدة إلى معاقبة تركيا واختارت الاتحاد الأوروبي ساحة لهذا العقاب؛ فقد أعلن كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في أبريل 2003 أن “على تركيا أن تلتزم بمعايير كوبنهاجن حتى يمكنها بدء مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي قبل نهاية 2004”.
فبعدما كانت واشنطن تدعم مساعى تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في السابق وفقًا لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لها بدأت تتحدث عن معايير كوبنهاجن[141]، وسنلحظ أنه في كل مرة تريد الولايات المتحدة أن تكافئ تركيا ستتجاهل معايير كوبنهاجن وتعود لتزكية تركيا وفقًا لأهميتها الاستراتيجية على نحو ما فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش في زيارته لتركيا لحضور اجتماعات حلف شمال الأطلسي في يونيو 2004.
وفي محاولة من تركيا لإعادة تذكير الولايات المتحدة وأكراد العراق الرافضين للوجود العسكري التركي في شمال العراق حرص عبد الله جول (الذي تولى حقيبة الخارجية عقب تولى رجب طيب أردوغان رئاسة الحكومة) على أن يتحدث بنبرة من العتاب لأصدقاء الأمس من الأكراد والأمريكيين قائلًا إن: “الجميع سوف يكونون قريبًا في حاجة مرة أخرى إلى تركيا، وسوف يدركون أهمية تركيا، وأنها العنصر الأساسي الذي لا غنى عنه في المنطقة”. كان هذا الحديث موجهًا أساسًا إلى الأمريكيين بعد أن أدركت تركيا خطر التجاهل الأمريكي لوزنها الاستراتيجي بعد أن ركزت الولايات المتحدة على غزو العراق من الجبهة الجنوبية، وأن الرفض التركي لفتح الجبهة الشمالية لم يفشل الحملة العسكرية الأمريكية على العراق. وحرص جول على أن يوجه رسالة خاصة إلى زعماء الأكراد المتعصبين في رفضهم للوجود العسكري التركي في شمال العراق، وقال إن: “الجميع بمن فيهم برزاني وطالباني وأكراد العراق سيفهمون غدًا ما أقول”[142].
لم يكتف عبد الله جول بهذا العتاب، لكنه تعمد أن يحدد المبادئ التي تحكم الدور التركي في شمال العراق، والتي على أساسها توجد القوات التركية في الشمال، وقال إن الانتشار العسكري التركي في شمال العراق تحكمه مذكرة التفاهم مع الجانب الأمريكي، وأن هناك بيانًا ينص على تلك المبادئ وحددها فيما يلى[143]:
– التأكيد على وحدة وسيادة أراضى العراق وأن تكون كل المناطق الطبيعية الغنية بالنفط ملكًا لكل طبقات المجتمع العراقي.
– أن العرب والأكراد والتركمان هم أساس العراق، ولا يمكن السماح بتجزئة العراق على أساس المذهب أو العرق.
– أن الشعب العراقي هو المسئول عن تحديد مصيره مع التأكيد على أن يتم هذا عن طريق الديمقراطية.
هذه المبادئ، وفق ما ذكره عبد الله جول، هي التي تحكم انتشار القوات التركية في شمال العراق، فكما قال إن تركيا أبلغت جميع الأطراف سواء الدول العربية أو الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي بأن الدفاع عن وحدة وسيادة العراق هو أمر أساسي في السياسة التركية؛ بما يعني أن الانتشار العسكري التركي هو للحفاظ على وحدة وسيادة العراق؛ أي لمنع قيام دولة كردية في الشمال، إضافة إلى منع حدوث أنشطة إرهابية في تركيا وعمليات هجرة انطلاقًا من شمال العراق[144].
ولقد طورت تركيا موقفها هذا الحريص على خلق وجود عسكري تركي في شمال العراق إلى الإعلان عن عزمها على إقامة “منطقة أمنية” في شمال العراق بعمق 20 كم، وحرص عبد الله جول وزير الخارجية على أن يوضح أن هذه المنطقة ليست عسكرية ولكنها لأهداف إنسانية للتعامل مع مسألة تدفق اللاجئين الفارين من العراق بسبب الحرب. وقال جول: “نريد أن يبقى اللاجئون بعيدًا” مشددًا على رغبة تركيا في تجنب تكرار أزمة اللاجئين التي شهدتها في حرب الخليج الثانية عام 1991[145].
لكن الولايات المتحدة التي حذرت تركيا علنًا على لسان مسئول أمريكي كبير –كما وصفته وكالة أسوشيتدبرس– من عبور الحدود إلى العراق، أرسلت مبعوثها الخاص زلماي خليل زادة إلى شمال العراق وتركيا بهدف منع وجود أي تركيز كبير للقوات التركية في المنطقة. وبالفعل زار زلماي خليل زاد منطقة كردستان العراق والتقى مسعود برزاني وجلال طالباني زعيمي الفصيلين الكرديين الكبيرين في مباحثات مطولة، لكنهما استمرا على موقفهما الرافض لإرسال قوات تركية وبقيادة ضابط تركي إلى منطقتهم، ثم زار أنقرة ودخل في مفاوضات مفصلة مع مسئولين كبار في وزارة الخارجية والعسكريين في رئاسة الأركان؛ من أجل التوصل إلى اتفاق من ناحية المبدأ والتفاصيل فيما يتعلق بحجم هذه القوات، وتوقيت دخولها، ونمط تسليحها، ونطاق انتشارها وتمركزها، وتوقيت انسحابها[146].
ويبدو أن جولة زلماي خليل زادة فشلت في تحقيق هدفها بالتوفيق بين الأكراد والأتراك؛ مما دفع عبد الله جول وزير الخارجية التركي إلى توجيه تحذيرات مباشرة لأكراد العراق من محاولة الاقتراب من خطوط تركيا الحمراء وحساسيتها تجاه الوضع في المنطقة، مؤكدًا أن: “تركيا سوف تكون مضطرة عندئذ لاتخاذ قرار يعلمه الأكراد جيدًا”[147].
هذا الفشل عجل بزيارة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول لأنقرة لحل الأزمة، والتوصل إلى توافق جديد في المصالح. فقد ركزت زيارة باول على تحقيق هدفين: أولهما- محاولة إقناع تركيا بوقف انتشارها العسكري في شمال العراق، وثانيهما- الحصول على دعم لوجستي باتت الولايات المتحدة في أشد الحاجة إليه بسبب تطور المعارك في العراق. وقد حرص باول على القول في مؤتمر صحفي مع عبد الله جول وزير الخارجية التركي في أعقاب انتهاء محادثاتهما (2/4/2003) في أنقرة “إن القوات التركية ليست بحاجة لعبور الحدود”؛ فيما اعتبر رسالة تطمين للحلفاء العراقيين الأكراد. وأضاف موضحًا ما يعنيه لتبديد مخاوف الأتراك أيضًا”: إن القوات الأمريكية التي أنزلت جوًا في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال العراق سيطرت على الموقف هناك، ولا حاجة لأن ترسل تركيا قواتها إلى المنطقة”[148]. أما بالنسبة للمساعدات اللوجستية المطلوبة من تركيا فقد شملت -وفقًا لتقرير التلفزة التركية إن.تي.في- تزويد القوات الأمريكية في شمال العراق بالوقود، ونقل الجرحى، والسماح بنقل مساعدات إنسانية إلى شمال العراق، وتسهيل التجارة عبر الحدود مع تلك المنطقة[149].
وكمكافأة أمريكية على التجاوب التركي مع المطلبين الأمريكيين أيد مجلس النواب الأمريكي تقديم مساعدات بقيمة ملياري دولار لتركيا، خصوصًا بعد أن أعلن وزير دفاعها وجدي غونول أن قواته لن تجتاز -في أي حال- الحدود العراقية.
وحرصًا على تمرير هذه المساعدات تعمدت كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي توجيه نداء شخصي إلى بيل يونج رئيس لجنة المخصصات المالية في مجلس النواب، بالعمل على الحفاظ على هذه المساعدات في ميزانية الإنفاق التي يرعاها في المجلس؛ وذلك في تحدٍ لمنتقدي تلك المساعدات في مجلس النواب الذين قالوا إن تركيا لا تستحق أي أموال من ميزانية الحرب بعد رفضها منح تسهيلات للقوات الأمريكية[150].
ب– أزمة اعتقال 11 جنديًا تركيًا في السليمانية
يبدو أن زيارة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول لأنقرة والمساعدات المالية التي أقرها مجلس النواب لتركيا لم تقلص حدة الهواجس الأمنية والاستراتيجية لدى الأتراك إزاء ما يحدث في شمال العراق والموقف السلبي الأمريكي نحو المصالح التركية؛ لذلك سعت تركيا إلى الدفاع عن هذه المصالح بمعزل عن التنسيق مع الولايات المتحدة عبر ثلاثة مسارات هي:
(1) مسار التنسيق مع إيران وسوريا لبدء حملة مشتركة من أجل منع قيام دولة كردية في شمال العراق، والاتفاق على آليات للتشاور السياسي والاقتصادي المشترك لتأمين الاستقرار في المنطقة[151]. وكانت زيارة وزير الخارجية الإيراني كمال خرّازي لأنقرة في 6 أبريل 2003 فرصة لتطوير هذا التعاون لتطويق التنسيق الأمريكي/ الكردي الذي اعتبرته أنقرة ردًا أمريكيًا على قرار البرلمان التركي الرافض لمنح الولايات المتحدة تسهيلات لنشر قواتها على الأراضي التركية.
(2) مسار التعامل المباشر مع العراق لتطويق المحاولات الأمريكية لعزل تركيا عن التطورات العراقية، ولمنع قيام دولة كردية في شمال العراق؛ حيث خاطب رجب طيب أردوغان العراقيين مباشرة موضحًا أن بلاده في موقع مثالي يسمح لها بالمشاركة في إعادة إعمار العراق، وأنها تعتزم السعى للحصول على عقود عديدة بهذا الصدد، بينما أكد عبد الله جول وزير الخارجية أن مدينة كركوك “عراقية وليست كردية”؛ وهو هنا يغازل الأطراف العراقية الأخرى غير الكردية، وشدد على أن تركيا لن تقبل بأي أمر واقع مفروض في شمال العراق وقال: “يجب على الجميع أن يلتزم الحذر عند الحديث، وصداقة تركيا مهمة من أجل الجميع”، وأضاف أن: “تقسيم العراق أمر لا يحبذه الجميع وليس تركيا فقط، وثرواته الطبيعية هي ملك لشعبه، ويجب على الجميع أن يتصرف بصداقة مع تركيا من أجل العيش بأمان وسلام في العراق”، وأكمل عبد الله جول حديثه الاستفزازي بقوله إن بلاده ترغب في تدخل الأمم المتحدة في العراق في أقرب وقت ممكن[152]. وكان هذا كافيًا لإثارة الأمريكيين واستفزازهم بما فيه الكفاية ضد تركيا.
(3) مسار التحدي الأمني المباشر؛ وذلك بتجديد العزم على استمرار الوجود العسكري التركي في شمال العراق بما يمثله ذلك من تحد للموقف الأمريكي. فقد أكد عبد الله جول وزير الخارجية على أن الوجود العسكري التركي سوف يستمر في شمال العراق بسبب استمرار المشكلات الأمنية القادمة من هذه المنطقة نحو تركيا، واستمرار تهديد منظمة حزب العمال الكردستاني المحظورة، ووجود فراغ في السلطة في شمال العراق، ونفى عبد الله جول الاتهامات الأمريكية لقيام ضباط اتصال أتراك بتزويد التركمان بالأسلحة، وقال إن هؤلاء الضباط يرافقون قوافل المساعدات الغذائية والطبية المتجهة من تركيا إلى العراق لتأمينها.
هذه الممارسات التركية أثارت الأمريكيين لدرجة دفعت كل من بول وولفويتز نائب وزير الدفاع وريتشارد بيرل مستشار وزير الدفاع إلى توجيه انتقادات وتحذيرات شديدة لتركيا للإقلاع عن تلك السياسات والعودة لاتباع سياسة تنسجم مع السياسة الأمريكية فيما يتعلق بسوريا وإيران على وجه الخصوص.
ففي مقابلة تليفزيونية مع شبكة “سي. إن. إن” الأمريكية طالب بول وولفويتز تركيا بالاعتراف بخطئها والاعتذار للولايات المتحدة لموقفها الرافض لانتشار القوات الأمريكية على الأراضي التركية وأن تكون أكثر حساسية للموقف في شمال العراق كشرط لمواصلة علاقة الشراكة مع بلاده، وانتقد الجيش التركي لأنه لم يدافع ولم يؤيد نشر قوات أمريكية وعبورها للعراق، وقال وولفوتيز -في إشارة إلى الدور التقليدي الذي كان يقوم به الجيش في مثل هذه المواقف أي الانقلاب العسكري لتغيير السياسات- إن “الجيش التركي لم يظهر دور الزعامة القوية في الأزمة العراقية”، وأضاف أيضًا أن “الحكومة التركية لم تفهم ما الذي خسره الشعب التركي ويجب على تركيا أن تعترف بالخطأ الذي ارتكبته في موضوع العراق، وأن تتخذ قرارًا بكيفية تقديم دعمها لأمريكا”[153].
أما ريتشارد بيرل فقد حذر تركيا من إقدامها على انتهاج سياسات مخالفة لدواعي القلق الأمريكي من إيران وسوريا ووصف هذا الأمر -في حال حدوثه- بأنه سيؤدي إلى مشكلة كبيرة تهدد استقرار العلاقات التركية/ الأمريكية.
وكرر بيرل انتقادات وولفويتز لدور الجيش التركي في الأزمة الناتجة عن رفض البرلمان التركي الموافقة على نشر قوات أمريكية على الأراضي التركية وقال: “إن الذي يجب أن نتذكره، في هذا الشأن، أن الجيش التركي كان بإمكانه أن يبرز الصورة الواضحة للرأي العام وبشكل إيجابي، لكنه تأخر عن رسم هذه الصورة”[154].
هذا التوتر في العلاقات التركية/ الأمريكية شكل خلفية مباشرة لقيام القوات الأمريكية بتوقيف 11 جنديًا من القوات الخاصة التركية واحتجازهم بطريقة مهينة (إلباسهم الأكياس البلاستيكية الشهيرة التي يلبسونها للمعتقلين في جوانتانامو والعراق) في مدينة السليمانية (شمال شرقي العراق) في 4 يوليو 2003 بحجة الاشتباه بأنهم يخططون لاغتيال الزعيم الكردي في كركوك.
هذا الحادث، وبالذات المعاملة الخشنة التي لقيها هؤلاء الجنود، وتجاهل الأمريكيين التنسيق حيال المعلومات الاستخباراتية أثارت ردود فعل تركية عنيفة، واعتبرت الصحف التركية أن واشنطن سعت إلى الانتقام من تركيا، ورأت صحيفة “اكسام” أن الحكومة التركية “يجب أن تطلب تفسيرات من حليفها الأمريكي وليس السعى للتخفيف من أهمية هذه القضية”، أما صحيفة “جمهوريت” (اليسار الوسط) فتوقعت تدهور العلاقات التركية/ الأمريكية، التي وصفتها بأنها “في الأساس لم تكن ممتازة.. وعوضًا عن إصلاحها، رمت واشنطن الإناء المكسور عبر النافذة”. وانتقدت صحيفة “يني سافاك” المؤيدة للإسلاميين والقريبة من حزب العدالة والتنمية إدارة الحكومة لهذه الأزمة، متهمة إياها بعدم اعتماد موقف حازم تجاه الأمريكيين. وكان الجنرال حلمي أوزكوك قد اعتبر أن توقيف القوات الأمريكية للجنود الأتراك “أثار أزمة كبيرة لا سابق لها بين القوات المسلحة في البلدين”، وقال لدى استقباله السفير الأمريكي في أنقرة روبرت بيرسون إن هذه القضية أثارت أكبر أزمة ثقة بين الجيش الأمريكي والتركي ويصعب اعتبارها مجرد حادث محلي[155].
وقد تدخل ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكي عبر اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لوضع ترتيبات لإطلاق سراح الجنود المحتجزين. وكان المسئولون الأمريكيون قد دافعوا عن اعتقال الجنود الأتراك وفق ما جاء على لسان ريتشارد باوتشر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية الذي قال إن القوات الأمريكية نفذت عمليتها “بناءً على تقارير حول أنشطة مثيرة للإزعاج ربما تكون القوات التركية متورطة فيها”[156].
وبعد مباحثات مباشرة بين جنرال تركي وآخر أمريكي في أنقرة؛ تم الإفراج عن الجنود الأتراك بعد البحث في تفاصيل وملابسات الحادث، ومحاولة تحسين التنسيق بين القوات الأمريكية والقوات التركية في المنطقة[157].
ولكن يبدو أن هذه الأزمة كانت دافعًا بما فيه الكفاية لإعادة فتح ملف العلاقات المتدهورة بين تركيا والولايات المتحدة، وخاصة إحساس تركيا المتزايد بتهميشها استراتيجيًا من جانب الولايات المتحدة. وفي زيارته للولايات المتحدة، التي أعقبت أزمة احتجاز الجنود الأتراك في السليمانية واستهدفت إنقاذ “الشراكة الاستراتيجية” المتعثرة منذ تلك الأزمة؛ التقط عبد الله جول وزير الخارجية التركي الخيط المناسب لتأكيد أهمية المكانة الاستراتيجية لتركيا بالنسبة للولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة؛ ففي رده على سؤال عن مدى استعداد بلاده لإرسال قوات إضافية إلى العراق بجانب القوات الأمريكية وهو ما اعتادت واشنطن على تسميته بـ”قوات التحالف” تعمد جول طرح “شروط متشددة” للاستجابة لمثل هذا الطلب.
وفي تحديده لهذه الشروط قال جول إن بلاده تحتاج إلى ضمانات اقتصادية، وإلى وعود بعقود تجارية، إضافة إلى “تفاهم مشترك مع واشنطن على مستقبل العراق، ومنح الأمم المتحدة دورًا أكبر في العراق؛ فذلك من شأنه تمهيد الطريق لتمرير طلب قوات إضافية في البرلمان التركي”، إلا أنه أضاف “أن الدور الأكبر للأمم المتحدة ليس شرطًا”.
وحرص جول على تجديد التأكيد على أن موقع تركيا الاستراتيجي -كإحدى دول الجوار للعراق وتاريخها كدولة سبق لها أن حكمته في عهد الإمبراطورية العثمانية- يجعلان من الضرورى أن تعتمد واشنطن على خبرتها في هذه المنطقة[158].
وعلى الرغم من التعتيم الذي صاحب زيارة عبد الله جول لواشنطن؛ فقد ترددت أنباء تحدثت عن وجود اقتراح بإرسال ثلاثة آلاف جندي تركي قد ينتشرون حول بغداد وتكريت، الموقعين الساخنين بسبب هجمات المقاومة في تلك الآونة على القوات الأمريكية، وليس في شمال العراق؛ حيث تخشى واشنطن من احتمال اشتباك القوات التركية والكردية؛ الأمر الذي يوحى بأن هذا الاقتراح أمريكي وليس تركي، وتوقع محللون أن يضطر الجنرالات الأتراك القلقون -منذ حادث السليمانية- إلى “هضم” مثل هذا الاقتراح إن كان سيساعد على معالجة مستقبل “العراق الشمالي” المزدحم بالفعل بقوات أمريكية وتركية وكردية؛ بما يضمن تحسين العلاقات التركية/ الأمريكية[159].
جـ- أزمة إرسال قوات تركية إلى العراق
يبدو أن زيارة عبد الله جول وزير الخارجية التركي لواشنطن لم تحقق أغراضها المرجوة فلم تحرك الطلب التركي بإرسال قوات تركية إلى العراق ليتم انتشارها خارج المنطقة الكردية؛ سواء بسبب الرفض الأمريكي للشروط التركية الخاصة بتأمين الأوضاع في شمال العراق، أو بسبب حدة المعارضة الشعبية التركية لهذه الخطوة، كما أعرب نواب يمثلون حزب العدالة والتنمية الحاكم والمعارضة عن تحفظات قوية بشأن إرسال قوات تركية دون الحصول على تفويض من مجلس الأمن[160]، وأعلنت المعارضة التركية رفضها أيضًا للمطالب العسكرية الأمريكية التي تقدمت بها واشنطن الرامية لاستخدام قواعد عسكرية جديدة في الأراضي التركية، ونشر طائرات تجسس “يو– تو” في قاعدة إنجرليك، وإقامة قواعد عسكرية وبحرية أخرى. وقال إينال باطو نائب رئيس حزب الشعب الجمهورى (أكبر أحزاب المعارضة) أن حزبه يعارض المطالب الأمريكية؛ لأن من شأنها دفع تركيا نحو مصير مجهول، وجعلها مخفرًا للولايات المتحدة في المنطقة، ورأي أن منح الولايات المتحدة إمكانات جديدة في تركيا سوف يرغم أنقرة على أن تظل واقعة تحت التأثيرات والضغوط الأمريكية بما يضر سلبيًا بمسيرتها للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي [161].
ولكن استمرار الضغوط الأمريكية على تركيا، بسبب تفاقم الأوضاع في العراق، وعلى مدى ثلاثة شهور دفع الحكومة التركية إلى حث البرلمان للتصويت على قرار لنشر قوات في العراق لتخفيف الضغط على القوات الأمريكية والبريطانية، وكان رجب طيب أردوغان قد أعلن أن حكومته تنوي أن تطلب من البرلمان تصويتًا مبدئيًا حول إرسال الجنود، على أن تقرر الحكومة بمفردها عدد القوات التي تريد إرسالها وظروف انتشارها. وأوضح جميل تشيتشيك وزير العدل والمتحدث باسم الحكومة التركية أن الحكومة دعت البرلمان (6/10/2003) إلى إعطاء الضوء الأخضر لنشر جنود في العراق، وبرر هذه الخطوة بأن تركيا هي الدولة التي ينبغى أن تخشى أكثر من غيرها من الفوضى في العراق المجاور، حيث قال: “لايمكننا أن نبقى مكتوفي الأيدي”[162].
هذا التبرير يكشف عن حرص تركي على الوجود العسكري في العراق بما يفيد أن إقدام الحكومة على تقديم ذلك الطلب إلى البرلمان لم يكن مجرد استجابة لضغوط أمريكية بقدر ما كان رغبة تركية؛ بدليل تصويت البرلمان بالإجماع في اليوم التالي مباشرة على طلب الحكومة (أي في السابع من أكتوبر 2003) ولكن هذه الموافقة فجرت معارضة قوية لم تقتصر على الزعماء الأكراد وحدهم؛ بل فجرت معارضة شعبية واسعة داخل تركيا.
فقد وصف أعضاء بارزون في الحزبين الكرديين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطنى وعدد من السكان التدخل التركي باعتباره مصدرًا لزعزعة الاستقرار والأمن، وبداية جديدة لأزمة حقيقية تتمثل في تصادم الشارع العراقي مع الجيش التركي بسبب الأطماع التاريخية التركية في الأراضي العراقية، ومحاولة إجهاض التجربة الكردية، ودعم الجبهة التركمانية التي دعت أكثر من مرة إلى ضرورة التدخل التركي السريع “لإنقاذ الشعب التركماني”، والسيطرة على مدن كركوك والموصل، وإنهاء الوجود الكردي في المنطقة. واعتبر الحزب الديمقراطي الكردستاني أن القرار التركي “قد يكون بداية لتوسيع دائرة الهجمات اليومية التي تشن على القوات الأمريكية، وسيوفر مبررًا لمشاركة بعض الأكراد الذين لا يتوقع وقوفهم مكتوفي الأيدي”[163].
ولم تكن المعارضة التركية لهذا القرار أقل منها في العراق، فقد استقبل الشارع التركي القرار بمشاعر الاستياء والقلق من تدخل قوات مسلمة في دولة مسلمة، ووصفت الصحف قرار البرلمان بالموافقة على إرسال قوات تركية إلى العراق تقاتل بجانب الأمريكيين وحلفائهم بأنه “مغامرة” قد تكلف رئيس الحكومة مستقبله السياسي، وأظهر استطلاع حديث للرأي معارضة 72% من الأتراك لهذا القرار.
لكن رفض بعض الأطراف التركية وكثير من الصحف التركية للقرار لم ينف وجود مؤيدين له؛ حيث وصفته بعض الصحف بأنه “قرار تاريخي” سيمنح تركيا دورًا في التطورات المستقبلية ليس فقط في العراق؛ ولكن في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، كما سيعزز العلاقات التركية/ الأمريكية التي تضررت بسبب قرار البرلمان عدم السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية في غزوها للعراق. وقالت صحيفة “مليت” إن تركيا “لا تستطيع أن تحمى نفسها من الأخطار الأمنية في المنطقة بالوقوف مكتوفة الأيدي؛ لأن مخاطر ذلك أكبر”[164].
هذا التأييد للقرار كان الأقرب إلى موقف صانع القرار التركي الذي قبل بالدخول إلى خندق التدخل في الوضع العراقي تحت لافتة “حماية المصالح الوطنية الحيوية” السياسية والإثنية والأمنية، فضلًا عن الحرص على تأكيد الحضور والنفوذ التركي في المنطقة للمشاركة في إعادة صياغتها ضمن المشروع الأمريكي لإعادة رسم الخرائط السياسية؛ بما يعني أن القرار الأخير للبرلمان جاء بمثابة تصحيح لخطأ القرار الأول الذي رفض مشاركة تركيا للولايات المتحدة في غزو العراق عن طريق تمكين الأمريكيين من فتح جبهة شمالية لغزو العراق انطلاقًا من الأراضي التركية.
هذا الاستنتاج يدعمه الحرص الذي أظهرته الحكومة التركية على وصل ما انقطع مع الولايات المتحدة بأي صورة من الصور، كما يدعمه صدمة المفاجأة التي أظهرتها الحكومة عقب رفض البرلمان التركي للقرار الأول بمنح الأمريكيين تسهيلات انتشار 62 ألف جندي أمريكي على الأراضي التركية لغزو العراق.
ولكن يبدو أن الولايات المتحدة غيرت موقفها من إشراك قوات تركية مع قواتها للقتال ضد المقاومة الوطنية في العراق بسبب الرفض الجماعي لمجلس الحكم الانتقالي للقرار التركي؛ ومن ثم عدلت تركيا عن قرارها بإرسال قوات إلى العراق، على عكس ما تقول بعض المصادر بأن هذا العدول كان نتيجة موقف أدركته تركيا أثناء مشاركتها في اجتماع وزراء خارجية دول الجوار للعراق الذي عقد في دمشق، بدليل تلك الحسرة التي أبداها الجنرال حلمي أوزكوك رئيس أركان القوات التركية الذي أكد أن قرار تركيا العدول عن إرسال قوات إلى العراق يعني أنه لم يعد لأنقرة تأثير على المستقبل السياسي للعراق، وبدليل إصرار الجنرال أوزكوك على تأكيد اهتمام بلاده بالشأن العراقي وتشديده على أن أنقرة ستظل تراقب الوضع عن كثب كما ستحتفظ بجنودها في شمال العراق[165].
ويؤكد هذا الاستنتاج رد الفعل غير المباشر على العدول عن قرار إرسال قوات تركية إلى العراق الذي أبداه عبد الله جول وزير الخارجية؛ فقد طلب جول من الولايات المتحدة عدم الانحياز إلى جانب أكراد العراق، محذرًا من احتمال أن يخل ذلك بما وصفه بـ”التوازن العرقي” في العراق، ويؤدي إلى مشكلات في المستقبل، وأوضح جول خلفيات عدول تركيا عن قرار إرسال قوات إلى العراق، بأن هذا العدول بسبب موقف أكراد العراق الرافض لهذا القرار، لكنه قال إن لديه انطباعًا واضحًا بأن “الولايات المتحدة تصرفت بشكل يشجع الأكراد فيما يتعلق بمعظم الأمور”[166]؛ بمعنى أن الموقف في الأصل موقف أمريكي بتشجيع من أكراد العراق. جول لم يكتف بذلك؛ حيث تحدث عن ما يمكن وصفه باتفاق أمريكي/ تركي وعدت فيه الولايات المتحدة بالقضاء على تهديد حزب العمال الكردستاني التركي، لكنه أكد أن أنقرة “تحتفظ بحق التدخل إذا شعرت بوجود تهديد أو هجوم” من العراق. وقال: “لدينا أمنية واحدة هي أن يسيطر الشعب العراقي على أرضه وحدوده، ولا يسمح بعمليات تسلل عبر الحدود وعدم السماح للإرهابيين باستخدام أرضه كقاعدة لهم”[167]. ويبدو أن هذا هو مضمون الاتفاق التركي/ الأمريكي الذي عدلت به أنقرة عن قرارها بإرسال قوات تركية للقتال في العراق.
د– زيارة أردوغان لواشنطن وطموح لمرحلة جديدة من العلاقات
الأزمات الثلاث التي تحدثنا عنها والتي حكمت التفاعل التركي مع تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق (أزمة الانتشار العسكري التركي في شمال العراق، وأزمة اعتقال القوات الأمريكية 11 جنديًا تركيًا في السليمانية، وأزمة إرسال قوات تركية للقتال في العراق إلى جانب القوات الأمريكية) كشفت عن حقيقتين رئيسيتين:
الحقيقة الأولى- هي حرص أنقرة على إنقاذ علاقاتها مع واشنطن بعد أن تعرضت لهزة عنيفة نتيجة قرار البرلمان التركي الذي رفض انتشار 62 ألف جندي أمريكي على الأراضي التركية كضرورة لفتح جبهة شمالية لغزو العراق انطلاقًا من جنوب تركيا. هذا الحرص التركي كان محكومًا بوعى أنقرة للمتغيرات الجديدة في علاقة الشراكة التركية/ الأمريكية، ومن بينها سقوط نظام صدام حسين الذي ظلت تركيا تلعب وعلى مدى اثني عشر عامًا دورًا أساسيًا في فرض الحظر الدولي عليه؛ مما عزز مكانتها كشريك استراتيجي للولايات المتحدة.
أما الحقيقة الثانية- فهي حرص تركيا على حماية أمنها القومي التركي والدفاع عن المصالح الاستراتيجية التركية في العراق، بالتصدى لمحاولات أكراد العراق للاستقلال أو لفرض فيدرالية عرقية، وبالتصدي لأي تجاوز لحقوق التركمان في العراق.
وبشكل عام حاولت تركيا أن تحقق نجاحات ملموسة على الصعيدين: إنقاذ تحالفها مع الولايات المتحدة، والدفاع عن الأمن القومي التركي والمصالح الاستراتيجية التركية في العراق، لكن الفشل كان يلاحق تركيا في أغلب الأحوال؛ ففي إدارتها للأزمات الثلاث كانت هي التي تقدم التنازلات، وكان لابد من اتخاذ إجراءٍ ما يمكن عن طريقه وضع حد لهذه التنازلات التركية، وكان هذا الإجراء هو زيارة رجب طيب أردوغان لواشنطن يوم 25 يناير 2004.
قبل أن يقوم أردوغان بزيارة واشنطن ولقاء الرئيس الأمريكي جورج بوش اتخذ خطوة مهمة اعتبرت إشارة إيجابية تركية نحو واشنطن؛ حيث أعلن مسئول تركي يوم 12 يناير 2004 (أي قبل أسبوعين من وصول أردوغان لواشنطن) أن الولايات المتحدة بدأت عملية إبدال وإحلال لقواتها العاملة في العراق عبر قاعدة جوية أمريكية في تركيا؛ وكانت واشنطن قد طلبت قبل هذا التاريخ بأسبوع من أنقرة السماح لها باستخدام قاعدة إنجرليك القريبة من الحدود مع العراق وسوريا للقيام بأكبر عملية إبدال وإحلال للقوات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية[168].
واختار أردوغان أن يدخل إلى البيت الأبيض من أنسب الأبواب؛ وهو المؤتمر اليهودي الأمريكي الذي زاره في أول أيام زيارته للولايات المتحدة في مقره بنيويورك؛ حيث أجاد الإطراء على اليهود وطمأنهم على وضع اليهود في تركيا بقوله: “إنهم أمانة العالم اليهودي لدينا”، كما أعرب عن سروره البالغ من المستوى العالي للعلاقات التركية/ الإسرائيلية، والتي يأمل أن تزداد عمقًا وشمولية، واقترح أن تقام منطقة صناعية بين تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة في منطقة جنوب شرقي تركيا.
هذا الاختيار لم يحصل بموجبه أردوغان فقط على “جائزة الشجاعة” من المؤتمر اليهودي الأمريكي التي لم تمنح إلا لاثنين من قبل (أحدهما الرئيس الإسرائيلي السابق حاييم هيرتزوج) لكنه حصل أيضًا على الأهم؛ وهو مفتاح البيت الأبيض وتأمين نجاح زيارته لواشنطن.
ولمزيد من تأمين النجاح المأمول اختار أردوغان أن يكون تركيزه على مسألة مكافحة الإرهاب؛ حيث وصف 11 سبتمبر 2001 بأنه ميلاد جديد للتعاون بين واشنطن وأنقرة ضد الإرهاب؛ إذ اكتسب أبعادًا جديدة.
وهو هنا كان يريد أن يتوصل إلى أسس جديدة لتنمية علاقة الشراكة التركية/ الأمريكية بعد أن تداعت أسس أخرى قوية اعتمدت عليها تلك الشراكة تاريخيًا، وخاصة العداء للاتحاد السوفيتي، ومناهضة نظام صدام حسين في العراق؛ لذلك فقد تعمد أردوغان مخاطبة بوش بقوله: “نحن في معركة مشتركة ضد الإرهاب”، وكان رد بوش: “إنني أعرف جيدًا معنى أن يقتل مواطنون من بلدينا على يد الإرهابيين؛ يجب أن نكون أكثر إقدامًا في مكافحة الإرهاب”.
أما القضية الثانية التي ركز عليها أردوغان؛ فهي قضية الديمقراطية في العالم الإسلامي والشرق الأوسط؛ في محاولة لمغازلة المشروع السياسي للرئيس الأمريكي الذي اعتبر أن إسقاط صدام حسين وإقامة نظام حكم ديمقراطي في العراق أحد أهم المبررات الأمريكية لغزو العراق. فقد أفاض أردوغان وهو يشرح لبوش كيف أن القادة الأتراك يدعون العالم الإسلامي دائمًا إلى عدم التلهي بانتقاد الغرب والآخرين، والانصراف بدلًا من ذلك إلى تحقيق الديمقراطية والالتزام بحقوق الإنسان[169].
تحدث أردوغان عن ثلاث قضايا لإرضاء بوش هي: العلاقة المتميزة مع اليهود وإسرائيل، والمشاركة التركية في الحرب على الإرهاب، والريادة التركية للدعوة الديمقراطية في العالم الإسلامي، وكانت عيون أردوغان مركزة على ثلاث قضايا يريد من بوش أن يدعم تركيا فيها؛ وهي: القضية القبرصية، وعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ومطالب الأمن التركي في العراق؛ فقد أظهر أردوغان لبوش قلق تركيا من تحركات أكراد العراق، ومن سعيهم لإقامة دولة كردية مستقلة، واشتكى أردوغان إلى بوش أن الحاكم الأمريكي السابق في العراق بول بريمر واقع تحت تأثير جلال طالباني ومسعود برزاني، وطلب من بوش أن يكون لكركوك وضع خاص، وأن تكون أي فيدرالية محتملة في العراق جغرافية وليست عرقية، كما نقل لبوش خشيته من سيطرة الشيعة على العراق.
ورغم كل ما قدمه أردوغان فإن أغلب ما حصل عليه كان يخص -على ما يبدو- قضيتي قبرص والاتحاد الأوروبي. أما فيما يتعلق بالعراق؛ فقد حصل على تعهد قوي من بوش بعدم السماح لحزب العمال الكردستاني بالتحرك ضد تركيا انطلاقًا من الأراضي العراقية، وبضمه إلى قائمة الإرهاب الأمريكية، وبإتاحة الفرصة أمام مقاتليه لإيجاد حل سلمي لمشكلتهم، كما حصل أيضًا على وعد بأن العراق لن يقسم وسيحافظ على وحدته، ولكن دون أن يتطرق إلى مسألة الفيدرالية أو وضع كركوك على عكس ما كان أردوغان يأمل[170]، ولعل هذا ما جعل أنقرة شديدة الحساسية تجاه قانون إدارة الدولة العراقي المؤقت (الدستور المؤقت) قبل إقراره رسميًا في 8 مارس 2004.
فقد أعربت تركيا عن عدم ارتياحها لقانون إدارة الدولة العراقي المؤقت (الدستور المؤقت) وقالت إنه سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في العراق، ووصفه جميل تشيتشيك وزير العدل الناطق باسم الحكومة التركية بأنه تسوية لن تساعد على إحلال سلام دائم في العراق، وستقود إلى مرحلة طويلة من الاضطرابات وانعدام الاستقرار[171]. لم يحدد تشيتشيك مآخذ أنقرة على قانون إدارة الدولة العراقي المؤقت، ولكن واضح أن هذه المآخذ تتركز حول المميزات التي أعطاها هذا القانون للأكراد. فقد اعترف بحكومة إقليم كردستان بصفتها الحكومة الإقليمية الرسمية ضمن العراق الواحد، واعترف باللغتين العربية والكردية بصفتهما اللغتين الرسميتين في العراق، ونص القانون في أحد بنوده على عدم إقرار الدستور إذا رفضت ثلاث محافظات عراقية (بأكثرية الثلثين) التصويت على نص الدستور الدائم للعراق في استفتاء لاحق؛ بما يعتبر تمكينًا للأكراد بحق الفيتو على مشروع الدستور الدائم؛ فبدلًا من أن ينص على أن إقرار الدستور يكون بأغلبية الثلثين من جمهور الناخبين العراقيين أعطى لثلاثة محافظات مثل هذا الحق، ونظرًا لتركز الأكراد بكثافة في محافظات الشمال الثلاث؛ فقد بات في مقدورهم التدخل حسب ما يريدون في نصوص الدستور الدائم للبلاد.
هذه المآخذ دفعت وزير الخارجية عبد الله جول إلى أن يبعث برسالة إلى نظيره الأمريكي كولن باول تضمنت وجهات نظر أنقرة حول مستقبل العراق، وقال جول إن باول اتصل به هاتفيًا في 8 مارس 2004، وقدم له معلومات حول الدستور المؤقت للعراق، وأبلغه أن ممثلًا للإدارة الأمريكية في العراق سيزور أنقرة لبحث قلق تركيا[172]. وهذا ما حدث بالفعل؛ حيث وصل رون نومان مسئول العلاقات الخارجية في سلطة الاحتلال الأمريكية للعراق إلى أنقرة، وبعد عدد من اللقاءات مع مسئولين في وزارة الخارجية التركية اعترفت أنقرة بأن الدستور المؤقت لا يؤثر طرفًا على الآخر، وقال مسئول في الخارجية التركية أن الدستور المؤقت خطوة مهمة على طريق زوال الاحتلال؛ إلا أن بعض فقراته تضع مستقبل العراق رهينة لأحد الأطراف ويعيق صياغة دستور حر دائم طالما أن الأكراد يستطيعون الاعتراض على أي فقرة من الدستور الدائم[173].
وقد عرض رون نومان على المسئولين الأتراك فكرة التوقيع على اتفاق عدم اعتداء على غرار الاتفاق الذي وقعه العراق مع الكويت لمزيد من طمأنة تركيا؛ إلا أن الخارجية التركية رفضت ذلك مشيرة إلى عدم وجود حاجة إلى مثل ذلك الاتفاق، وأن العلاقات بين العراق وتركيا يجب أن تتجاوز ذلك إلى توقيع اتفاقات للتعاون السياسي والاقتصادي، كما عبرت أنقرة عن رضاها عن حرص قانون إدارة الدولة العراقي المؤقت على توزيع الثروة على جميع العراقيين، ورفض الطلب الكردي بتخصيص جزء من الثروات للمحافظات الكردية، كما أشادت بعدم اعتماد صيغة الجمهورية الإسلامية في العراق[174].
هذا التراجع في الموقف التركي من الدستور العراقي المؤقت يكشف عن تراجع حقيقي في الشروط التركية الخاصة بمستقبل العراق، ويؤكد صدق توقع الجنرال حلمى أوزكوك (رئيس الأركان) الذي ربط بين استبعاد الدور العسكري التركي في العراق وانعدام القدرة التركية على التأثير في مستقبل العراق.
فتاريخيًا كانت فكرة الدولة الكردية المستقلة في شمال العراق تمثل خطًا أحمر لتركيا؛ وهي في استراتيجية الأمن القومي التركي “سبب لإعلان الحرب”. وفي المفاوضات مع الولايات المتحدة عشية الحرب على العراق طالبت أنقرة برفض أي صيغة فيدرالية في الدستور العراقي المنتظر، مع اعتبار التركمان عنصرًا مؤسسًا للعراق على قدم المساواة مع العرب والأكراد. وبنشوب الحرب على العراق، وسقوط نظام صدام حسين؛ سقطت معه الخطوط الحمراء لتركيا، ومن ثم لم يعد هم أنقرة سوى التقليل من الخسائر، وتطور رفض الفيدرالية إلى رفضها فقط على أساس عرقي وقبولها على أساس جغرافي. وجغرافية كردستان العراق معروفة: المحافظات الثلاث التي تشكل منطقة الحكم الذاتى السابقة والمقرَّة عام 1970، والتي أعيد منحها هذا الحكم مع صلاحيات أوسع، ومحافظة كركوك التي بقيت خارج منطقة الحكم الذاتي عام 1970، وفي الدستور العراقي المؤقت الذي أقره مجلس الحكم الانتقالي العراقي يوم 8 مارس 2004؛ وهذا يعنى أن فيدرالية الأكراد سواء سميت جغرافية أم عرقية هي فيدرالية لها طابع الهوية الكردية.
ومع توقيع الدستور المؤقت -على هذا النحو المشار إليه- تكون سياسة أنقرة الكردية والعراقية قد وصلت تقريبًا إلى نهاية الطريق: تثبيت خروج تركيا من المعادلة العراقية بعد أن اضطرت تركيا إلى قبول ما ظلت ترفضه وبحدة لسنوات طويلة، وبسببه اضطرت إلى الدخول في مشكلات مع الولايات المتحدة، وأهم ما أقره الدستور المؤقت وما اضطرت أنقرة إلى قبوله اضطرارًا هو:
(1) عدم وضع التركمان في الدستور المؤقت على قدم المساواة مع العرب والأكراد.
(2) منح الأكراد -من دون تسميتهم- حق الاعتراض (الفيتو) على أي دستور عراقي جديد لا يوافقهم من خلال اشتراط عدم رفض أكثرية الثلثين في ثلاث محافظات لهذا الدستور؛ وهو ما يتأمن بسهولة من المحافظات الكردية الثلاث، وبالتالي يمنح الدستور الأكراد حجمًا أكبر بكثير من حجمهم الحقيقي، وأكبر بكثير مما كانت ترفضه تركيا في وقت سابق.
(3) استمرار وجود البشمرجة، وإن اقتصرت مهماتهم على الأمن الداخلي.
(4) نص المادة السابعة التي لا تجيز سن أي قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام؛ الأمر الذي تراه تركيا يفتح الطريق أمام إمكانية قيام دولة دينية.
هذا الأمر الواقع الجديد الذي اضطرت تركيا إلى قبوله جعل الريبة المتبادلة تحل محل الشراكة الاستراتيجية بين تركيا والولايات المتحدة؛ خصوصًا بعد أن استبعدت تركيا من الناحية الفعلية عن التأثير في مستقبل العراق، ووجدت منافسًا قويًا لها يحل مكان الدور الذي كانت تطمح للقيام به. هذا المنافس هو الدور الإسرائيلي المتصاعد في شمال العراق بصفة خاصة؛ الأمر الذي فرض على تركيا إجراء مراجعة لعلاقات التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل، وأن تعلن مواقف مدعمة للشعب الفلسطيني بصورة غير مسبوقة، وأن تفتح آفاقًا واسعة للتعاون والتنسيق مع إيران وسوريا رغم التحفظات الأمريكية على هذه السياسة التركية.

القسم الثالث- انعكاسات الأزمة الأمريكية/ العراقية على إيران وتركيا

*****

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2005

** يمكن الاطلاع على بقية البحث والهوامش في الملف المرفق

للحصول علي الملف

اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى