معالم رؤية المسيري للصهيونية “الجماعة الوظيفية مدخلا للفهم والتفسير”

مقدمة

ثمة مداخل تفسيرية متنوعة لتحليل الظاهرة الصهيونية الحديثة، بعضها يعتمد على الدين ومقولات اليهود واليهودية والمؤامرة العالمية على الإسلام، وهو التفسير الأكثر رواجًا على مستوى أوساط العامة في عالمنا العربي والإسلامي(1)، والبعض الآخر يعتمد على مقولات الاستعمار وخطط القوى الغربية في الهيمنة على شعوب العالم واستنزاف مواردها(2). ويعد د. عبد الوهاب المسيري من أهم الرموز الفكرية العربية –المنتمية للتيار الأخير- وأكثرهم اعتناء بتحليل وتشريح الظاهرة اليهودية والصهيونية خلال العقود الماضية، فقد استحوذت هذه الظاهرة على محور تفكيره وبحثه ودراسته لمدة تزيد على أكثر من خمسة وعشرين عامًا إلى أن انتهى من أكبر عمل موسوعي عربي معاصر حول اليهود والصهيونية في عام 1999م.
صدرت موسوعة المسيري بعنوان “اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد” ليعبِّر بذلك عن الفكرة الأساسية التي تتمحور حولها موسوعته، وهي التمييز بين اليهودية واليهود من ناحية، والحركة الصهيونية من جهة أخرى، بما يعني تفكيك كل الديباجات والمقولات والأساطير الدينية والتاريخية التي تحاول ربط الصهيونية باليهودية. كما انتقلت الموسوعة من التفكيك إلى التأسيس عبر طرح رؤية عربية بديلة للظواهر اليهودية والصهيونية ونحْت مصطلحات جديدة لوصفها واقتراح مداخل تفسيرية مركَّبة لفهمها وتحليلها، وكان نموذج “الجماعة الوظيفية” من أهم النماذج التفسيرية التي قدَّمها المسيري في هذا السياق.
استطاع المسيري من خلال هذا المدخل أو النموذج التفسيري تفكيك المقولات الدينية التي يستخدمها الكيان الصهيوني للتغطية على ماهيَّته الاستعمارية الاستيطانية الأصلية من أمثلة (أرض الميعاد – التوارة – العودة لأرض الأجداد – بناء الدولة اليهودية – نحن اليهود)، كما استطاع تفكيك المقولات الدينية المضادَّة المستخدمة من جانب أصحاب الخطاب الإسلامي المقاوم من أمثلة (الصراع مع اليهود – الجهاد ضد اليهود – أحفاد بني إسرائيل). ليطرح بعد ذلك تفسيرًا مختلفًا للظاهرة الصهيونية من خلال ربطها بالظاهرة الاستعمارية، فتصبح الأولى نتيجة للثانية، وتصبح إسرائيل هي القاعدة العسكرية الوظيفية الكبرى في الشرق الأوسط لتحقيق مصالح القوى الاستعمارية الغربية، وهي تقوم بهذه الوظيفة مقابل الدعم الذي تتلقَّاه والذي يشكِّل أساس بقائها فيما يعرف بنموذج “الدولة المملوكية الطفيلية” التي تعتمد في أساس وجودها على غيرها.
وتهدف هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على مفهوم الجماعة الوظيفية ومدى قدرته التفسيرية في قراءة وتحليل تاريخ الجماعات اليهودية الحديثة والمعاصرة وصولًا إلى الحركة الصهيونية ومنتجها الرئيسي في العالم العربي المسمى” إسرائيل”، وذلك اعتمادًا على موسوعة المسيري (الجزءان الثاني والسابع تحديدًا)، وكتاب”الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد”، وفقًا للمحاور التالية:

أولًا- الجماعة الوظيفية: التعريف بالمفهوم

الجماعات الوظيفية مصطلح قام المسيري بصكِّه استنادًا إلى مصطلحات قريبة في علم الاجتماع، لوصف مجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات الإنسانية من خارجها، في معظم الأحيان، أو تجنِّدها من بين أعضاء المجتمع أنفسهم من بين الأقليات الإثنية أو الدينية، أو حتى من بعض القرى أو العائلات. ثم يوكل لأعضاء هذه المجموعات البشرية أو الجماعات الوظيفية وظائف شتَّى لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة، من بينها: رغبة المجتمع في الحفاظ على تراحمه وقداسته، ولذا يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية بعض الوظائف المشينة (مثل: الربا والبغاء)، أو الوظائف المتميِّزة (مثل: القضاء والترجمة والطب) التي تتطلَّب الحياد والتعاقدية. كما أنه قد يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية الوظائف ذات الحساسية الخاصة وذات الطابع الأمني (مثل: حرس الملك وأطبَّائه والسفراء والجواسيس).
ويمكن أن تكون الوظيفة مشينة ومتميِّزة وحساسة في آن واحد (مثل: الخصيان والوظائف الأمنية على وجه العموم). كما أن المهاجرين عادةً ما يتحوَّلون إلى جماعات وظيفية (خاصَّة في المراحل الأولى من اسـتقرارهم في وطنهم الجديد)، ذلك لأن الوظائف الأسـاسية في وطنهم الجـديد عادةً ما يكون قد تمَّ شـغلها من قبَل أعضـاء الأغلبية. ولذا يمكن تسمية أعضاء الجماعات الوظيفية “المتعاقدين الغرباء”. وقد يلجأ المجتمع إلى استخدام العنصر البشري الوظيفي لملء فجوة أو ثغرة تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية، ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بها من ناحية أخرى، ومن أمثلة ذلك نشأة الحركة الصهيونية واستعمارها الاستيطاني لفلسطين والحاجة المستمرَّة لمستوطنين جدد لتوطينهم(3).

ثانيا- تطبيق المفهوم في قراءة تاريخ اليهود

اهتمَّت موسوعة المسيري (اليهود واليهودية والصهيونية: مدخل تفسيري جديد)(4) بدراسة “الجماعات اليهودية”(5) في إطار علم اجتماع الأقليات والجماعات التجارية الهامشية والجماعات الإثنية، حيث يظهر اليهودي باعتباره عضو أقلية أو جماعة وظيفية، وما يحدث له يحدث لكل أعضاء الأقليات والجماعات الوظيفية الأخرى، أي أن اليهودي يظهر باعتباره الإنسان عضو الأقلية الدينية أو الإثنية أو الوظيفية.
اكتشفت الموسوعة من خلال عملية استقراء واسعة لتاريخ الجماعات اليهودية، أن نموذج الجماعات الوظيفية كان أكثر النماذج قدرة على تفسير واقع هذه الجماعات عبر تاريخها القديم والمعاصر وصولًا إلى إسرائيل، بما يكشف عن حالة استمرارية تاريخية متعيِّنة في تواريخ الجماعات اليهودية، وهي اضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية. كما رصدت الموسوعة عدَّة أسباب تفسِّر ظاهرة تَحوَّل كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية تتنوع بين التاريخي والاجتماعي والديني والسياسي، أهمها علاقتهم بالزراعة والطبيعة الإقطاعية للمجتمع الغربي(6). وقد اضطلع أعضاء الجماعات اليهودية بأدوار وظيفية عديدة، أهمها: الوظيفية الاستيطانية القتالية، والوظيفية المالية الوسيطة في مجالات التجارة (مثل: الربا، وجمع الضرائب، والمتعهدين العسكريِّين، وتجارة الرقيق، وتجارة الخمور، إضافة إلى وظائف أخرى في مجالات الطب، والجاسوسية، وقطاع اللذة والبغاء، وتجارة الرقيق الأبيض)(7).
كما اكتشفت الموسوعة أن “التحديث الفجائي” و”ظهور الدولة المركزية الحديثة” في شرق أوروبا التي اضطلعت بكثير من وظائف الجماعات الوظيفية، قد أسهما بشكل كبير في إسراع عملية تفكيك وتآكل مراكز الجماعات اليهودية في المجتمعات الأوروبية وخلق فائض بشري يهودي بلا وظائف، ممَّا أدَّى إلى ظهور ما يسمَّى “المسألة اليهودية”. ففي أواخر القرن التاسع عشر، كانت الغالبية الساحقة من يهود أوروبا من نسل يهود بولندا الذين كانوا يعملون داخل نظام (الأرندا)(8) الذي وصفته الموسوعة بـ”الإقطاع الاستيطاني”، فكانوا يشكلون عنصرًا استيطانيًّا يقوم بجمع الضرائب واستغلال الفلاحين الأوكرانيِّين لصالح طبقة النبلاء البولنديِّين (شلاختا) وفي حماية القوة العسكرية البولندية. ومع بدايات القرن التاسع عشر، ومع تزايد هيمنة الدولة القومية المركزية، فقد أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية دورهم وتحوَّلوا إلى فائض بشري يهودي بدأ يهدِّد الأمن الاجتماعي في كثير من دول أوروبا الشـرقية، وبدأ يتـدفَّق على دول أوربا الغربية والولايـات المتحدة فيهدِّد الأمن الاجتماعي فيها أيضًا، أو هكذا تصور كثيرٌ من أعضاء النُّخبة الحاكمة وأعضاء الجـماعات اليهودية المندمـجة في المجتمع الغربي(9).

ثالثًا- التطبيق على الحالة الصهيونية

أ) التسكين على خريطة الجماعات الوظيفية
تنتمي الدولة الصهيونية إلى نماذج الدول الاستيطانية الوظيفية، ويعتمد هذا النموذج على عنصر سكاني يتم نقله من وطنه الأصلي ليقوم على خدمة مصالح الدولة الإمبريالية الراعية التي أشرفت على عملية النقل السكاني وساهمت في عملية قمع السكان الأصليِّين (عن طريق الإبادة أو الطرد أو الإرهاب) وضمنت له الاستمرار والبقاء. وتقترح الموسوعة قراءة نموذج الدولة الصهيونية في إطار ثلاث نماذج للجماعات الوظيفية، اثنان منها في التاريخ الحديث، وهما نموذج الجماعات اليهودية في أوكرانيا ونموذج المماليك في مصر، والثالث في التاريخ المعاصر وهو نموذج الجماعة الوظيفية الاستيطانية في جنوب أفريقيا. وهذه النماذج يمكنها تفسير طبيعة علاقة التجمُّع الصهيوني بكل من الإمبريالية (مصدر المال) والدول العربية المجاورة (موضع القتال)، بل يُفسِّر أيضًا طبيعة علاقته مع نفسه وسر إصراره على هويته المزعومة وانتمائه الغربي وعزلته الدائمة(10).
وتستخدم الموسوعة مصطلح “الدولة المملوكية” لوصف ماهية “الدولة الصهيونية”، تشبيها بنموذج المماليك الانكشارية في مصر واضطلاعهم بدور الجماعات الوظيفية القتالية. وترى الموسوعة أن هذا الوصف له قيمة تفسيرية تصنيفية عالية على المستويين التاريخي والبنيوي. أما من الناحية التاريخية، فقد سبقت الإشارة إلى أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية من يهود الأرندا في أوكرانيا (وغيرهم من أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية الأخرى) باعتبارهم “مماليك مالية”. وبناء عليه، تذهب الموسوعة إلى أن كل ما أنجزه المشروع الصهيوني هو تجنيد نموذج “المماليك المالية” تلك ثم نقلهم بمعونة الدول الغربية إلى الشرق العربي، حيث تحولوا إلى “مماليك قتالية” داخل إطار الدولة الوظيفية. وأصبحت الوظيفة المالية إما ثانوية أو غير مباشرة، فهي دولة وظيفية قتالية يمكن أن نسميها دولة مملوكية(11).
ب) لماذا وقع الاختيار على اليهود؟
تتنوع الأسباب التي ساقها المسيري لتفسير لجوء الاستعمار الغربي لاختيار عنصر اليهود ليكون المادة البشرية للدولة الصهيونية الجديدة، فقد نشأت حاجة داخل التشكيل الحضاري والسياسي الغربي لتأسيس “جيب استيطاني” قتالي يُشكِّل قاعدة للاستعمار الغربي في فلسطين، وبخاصة مع تَوقُّع سقوط الدولة العثمانية، التي كانت فلسطين تقع في وسطها في مكان يبلغ الغاية في الأهمية من الناحية الاستراتيجية. ويرى المسيري أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا مرشحين لأن يلعبوا دور المادة البشرية التي تفي بهذه الحاجة للأسباب التالية(12):
– النزوع الصهيوني نحو نقل اليهود إلى فلسطين، نزوع متأصل في الحضارة الغربية، إذ إن هذه الحضارة كانت تنظر لليهود باعتبارهم وسيلة لا غاية، وباعتبارهم شعبًا عضويًّا لا ينتمي للحضارة الغربية.
– كان اليهود، باعتبارهم شعبًا عضويًّا، حسب التصوُّر الغربي، مرتبطين بشكل عضوي بفلسطين. وكانت كل دولة تُصدر وعُودَها البلفورية، كما كان لكل دولة مشروعها الصهيوني الخاص الذي يرى اليهود باعتبارهم المادة البشرية المناسبة. ففكَّر “بسمارك” في توطين اليهود في منطقة حدودية محاذية لخط بغداد-برلين ليصبحوا جماعة وظيفية تصطدم بالسكان وتعتمد على ألمانيا لحمايتها، بل نجد الفاشيِّين تحت حكم “موسـوليني” والنازيِّين تحـت حكـم “هتلر” كان لهم أكثر من مشروع. وبطبيعة الحال، كانت هناك المشاريع الإنجليزية والفرنسية المختلفة. وقد رفضت أغلبية التشكيلات اليهودية في بداية الأمر فكرة الدولة الوظيفية. ومع تَعثُّر التحديث، طَرحت مسألة يهود شرق أوروبا نفسها على أوروبا، وبدأت أعداد من اليهود تفكر في الانتقال. ثم ظهر “هرتزل” الذي طوَّر الخطاب الصهيوني، وقد أفرز هذا في نهاية الأمر المنظمة الصهيونية التي وقَّعت العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم، والذي تم بمقتضاه تأسيس الدولة الصهيونية الوظيفية التي هي إعادة إنتاج لنمط الجمـاعة الوظيفية التي تحرَّكت في إطـاره الجـماعات اليهـودية في الغرب.
ومن هنا طُرحت الصيغة الصهيونية الأساسية التي تعتمد على فكرة توطين هذه الجماعات في فلسطين كحل للمسألة اليهودية في العالم الغربي يتلاقى في نفس الوقت مع الرغبة في غرس جماعة وظيفية جديدة في العالم العربي. وهذا ما حدث بالفعل حيث قام التشكيل الاستعماري الغربي بجمع بعض “المنفيِّين” (الشتات في تصوُّرهم) الذين هم في واقع الأمر أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية التي فَقَدت وظائفها وتحوَّلت إلي فائض بشري، وهي جماعات كانت تضطلع بمهام عديدة من أهمِّها الأعمال المالية التجارية والربوية في مجتمعات مختلفة. وقد قام هذا التشكيل الاستعماري بنقل أعضاء هذا الفائض إلى فلسطين وتحويله إلى جماعة وظيفية واحـدة تأخذ شـكل دولة تضطلع بدور أساسي: الاستيطان والقتال. وهو دور يصفه المسيري بـ”الدور المملوكي” -كما ذكرنا آنفا- على اعتبار أن المماليك جماعة وظيفية تمَّ استيرداها إلى الشرق العربي للاضطلاع بدور القتال.
ج) لماذا وقع الاختيار على نموذج الدولة الاستيطانية؟
لماذا لجأت الدول الغربية إلى نموذج الدولة الوظيفية لتحقيق أهدافه دون غيرها من الأشكال الوظيفية التقليدية؟ ولماذا لم تلجأ الدول الغربية إلى فكرة الجماعة الوظيفية المباشرة وهي الأكثر شيوعًا في تاريخ الجماعات الوظيفية؟ لما لم يُوطِّن الاستعمارُ الغربيُّ اليهودَ في فلسطين ليقوموا بدور الجماعة الوظيفية القتالية التي تعمل تحت إشرافه ولصالحه بشكل مباشر كما فعل الفرس والهيلينيون من قبل، حيث وظَّفوا الجماعات اليهودية بهذا الشكل؟
يرصد المسيري مركَّبًا من الأسباب المفسرة لهذه الظاهرة، ولعل أهمها: طبيعة المجتمعات في العصر الحديث حيث تغلغلت فيها مُثُل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهي مجتمعات تربطها وسائل الاتصال الحديثة من صحافة وتليفزيون ووسائل مواصلات واتصال، تجعل الاحتفاظ بطبقة منعزلة حضاريًّا، ومتميِّزة وظيفيًّا وطبقيًّا، أمرًا عسيرًا، بل مستحيلًا. ولكن إذا شكَّلت هذه الطبقة دولة قومية مستقلة، فيمكنها حينذاك أن تحتفظ بعزلتها وتَميُّزها بسهولة ويُسر، كما يمكن تسويغ وجودها وحقها في البقاء باللجوء إلى ديباجة حديثة، ويصبح الاستعمار الاستيطاني “حركة تحرُّر وطني”، ويتَّخذ اغتصاب فلسطين اسم إعلان استقلال إسرائيل، ويصبح الدور القتالي دفاعًا مشروعًا عن النفس، وتتَّخذ قوَّات الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية اسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، وتصبح العزلة هي الهوية، وتصبح لغة المحاربين لا التركية أو الشركسية (كما هو الحال مع المماليك) وإنما العبرية، وهي لغة أهمِّ كتب العالم الغربي المقدَّسة. ويعيش أعضاء الجماعة الوظيفية القتالية لا في “جيتو” خاص بهم أو ثكنات عسكرية مقصورة عليهم وإنما داخل الدولة (الشتتل/القلعة)، ويستمرون في تعميق هويتهم (أي عزلتهم) وفي القتل والقتال نظير المال والمكافآت الاقتصادية وغير الاقتصادية السخية، متخفِّين خلف أكثر الديباجات رقيًّا وحداثة. لكل هذا، لجأ العالم الغربي لصيغة الدولة الوظيفية الاستيطانية القتالية (المملوكية) وذلك بدلًا من الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية. وهذه هي الترجمة الدقيقة للشعار الصهيوني: تحويل اليهود من طبقة (أي جماعة وظيفية) إلى أمَّة (أي دولة وظيفية)(13).
د) لماذا تبدو إسرائيل شبه مستقلة؟
يلاحظ المسيري عددًا من المفارقات في علاقة الدولة الصهيونية بالدولة الراعية (أمريكا حاليًّا)؛ فرغم اعتماد إسرائيل الكلي على الدولة الراعية، إلا أنها لا تزال تحتفط بقدر من الاستقلال النسبي، وقد يبدو هذا لأول وهلة وكأنه تناقض، ولكنه تناقض مبني على فهم غير دقيق لطبيعة العلاقة بين الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والاستعمار الغربي؛ فالاستعمار الاستيطاني الصهيوني يشكل جزءًا عضويًا لا يتجزأ من الاسـتعمار الغربي، بل هو مجرد آلة في يد الغرب. ومن الملاحظ أن كل الدول والجيوب الاستيطانية عبر العالم تعتمد على إحدى الدول الغربية، في المراحل الأولية من تطوُّرها. وتحدِّد مجموعة من الظروف التاريخية والسياسية مـدى هـذا الاعتماد ومدَّته والشكل الذي يأخذه: فبعض الجيوب الاستيطانية مثل أنجولا والجزائر تظل منفتحة تمامًا على الوطن الأم، وتحتفظ بروابط قوية بل وعضوية معه، وتستمد إحساسها بهويَّتها منه، ولذا فإن كل ما يقرِّره الوطـن الأم يكون بمنزلة القانـون الذي يجـب أن ينفَّذ. لأن الجيب الاستيطاني، في هذه الحالة، مهما بلغ من قوة واستقلالية، لا يعدو أن يكون جزءًا عضويًّا من الوطن المستعمر. وإذا تعارضت المصالح بين الوطن والجيب الاستيطاني، لسبب أو آخر، وثبت أن الأخير مكلِّف ومعوِّق، فإنه يتمُّ تصفيته ويتم إعادة المستوطنين إلى أرضهـم الأصليـة التي نزحوا عنها، ويتم حسـم الصـراع لصـالح الدولة الأم. ومن ناحية أخرى، توجد بعض الجيوب الاستيطانية التي تحصل على درجة من الحكم الذاتي والاستقلال النسبي عن الدولة الغربية التي ترعاها. ويستولي المستوطنون، إن عاجلًا أو آجلًا، على السلطة، ويقيمون دولة خاصة بهم، مقصورة عليهم، كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة ودولة جنوب أفريقيا العنصرية. وكان المخطَّط الصهيوني يهدف إلى أن تكون الدولة الصهيونية الوظيفية من النَّمط المستقل. وحين سأل الاستعماريُّ البريطاني سير “سيسل روديس” الزعيمَ الصهيونيَّ “وايزمان” عن سبب اعتراضه على وجود سيطرة فرنسية محضة على الدولة الصهيونية، رد الأخير قائلًا: إن الفرنسيِّين ليسوا كالإنجليز، إذ إنهم يتدخَّلون دائمًا في شؤون السكَّان (أي المستوطنين) ويحاولون أن يفرضوا عليهم الروح الفرنسية. وقد قام الصهاينة بطرد الفلسطينيِّين فعلًا، وأنشؤوا دولتهم الصهيونية المستقلة، ولكن التطوُّرات التاريخية أظهرت أن الجيب الصهيوني لا يندرج تحت أي نوع من أنواع الاستيطان المألوفة، فهو يعتمد على قوة غربية عظمى اعتمادًا كاملًا، ولكنه في الوقت نفسه يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال، ومثل هذا الوضع الشاذ يمكن إرجاعه إلى خصوصية الحالة الصهيونية(14).

من خلال ما سبق، يمكننا تلخيص رؤية المسيري للظاهرة الصهيونية في عدَّة نقاط مفتاحية سريعة بعضها يتبلور في شكل انتقادات لما هو سائد من تصورات، والآخر يتبلور في شكل مقولات وفرضيات أكثر تحليلًا وتفسيرًا للظاهرة:

● الدولة الصهيونية ليست دولة يهودية، وما تستخدمه من شعارات ومقولات دينية لا تعدو مجرد ديباجات دعائية لإخفاء طابعها الاستعماري الاستيطاني الأصلي. ويعد مدخل “الجماعة الوظيفية” الأكثر تفسيرًا لماهية هذا الكيان وأسباب وجوده، وكذلك هو الأكثر تحديدًا لمعالم أو طريقة زواله،كما أنه الأفيد عمليًّا للقضية.
● الدولة الصهيونية ما هي إلا امتداد للتشكيل الاستعماري الغربي، والتزام الغرب نحوها نفعي وظيفي وليس أخلاقيًّا، ومن ثم لا يمكن فهمها إلا من خلال استيعاب ثوابت ومنطلقات الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة، كما لا يمكن الفصل بين مواجهة إسرائيل ومواجهة المصدر الذي يمدها بعناصر ومقومات البقاء، الأمر الذي يجعل من معاداة المصالح الأمريكية والغربية وإلحاق الضرر بها وتفكيكها أحد المحاور المركزية التي يجب أن تتأسَّسَ عليها أي استراتيجية عربية مقاوِمة لإسرائيل.
● استخدام مقولات اليهود واليهودية في الخطاب الإسلامي المعاصر أقل تفسيرًا وأكثر ضررًا لقضية الصراع مع إسرائيل، كما يتناقض مع القيم الكلية الإسلامية في العلاقة مع الآخر وعالمية الرسالة والقواعد الكلية الحاكمة لفلسفة الحرب في الإسلام. ومن ثم، فإن استدعاء خطاب الجهاد ضدَّ الاستعمار بدلا من الجهاد ضدَّ اليهود هو الأكثر تفسيرًا والأكثر اتِّساقًا مع القيم الإسلامية الكلية. وبالتالي، فإن مدخل “الجماعات الوظيفية” للمسيري في التعامل مع الظاهرة الصهيونية، ويمنع من وقوع الخطاب العربي والإسلامي في فخِّ تناقضات أخلاقية.
● وأخيرًا، ثمَّة تقصير عربي في الاستفادة من الأعمال التي أنجزها المسيري بخصوص الصهيونية (خاصة الموسوعة)، يظهر في مستويَيْن، الأول- يتمثَّل في انقطاع التحليل التراكمي للظاهرة الصهيونية وتطوُّراتها المعاصرة من منظور المداخل التفسيرية التي طرحتها الموسوعة، والثاني- يتمثَّل في العجز عن تحويلها إلى استراتيجيات وسياسات عملية وخطط عمل عربية وإسلامية ضمن مشروع استراتيجي شامل لمقاومة إسرائيل والقوى الاستعمارية الراعية لها.
****

الهوامش:

(*) باحث في العلوم السياسية.
(1) هناك عشرات الكتابات الإسلامية التى تتبنَّى هذا الخطاب ومقولاته المختلفة الأساسية والفرعية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
– محمد إيراهيم ماضي، صراعنا مع اليهود بين الماضي والمستقبل، (القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1992).
– بهاء الأمير، الوحي ونقيضه: بروتوكولات حكماء صهيون في القرآن، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006).
– عبد الله التل، الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام، (القاهرة: المكتب الإسلامى، 2008).
– محمد بن مهنا العلي، صراعنا مع اليهود بين الصلح المستحيل والمواجهة الحتمية، (الرياض: دار أمية، 1993).
– محمد عبد العزيز منصور، يا مسلمون.. اليهود قادمون، (القاهرة: دار الاعتصام، 1978).
– وليم كار، اليهود وراء كل جريمة، تحقيق: خير الله الطلفاح، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1982).
– صلاح عبد الفتاح الخالدي، حقائق قرآنية عن القضية الفلسطينية، (عمان: دار العلوم للنشر والتوزيع، 2007).
– أحمد سالم الرحال، فلسطين بين حقيقة اليهود وأكذوبة التلمود، (عمان: دار البداية، 2008).
– عبد الرحمن بن محمد الدوسري، يهود الأمس سلف سيء لخلف أسوأ،(جدة: مكتبة السوادي، 1992).
– محمد خليفة التونسي، الخطر اليهودى بروتوكولات حكماء صهيون،(عمان: دار الكتاب العربى، 1980).
– عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، مكايد اليهود عبر التاريخ، (دمشق: دار القلم، 1978).
– صارم الدين إبراهيم الكوكباني، التنبيه على ما وجب من إخراج اليهود من جزيرة العرب، (عمان: دار الراية، 1993).
– أبو بكر جابر الجزائري، هؤلاء هم اليهود فاعتبروا يا أولي الأبصار، (المدينة المنورة: مجلة الجامعة الإسلامية، 2008).
– عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حكم الصلح مع اليهود في ضوء الشريعة الإسلامية،(الرياض: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، 1996).
– محمد عثمان شبير، صراعنا مع اليهود فى ضوء السياسة الشرعية، (الكويت: مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع، 1989).
(2) يتبنَّى هذا الاتجاه عدد من المفكرين العرب أمثال د. عزمي بشارة، ود. أحمد يوسف أحمد، وغيرهما من الرموز القومية والناصرية واليسارية.
(3) عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد، (القاهرة: دار الشروق، 2002)، ص ص 14 – 15.
(4) يمكن أن نعرف الموسوعة بأنها دراسة لحالة محدَّدة هي اليهود واليهودية والصهيونية في الحضارة الغربية أساسًا، وهي دراسة تاريخية اجتماعية مقارنة، تركز على العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين أعضاء الجماعات اليهودية -بما في ذلك أعضاء الجماعات اليهودية في المستوطن الإسرائيلي- من جهة وأعضاء المجتمعات المختلفة من جهة أخرى، كما تركز على الأبعاد المعرفية لهذه العلاقات وتطرح مقولات تفسيرية تصلح لقضايا عامة، مثل: علاقة الأقلية بالأغلبية، وعلاقة الأقليات بالدولة القومية المركزية، وطبيعة الحضارة الغربية الحديثة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الحلولية بالتوحيد، وعلاقة الفكر بالمادة. وأول هذه النماذج هو نموذج الجماعات الوظيفية. راجع: عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: مدخل تفسيري جديد”، المجلد الثاني، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الأولى، 1999).
(5) “الجماعات اليهودية” مصطلح تستخدمه الموسوعة بدلًا من مصطلح “اليهود” للدلالة على أنهم جماعات مختلفة متفرقة غير متجانسة لا يمكن تفسيرها إلا من خلال دراسة سياقهم التاريخي والإنساني العام، ومقارنتهم بأعضاء الأقليات (الدينية والإثنية) الأخرى، على عكس ما تميل إليه معظم الدراسات التي تتناول أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم كيانًا واحدًا متجانسًا مستقلًّا، له آلياته وحركياته وأنماط تطوُّره الخاصَّة به والمقصورة عليه، والتي يمكن فهمها من خلال إدراك ما يُسمَّى “الخصوصية اليهودية” ومن خلال دراسة ما يُسمَّى “التاريخ اليهودي”. المرجع السابق، ص ص 202 – 203.
(6) المرجع السابق، ص ص 234 – 238.
(7) المرجع السابق، ص ص 244 – 245.
(8) «أرندا» كلمة بولندية تعني حرفيًّا «أجرة» تُدفَع مقابل استئجار. وهي، كمصطلح، تُستخدَم للإشارة إلى استئجار ممتلكات ثابتة، مثل الأرض والطواحين والفنادق الصغيرة ومصانع الجعة ومعامل تقطير الكحـول، أو إلى امتيازات أو حقـوق خاصة مثل تحصيل الجمارك والضرائب. وقد تم تَبنِّي المصطلح بالمنطوق والمعنى المذكور في اليديشية والعبرية. وكان يُشار إلى المستأجر نفسه، خصوصًا الصغير، على أنه «أرندا»، كما كان يُقال له «الأرنداتور». وكان المصطلح ذائع الانتشار ويصف واحدًا من أهم جوانب الاقتصاد البولندي الليتواني في أواخر العصور الوسطى. وقد ارتبط يهود بولندا بنظام “الأرندا” من بدايته. فهُم، كجماعة وظيفية وسيطة عميلة، كانوا مهيَّأين للاضطلاع بهذا الدور، خصوصًا أن المؤسَّسة اليهودية الأرثوذكسية أحلَّت عمليات الإقراض بالربا بين اليهود من خلال التحلِّة، وهو ما سهَّل لأي يهودي أن يُموِّل يهوديًّا آخر ويقرضه بربا، الأمر الذي وفَّر الاعتمادات اللازمة للاستثمارات. وكان الارتباط بين أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا وهذا النظام من العمق بحيث أن كلمة «أرنداتور» أصبحت مرادفة لكلمة «يهودي». راجع: المرجع السابق، المجلد الأول: فهرس المصطلحات.
(9) المرجع السابق، ص 237.
(10) راجع المقارنة بين الجيبين الاستيطانيَّيْن في إسرائيل وجنوب أفريقيا. المرجع السابق، المجلد السابع، ص ص 70 – 72.
(11) المرجع السابق، ص 54.
(12) المرجع السابق، ص ص 30 – 31.
(13) المرجع السابق، ص 29.
(14) المرجع السابق، ص ص 49 – 50.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى