نحو دفعة جديدة للخروج بالتعليم من شرنقة الموروث الحداثي: طرح من منظور حضاري

التربية والتعليم مهمتان أو مهمة واحدة مفترضة على الكبار جماعة وفرادى تجاه الصغار سنا وعقلا ومهارات. والبشرية تمارس هذه المهمة منذ بدء وجودها إلى اليوم، على اختلاف البقاع والأزمان والثقافات والأحوال. وطرق أداء هذه المهمة لا يمكننا حصرها، لكن مقاصدها يمكن حصرها. وتثير هذه المهمة إشكاليات معاصرة شديدة الخطورة؛ منها: تنميط البشر، وضرب الثوابت بالمتغيرات، وصناعة فجوة أجيال، وتفريق الفئات المجتمعية؛ إلى متعلمين وغير متعلمين وإلى أشكال من التعليم والتربية غير متسقة، ومنها فجوات بين التعليم والعمل، وبين التربية والأصول الثقافية، وبين التربية والتعليم ومتطلبات التقنيات المتجددة وسوق العمل.

ينخرط أكثر المعنيين بالتربية والتعليم في طرقهما الكثيرة ومحاولات تطويرها الدءوبة، ويتوقف قليلون عند مقاصدها ومحاولة تأصيلها وتوصيلها برؤية إنسانية شاملة. وربما يرجع ذلك إلى وطأة منظومة التعليم النظامي السائدة عالميا، وإلى الدفق الغزير من طرق واتجاهات التربية المطورة أو المغيَّرة كل يوم. ولكن كثيرا من المؤشرات تدعو إلى مراجعة أكثر جذرية وهدوءا، وإلى البحث عن نهج تربوي وتعليمي جديد؛ للبشرية.

من أرضية الإسلام، وما يهتف به من مركزية قضية الإيمان، فإن مقاصد الحياة الإنسانية هي مقاصد إيمانية ثم عمرانية، لها موازين إلهية تتعلق بالكون والإنسان والحياة، وتتمدد إلى تفصيلات الحياة الفردية والعلاقات الجمعية، وإلى حركة الأمم وتفاعلاتها. وهذه الأرضية تستلزم من أهلها المؤمنين بإمكانيات العقل وحدوده، وإمكانيات الفعل البشري وحدوده، تستلزم إدامة إنعام النظر في أصول الإسلام، ومواصلة التفكر في عطاءاته الفكرية والنظرية، التي تيسر لأهل كل حقبة تجديد فقههم للأمور، وتحقيق مقاصد الإيمان والعمران فيما يستجد من أحوال الإنسان.

وفي هذه الورقة الموجزة عرض لمحاولة تأملية تجديدية في شأن التربية والتعليم، على خلفية نظر متجدد في أصول الإسلام ومقاصده ومنهاج نظره العام، وأنواره العديدة المتنوعة في قضايا هذا المجال. ونرتبها في أربع فقرات: مقاصد نظام التربية والتعليم، وسائله، بعض قضاياه ومسائله المعاصرة، قبل أن نقدم اقتراحا بخطوة أولى أو خطوات أولية في طريق تجديد العمل بعد تجديد الفقه.

أولا- في مقاصد التربية والتعليم

اليوم يقصد أهل التعليم المدرسي والجامعي تخريج أفراد يحملون قدرا أساسيا من المعلومات في مجالات طبيعية واجتماعية ولغوية، ومهارات أساسية في القراءة والكتابة والبحث وبعض الأعمال المهنية أو الحرفية. هذا فضلا عن بعض القيم الإنسانية التي يراها القائمون على نظم التعليم مهمة في بناء المجتمع الصالح، وتكوين الفرد الصالح. وقديما كانت نظم التعليم والتربية بصفة عامة تفعل ذلك بصفة عامة أيضا. إذًا هي ثلاثية: معلومات، مهارات، قيم، وتجري العناية حاليا بمهارات التفكير وتعليم الأولاد مناهج نظر وتفكير أكثر من حشو رءوسهم بالمعلومات، أو إشغالهم بمهارات سيتعلمونها أفضل في سوق العمل. ولكن تحديد مضامين تلك المعلومات والمهارات ومناهج النظر والتفكير هو محل اختلاف الأنظمة عبر الزمان والمكان. وينتبه البعض اليوم وينبهون إلى إشكاليات في الوسائل التعليمية تؤثر على المضامين؛ ومن ثم على بلوغ المقاصد التعليمية.

من ناحية أخرى، ينعقد واحد من أهم اختلافات الأنظمة التعليمية في تصورها للفرد والمجتمع الصالحيْن؛ تبعا لمفهوم كل منها عن “الصلاح” الإنساني والحياة “الصالحة”. ومن منظور ديني فإن الغلبة اليوم للنظم التعليمية والتربوية المنغمسة في الدنيوية، والمفصولة عن الدين والإيمان بالغيب والإيمان بالله واليوم الآخر، والمقطوعة عن العبادات. نعم لا يزال للتعليم الديني حضوره، لكنه في أغلبه منفصل عن التعليم الدنيوي، وكأن الدين للدين لا للدنيا. وثمة محاولات هنا وهناك لتعليم جامع بين الدين والدنيا، والإيمان والعمران، في عالم كل دين، لا سيما في عالم الإسلام، وتبذل في ذلك جهود مضنية منذ تنبه رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده في مصر إلى أهمية تجديد التربية والتعليم للبنين والبنات، وفق منظور إسلامي للتقدم والمعاصرة. وعلى أثرهما جرت محاولات عبر العالم الإسلامي وعبر الحضور الإسلامي في غير بلدان الأغلبية المسلمة، وحدث أن تتقدم بعضها، لكنها لا تلبث إلا يسيرا حتى تتعثر أو تتهادى، أو تتوقف.

مما ينبغي وضوحه وإحسان الترويج له: مقاصد التربية والتعليم من منظور الإيمان والعمران.

  • إنسان رباني: يتعطش الإنسان اليوم إلى التصالح مع الرب، بعد إعراض وخصومة طال أمدهما، وتفجرت آثارهما السيئة في الحياة المعاصرة في الشرق والغرب. على مستوى الفرد فشلت الحداثة ومنتجاتها في إطفاء الظمأ الروحي اللاهب إلى الله، أو تهدئة أمواج الحيرة في معنى الحياة ومعنى الموت، وفي إشباع الحاجة إلى قريب مجيب تحدثه النفس حين انفرادها، وتحبه وتخافه وترجوه، وتستند إليه معنويا، وتستمع لهداياته عقليا.

لم يعد ممكنا الصمود أمام السؤال الذي جرى تحريمه وتجريمه منذ أكثر من قرن: ما صلة الأرض بالسماء؟ وما علاقة الماضي السحيق بالمستقبل المجهول؟ وما صلة الحياة بالموت؟ وما حكمة هذا الدوران بين القوة والضعف، والغنى والفقر، والراحة والتعب؟

يجب أن يجيب نظام التربية الجديدة عن هذه الأسئلة، يجيب ببساطة وببداهة؛ لأن السؤال إنساني عام شامل، وليس سؤال قلة ذات ثقافة خاصة. ومن ثم يصبح المقصد الجديد العميق الكبير هو إخراج إنسان رباني جديد عبر:

  • تربية على الإيمان بالله واليوم الآخر،
  • تربية عبادية،
  • تعليم للتعاليم الإيمانية والحجج اليقينية،
  • تلاوات للقصص الإيماني،
  • فكر لإعمال الإيمان في البرنامج اليومي للإنسان،
  • التزام أساسي بالقيم وأحكام الحلال والحرام،…. .
  • مجتمع عمراني: على مستوى المجتمع، تفجر بقوة سؤال المعنى أيضا: لماذا نحن معا؟ وما الداعي الجدير بالتقدير لأن يتصل بعضنا ببعض، ويتعاون بعضنا مع بعض؟ وما الذي أبرر به الانتماء لجيش يقاتل آخرين؛ بعيدا عن تلك الشعارات التي ثبت عدم كفايتها وعدم قدرتها على إقناعي بالقتل أو الطاعة أو التعاون مع آخرين؟ خاصة مع تفاقم أزمات الهوية والانتماء والتفكك الأسري والمجتمعي الرهيب في الغرب والمجتمعات المتغربة.

شيء آخر صار منشودا غير مجرد الحاجة إلى المال والطعام والشراب والمسكن والسيارة والقدرة الشرائية والمتعة الاستهلاكية! شيء آخر يمكن أن يمنح هذه الأشياء ذاتها معنى أرقى وأنقى! وليس إلا الرب.

والرب في المنظور الإسلامي -بخلاف المسيحي- له تعاليم، وقيم، وأحكام، ترشد الأفراد والجماعات في معاملاتهم إلى ما فيه خير الدنيا وما بعدها: تعاليم رحمة، وتعاليم ورع وعفاف، وأيضا تعاليم عدل، وتعاليم قوة، وليس فيها تعاليم ظلم ولا عدوان ولا وهن ولا ابتذال.

إن مقصد الاجتماع الإنساني هو العمران: التناسل والتكاثر، والتربية والتعليم، والنسب والمصاهرة، وحفظ الكرامة، والسعي وابتغاء العيش، مع التمتع بالمباح، وتحقيق الأمن والأمان، والعيش بسلام، وفض النزاعات بطرق عادلة. وهذه ينبغي أن تتجدد مقاصد للتربية والتعليم، تحت مظلة الإيمان، ودون انقطاع عنه، عبر:

  • تعلم أخلاق الصدق،
  • تعلم قيمة العدل وفنون تطبيقها بالعدل،
  • تعود الصدقة والتصدق،
  • تعلم التعاون على البر،
  • تعلم النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآدابها وفنونها،
  • تعلم الاختلاط الصحي بدوائر الحركة المتنوعة،
  • تعلم التعامل مع الأدوات المختلفة والمتجددة،
  • تعلم كسب المال الحلال،
  • تعلم عمل المشروعات الخيرية،
  • تعلم عمل المشروعات الاقتصادية،
  • تعلم فقه عمل العقود والوفاء بها،
  • تعود احترام الكلمة قبل إلقائها وبعده،… .
  • عالم تدافعي: ينبغي أن يتعلم الإنسان من صغره أنه خُلق في كبد، وأنه كادح، ومبتلى، وأن العالم فيه خير وشر، وأنه يجب أن ننتمي إلى فئة الخير، ونقاوم منازع الشر في أنفسنا أولا، ثم فيما حولنا. ينبغي أن يتعلم النشء -والكبير الذي لم يترب جيدا- أنه لن يستسلم للشر والعدوان، ولن يدعهما يتسعان أو يترسخان حوله وهو ساكت مستسلم، وفي الوقت نفسه لن يندفع إلى المقابل؛ فيواجه الظلم بظلم ولا العدوان بعدوان؛ إنما بما يكافئه قوة ويخالفه أخلاقا ومقاصد ومعنى. يتعلم الوسطية الإيجابية.

وينبغي أن تقدم للناشئة نماذج التدافع واضحة، وأنها لإزالة الشر بالخير لا لإحلال شر محل شر. وقد تعبت الفلسفة والفنون وأهلوهما في تصور وتصوير هذه المعادلة، لكنها في القرآن ونماذجه بدهية، وفي التاريخ الحضاري غير قليلة. يتعلم المتعلمون تلك السنة (التدافع)، عبر:

  • تعلم العدل والإنصاف،
  • تعلم مقاومة الشر بالخير، وأن الخير قوة لا ضعف ولا وهن،
  • تعلم الشجاعة الأدبية والعملية،
  • تعلم رياضات بدنية،
  • تعلم علوم وتدريبات دفاعية أساسية،… .

وإذا كان الجواب الإسلامي عن هذه المقاصد وأسئلتها إسلاميا؛ بمعنى أنه يشترط أن يسلم الإنسان لله تعالى على صحيح الإيمان وتشريع العمران، كما جاء به القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن غير المسلم له أن يستفيد من فكرة الإيمان والعمران ذاتها، وأن يتشبه بالمنهاج العملي لتحديد مقاصد التربية والتعليم ووسائلهما. وينبغي تجديد الخطاب الخاص بهذه الجهة تجديدا خاصا على يد كبار التربويين الحضاريين، أو استكماله، وحسن إبلاغه.

ثانيا- في الوسائل التربوية والتعليمية

كما تقدم، ينشغل الأكثرون بوسائل التربية والتعليم أكثر من مقاصدها، ويعترفون بضعف الجانب المقاصدي وافتقاده الأصالة الإنسانية. وينصرف التعامل مع الوسائل التعليمية والتربوية غالبا إلى ثلاث جهات أساسية: المؤسسة، المقررات، الأدوات وخاصة الإلكترونية اليوم. وثمة عناصر أخرى محل نقاش، من البيئة بأبعادها والمعلم، والتمويل وغيرها، لكن المفتقد هو فقه جديد للوسائل في مظلة المقاصد.

وهذه رؤية موجزة أشبه بنموذج مقترح، منها بسياسة متكاملة، للوسائل التي لها الأولوية، وكيفية تجديد النظر فيها من منظور الإيمان والعمران، وطبيعتهما العملية:

  • المعلم المربي معلَّم مربَّى أولا: وفي هذا ضرب لفكرة “الأداة/الآلة التعليمية” التي ساوت بين المعلم والسبورة التي يكتب عليها، وبين المربِّي والكتاب الذي يقرأ منه. إن في هذا المنحى الأداتي رسالة عميقة لكنها قوية موجهة للمتعلمين أننا -نحن المعلمين والمربين- كاذبون! وأن التربية شيء مستحيل، وأن الإنسان الصالح -وفق المنظومة السائدة- هو فقط القادر على التظاهر بالصلاح أو الحديث عنه، وليس المتحقق بقيم تنضح عليه، ولا المتحلي بأخلاق تتجلى في سلوكه وطريقة عيشه وتفاعله. وهذا أوله في الأب والأم، فالجد الجدة، والأخ الأكبر… قبل مدرس المدرسة أو معلمة المعهد والجامعة. وقد يعني هذا دورا منطقيا أو غير منطقي، وطرح سؤال البيضة والدجاجة: أيهما أولا: هل نربّي المربين، ثم يربّون هم الأولاد؟

وهذا سؤال مهم وفي وقته ومكانه؛ وهو مهم لأنه يجب نسفه واقتلاعه من جذره وعلى رءوس الأشهاد؛ يجب نسف هذا السؤال وتبدبد روحه وما في حكمه من أسئلة الحداثة الغربية “الفيبرية” (نسبة إلى ممثل الحداثة الأبرز ماكس فيبر). فهذا سؤال من جنس الـ(ميكانيكا) غير الحيوية، وهو يفترض أن المجتمع الإنساني أو الفرد ماكينة يمكن إيقاف عجلتها (استاتيكا) حتى نصلحها ثم نعيدها إلى الحركة (ديناميكا). وينبغي تحرير مفهوم التربية والتعليم من إطار الماكينة التي يصنعها البعض ويضعون لها كتاب الصيانة والإصلاح؛ وكأنهم آلهة المجتمع.

إن حيوية الإنسان تفترض إمكان -بل وجوب- اختراقه وهو حي يحيا ويتحرك، ويفعل ويمتنع، ويصيب ويخطئ؛ وجوب اختراق عقله وقلبه، وليس جسده، وقبل اختراق نظام معيشته. على الأقل فإن الرعيل الأول من قوة التغيير والإصلاح هم الذي تخترقهم الكلمة الصالحة القادمة من الدعاة المربين، وتنفذ فيهم الصورة الصالحة للقدوة الصالحة. ومن ثم فإن درس التربية والتعليم لا يقتصر على الصغار ولا على جدران المدارس أو الجامعات أو حتى البيوت أو حتى المساجد وما أشبهها، ولكنه درس حياتي يمضي مع الحياة أينما حلت أو ارتحلت.

إنه أداء سارٍ جارٍ في المجتمع، وأداته الأساسية: أن كل من تربى على صلاح يمارسه، وكل من تعلم علما يعلمه؛ بالقول وبالفعل معا.

  • فتح أبواب المعاهد التعليمية على المجتمع إلا قليلا وإغلاق أبواب البيوت إلا قليلا: وهذا من ضرورات مواجهة التعقيدات والتحكمات التي فرضها التعليم على النمط الحداثي، ثم زادتها اتصالية ما بعد الحداثة تحريفا بسيولة مضادة للتحكمات الحداثية.

الأصل في البيوت المسكونة أن تكون لها أبواب تغلق عليها لخصوصيتها؛ وخاصة مراعاة لمسألة العورات والسوءات التي ينبغي ألا يطلع عليها غير أهل البيت؛ وهذا مما يحفظ للإنسان في تكوينه عنصر خصوصية عميق. ولكن الأصل في البيوت غير المسكونة أي العامة -ومنها معاهد التربية والتعليم- ألا تكون لها أبواب أو أسوار تمنع التواصل مع المجتمع، اللهم إلا لو احتيج بعض ذلك لحفظ أشياء قابلة للسرقة أو ما إليه.

إن درس العلم ينبغي أن يتوفر للجميع وينفتح على المجتمع، وخاصة علوم الحياة، ومبادئ علوم الطبيعة، أما دروس التربية فلا أجد معنى لقصرها على أحد دون أحد. ومن ثم نحتاج لإدارة جديدة لمؤسسات التعليم؛ تقوم على الصلة القوية بالمجتمع، والقدرة على التوجيه والإقناع وليس الحشد والتنظيم والضبط المؤسسي المغلق.

نموذج شيخ الأزهر القديم؛ (وهو مدير جامعة كبرى، متعددة العلوم، كثيرة العلماء المعلمين، كثيفة المتعلمين القادمين من أصقاع عديدة وبعيدة)، هذا النموذج ينبغي أن يعاد تأمله؛ كيف كان يفعلها شيخ الأزهر وشيوخ الجامعات الإسلامية القديمة في الزيتونة والقرويين وديوبند والنظامية والظاهرية والناصرية، وقبل أن تتأسس الجامعات الأوروبية في عصر نهضتهم على طريقة أكاديموس أفلاطون؟ ثم كيف تجاوزت الحداثة نموذج شيخ الأزهر إلى تعقيدات ومتطلبات إجرائية شديدة التداخل والتحكم بلا عائد يكافئ ذلك؟

مفهوم التنظيم المرن، والإدارة اللامركزية، جديران بالعمل عليهما، وتطويرهما بحيث يعودان أكثر بساطة وأنفذ إلى مقاصد العملية التعليمية والتربوية.

  • المرونة والتعددية في أشكال وموارد اكتساب المهارات: فيمكن للمتعلم أن يتعلمها من مزرعة أو مصنع أو ورشة أو شركة أو عبر الانترنت. وتتبقى مسألة الاعتماد من الجهات الرسمية لأعمال معينة محل عناية خاصة كالطب وما أشبه، وهذه يمكن وينبغي تطوير وسائلها بحيث لا تقتصر على مسألة الحضور والغياب، والساعات المعتمدة، وغيرها مما يتعسف في تحديد مستوى الشخص وأهليته للعمل في مجال هذا العلم.
  • إعادة الوصل والجمع بين الدين والعلوم الأخرى وبين التربية الدينية والتربية العمرانية: وهذا أولى من الفصل اللاديني وأفيد، وأفضل من برامج التربية المدنية والتنمية البشرية والروح التي تسري في مشروعات التربية الإيجابية ونظم التعليم الدولية العابرة للحدود. وهذا الباب لازم لتعلم القيم والتربية العميقة عليها.
  • تطوير مناهج التفكير والنظر: وهي الأرضية التي يتلقى عليها الأولاد المعلومات ويطورون مهاراتهم. وهذه شديدة الصلة بالفكر الحاكم لمقاصد التعليم والتربية، وينبغي تجديد التراث الإنساني المتعلق بها؛ تجاوزا لما فرضته الحداثة من تحكمات وما أفرزته ما بعد الحداثة من سيولات.

ومن أهم هذه المناهج من معين الإسلام: التفكير السنني، والتفكير المقاصدي. ومن المهم تيسير علم أصول الفقه للناشئة والعوام بوصفه ثقافة؛ ليس ليكونوا فقهاء في الأحكام الشرعية، ولكن ليتدربوا على مطلق التفكير المنهجي المنظم، والعملي في الوقت نفسه.

  • تطوير الأفكار السائدة عن السيبرانية والأداة الإلكترونية: وكونها تقع بين العطاء الرباني والعمراني في جهة، والأزّ الشيطاني والإفسادي في الجهة الأخرى، وأنه بالقيم المغروسة في النفس والمجتمع، يتجه الفرد والمجتمع إلى العطاء الرباني والعمراني ويتجنبان الجانب الشيطاني والإفسادي.

ثالثا- بعض قضايا ومسائل

تتصل بما سبق مجموعة من القضايا الأساسية والمسائل الجانبية والمكملة، يمكن عبر النظر فيها إلقاء مزيد ضوء على النظر الحضاري لتجديد فقه التربية والتعليم. وعماد هذا المنظور الجمع بين الثنائيات التي مزقتها الحداثة وحرشت بينها؛ حتى ألهتنا عن التقدم بهذه الصراعات الوهمية. ومن هذه القضايا والمسائل:

  1. دور الدولة ودور المجتمع:

في واقعنا الراهن، فإن هذا الفقه المشار إليه أعلاه، يعسر أن تتقبله الدولة المعاصرة وجهازها الأعمي بما هما عليه، اللهم إلا قليلا. ومن ثم فالمخاطب بذلك في الأساس هو المجتمع، في كل مكان يستشعر فيه ناسه الحاجة إلى مستقبل مختلف لأبنائهم وبناتهم وأحفادهم، ويستشعر فيه قادة المجتمع الحقيقيون أهمية التغيير والخروج من شرنقة النظم التعليمية الحداثية الموروثة.

  1. الأخذ عن الآخرين المغايرين ثقافيا:

ليس هذا هو الأصل، الأصل البحث عن رؤية إنسانية أولية تتجاوز القوميات والحدود المصطنعة بين البشر، رؤية تستعيد الأصل الإنساني. وليس أثبت من كلمة الإيمان جوابا لسؤال الأصل والتأصيل، وليس يبقى لنا من الموروث الإنساني شيء مثل الدين يعِد بالقدرة على التصحيح والتجديد، وليس أظهر من الإسلام بين الأديان يمكن أن يستفيد منه الجميع في تجديد كلمة الإيمان وشرائع العمران.

ومن ثم فليست القضية: من يأخذ ممن؟ إنما ماذا نستدعي كلنا بحيث نجدد فقهنا للتربية والتعليم، ثم نجدد عملنا فيهما؟ قد يتطلب الأمر خطابا إسلاميا جديدا في هذا الشأن منه ما يخاطب غير المسلمين بخطاب إنساني عالمي غير تمييزي، ولكنه ديني بالتأكيد، ومن الطريف أن قدرا يمكن ملاحظته من هذا الرصيد موجود، وإن لم يدَّعِ أحد كفايته وغنايته عن المزيد. لكن أكثر الخطاب التربوي الإسلامي إنما هو موجه للمسلمين، وما يوجه لغير المسلمين ليس بالكثير.

أما أخذ المسلمين عن غيرهم، فيكفي ما كان، ويفترض أنه قد عرف المسلمون الآن ما يأخذونه وما يجب أن يتفادوه. وبات راجحا أن التعلم باللغات الأجنبية -بوصفها أصلا تعليميا- يعد جريمة ثقافية وحضارية ودينية وإيمانية، وثماره ظاهرة. ويجب العودة عنه إلى تعليم الأولوية فيه للعربية، إن كنا نرجو مستقبلا مختلفا، وليس جريا في نفس المكان/الواقع وكأنه لا يتحرك للأمام وتتغير معطياته. وهذا لا يغني عن تعلم اللغات خاصة الشهيرة منها كالإنجليزية التي يجري بها التواصل مع عالم أهم سماته الآن: التواصل بغير حدود. ومن الجدير بالذكر أن التحدث ب الإنجليزية في الأمة الإسلامية أكثر منها بالعربية؛ نظرا لأن غير العرب من المسلمين يزيدون عن الثلثين من تعداد الأمة.

  1. الموازنة بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان والمجتمع والعقيدة الدينية:

هذه الموازنة تنعقد تلقاءً بمجرد تحرير الرؤية الإسلامية المعاصرة وإحسان الإبلاغ بها. إن القرآن الكريم لا يفصل بين حديث السماوات والأرض وحديث العدل والظلم وحديث الزواج والميراث والبيع والكسب والإنفاق المالي وحديث الحرب والعهود وحديث المرأة والطفل وغيرها.

ومن ثم فليس يصح أن يدرس الطبيب الطب بمعزل عن التاريخ والاجتماع، ولا أن يفصل في تعليم المهندس بين المعادلات الرياضية والرسوم الهندسية والسياسة والاقتصاد اللذين يحكمان عمله من خارجه، فالاجتماعي هو إطار الطبيعي، كما أن المعرفة الطبيعية الأساسية لازمة لرجال الاقتصاد ومطوري التقنيات المجتمعية والتجار وغيرهم.

  1. الموازنة بين المنهاج والمضمون

وهذه قضية محسومة نظريا، عالقة عمليا؛ أن المنهاج الفكري مقدم على المعلومات الكثيرة. لكن طريقة تنفيذ ذلك في العالم الإسلامي ضعيفة جدا، بخلاف كثير من دول الغرب وبعض دول الشرق.

وهي قضية غريبة. فواضعو المقررات التعليمية في أكثر عالمنا لا يذكرون مما تعلموه في الثانوية والإعدادية إلا القليل؛ من أسماء العلماء، ونظرياتهم، وأسماء المواد الكيمائية والأجرام السماوية وأعضاء أجسام النباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة وخصائصها… التي اكتظت بها الكتب المقررة، ثم هم بعد ذلك هم يقدمون كتبا من نفس النوعية عبر العقود، ولا يغيرون، ولا أدري لماذا.

درست في الصف الأول الثانوي كتاب مادة الجغرافيا أو الموارد الطبيعية والبشرية بإحصائيات قديمة ومعلومات كثير منها كان قد تغير كثيرا ولا دلالة له على الواقع أو على منهج التفكير فيه. وكنا نحفظ أرقاما محاها التاريخ، ونناقش إشكاليات تغير واقعها. ولو هذه المعلومات جاءت كانت على سبيل المثال التاريخي لكانت أصح وأفيد، ولكنها كانت مادة أسئلة جزئية في الامتحانات، وظلت هذه المادة على حالها ردحا من الزمن.

في مادة الرياضيات كنا نحفظ النظريات والمعادلات المنبثقة منها ونطبق عليها تطبيقات عديدة ثم نتحول عنها فلا نذكر منها إلا الأساسيات. ثم في الجامعة التقيت زميلا أشار إلي إلى أنهم في إحدى الدول العربية كانوا لا يدرسون معادلة محفوظة ولا يسألون عن حل مسألة بأرقامها بقدر ما يطلب منهم شرح منطق التعامل مع المعادلات، ويسمونها مادة المنطق والجبر أو المنطق والرياضيات، وهذا يجعله أعمق فكرا وأوسع نظرا، فتأسفت على سنين قضيتها أحفظ المعادلات وأطبق عليها مئات المسائل الرياضية، ونتبارى في حل فوازيرها.

  1. الموازنة بين المساحة العامة من المعارف وبين التخصص

وهذه ملحقة بما سبق. ينبغي أن يتوفر في المنظومة مرونة حقيقية؛ بحيث إنه منذ ظهور ميول الإنسان إلى تخصص علمي أو عملي ما، يجد معادلة العناية بهذا التخصص متوفرة له، وبما يخدمها من تأسيس عام. لعل معظم ما يتطلبه هذا الأمر هو العودة إلى تبسيط الإجراءات، والأخذ بقاعدة أن تعدد المسالك راحة للسالك، وأن من سلك طريقا يلتمس فيه علما نافعا، فعلينا أن نسهله له، لا أن نقف منه موقف الشارط.

ويتصل بذلك مسألة الموازنة بين المعلومات والقيم والمهارات: ففي الصغر يبدو أن الأولى هو تقديم كثير من القيم (أي التربية) وقليل من المعلومات وقدر وسط من المهارات، ومع الكبر يوفر السابق من غرس القيم وقتا لصالح تلقين المعلومات، ولتوجيه المهارات نحو التخصص، بالإضافة إلى إتاحة المهارات العامة ومجالات تعلمها.

  1. المال بين الإنفاق على التعليم وكسبه منه

من المفهوم أن متعلمي علوم الدين والنظر والاجتماع قد لا يتكسبون بسهولة من علومهم، بخلاف علوم المهن وفنون الحرف، وهذا ينبغي علاجه بأمرين: الموازاة بين التعلم والكسب منذ الصغر، ثم توسعة دائرة المعلمين.

ومجتمعنا الأمي المتخلف مهاريا ومعلوتيا يحتاج إلى جيوش من المعلمين، ومن ثم نعتمد فكرة المتعلم المعلم؛ بأن يعلم أبناء الإعدادية أبناء الحضانات والكتاتيب، ويعلم أبناء الثانوي أبناء الابتدائية، ويعلم أبناء الجامعة طلاب الإعدادية.. مساعدين لمعلمين كبار. منظومة جديدة لمجتمع في حالة تعلم وتعليم متصلة متمددة أفقيا ورأسيا.

  1. الموازنة بين متطلبات التكوين ومتطلبات السوق

هذه هي المعادلة الأهم فيما نحن بصدده؛ ما بين بناء الإنسان وتعظيم العمران. أولا ينبغي تجديد مفهوم السوق ومفهوم العمل، وما يتصل به من شبكة مفاهيم المال، والكسب، والربح، والنجاح والفشل، والسبق، والقوة، والثروة، والذكاء، والمنافسة، والحظ، وما إليه، وقبلها مفهوم تكوين أو بناء الإنسان. فقد غشت ذلك كله تعريفات المادية حتى طمست منهما جانب الإيمان ولا حول ولاقوة إلا بالله.

صار بناء الإنسان يشبه صناعة آلة، وصار مفهوم السوق ذا أجواء ثقافية وروحية مادية تجعل من البحث عن المال دينا وإيمانا من نوع مضاد للدين والإيمان الحقيقيين وملتهم لهما.

ومن ثم فهذه القضية تقع في بيت القصيد، ويجب علاجها علاجا متكاملا: تغيير وإصلاح ثقافة السوق والمادة والدنيوية؛ لتصبح ثقافة عمرانية: كسبا من غير شره، وإنفاقا من غير سفه، ومن ثم تدخل هذه العملية في تغيير مفهومنا عن أنفسنا وعن الحياة ودورنا فيها؛ وتطور في أخلاقنا شيئا فشيئا.

وأخيرا- الخطوة الأولى وبعض التالية

الخطوة الأولى هي قبول هذه الفكرة المضمنة هذه الورقة، فإذا خطوناها، تولد عنها حركة في الذات نحو الذات ثم نحو الحياة؛ حركة نفسية وفكرية تصنع إرادة التغيير وإرادة الإسهام فيه؛ بدءا من تصحيح مواقفنا. تتولد نية الانخلاع الجذري من الرؤية الظالمة المظلمة الحاكمة لأعمالنا التربوية والتعليمية، ومعها نية الانخلاع التدريجي من المنظومة المعيشة، والعزم على استبدال المنظومة الإيمانية العمرانية بها. فمن يقبل ذلك يسجل ذلك على نفسه، ويتفكر في الواجب التالي.

  • ولي في الواجب التالي بعد الخطوة الأولى مقترح أولي؛ أن يتعهد المقتنع بالفكرة أن يُحسن هو نقلها لأهله وأصدقائه، مباشرة أو عبر وسائل التواصل المختلفة. وإحسان النقل والإبلاغ لا يكون بأخذ نسخة من هذه الورقة وفيها ما فيها، ثم إشاعتها بين الأصدقاء على وسائل التواصل أو عبر البريد الإلكتروني، إنما بعد التفكر فيها وتطويرها وخاصة ترجمتها بلسان قومه: ما الطريقة أو اللغة التي يحسن توصيل هذه الفكرة إليهم بها؟
  • فريق منا ستكون خطوته التالية هي التفكر في بناء مؤسسة تعليمية على قاعدة الإيمان والعمران، وأن يجمع لذلك فريقا من المختصين والمهمومين، ويتشاركوا الرؤية، ويطوروها؛ ويشرعوا في بذر بذرة مؤسسية لها. نعم، جرب ذلك من قبل، لكنه ماراثون إيماني اجتهادي لا ينقطع، ويجب تجديده كل حين وكلما أمكن.
  • ولو أن مسئولا تربويا في مؤسسة حكومية أو مجتمعية أو خاصة اقتنع بهذه الرؤية الأولية، فلعل خطوته ستكون في تطوير فكرة تدرجية لإدخال الفكرة في مؤسسته، ورعاية نموها فيها، حتى تنتظم المؤسسة في سلك الفكرة شيئا فشيئا.

والله تعالى المستعان وهو ولي التوفيق والسداد.  

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى