مع إكمال عامين على الطوفان: سلام ترامب استكمال لمشروع صهيوني تحت تهديد الإبادة والمجاعة

تعرضت بعض أوراق العدد الأخير من فصلية قضايا ونظرات (العدد 39 – أكتوبر 2025) لدور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حرب الإبادة على غزة، بدءًا من وعده بإنهاء الحرب بمجرد وصوله للحكم 20 يناير 2025، ووعيده -في الآن نفسه- بتحويل غزة إلى جحيم إذا لم ينته الأمر قبل موعد تنصيبه ذاك، مرورًا بدوره في الإبادة واستمرارها وتأييدها والدفاع المطلق عن إسرائيل وجرائمها، والتماهي المتصاعد مع موقف رئيس وزرائها نتنياهو المتهم بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والمطلوب من المحكمة الجنائية الدولية اعتقاله، وصولًا إلى ما أعلنه ترامب في 29 سبتمبر من خطة لإنهاء الحرب ومستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأسميت “خطة ترامب للسلام”.
فعلى هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي يوم الثلاثاء 23 سبتمبر، التقى ترامب عددًا من قادة ورؤساء حكومات الدول العربية والإسلامية، بخصوص الحرب في غزة، وافتتح ترامب الاجتماعَ بالتأكيد على أنه الاجتماع هو الأهم بالنسبة له، لأنهم سيضعون حدا للحرب على غزة؛ مشددا على هدفه الأول وهو ضمان إعادة الرهائن[1]. وأعلن المتحدثون العرب أن الاجتماع أسفر عن رؤية لإنهاء الحرب، وبدوا متفائلين، وأكثر بعضهم (مثل وزيري خارجية مصر وقطر) من الشكر والتقدير للرئيس الأمريكي[2].
وفي يوم الإثنين (29 سبتمبر) استقبل ترامب بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، وقيل إنه مارس عليه ضغطاً شديداً في الأيام الماضية؛ ليقبل بخطته للسلام، وقال له ترامب إنه “واثق جداً” بالتوصل لاتفاق بشأن غزة، بينما قال له قال نتنياهو إنه يهدف إلى القضاء على حماس في معاقلها الأخيرة. وبينما المحادثات دائرة بين ترامب ونتنياهو -وقبيل المؤتمر الصحفي المرتقب بينهما- كشف البيت الأبيض عن خطة لترامب ونتنياهو، وأنها تنص على تشكيل مجلس حكم مؤقت يرأسه ترامب نفسه، يشرف على المرحلة الانتقالية، ويضم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، وأنه ستتولى شؤون القطاع الفلسطيني لجنة فلسطينية “غير سياسية ومن التكنوقراط” مع استبعاد حماس منها[3].
وفي ليلة 29 سبتمبر 2025 أعلن ترامب -في مؤتمر صحفي حضره نتنياهو- ما أسماه خطته للسلام في الشرق الأوسط، وإنهاء الحرب في غزة، وقد بعثر فيها أوراق القضية وكشف فيها عن رؤية استعمارية جديدة، بقيادته هو، وتشتمل على مزية إيقاف الإبادة -ولو مؤقتا- وإدخال الإغاثات إلى أهل غزة، وبنود أخرى تقضي بتحييد المقاومة الفلسطينية وسلاحها والسلطة[4].
أحدثت الخطة والطريقة التي تم إخراجها بها، وخاصة الحرب النفسية التي مارسها ترامب ونتنياهو -ولم يكفا عنها مطلقا- ضد المقاومة الفلسطينية، في إحداث حالة توتر كبرى، وترقب عالمي لرد المقاومة، ما بين أنها سترفضها وأنها ستقبلها. أعلنت حركة (حماس) اليوم الإثنين أنها لم تتلقَّ بعد خطة ترامب المكتوبة من أجل إحلال السلام في قطاع غزة[5]، وأعلن وسطاء قطريون ومصريون أنهم يطلعون حماس على هذه الخطة[6]، حتى جاء رد حماس بعدها بأربعة أيام بالقبول المبدئي[7]؛ الأمر الذي تلقفه ترامب على عجل شديد، بالإشادة بالموافقة الفلسطينية، والدعوة للتنفيذ الفوري[8]؛ ما أدخل الطرفين والوسطاء في عملية تفاوضية جديدة، في شرم الشيخ بمصر، بينما جزء من العالم ثائر من أجل غزة، وإسرائيل تعتقل وتفرق أسطول الصمود المنطلق عبر البحر المتوسط لإغاثة غزة[9]، وبقية العالم -لاسيما العرب والمسلمين- يترقبون النتائج في صمت وقلق كبيرين[10].
في هذه الورقة نحاول ترتيب ما بعثرته خطة ترامب هذه، وتسجيل الرد الفلسطيني، وما ترتب على ذلك من فتح خط تفاوض ربما يوقف النزيف الفلسطيني المستمر لعامين كاملين، مع إشارة إلى اتجاهات الرأي والتفاعل مع هذه الحالة التي أثارها الرئيس الأمريكي غريب الأطوار. لكن قبل ذلك نشير إلى أجواء ما قبل خطة ترامب أو مقترحه، خاصة مع تصاعد موجة دولية للاعتراف بدولة فلسطين، وانعقاد مؤتمر في نيويورك للدعوة إلى حل الدولتين.
أولا- موجة الاعتراف بدولة فلسطين ومؤتمر نيويورك لحل الدولتين:
إرهاص لخطة ترامب أم محاولة لاستباقه؟
يذكر في هذا الصدد أنه مع تصاعد الرأي العام العالمي المضاد لحرب الإبادة في غزة، تصاعدت منذ أوائل سبتمبر 2025 موجة إعلان عن الاعتراف بدولة فلسطين، برزت فيها دول مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج، ثم تبعتها فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، وغيرها، مما عد نصرا واضحا للطوفان والقضية الفلسطينية. ثم تطور الأمر إلى مؤتمر بعنوان حل الدولتين. فبالتوازي مع اجتماع ترامب مع القيادات العربية والإسلامية، كانت المملكة العربية السعودية وفرنسا تقودان في نيويورك مؤتمرًا باسم “حل الدولتين”، فيما يشبه الإرهاص لخطة ترامب المذكورة، أو محاولة لاستباقه. وجاء في البيان الصحفي الصادر عن هذا المؤتمر وأعلنته الدولتان المنظمتان (السعودية وفرنسا)؛ ما يلي:
“1. نحن، قادة كلٍّ من المملكة العربية السعودية والجمهورية الفرنسية، بصفتهما رئيسي المؤتمر الدولي رفيع المستوى للتسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، نثمّن الدول التي اجتمعت في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في 22 سبتمبر 2025، في لحظة تاريخية حاسمة للسلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
- أسفر المؤتمر الدولي رفيع المستوى عن اعتماد إعلان نيويورك الذي حظي بتأييد استثنائي من الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 142 صوتًا. ويؤكد هذا الإعلان الطموح الالتزام الدولي الثابت بحل الدولتين، ويرسم مسارًا لا رجعة فيه لبناء مستقبل أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين ولشعوب المنطقة كافة.
- وفي الوقت الذي نجتمع فيه، تتفاقم المأساة الإنسانية في غزة مع تصاعد الهجوم البري الإسرائيلي على مدينة غزة، فيما يدفع المدنيون والمحتجزون ثمناً لا يمكن تبريره لهذه الحرب المستمرة. ويقدّم إعلان نيويورك بديلاً مبدئيًا وواقعيًا لدائرة العنف والحروب المتكرّرة.
- لقد حان الوقت لينتقل المجتمع الدولي من الأقوال إلى الأفعال. ونثمّن الجهود المهمة التي بذلها الرؤساء السبعة عشر لفرق العمل المنبثقة عن المؤتمر لرسم طريق التنفيذ السريع لحل الدولتين. وندعو جميع الدول إلى الإسراع في تنفيذ إعلان نيويورك من خلال خطوات عملية وملموسة ولا رجعة فيها، ونرحّب بالتعهدات والإجراءات التي بادرت إليها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
- ونرحّب باعتراف كلٍّ من أستراليا وبلجيكا وكندا ولوكسمبورغ ومالطا والبرتغال والمملكة المتحدة والدنمارك وأندورا وموناكو وسان مارينو، إلى جانب فرنسا، بدولة فلسطين، كما أُعلن رسميا اليوم في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وندعو الدول التي لم تتخذ هذه الخطوة بعد إلى الانضمام إلى هذا المسار.
- إن إنهاء الحرب في غزة وضمان الإفراج عن جميع الرهائن يظلان أولويتنا القصوى. وندعو إلى وقف دائم لإطلاق النار، وإطلاق سراح جميع الرهائن، وتبادل الأسرى، وضمان وصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق إلى جميع أنحاء غزة، وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من القطاع.
- ولضمان اليوم التالي للفلسطينيين والإسرائيليين، نلتزم بدعم نشر بعثة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار، بناءً على دعوة من السلطة الفلسطينية وتفويض من مجلس الأمن، انسجامًا مع إعلان نيويورك. كما نلتزم بتعزيز دعمنا لتدريب وتجهيز قوات الشرطة والأمن الفلسطينية، بالاستفادة من البرامج القائمة مثل بعثة منسق الأمن الأميركي (USSC) وبعثة الشرطة الأوروبية (EUPOL COPPS) وبعثة الاتحاد الأوروبي لمعبر رفح (EUBAM Rafah).
- ونؤكد أهمية توحيد قطاع غزة والضفة الغربية تحت مظلة السلطة الفلسطينية. ونرحّب بسياسة “دولة واحدة، حكومة واحدة، قانون واحد، وسلاح واحد”، التي أعلنتها السلطة الفلسطينية، ونتعهّد بمواصلة دعم تنفيذها. وفي سياق إنهاء الحرب في غزة، نعيد التأكيد على وجوب إنهاء حكم حركة حماس في القطاع ونزع سلاحها وتسليم أسلحتها إلى السلطة الفلسطينية، بدعم ومشاركة دوليين، انسجامًا مع هدف إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.
- إن هذا المؤتمر والاعتراف المتزايد بدولة فلسطين يهدفان إلى تجسيد دولة فلسطينية مستقلة ديمقراطية وقابلة للحياة اقتصاديًا، تعيش جنبًا إلى جنب في سلام وأمن مع إسرائيل. وفي هذا الصدد، نثمّن التعهدات التاريخية التي أعلنها فخامة الرئيس محمود عباس، بما في ذلك الالتزام بالتسوية السلمية، والرفض المستمر للعنف والإرهاب، وتصريحه بأن الدولة الفلسطينية لا تنوي أن تكون دولة مسلّحة، واستعدادها للعمل على ترتيبات أمنية تخدم جميع الأطراف مع الاحترام الكامل لسيادتها.
- ونرحّب بالإصلاحات التي بدأت السلطة الفلسطينية بتنفيذها، بما في ذلك:
- إلغاء نظام دفع مخصّصات الأسرى الذي أصبح ساري المفعول؛
- إصلاح المناهج الدراسية تحت إشراف الاتحاد الأوروبي وبدعم سعودي؛
- الالتزام بإجراء انتخابات عامة ورئاسية ديمقراطية وشفافة في غضون عام بعد وقف إطلاق النار، بما يتيح التنافس الديمقراطي بين القوى الفلسطينية الملتزمة بميثاق ومنطلقات منظمة التحرير الفلسطينية.
وندعم الرئيس عباس في المضي قدماً نحو مزيد من الإصلاحات في هيكل الحوكمة لدى السلطة الفلسطينية.
- كما نرحّب بإطلاق التحالف الطارئ لدعم فلسطين لتعبئة التمويل العاجل لموازنة السلطة الفلسطينية، وندعو جميع الدول والمنظمات الدولية للانضمام إلى هذا الجهد. ونجدد مطالبتنا إسرائيل بالإفراج الفوري عن أموال المقاصة الفلسطينية المحتجزة، ونلتزم بالعمل على مراجعة بروتوكول باريس الاقتصادي ووضع إطار جديد لتحويل أموال المقاصة.
- وندعو القيادة الإسرائيلية إلى اغتنام هذه الفرصة للسلام، وإعلان التزام واضح بحل الدولتين، ووقف أعمال العنف والتحريض ضد الفلسطينيين، ووقف الاستيطان ومصادرة الأراضي وأعمال الضم في الأرض الفلسطينية المحتلة، ووضع حد لعنف المستوطنين. ونحثها كخطوة أولى على سحب مشروع E1 والتخلي علنًا عن أي مشروع للضم. ونؤكد أن أي شكل من أشكال الضم خط أحمر للمجتمع الدولي، يترتب عليه عواقب جسيمة ويشكل تهديدًا مباشرًا للاتفاقات القائمة والمستقبلية للسلام.
- وفي هذا السياق، نرحّب بالإجراءات الملموسة التي اتخذتها الدول الأعضاء ردًا على التدابير الأحادية المناقضة لحل الدولتين، ولانتهاكات القانون الدولي، إلى أن تضع إسرائيل حدًا لممارساتها المهددة لحل الدولتين، وذلك بما يتفق والقانون الدولي.
- ونؤكد أن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق سلام عادل ودائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، استنادًا إلى قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، هو السبيل الوحيد لتحقيق الاندماج الإقليمي الكامل، كما نصت عليه المبادرة العربية للسلام. وفي هذا الإطار، نرحّب بالالتزام باستكشاف فرص إنشاء منظومة أمنية إقليمية تضمن الأمن للجميع، بالاستفادة من تجارب رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، بما يمهّد لشرق أوسط أكثر استقرارًا. ونجدد دعمنا للجهود الرامية إلى إحياء المسارين السوري–الإسرائيلي واللبناني–الإسرائيلي بهدف التوصل إلى سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط، وفقًا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
- ونجدد دعوتنا لجميع الدول للانضمام إلى هذا الزخم الدولي من أجل ضمان السلام والأمن لجميع شعوب الشرق الأوسط، وتحقيق الاعتراف المتبادل والاندماج الإقليمي الكامل”[11].
وواضح كيف ن هذا البيان يتقدم بالقضية إلى الأمام لكن مع وعود غير موثوق بها، كإقامة الدولة الفلسطينية ذاتها، وشروط غالبا لن تقبل بها المقاومة كنزع سلاحها؛ الأمر الذي جاءت خطة ترامب لتجمعه في صورة مبعثرة!
ثانيا- ذاكرة سلام ترامب الصهيوني منذ ولايته الأولى
يصعب على محلل عربي أن يتجاهل أن هذا الرئيس الأمريكي هو أول من أعلن رسميًا تسليم القدس عاصمة للدولة اليهودية في 6 سبتمبر 2017، قبيل مئوية وعد بلفور 1917 بأقل من شهرين، (وكان قد وعد بهذا في حملته الانتخابية)، فعلها ترامب بعد أن أحجم كل من سبقوه عن هذه الجريمة. وفي عام 1995 كان الكونجرس الأمريكي قد أصدر قانونًا سمي بقانون سفارة القدس، يتضمن التأكيد على أهمية الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل؛ ومن ثم نقل السفارة الأمريكية إليها خلال 5 سنوات، ولم يجرؤ أي رئيس أمريكي على تنفيذ ذلك، حتى جاء ترامب وفعلها. ورغم رفض معظم دول العالم لقرار ترامب هذا (أدانته 14 دولة عضو في مجلس الأمن من 15، وموافقة 128 دولة في الجمعية العامة على قرار برفض تغيير وضعية القدس 21 ديسمبر 2017، مقابل اعتراض 9 وامتناع 35)، إلا أنه أصر عليه ونفذه. وفي 14 مايو 2018 -تزامنا مع الذكرى السبعين لقيام الدولة الصهيونية- افتتحت السفارة الأمريكية في القدس، ولأجلها قتلت إسرائيل نحو 60 فلسطينيًّا من المنتفضين رفضا لهذا التصرف الأمريكي.
في هذا التوقيت كانت ثمة طبخة خطيرة تسمى بصفقة القرن، تعدها جماعة ترامب في قمة الإدارة الأمريكية، وبالأخص صهره جاريد كوشنر، وتتضمن بالإضافة إلى تسليم القدس لإسرائيل، والتواطؤ العربي على هذا (نشرت نيويورك تايمز في 6 يناير 2018 ما زعمت أنه تسريب صوتي لضابط مخابرات مصري يدعى أشرف الخولي يحادث إعلاميين مذيعين وفنانين لتوجيه الرأي العام المصري إلى أنه لا فرق بين رام الله والقدس، وأن المهم هو حل القضية وإنهاء معاناة الفلسطينيين، وكذبت السلطات المصرية ذلك)[12].
وفي مؤتمر أو ورشة عمل عقدت في المنامة 25 و26 يونيو 2019 تحت عنوان (السلام من أجل الازدهار)، أعلن عن الجزء الاقتصادي من الصفقة، حين أعلن كوشنر -بوصفه كبير مستشاري البيت الأبيض- أن السلام مع إسرائيل سيتحقق عبر الاقتصاد لا السياسة، أو بالأحرى تقديم الاقتصاد وتأجيل السياسة، بأن يستثمر نحو من 50 مليار دولار تدفعها دول عربية! ومستثمرون، نحو ربعها منح، والربع الآخر استثمار خاص، والنصف قروض، تستثمر في الضفة وغزة في نحو 180 مشروعًا للاستثمار والنية التحتية، يديرها بنك متعدد الأطراف، وحضر من العرب مصر والسعودية والإمارات وقطر والبحرين، والمغرب والأردن[13]. ومع اعتراض الفلسطينيين والرأي العام العربي والإسلامي، تأجل الإعلان عن تفاصيل الصفقة، حتى أعلنها ترامب نفسه من البيت الأبيض في 28 يناير 2020، في حضور نتنياهو -رئيس وزراء الكيان ساعتها- وبعد مناقشة معه ومع بيني جانتس منافسه على السلطة، دون غيرهما، ونصت تلك الصفقة أو الخطة على[14]:
- مرحلة انتقالية مدتها 4 سنوات، حتى تتخلى السلطة عن موقفها الرافض للصفقة.
- سيطرة إسرائيل على 30% من الضفة الغربية (مناطق ج وفق أوسلو 1993).
- القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة.
- ضم جميع مستوطنات الضفة (نحو 100 مستوطنة).
- تناول الفلسطينيين عن عودة اللاجئين منهم إلى فلسطين المحتلة.
- بعد أربع سنوات من تنفيذ الخطة، سيكون للفلسطينيين دولة متصلة الأراضي لكنها منزوعة السلاح دائما أبدا، تتدرج حتى تصير “ذاتية الحكم”، وتكون عاصمتها “ضواحي شرقية للقدس” (شريط من القدس الشرقية: مخيم شعفاط وكفر عقب). ويخضع المسجد الأقصى للسيادة الإسرائيلية، مع ضمان حرية التعبد فيه.
- تضع الخطة نظام الحكم الفلسطيني والنظام المالي العام، بما يشبه الدول الديمقراطية الغربية.
- ستلغى كل المناهج والمقررات التعليمية الفلسطينية التي تحض على كراهية أو معادة “الجيران” أو ممارسة العنف ضدهم.
بطريقته المسرحية المعهودة، خاطب ترامب الفلسطينيين بأنه هذه الخطة هي فرصتهم التاريخية التي لن تتكرر، وستضمن لهم السلام والكرامة والازدهار، وشكر الإمارات والبحرين وسلطنة عُمان! على إرسالهم سفراءهم لحضور احتفاله بإعلان صفقة القرن هذه[15]. ثم نشر على حسابه في منصة تويتر تغريدتين: الأولى بالعربية: (سأقف دائما مع دولة إسرائيل والشعب اليهودي، أنا أؤيد بشدة سلامتهم وأمنهم وحقهم في العيش في وطنهم التاريخي. حان وقت السلام). والأخرى بالعربية: (هذا ما قد تبدو عليه دولة فلسطين المستقبلية بعاصمة في أجاء من القدس الشرقية)، مرفقا ذلك بما وصفه بخريطة مفاهيمية أو تصورية لوضع فلسطين المستقبلية[16]. لذا خاطبه نتنياهو: أنت أعظم صديق حظيت به إسرائيل في البيت الأبيض، وركز على تضمن الخطة “نزع سلاح المقاومة”، وأن حضور سفراء الدول العربية الثلاث المشار إليها هو دلالة مهمة للمستقبل[17].
بالطبع رفض الفلسطينيون، ورفضها العرب ظاهريًا (جامعة الدول العربية رفضتها بالإجماع فبراير 2020)، لكن دولا عربية أعلنت تقديرها للجهود الأمريكية الرامية لسلام شامل عادل؛ منها: مصر، ثم توالت الخطابات العربية بأن فلسطين عاصمتها القدس الشرقية.. إلخ، بينما أعلنت تركيا أن هذه الخطة “ولدت ميتة”، وأسمتها إيران خطة العار، وشككت روسيا في جدواها، وأيدتها دول أوربية مثل بريطانيا[18]. ومن ثم اتجه ترامب إلى تجزئة الخطة وتهيئة محيطها عبر اتفاقات تطبيع عربية إسرائيلية. فلم يتحقق من هذه الخطة الترامبية تقريبا إلا توسعة التطبيع الدبلوماسي الرسمي مع نظم عربية؛ بدءًا من أغسطس حتى ديسمبر 2020. ولكن ما أشد وطأته.
بدأ مسلسل التطبيع الترامبي لإسرائيل مع الإمارات والبحرين باسم “اتفاق أبراهام” 13 أغسطس 2020، وأقيمت ساعتها تمثيلية لتمرير التطبيع بدعوى الإمارات أنه أوقف إعلان إسرائيل ضم غور الأردن الذي كانت أعلنت نيتها القيام به في وقت سابق، بينما أعلن نتنياهو أنه لن يتراجع عن ذلك. ومن ساعتها انفتحت الدولتان الخليجيتان للطيران والاستثمار الإسرائيلي والرموز الدينية وغيرها. وتجلى كيف أن خطة ترامب -بما فيها صفقة القرن واتفاقات أبراهام- إن هي إلا وعد بلفور جديد مشفوع بالقوة التنفيذية، وبسياق عربي رسمي متواطئ ومتصهين. وتم التوقيع الرسمي لهذا التطبيع في 15 سبتمبر 2020[19].
ثم في 23 أكتوبر ضم ترامب السودان (تحت حكم البرهان وحميدتي وحمدوك) إلى قطار التطبيع مع إسرائيل، بعد إسقاط نظام عمر البشير 2019. ونص الاتفاق على بدء علاقات اقتصادية وتجارية بين البلدين، وفي مجالات أخرى، وعزمهما إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما، ما المقابل؟ رفع اسم السودان (الجديد ما بعد البشير) من قوائم الدول الراعية للإرهاب، ووعود اقتصادية[20].
ولم يختم ترامب فترته الأولى إلا بمد التطبيع إلى المغرب الأقصى باتفاق 10 ديسمبر 2020، باتفاق بين إسرائيل والمملكة المغربية يقيم علاقات دبلوماسية رسمية، ويعيد فتح مكاتب الاتصال بين البلدين، ويكفل لإسرائيل رحلات جوية لنقل اليهود من أصل مغربي إلى إسرائيل، وتبادل السياح، وتطوير علاقات اقتصادية وتعاون تكنولوجي. وجاء الإعلان عن هذا الاتفاق عبر تغريدات ترامب على حسابه على تويتر، في مقابل تأييده التام للسيادة المغربية على الصحراء الغربية، وفتح الولايات المتحدة قنصلية لها في تلك الصحراء، مع صفقة أسلحة أمريكية للمغرب بقيمة مليار دولار[21].
وبناء عليه، يظهر أن هذا الرئيس الأمريكي الفذ في أسلوبه وسياساته لا يتحرك اعتباطا، إنما لديه خطة استراتيجية واضحة الأهداف، ذات سمات أساسية، لكنها يعمي ويموه عليها بأسلوبه الفج، وما يظهر أنه تقلبات مزاجية وخطابات دعائية، لكن ما يجري على أرض الواقع يقول إنه ذو خط ثابت في خصوص الصراع العربي الإسرائيلي؛ وهو تعظيم قوة إسرائيل، وجعلها القوة الإقليمية الأكبر وضمان مستقبلها المتنامي المهيمن على المنطقة العربية، والقضاء على أية قوى تقف في وجه ذلك، مع تقديم الأداة الاقتصادية تحت ظلال التهديد بالقوة العسكرية، واستعمال سياسة الضغط الأمني الشديد مقابل الوعد الاقتصادي والسياسي المغري أو الذي قد يبرر التواطؤ أمام الشعوب. ومن هنا ينبغي أن نقرأ خطته الجديدة.
وقد كانت قوة المقاومة هي الحاجز الأساس الذي عرقل تنفيذ خطة ترامب فوريا على طريقة التطبيع العربي المتصهين، وجاء طوفان الأقصى 2023 ليعلن تدميرها، وليجن جنون إسرائيل وتملأ الأرض دمًا زكيًا، يصعب أكثر وأكثر من ذلك التطبيق واتفاقات أبراهام وتلك الصفقة المسمومة: صفقة ترامب.
ثالثًا – إعادة ترتيب الأوراق التي بعثرها ترامب
في 29 سبتمبر 2025، وفي السنة الأولى من ولايته الثانية، وفي مؤتمر يشاركه فيه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني، أعلن دونالد ترامب ما أسماه خطة للسلام في الشرق الأوسط. وبالاطلاع على نص خطة ترامب هذه من منظورنا الحضاري، نجد أننا أمام ست دوائر تتعلق بـ: إيقاف الحرب الإبادية، ثم وضعية غزة أرضًا وشعبًا وحكمًا بعد إيقاف الحرب، ثم وضعية فلسطين أرضًا وشعبًا وسلطة ودولة مستقبلًا، ثم وضعية المقاومة في غزة وفلسطين (حماس والفصائل)، ثم وضعية العدو، وأخيرًا الدور الإقليمي والدولي[22]. هذه الدوائر الست بعثرها ترامب في بيانه أو خطته.
وإن إعادة ترتيب أوراق هذه الخطة وفق تصنيفنا نحن يكشف الكثير من معطياتها:
(أ) إيقاف الحرب أو بالأحرى العدوان الصهيوني.
بالنسبة للحرب الدائرة فالبيان يقول إنه “إذا وافق الطرفان على هذا المقترح، ستنتهي الحرب فورًا”. ويأخذ إنهاء الحرب الشكل الآتي:
- انسحاب القوات الإسرائيلية إلى خط ذكر البيان أنه “متفق عليه”؛ وتعليق العمليات الحربية، وتجميد “خطوط القتال”؛ استعداد لاسترداد إسرائيل أسراها أحياء وأمواتا مرة واحدة.
- تستعيد إسرائيل كل الأسرى الأحياء والأموات مر واحدة أولا ثم تفرج هي عن 250 أسيرا فلسطينيا محكوما بالمؤبد، و1700 من الأسرى الغزيين المعتقلين بعد 7 أكتوبر بما فيهم جميع النساء والأطفال، والإفراج عن رفات الشهداء الفلسطينيين بمعدل 15 مقابل كل أسير إسرائيلي.
فقط هذا هو مفهوم إنهاء الحرب في هذا البيان-الخطة، ولا إشارة إلى دائم ولا مؤقت، ولا إلى برنامج الخروج من غزة. لكن الذي استفاض فيه البيان-الخطة هو “وضعية غزة بعد الحرب”.
(ب) وضعية غزة بعد الحرب:
- إرسال المساعدات الكاملة فورًا إلى قطاع غزة بمجرد إيقاف الحرب، بكميات متوافقة مع ما ورد في اتفاقية 19 يناير/كانون الثاني 2025.
- لن يُجبر أحد على مغادرة غزة، وسيكون من يرغب في المغادرة حرا في ذلك وحرية العودة، سنشجع الناس على البقاء ونمنحهم فرصة بناء غزة أفضل.
- في حال تأجيل “حماس” أو رفضها لهذا المقترح، فإن ما سبق، بما في ذلك توسيع نطاق عملية المساعدات، سيُنفذ في المناطق الخالية من الإرهاب التي سُلّمت من الجيش الإسرائيلي إلى قوات الأمن الدولية.
- إعادة تطوير غزة؛ بما في ذلك إعادة تأهيل البنية التحتية (المياه والكهرباء والصرف الصحي)، وإعادة تأهيل المستشفيات والمخابز، وإدخال المعدات اللازمة لإزالة الأنقاض وفتح الطرق.
- يستمر دخول التوزيع والمساعدات إلى قطاع غزة دون تدخل من الطرفين من خلال الأمم المتحدة ووكالاتها، والهلال الأحمر، بالإضافة إلى المؤسسات الدولية الأخرى غير المرتبطة بأي شكل من الأشكال بأي من الطرفين،
- سيخضع فتح معبر رفح في كلا الاتجاهين لنفس الآلية المطبقة بموجب اتفاقية 19 يناير 2025.
- ستُحكم غزة بموجب “حكم انتقالي مؤقت” “للجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية”، “مسؤولة عن تقديم الخدمات العامة والبلديات اليومية لسكان غزة”.
- ستتكون هذه اللجنة من “فلسطينيين مؤهلين وخبراء دوليين”، تحت إشراف هيئة انتقالية دولية جديدة، اسمها “مجلس السلام”، يرأسها ترامب، مع أعضاء آخرين منهم “رؤساء دول” ومنهم بلير.
- ستضع هذه الهيئة “الإطار”، وتتولى “تمويل إعادة تطوير غزة” حتى تُكمل السلطة الفلسطينية برنامجها الإصلاحي، (كما هو موضح في مقترحات مختلفة؟؟؟)، بما في ذلك خطة ترامب للسلام في عام 2020 [صفقة القرن] والمقترح السعودي الفرنسي [إعلان نيويورك]، ويمكنها استعادة السيطرة على غزة بشكل آمن وفعال.
- ستدعو هذه الهيئة إلى أفضل المعايير الدولية لإنشاء حوكمة حديثة وفعالة تخدم سكان غزة وتكون مواتية لجذب الاستثمار.
- سيتم وضع خطة ترامب للتنمية الاقتصادية [الجزء الأول من صفقة القرن الذي أعلن في المنامة 2019] لإعادة بناء غزة من خلال عقد اجتماع للجنة من الخبراء لمقترحات استثمار مدروسة وأفكار تنمية مثيرة.
- ستنشأ منطقة اقتصادية خاصة بتعرفة جمركية وأسعار دخولٍ تفضيلية يتم التفاوض عليها مع الدول المشاركة.
(ج) فلسطين ومستقبلها:
جاءت القضية الفلسطينية بكليتها في ذيل البيان، وليس فيها سوى الآتي:
- مع تقدم إعادة إعمار غزة، ومع تطبيق برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية بأمانة، ((قد)) ((تتهيأ الظروف أخيراً)) لمسار موثوق نحو (تقرير المصير الفلسطيني) و(إقامة الدولة).
- ستُطلق الولايات المتحدة حواراً بين إسرائيل والفلسطينيين للاتفاق على أفق سياسي لتعايش سلمي ومزدهر.
هذا، وفقط.
(د) وضعية المقاومة الفلسطينية:
أما المقاومة الفلسطينية فقد حازت أمرين حاسمين في 4 بنود: أولهما- إنهما نزع السلاح وتدمير بنيته الأساسية (ومعه عفو وممر آمن لمن شاء!!!)، والثاني- عدم المشاركة لا من حماس ولا الفصائل الأخرى بأي دور مستقبلي في حكم غزة.
- بمجرد إعادة جميع الرهائن، سيتم العفو عن عناصر حماس الذين يلتزمون بالتعايش السلمي ونزع سلاحهم، وسيتم توفير ممر آمن لعناصر “حماس” الراغبين في مغادرة غزة إلى الدول المستقبلة.
- توافق “حماس” والفصائل الأخرى على عدم الاضطلاع بأي دورٍ في حكم غزة، سواءً بشكل مباشرٍ أو غير مباشرٍ أو بأي شكلٍ من الأشكال.
- سيتم تدمير جميع البنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية، بما في ذلك الأنفاق ومنشآت إنتاج الأسلحة، ولن يُعاد بناؤها،
- ستكون هناك عملية لنزع السلاح من غزة تحت إشراف مراقبين مستقلين، والتي ستشمل وضع الأسلحة بشكلٍ دائمٍ خارج نطاق الاستخدام من خلال عمليةٍ متفقٍ عليها لتفكيكها، وبدعمٍ من برنامجٍ لإعادة الشراء وإعادة الإدماج بتمويلٍ دولي، ويتم التحقق منه جميعًا من قِبل المراقبين المستقلين.
(هـ) العدو:
أما العدو فله أسراه في 72 ساعة، وأمنه وأمانه، وجهات ضامنة، ولن يفعل شيئا حتى يضمن نزع سلاح المقاومة، وسيسلم غزة لقوات أمن “إسرائيلية”:
- ففي غضون 72 ساعة من قبول إسرائيل العلني لهذه الاتفاقية، سيتم إعادة جميع الرهائن، أحياءً وأمواتًا.
- ستكون غزة منطقة خالية من التطرف والإرهاب، لا تُشكل تهديدًا لجيرانها.
- إسرائيل لن تحتل غزة أو تضمها مع ترسيخ قوات الأمن الإسرائيلية سيطرتها واستقرارها، ستنسحب القوات الإسرائيلية وفقًا لمعايير ومعالم وجداول زمنية مرتبطة بنزع السلاح، يُتفق عليها بين الجيش الإسرائيلي والجهات الضامنة والولايات المتحدة، بهدف ضمان أمن غزة وعدم تهديدها لإسرائيل أو مصر أو مواطنيها، وعمليًا.
- سيُسلم الجيش الإسرائيلي تدريجيًا أراضي غزة التي يحتلها لـ”قوات الأمن الإسرائيلية” وفقًا لاتفاقية يُبرمها مع “السلطة الانتقالية” حتى يتم انسحابه الكامل من غزة، “باستثناء وجود محيط أمني سيبقى حتى يتم تأمين غزة بشكل كامل من أي تهديد إرهابي متجدد”.
(و) وأخيرًا – الدور الإقليمي والدولي
وهو دور جد خطير، لأنه ليس استبدالا لحماس، إنما للسلطة الفلسطينية، كما ظهرت الإشارة إلى سلطة غزاوية فلسطينية لا تتبع السلطة، وغالبا ستتبع أمريكا والاحتلال. ثم إن الدور العربي موظف غير مستقل. يقول البيان- الخطة:
- سيقدم الشركاء الإقليميون ضمانًا لضمان امتثال حماس والفصائل لالتزاماتها، وعدم تشكيل غزة الجديدة أي تهديد لجيرانها أو شعبها. (ولم يذكر من يضمن التزام العدو وكيف، وخاصة بعد خلفه والجانب الأمريكي أكثر من مرة).
- ستعمل الولايات المتحدة مع الشركاء العرب والدوليين على إنشاء قوة استقرار دولية مؤقتة (ISF) للانتشار الفوري في غزة، وستقوم هذه القوة بتدريب ودعم قوات الشرطة الفلسطينية في غزة، وستتشاور مع الأردن ومصر اللتين تتمتعان بخبرة واسعة في هذا المجال، وستكون هذه القوة الحل الأمني الداخلي طويل الأمد. ستعمل قوة الاستقرار الدولية مع إسرائيل ومصر للمساعدة في تأمين المناطق الحدودية، إلى جانب قوات الشرطة الفلسطينية المدربة حديثًا، ومن الضروري منع دخول الذخائر إلى غزة وتسهيل التدفق السريع والآمن للبضائع لإعادة بناء غزة وإنعاشها. سيتم الاتفاق على آلية لفض النزاع بين الطرفين.
- سيتم إطلاق عملية حوار بين الأديان، قائمة على قيم التسامح والتعايش السلمي، سعياً لتغيير عقليات وتصورات الفلسطينيين والإسرائيليين، من خلال التأكيد على منافع السلام.
الخلاصة: على الرغم من الاضطرار الشديد لإيقاف الحرب والنزيف الإنساني الفلسطيني، وإدخال الضرورات لأهل غزة واستنقاذهم من الموت قتلا أو تجويعا أو تشريدا، فإن هذا البيان-الخطة يفرغ الوجود الفلسطيني من آخر ضماناته، ويعده بما هو معلوم كذبه… وكان البديل هو العدل الذي يقتضي مبدأ الوجود بالوجود والأمن بالأمن، والسلام بالسلام، ومن ثم تعديل الخطة لتنص على الحق الفلسطيني في تقرير شأن غزة بعد الحرب، وأن يرتبط الأمن الإسرائيلي والإقليمي الذي تدور حوله الخطة بخطة عملية ذات ضمانات لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم الوجودية، وعلى رأسها الاعتراف الأمريكي الصريح بحق إقامة الدولة الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في الحياة الطبيعية الحرة الآمنة، بعيدا عن التحيز المطلق للصهيونية المتوحشة. لكن هذا البديل غير متاح أمام اللاأخلاقية الأمريكية والصهيونية، واللافعالية العربية والإسلامية، واللاحيلة الفلسطينية. فكيف ترد المقاومة في هذا الإطار الخانق؟
رابعًا وأخيرًا- رد حماس ومفاوضات شرم الشيخ لهدنة غير موثوقة:
وسط سياق خانق وتوتر عالمي كبير ينتظر الرد الفلسطيني، وخاصة مع وضع ترامب لتوقيت ضيق للرد وتهديده حال عدم الموافقة الفلسطينية بجحيم في غزة، جاء رد حركة حماس يوم الجمعة 3 أكتوبر 2025، بالآتي: “بسم الله الرحمن الرحيم، رد حركة حماس على مقترح الرئيس الأمريكي ترامب:
“تقدر حركة المقاومة الإسلامية حماس الجهود العربية والإسلامية والدولية وجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الداعية إلى وقف الحرب على قطاع غزة وتبادل الأسرى ودخول المساعدات فورا ورفض احتلال القطاع ورفض تهجير شعبنا الفلسطيني منه. وفي إطار ذلك، وبما يحقق وقف الحرب والانسحاب الكامل من القطاع،
- تعلن الحركة عن موافقتها على الإفراج عن جميع أسرى الاحتلال أحياء وجثامين وفق صيغة التبادل الواردة في مقترح الرئيس ترامب ومع توفير الظروف الميدانية لعملية التبادل،
- وفي هذا السياق تؤكد الحركة استعدادها للدخول فورا من خلال الوسطاء في مفاوضات لمناقشة تفاصيل ذلك.
- كما تجدد الحركة موافقتها على تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة فلسطينية من المستقلين (تكنوقراط) بناء على التوافق الوطني الفلسطيني واستنادا للدعم العربي والإسلامي.
- وما ورد في مقترح الرئيس ترامب من قضايا أخرى تتعلق بمستقبل قطاع غزة وحقوق الشعب الفلسطيني الأصيلة، فإن هذا مرتبط بموقف وطني جامع واستنادا إلى القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، ويتم مناقشتها من خلال إطار وطني فلسطيني جامع، ستكون حماس من ضمنه وستسهم فيه بكل مسؤولية”[23].
وُصف هذا الرد الفلسطيني تارةً بالعبقري، وتارة باللاجديد، وتارة بالدبلوماسي، لكن تساؤلات أثيرت حول كيفية وصول حماس إلى هذه الصيغة، وتكاثرت الأسئلة أكثر مع موقف ترامب الذي لحق الرد بأقل من ساعة. فرغم اقتصار الرد على ما تريده المقاومة الفلسطينية، وما كانت تردده من قبل، وتجاوزه للكثير مما تضمنه مقترح ترامب، إلا أن الأخير لم يُمهل أحدًا للتعليق على الرد الفلسطيني (رد حماس) حتى خرج هو ينشره ويشيد به ويتبناه، ويدعو -بناء عليه- للمضي قُدُما في تنفيذه باعتباره يمثل خطته[24]. بدا الأمر كأن هناك اتفاقًا غير معلن بين حماس والأمريكان أو وكلائهم، لكن -من ناحية أخرى- كان واضحًا أن هذا الرئيس الأمريكي يتعجل تحقيق ما يمكن أن يعد “إنجازًا سياسيًّا سلاميًّا” في هذه الكارثة الإنسانية في غزة؛ لكي يترشح به لجائزة نوبل للسلام، وأن الوقت يداهمه؛ ومن ثم فهو يضع حدودا وقتية ضيقة للرد، ثم للتنفيذ؛ ومن ثم بدأ الحديث فورا عن مفاوضات عاجلة في شرم الشيخ المصرية.
وخلال ثلاثة أيام، وفي يوم ذكرى النصر المصري على الصهيونية 6 أكتوبر، شرع في محادثات فنية، ثم مفاوضات غير مباشرة بين دولة الكيان، وقادة حماس (ثم انضم إليها ممثلون عن حركتي الجهاد الفلسطيني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)؛ للشروع في خطوتي: إيقاف الحرب والانسحاب الإسرائيلي إلى ما أسمي بالخط الأصفر في خريطة خطة ترامب، وتبادل الأسرى[25]. وأثناء ذلك كان القصف الصهيوني على غزة مستعرًا[26]، والتساؤلات تتوالى حول نجاح المسار من فشله، وضمانات استمراره من انتكاسه، وكيف سيكون الأمر في المرحلة الأولى.
ورغم مراوغة إسرائيل فيما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين، والحديث عن رفض الإفراج عن شخصيات بعينها، وضع ترامب -للمرة الثانية- توقيتا مضيقا لتسليم الأسرى الصهاينة ليكون آخره صباح الاثنين 12 أكتوبر؛ ومن ثم كان على إسرائيل إيقاف العدوان وسحب قواتها؛ الأمر الذي بدأ بالفعل من صباح السبت 10 أكتوبر؛ لتشهد غزة هدوءًا وسلامًا عزيزين، ولتبدأ معه مسيرات عودة أهل غزة إلى الشمال والوسط[27]؛ معلنة أن مشروع التهجير لم يفلح حتى حينه، وأن الصمود الغزاوي هو كلمة السر فيما وصل إليه الصراع حتى حينه.
نشرت وسائل الإعلام نصًّا لاتفاق بين حماس والكيان؛ يتضمن: وقف العمليات العسكرية فورا، انسحاب القوات الصهيونية إلى خط متفق عليه (الأصفر)، تعليق المراقبة الجوية خلال 72 ساعة، تبادل الأسرى، إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع (بين 400 إلى 600 شاحنة يوميا)، وأخيرا: تشكيل قوة عمل دولية لمراقبة ومتابعة التنفيذ، وللتنسيق بين الطرفين (تتكون من ممثلين عن الولايات المتحدة وقطر ومصر وتركيا، ودول أخرى يتفق عليها الطرفان). وحملت وثيقة الاتفاق عنوانا: (خطوات تنفيذ مقترح الرئيس الأمريكي ترامب بشأن الإنهاء الشامل لحرب غزة)[28].
وتنتهي هذه الورقة قبيل هذا التسليم بيوم واحد، لكنها تظل مترقبة ومتسائلة: وفق مسار ترامب مع الصراع منذ فترة ولايته الأولى، هل ينتظر منه أن يحافظ على سلام فلسطين؟ ألن يتذرع بملف “سلاح المقاومة” والمطالبة بنزعه إما لإفساد الاتفاق بعد الحصول على الأسرى الصهاينة؛ ومن ثم إعادة حصار القطاع والضغط على المقاومة ولو بتجدد العدوان الإبادي الصهيوني؟ ألن يحاول الالتفاف على العدوان الصهيوني بعدوان أمريكي متعدد الأشكال: فرض قوى عسكرية أجنبية على القطاع: غربية أو متغربة؟ أو فرض قوة إدارة أجنبية وتابعة لترامب للتحكم بشئون غزة الداخلية؟ أو التلاعب بملف الإغاثة؟ أو التلاعب بالقضية كلها لحين تنتقل دولة الكيان الصهيوني نقلة إقليمية بالعدوان أو التهديد به؟
والغالب أن ترامب يتبنى مفهوم “السلام الصهيوني”، الذي يتحقق بأساليب وأدوات عديدة؛ منها: الاقتصاد: استثمارات وعقوبات؛ ومنها الخطط والاتفاقات الأشبه بالجبرية، ومنها التهديد بالقوة المسلحة أو استخدامها خاصة عبر الوكيل الإسرائيلي في المنطقة العربية. ومن ثم فإن الغالب أن اتفاق شرم الشيخ سيتعثر ويتعطل كثيرًا، وينتهك كثيرًا، وقد يذهب أدراج الرياح وتعود غزة وقضية فلسطين إلى مأساة لا يخرجها منها إلا الله تبارك وتعالى، وهو على كل شيء قدير.
إن سلام ترامب غير مضمون، وغير مأمون، وغير عادل، وهو سلام صهيوني بكل تأكيد.
—————————————-
الهوامش:
• وثَّق هذا البحث واعتنى بالإحالات المرجعية فيه الباحث عبد الرحمن فهيم، بمركز الحضارة للدراسات والبحوث.
[1] ترامب يعرض خطة لمستقبل غزة أمام قادة عرب ومسلمين، الجزيرة نت، 24 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/48WhJ5t
[2] زعماء دول عربية وإسلامية يعلنون نتائج قمتهم مع ترامب لوقف حرب غزة، الجزيرة نت، 24 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/47cqRAK
[3] “مجلس السلام”.. ما دوره في خطة ترامب لوقف “حرب غزة”؟، سكاي نيوز عربية، 30 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4q7Iydc
[4] رشا إيفرينسل، بمؤتمر مع نتنياهو.. ترامب يعرض بنودا من خطته لوقف الحرب بغزة، وكالة الأناضول، 29 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3KKLDQe
[5] نضال المغربي وماي أنجيل، حماس تقول إنها لم تتسلم خطة ترامب لوقف إطلاق النار وإسرائيل توسع هجومها على غزة، رويترز، 27 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://reut.rs/3WFuwln
[6] حماس تتسلم من مصر وقطر خطة ترامب.. وتدرسها “بحسن نية”، العربية نت، 29 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/46Nc0xz
[7] حماس تسلم الوسطاء ردها على خطة ترامب، الجزيرة نت، 3 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/46LmkpO
[8] ترامب: حماس مستعدة لسلام دائم وعلى إسرائيل وقف قصف غزة فورا، روسيا اليوم، 3 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/46NIw2v
[9] إسرائيل تعلن إيقاف جميع سفن “أسطول الصمود” إلا واحدة.. ما السبب؟، سي إن إن العربية، 2 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://cnn.it/4737UAh
[10] على المخلافي، ترامب ونتنياهو يتفقان على خطة سلام غزة والأخير “يعتذر لقطر”، دويتش فيلا، 29 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/47kaYZX
[11] النص الكامل للبيان السعودي الفرنسي المشترك في ختام مؤتمر حل الدولتين، موقع قناة RT، تاريخ النشر: 23.09.2025 | 00:58 GMT، على الرابط:
[12] بث مكالمات ضابط مصري مع إعلاميين للترويج لقرار ترمب، الجزيرة نت، 7 يناير 2018، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/42AYE4W
[13] ورشة المنامة و”خطة السلام” الأميركية: لماذا فشلت حال إطلاقها؟، المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات، 1 يوليو 2019، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4762q7U
[14] خطة إدارة ترامب لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي: الخطوط العامة ودلالات التوقيت، المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات، 3 فبراير 2020، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3VYng3Z
[15] صفقة القرن: ترامب يعلن خطته للسلام ويقول إنها “ربما تكون فرصة أخيرة” للفلسطينيين، بي بي سي، 28 يناير 2020، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/46Ushzm
[16] ترامب يغرد بالعربية وينشر “خريطة” فلسطين المستقبلية، سكاي نيوز عربية، 28 يناير 2020، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/48VQ9Fy
[17] نتنياهو لترامب: أدعم خطتك لإنهاء الحرب وأنت أعظم صديق حظيت به إسرائيل في البيت الأبيض (فيديو)، الجزيرة مباشرة، 29 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4h3WBwe
[18] راجع:
- الجامعة العربية ترفض خطة السلام الأميركية وتحذر إسرائيل من تنفيذ بنودها، الجزيرة نت، 1 فبراير 2020، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3KTBKjb
- مصر تعرب عن تقديرها للجهود الأمريكية من أجل التوصل لسلام شامل وعادل للقضية الفلسطينية، الهيئة العامة للاستعلامات، 29 يناير 2020، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3KJHz2F
- تأييد ورفض ودعوات للتأني.. كيف استقبل العرب والعالم خطة ترامب للسلام؟، الجزيرة نت، 29 يناير 2020، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3KTBMrj
[19] اتفاقيات أبراهام.. موجة التطبيع العربي مع إسرائيل، الجزيرة نت، 13 مايو 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4oaHcMY
[20] السودان يلتحق بـ «اتفاقات إبراهام»، الشرق الأوسط، 7 يناير 2021، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/42YqM2j
[21] التطبيع: ترامب يعلن المغرب أحدث دولة عربية توافق على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بي بي سي عربي، 10 ديسمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/4h79Lsc
[22] ما بنود خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة؟.. تعرف على النص الكامل، سي إن إن العربية، 30 سبتمبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://cnn.it/3WmkDcx
[23] نص رد حماس على خطة ترامب لإنهاء الحرب على غزة، رويترز، 4 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://reut.rs/3W1OTZS
[24] ترامب ينشر موافقة «حماس» على حسابه ويستعد للرد عليها، العين الإخبارية، 4 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3J935gK
[25] لماذا دعت حماس فصائل فلسطينية أخرى للمشاركة بمفاوضات إنهاء الحرب؟، الجزيرة نت، 8 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3W2AcFV
[26] رغم انطلاق المفاوضات.. عشرات القتلى بقصف إسرائيلي على غزة، سكاي نيوز عربية، 6 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4nM6wsO
[27] تقرير: انسحاب جزئي للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، سكاي نيوز عربية، 10 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/47l7vui
[28] وسائل إعلام إسرائيلية تنشر نص اتفاق وقف الحرب في غزة، الشرق الإخبارية، 10 أكتوبر 2025، تاريخ الاطلاع: 12 أكتوبر 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4nHavHb