مسار التسوية الأفغانية والمواقف الإقليمية والدولية منها

مقدمة

كعادتها خلال العقود الأربعة الماضية، تتصدَّر أفغانستان عناوين الأخبار ومع كل مرحلة جديدة يستبشر المتابعون بقرب انتهاء الصراعات ووصول الأفغان للاستقرار المنشود، ويبدو أن التطورات الأخيرة مع توقيع اتفاقية السلام بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان ما هي إلا بداية مرحلة جديدة يستبشر معها المتابعون بينما تتبادل الأطراف المتصارعة الأماكن لتبدأ صراعًا جديدًا.

أثناء كتابة هذا البحث كانت الجولة الثالثة من محادثات السلام الأفغانية في الدوحة بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان قد بدأت بعد عدَّة أشهر من الانقطاع حيث تأمل الإدارة الأمريكية أن تسفر عن تشكيل حكومة مؤقتة وكتابة دستور جديد بالإضافة إلى وقت إطلاق النار، حسب وثيقة مسربة صادرة في مارس 2021 عن وزارة الخارجية الأمريكية[1]؛ وأثناء المحادثات تقوم الولايات المتحدة بسحب جنودها من أفغانستان بناءً على اتفاق السلام الموقَّع مع طالبان في فبراير من عام 2020 حيث تشير تقارير إلى أن نصف الجنود الأمريكيين قد غادروا البلاد بالفعل مع وعد الرئيس الأمريكي بايدن بسحب آخر جندي ومتعاقد مدني في ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر هذا العام.

في الوقت الذي يظهر فيه أن انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان سيُنهي معاناة الأفغان ويكشف غبار الحرب عن المدن المخربة، فإن بوادر الصراعات الداخلية آخذة في الظهور مما قد يؤشِّر إلى جولة جديدة من الاقتتال الداخلي مع استمرار الدعم الخارجي المعهود للأطراف الأفغانية. يحاول هذا التقرير رسم صورة أوضح لمسار التسوية الجارية في أفغانستان في إطار مصالح وتأثيرات القوى الإقليمية والدولية ذات الصلة ويخلص إلى أن المشهد الأفغاني من الممكن أن ينتهي به المطاف إلى أحد سيناريوهين من الفوضى أو ثالث من الاستقرار تحت حكم حركة طالبان.

شهدت السنوات الثلاث الماضية، وتحديدًا منذ أكتوبر 2018، ثلاثة مسارات لتسوية الملف الأفغاني، الأول هو الحوار بين الحكومة الأمريكية وطالبان، والثاني هو مسار حوار القوي الإقليمية، وأما الثالث فهو حوار الأطراف الأفغانية داخليًّا. ويلاحظ أن الحوار الداخلي الأفغاني لم يشهد اهتمامًا إلا مؤخَّرًا، بيد أنه من الواضح أن هذا المسار من الممكن أن يكون السبب في فشل تحقيق السلام في البلاد.

أولًا- محددات الاستقرار الداخلية

تتوقف حالة الاستقرار الداخلية في أفغانستان على التفاعل بين طالبان من جهة والحكومة المركزية من جهة أخرى بشكل رئيسي، فيما يبدو تفاعل الأطراف الأخرى ضبابيًّا ومقلقًا على الساحة الأفغانية، وهو ما سنستعرضه في السطور التالية.

  • طالبان والحكومة المركزية

مع توقُّع إتمام انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان قريبًا تتَّجه الأنظار إلى الأطراف الداخلية كمحدد أساسي لإمكانية الاستقرار في بلد يحتل آخر موقع في مؤشِّر السلام العالمي، وظلَّ قرب ذيل المؤشر منذ أن تم إنشاؤه في عام 2009[2]. ويقع على رأس محركي المشهد الأفغاني الداخلي حركة طالبان والحكومة المركزية برئاسة أشرف غني حيث يملك الطرفان القوة الفاعلة على الأرض والرغبة في إقصاء الآخر، فحركة طالبان تتعامل مع الحكومة الأفغانية كدمية في يد الاحتلال الأمريكي منذ أن تم تشكيلها في عام 2004 برئاسة حامد كرزاي وحتى اليوم، ورفضت الحركة مرارًا الجلوس والتفاوض مع الحكومة أو حتى اعتبارها سلطة رسمية تمثِّل الشعب الأفغاني. وقد توقَّفت المحادثات بين الحكومة وطالبان في نوفمبر من العام الماضي لرفض الحركة الإشارة إلى الحكومة في مقدِّمة وثيقة الاتفاق المقترحة، حيث قال المتحدِّث باسم الحركة، ذبيح الله مجاهد، إنهم “مستعدون للمضيِّ قدمًا في المحادثات مع الفريق الحالي على أنهم أفغان، لا نعلم أنهم فريق من الحكومة”[3].

وعلي الطرف الآخر، تنظر الحكومة الأفغانية لحركة طالبان كخصم يريد الاستيلاء على السلطة وتنحية أفراد الحكومة الحاليِّين جانبًا، فالصراع من وجهة نظر الحكومة يمكن النظر إليه كصراع للبقاء في المشهد السياسي فطالبان لن تقبل بالاندماج في السلطة القائمة كما تم مع حكمتيار وعبد الرشيد دوستم. وقد قامت الإدارة الأمريكية بتعميق هُوَّة عدم الثقة بين الطرفين –بقصد أو بدون قصد– حيث قامت بالمباحثات مع حركة طالبان منفردة والتوصل لاتفاق سلام دون إدراج الحكومة الأفغانية، بل وألزمت الإدارة الأمريكية حكومة غني بالرضوخ لطلبات الحركة بدون أخذ إذنها قبل الاتفاق، وبذلك تكون قد أثبتت التهمة على كابل أن حكومة غني ما هي إلا دمية في يد الولايات المتحدة كما تدَّعِي حركة طالبان. فقد نصَّ اتفاق السلام بين إدارة ترامب وطالبان على أن تقوم الحكومة الأفغانية بإطلاق سراح 5 آلاف أسير من حركة طالبان في مقابل إطلاق الحركة سراح قيادات عسكرية تابعة للحكومة الأفغانية، وهو الأمر الذي رفضته الحكومة الأفغانية لكونه قرارًا يخصُّ سيادة الدولة الأفغانية ولا يمكن لطرف خارجي إملاءه عليها، ولكن في نهاية المطاف قامت حكومة غني بإطلاق سراح السجناء مما دفع غني لكتابة مقال في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية[4]، يحاول فيه مخاطبة الرأي العام الأمريكي وجره في صف الحكومة ضدَّ حركة طالبان والتي أنفذت رغباتها وأمرت حكومة غني من خلال السلطات الأمريكية.

ويأتي هذا التصرُّف في إطار فقدان صبر وثقة الإدارة الأمريكية في قدرة غني على إدارة شؤون البلاد والتحكُّم في المشهد، ففي خطاب حازم كتبه وزير الخارجية الأمريكي للرئيس أشرف غني في مارس بلغة “غالبا ما تستخدم مع طالب مدرسي مشاغب” أكد أن الولايات المتحدة لا تستبعد أي خيار، بينما كانت الرسالة الحقيقية هي أن تأثير غني أصبح ضعيفًا جدًّا على الساحة الأفغانية[5]، فهو يجلس على رأس حكومة مقسَّمة ويفقد القوة والسيطرة على الأرض.

وفي نفس الوقت الذي تنعقد فيه محادثات السلام بين الحكومة وحركة طالبان تقوم الأخيرة بمواصلة هجماتها ضد الحكومة الأفغانية، بينما أوقفت هجماتها على القوات الأجنبية بناءً على اتفاق السلام بين الحركة والإدارة الأمريكية في فبراير 2020. وقد رفضت حركة طالبان وقف إطلاق النار ليكون أداة قوَّة على طاولة المفاوضات مع الحكومة الأفغانية، وأيضًا لأن الانخراط في المصالحة الأفغانية وإمكانية وقف إطلاق النار يسبِّب توتُّرًا بين القيادة السياسية والقادة الميدانيِّين للحركة، وللهروب من الضغط قامت الحركة في يوليو من العام الماضي وقبل بدء جولات المصالحة الأفغانية بتغيير خمسة عسكريين في الفريق التفاوضي، وهو الأمر الذي يُصعِّب رضوخ الحركة للضغوط لوقف إطلاق النار[6]، وفي نفس الوقت قامت بتعيين الشاب الثلاثيني الملا محمد يعقوب -نجل مؤسس الحركة الملا عمر- مسؤولا عسكريًّا للحركة، وهو الأمر الذي يجعل زعيم طالبان الملا هيبة الله أخندزاده يُحكم قبضته على القادة الميدانيين للحركة في الوقت الذي يستخدم العمليات كورقة ضغط في إطار المصالحة[7]. ويهدف هذا التغيير في الفريق التفاوضي أيضًا لقطع الطريق على أي انشقاقات محتملة -مع استمرار عملية المصالحة- كما حدث عند وفاة الملا عمر حيث انشقت بعض القيادات عن طالبان احتجاجًا على تولي الملا أختر محمد منصور القيادة آنذاك.

وإذا وضعنا الصورة الكبرى في الاعتبار، فإن من الممكن أن تكون هجمات طالبان على القوات الحكومية هي بداية لتوسُّع كبير وسيطرة على المدن الرئيسية فور انتهاء انسحاب القوات الأجنبية في سبتمبر القادم، وأن المفاوضات الحالية مع الحكومة ما هي إلا محاولة من طالبان لكسب الوقت، وهو ما صرَّح به بعض المسؤولين الأفغان[8]. ومع استمرار هجمات طالبان ووضع القوات الحكومية في موقف المدافع فإن الروح المعنوية للجنود الأفغان آخذة في الانهيار خاصة أن بنية الجيش الأفغاني القومية ضعيفة في ظل قوة الانتماءات القبلية. ويدعم هذا التصور أن محادثات السلام لم تحرز تقدُّمًا كبيرًا –حتي كتابة هذا التقرير– ومن غير المتوقع أن يتنازل أي من الفريقين عن مركز قوته، فطالبان تحقِّق مكاسب عسكرية على الأرض وتوسِّع من سيطرتها بالإضافة إلى الجائزة الكبرى التي قدَّمتها لها الإدارة الأمريكية من الاعتراف الدولي بها وإظهارها بمظهر المنتصر في حرب هي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن الحركة تستغل الفترة الحالية لعقد لقاءات مع دول لكسب اعتراف وشرعية لم تستطع الحصول عليها أثناء حكمها لأفغانستان في تسعينيات القرن الماضي؛ وعلى الطرف الآخر فإن الرئيس غني وحكومته يدركون جيدًا أن مصدر قوتهم الوحيد هو كونهم الحكومة الرسمية الحالية في أفغانستان، فالتنازل عن كراسي السطلة تعني الاستبعاد من المشهد السياسي لصالح الحركة الأقوى على الأرض. وفي هذا الإطار يمكن فهم تعنُّت الرئيس أشرف غني في قبول المقترح الأمريكي المبدئي للسلام بين الفصائل والذي نصَّ على إنشاء حكومة سلام انتقاليه يقودها رئيس “مقبول من الطرفين”، كما شملت إنشاء لجنة عليا للتشريع الإسلامي لمراجعة التشريعات وضمان التزامها بتعاليم الإسلام، وكتابة دستور جديد[9].

وفي المقابل، قام الرئيس غني باقتراح انتخابات رئاسية بعد ستة أشهر من مارس الماضي واشترط حضور زعيم طالبان الملا هيبة الله أخندزاده أو القائد العسكري الملا يعقوب لكي يعلن عن مقترحه الكامل المقابل للمقترح الأمريكي في جولة محادثات كانت مقرَّرة خلال أبريل الماضي في تركيا[10]، وهو الأمر الذي رفضتْه الحركة بل اعتذرت عن حضور المحادثات في تركيا، وقد صرَّح الناطق باسم طالبان مباشرة بعد مقترح غني بأن الحركة لن تدعم هذا المقترح وأن عملية الانتخابات “قد دفعت بالبلاد إلى حافة الهاوية في الماضي” وأنها عملية “دائمًا ما تنطوي على فضائح” حسب قوله[11].

وإجمالًا، لكي تنتهي المحادثات بين الحكومة المركزية وطالبان إلى اتفاق سلام مبني على تقاسم السلطة فإنه لا بدَّ من وجود ندِّية في القوة العسكرية بالإضافة إلى أرض مشتركة للحوار، وهما أمران تفتقدهما الساحة الأفغانية.

  • الأطراف الأخرى

بجانب جناحي النزاع الأساسيَّيْن في أفغانستان، تقف بعض الأطراف الداخلية الأقل قوَّة وتأثيرًا في المشهد وهي حوالي 20 حركة مسلحة ومنها تنظيم الدولة، تنظيم القاعدة وحركة أوزبكستان الإسلامية. بينما أعداد تنظيم القاعدة في أفغانستان يعدُّ على الأصابع بعد توجه معظمهم لسوريا وليبيا والعراق فإن لتنظيم الدولة تواجد في البلاد وإن كان ضعيفاُ تحت اسم تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية خراسان.

يشير د. أحمد زيدان المختص في الشأن الأفغاني إلى أن تنظيم الدولة لن يستطيع تقوية وجوده في أفغانستان نتيجة لوجود تراتبية مذهبية قبلية قوية جدًّا لا يمكن الخروج عليها وبالتالي يصعب على التنظيم استقطاب مقاتلين جدد، ولكن قد يصبح التنظيم ذا عامل تخريبي[12]، وبالنسبة لطالبان فإن تنظيم الدولة يشوِّه الإسلام ويشوِّه الإرث الجهادي الأفغاني فمن غير المتوقَّع انشقاق أعداد كبيرة من طالبان والانضمام للتنظيم سخطًا من عملية السلام الجارية، خاصَّة بعد التغييرات الأخيرة في القيادات العسكرية لطالبان. ويذكر أنه قد أُعلن عن إنشاء تنظيم الدولة-ولاية خراسان في عام 2015 وقد تولى قيادته خمسة قادة مختلفين منذ ذلك الحين، ويقبع قائد التنظيم الحالي فاروقي في سجون الاستخبارات الأفغانية.

أما حركة أوزبكستان الإسلامية فهدف إنشائها كان إسقاط رئيس أوزبكستان كريموف والذي توفي في عام 2016 وإنشاء دولة إسلامية في أوزبكستان، ومنذ ذلك الحين قامت الحركة بالتحالف مع طالبان ثم مبايعة تنظيم الدولة، وهي الآن تستقر في شمال أفغانستان ولها ما يقارب ألف مقاتل، وقد قامت القوات الأفغانية بقتل زعيم التنظيم عزيز يولداش في نوفمبر من العام الماضي. وتتركز أهمية الحركة في المشهد الأفغاني في إمكانية جرِّ أوزبكستان للشأن الداخلي الأفغاني، كما هو الحال مع الحزب الإسلامي التركستاني الذي تحاربه الصين، وهو ما يعقِّد المشهد ويصعِّب فرص الاستقرار في أفغانستان.

ثانيًا- محددات الاستقرار الإقليمية والدولية

تمامًا كالآكلين حول القصعة، تجتمع عدد من دول الجوار الأفغاني على هدف واحد وهو ضمان مصلحة كل دولة على حدة، وهو الأمر المستحيل والذي ظل كابوسًا يطارد الأفغان ويقوِّض فرص الاستقرار، فمن الدول الفاعلة في الملف الأفغاني: الولايات المتحدة الأمريكية، وباكستان، والهند، والصين، وروسيا، وإيران.

نحاول باختصار في هذا القسم سرد بعض المصالح المحدِّدة لسياسة كل منها ومن ثم موقفها من ملف الانسحاب الأجنبي والمصالحة الداخلية ثم نخلص في إطار ذلك لسيناريوهات متوقَّعة لما بعد الانسحاب.

  • الولايات المتحدة الأمريكية

يرى د. أحمد زيدان أن الصبر هو ما أرغم أقوى دولة في العالم ومن ورائها تحالف من 38 دولة على الانصياع لمطالب حركة مصنفة لديها كحركة إرهابية[13]، فقدرة طالبان على البقاء على قيد الحياة والمقاومة ومن ثم القيام مرة أخرى هو ما لم تستطيع الولايات المتحدة مجاراته. هاجمت الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان في عام 2001 بعد رفض طالبان تسليم بن لادن الذي اتهمته بتخطيط هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكن مع طول أمد الحرب حتى أصبحت أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة وقوة موقف طالبان على الأرض، قرَّرت الإدارة الأمريكية النظر في جدوى الاستمرار ومن ثم إنهاء هذه “الحرب التي لا تنتهي” حسبت تصريحات الرئيس بايدن[14]، ويأتي هذا في إطار الاتجاه العام في السياسة الخارجية الأمريكية بإعادة النظر في كون “الحرب على الإرهاب” من أولويات المخاطر المهدِّدة لها وتوجيه الانتباه لـ”صراع القوة العظمي” مع الصين وروسيا[15] في ظل انتشار للجيش الأمريكي في 40 بالمئة من دول العالم معظمها من أجل محاربة الإرهاب حسب دراسة لمجلة سميثسونيان[16]. وفي نفس الوقت وصول ترامب للسلطة وهو صاحب الشخصية المختلفة القادرة على تجاوز الانتقادات جعله الوحيد الذي من الممكن ألا يكترث بربط اسمه بلقب “الرئيس الذي خسر أفغانستان”[17]، وهو ما سهَّل قرار الانسحاب والجلوس مع طالبان على طاولة واحدة.

فالآن بعد قرار انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وانتهاء خطر القاعدة هناك حسب تصريحات الرئيس بايدن يبقى للإدارة الأمريكية بعض المصالح التي لا بدَّ من الحفاظ عليها على المستوى البعيد وعلى رأسها تحييد أي خطر من الممكن أن يتخذ من أفغانستان قاعدة لشن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها، وهو الأمر الذي ناقشته إدارة ترامب بجدية مع طالبان باعتبار أن سيكون لها الحظ الأكبر في السيطرة على أفغانستان بعد الانسحاب الأجنبي. وبالتالي، من غير المتوقع أن يكون للولايات المتحدة انخراط في المشهد الأفغاني كثيرًا فيما وراء ضمان أمنها عن طريق تمويل الحكومة الأفغانية ومساعدتها جويًّا في هجماتها ضد الجماعات المسلَّحة المصنَّفة أمريكيًّا إرهابية أو ضمان تنفيذ الاتفاق مع طالبان فيما بعد الانسحاب.

  • باكستان

تعد باكستان على رأس الدول ذات المصالح الكبرى في أفغانستان، إذ تعتبرها عمقَها الإستراتيجي، وأكثر ما تخشاه هو أن تحوطها الهند عن طريق التحالف مع أفغانستان، وفي هذا الإطار يمكن فهم إشراف المخابرات الباكستانية على إنشاء طالبان في العام 1994 والدعم الكامل للحركة حتى عام 2001 مع احتلال القوات الأمريكية أفغانستان وإزالة الحركة من السلطة. وبجانب ضمان إبعاد الخطر الهندي من أفغانستان تحت سيطرة طالبان فإن الدعم الباكستاني للحركة يتجاوز المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي حيث تشترك الحركة مع الاتجاه الشعبي في باكستان في مركزية الدين في الحياة العامة، إضافة إلى العامل القبلي الهام حيث إن طالبان من عرقية الباشتون التي تمثل حوالي 40% من العرقيات في أفغانستان وحوالي 15% من الشعب الباكستاني وهو ما يساعد الباشتون الباكستانيين المتدينين في تثبيت أقدامهم سياسيًّا في باكستان بالاعتماد على تأثيرهم في المشهد الأفغاني وقدرتهم على تحييد خطر الباشتون العلمانيين الذين يهدفون لبناء دولة باشتون المستقلة[18]. فبالرغم من بعض الاضطرابات في العلاقة بين الحكومة الباكستانية وحركة طالبان خاصة في فترة الاجتياح الأمريكي لأفغانستان، فإن هناك رابطة قوية بين الطرفين ومن غير المتوقَّع أن تنقلب لعداء مع استمرار الصراع بين الهند وباكستان.

تعليقًا على محادثات السلام الحالية بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، صرَّح رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان منذ أيام أن بلاده تسعى لتسوية سياسية قبل مغادرة القوات الأجنبية في سبتمبر من العام الحالي، وقال إن بلاده ستكون الأكثر تضرُّرًا بعد أفغانستان إذا حدثت حرب أهلية في أفغانستان ممَّا سيجعل بلاده مضطرة “إلى القفز فيها وأن تكون جزءًا منها” وأن باكستان قد غيَّرت سياستها المعهودة تجاه أفغانستان بجعلها عمقًا إستراتيجيًّا، وأكَّد أنه سيتعامل مع أيِّ حكومة أفغانية يختارها الشعب، وأن باكستان “لن تحاول القيام بأي تغيير في داخل أفغانستان”[19].

ولكن لا بدَّ من فهم تصريحات خان في سياقها الحالي وهو أن حركة طالبان تزداد قوة كل يوم على الأرض وعلى الساحة السياسية الدولية وأن المؤشرات تشير إلى أن الحركة سيكون لها اليد الطولى في المشهد السياسي في ما بعد انسحاب القوات الأجنبية؛ فمن غير المتوقَّع أن تقف باكستان مكتوفة الأيدي إذا تمَّ لأيِّ سبب من الأسباب تنحية طالبان من المشهد وإيجاد حكومة منفتحة على التقارب مع الهند، خاصة أن التحالف الحالي بين الهند وإيران وروسيا يقلق باكستان بشدَّة، حيث إن لإيران وروسيا مطامع في أفغانستان كما سيتضح لاحقًا[20]، وفي نفس الوقت تجد باكستان نفسها نتسحب بعيدًا عن الولايات المتحدة في اتجاه الصين التي تدعمها اقتصاديًّا خاصة في البنية التحتية حيث تستثمر الصين نحو 60 مليار دولار في باكستان[21].

  • الهند

وعلى الجانب الآخر من المعادلة تقف الهند التي ترغب بتقويض باكستان وإحاطتها من الغرب لإضعاف قوتها، بالإضافة إلى السيطرة على طالبان في إطار التنافس الهندي-الصيني على النفوذ الإقليمي، وفي ظلِّ تعاون بين حركة طالبان وجماعة لشكر طيبة الباكستانية التي تشن هجمات ضد الهند منها هجوم مومباي عام 2008 والذي راح ضحيته 166 مواطنًا هنديًّا منهم ستة أمريكان. ومن أجل ذلك قامت الهند باستثمارات كبيرة في أفغانستان تصل إلى 3 مليارات دولار بمجمل 400 مشروع، حسب تصريح لوزير الخارجية الهندي[22]، وقد بدأ هذا الاهتمام الهندي بأفغانستان في عام 2001 مع الاحتلال الأمريكي بعد انقطاع خلال الحرب الأهلية وحقبة سيطرة طالبان.

فمن هذا المنطلق تتَّضح أسباب الدعم الأمريكي للهند من أجل لعب دور أكبر في أفغانستان فيما بعد الانسحاب، إذ إن الدولتين تشتركان في عداوة طالبان والصين ومن ثم التضييق على دور باكستان في المنطقة يصب في صالح الطرفان أو على الأقل تستطيع الولايات المتحدة الضغط على باكستان من أجل خفض دعمها لطالبان عن طريق التلويح بدعم الدور الهندي في أفغانستان[23]. وبالتالي، فإن للهند موقف معارض للانسحاب الأجنبي السريع وغير المسؤول من أفغانستان[24]، لأن ذلك يسلِّم مقاليد الأمور نسبيًّا ليد طالبان، ومن الممكن أن يضيِّع على الهند سنوات من الجهد والاستثمارات بينما لها موقف داعم للحكومة المركزية وخاصة المكونات غير الباشتونية فيها -منها عبد الله عبد الله وعبد الرشيد دوستم- خلال محادثات السلام الجارية؛ ولأن الأمور تتَّجه لصالح طالبان وتعاظم قوة باكستان، فكان من الحكمة على الحكومة الهندية التزام الهدوء والإيماء بإمكانية التواصل مع طالبان حتى لا تخسر كل شيء لاحقًا، وهي الرسالة التي بعثها وزير الخارجية الهندي بتواجده في جولة محادثات السلام الأفغانية في سبتمبر الماضي في الدوحة[25].

  • الصين

تعاقبت القوى الكبرى على أفغانستان، فمع خروج الاحتلال السوفيتي دخلت الولايات المتحدة الأمريكية، فهل سنشهد دخولًا للصين مع خروج الولايات المتحدة الأمريكية؟ من غير المتوقع، وهذا لا يعني أنه ليس للصين مصالح كبري في أفغانستان، لكن طريقة الصين مختلفة في تحقيق مصالحها فهي لا تفضل التدخل العسكري في سياساتها الخارجية، على الأقل حتى الان، ورؤيتها في أفغانستان هي أن التنمية الاقتصادية تؤدِّي إلى السلام وليس العكس كما تري الولايات المتحدة الأمريكية[26].

تركِّز المصالح الصينية في أفغانستان على شقَّين أساسيَّيْن هما محاربة الجماعات الانفصالية وضمان المصالح الاقتصادية، حيث إنه بالرغم من قصر الخط الحدودي بين الصين وأفغانستان والذي يصل إلى ستة وسبعين كيلومتر فإنه يقع على أقصي غرب الصين وبالتحديد منطقة تركستان الشرقية -تسميها الصين شينجيانج- ذات الأغلبية المسلمة من عرقية الأويجور والمحتلة من قبل الصين والتي تقع بها “معسكرات إعادة التأهيل” سيئة السمعة؛ ويكمن الخطر من وجهة نظر الحكومة الصينية في تمركز جماعة إسلامية مسلَّحة من عرقية الأويجور تسمَّي حركة تحرير تركستان الشرقية في أفغانستان، وتخشى الصين من انتقال التهديد لداخل الأراضي الصينية، فمن أجل ذلك قامت الصين مؤخرًا بإنشاء قاعدة عسكرية في منطقة شايماك بطاجيكستان وهي تبعد بضع كيلومترات من الحدود الصينية الأفغانية، حسب تحقيق لصحيفة الواشنطن بوست[27]، ويقلق الصين التعاون بين طالبان وحركة تحرير تركستان الشرقية، خاصة مع رجوع طالبان القوي للساحة السياسية، ولكنها منفتحة على الحوار مع طالبان من أجل فكِّ هذا الارتباط[28].

وعلى الجانب الاقتصادي، فإن الصين تركِّز على استخدام الأراضي الأفغانية كجزء من مبادرة “الحزام والطريق” كما تهدف لتعاون أفغانستان لنجاح الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، وهو الأمر الذي يتطلَّب استقرارًا سياسيًّا وأمنيًّا في كابل، وفي نفس الوقت توجد ثروات منجمية هائلة في أفغانستان تقوم الصين بالاستثمار فيها منذ سنوات، لكن مع عقبات كثيرة نتيجة لعدم الاستقرار الأمني[29].

بسبب كون المحرك الأساسي للصين في سياستها تجاه أفغانستان هو الاقتصاد  -وجزئيًّا محاربة الحركات الانفصالية- فإنها ستتفاعل مع أي حكومة قائمة طالما هناك ضمان لمصالحها، حتى وإن كانت طالبان هي من تقود هذه الحكومة وذلك لأن علاقات الصين قوية جدًّا مع باكستان ويشتركان معا في معاداة الهند وبالتالي تستطيع الصين ممارسة ضغوط لتعديل سلوك طالبان حال وصولهم للسلطة؛ كل ما تريده الصين هو الاستقرار في أفغانستان حتي تتحقَّق لها مكاسب اقتصادية وهو ما دفع وزير الخارجية الصيني في مايو الماضي لاقتراح استضافة محادثات السلام خوفًا منه على رحيل القوات الأجنبية بدون التوصُّل لاتفاق[30].

  • روسيا

كما هو الحال مع الصين، تخشى روسيا من امتداد الحركات الإسلامية المسلَّحة من أفغانستان إلى أواسط آسيا فتهدِّد المصالح الروسية هناك، بالإضافة إلى رؤيتها للصراع في أفغانستان من منظار صراعات القوى الكبرى، فرؤيتها الولايات المتحدة الأمريكية تتجرَّع من نفس الكأس الذي سقت منه الاتحاد السوفيتي هو أمر يرضي القيادة الروسية، حتى إن المخابرات الحربية الروسية دفعت لمسلَّحين مرتبطين بطالبان في عام 2019 من أجل استهداف القوات الأجنبية في أفغانستان حسب تقرير لصحيفة النيويورك تايمز[31]؛ فلا تخفي روسيا استعجالها بخروج أمريكا بعد عشرين عامًا من الخسائر والفشل، فقد صرَّحت وزارة الخارجية الروسية بأن تأخير خروج القوات الأجنبية من أفغانستان عن الموعد الذي حدَّده ترامب سابقًا -أي في مايو الماضي- يعدُّ خرقًا للاتفاق وتهديدًا للأمن في البلاد، وفي نفس الوقت قامت موسكو باستضافة طالبان والحكومة الأفغانية في مارس الماضي من أجل “التعجيل بمحادثات السلام”، وقبل ذلك بشهرين استضافت موسكو -وطهران- وفدًا من طالبان حين وردت أنباء عن إمكانية عدم وفاء واشنطن ببنود الاتفاق مع طالبان، حيث أرادت الحركة أن ترسل رسالة لواشنطن مفادها أنها ستلجأ لطرف غير صديق ولن تجلس للتفاوض مع الحكومة الأفغانية في حالة تراجع واشنطن[32].

تشترك موسكو مع واشنطن في ضرورة نجاح محادثات السلام بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، لأن السيناريو المقابل هو حدوث فوضى من الممكن أن تؤدِّي إلى حرب أهلية مما يؤثِّر مباشرة على أمن روسيا والولايات المتحدة.

  • إيران

تأتي إيران كقوة إقليمية ذات مصالح في أفغانستان مرتبطة بالأساس بالحدود المشتركة بين البلدين، فإيران تصدر سلع للسوق الأفغاني والذي يمثل متنفسًا اقتصاديًّا في ظلِّ العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليها، بينما تستخدم الحدود لتسلُّل اللاجئين الأفغان ليمثلوا عبئًا إضافيًّا على طهران، فعددهم يقارب المليون لاجئ، بيد أن التهديد الأكبر الذي تخشاه إيران هو الجماعات المسلَّحة السُّنِّيَّة، وتشمل العناصر المتشدِّدة من طالبان وعناصر تنظيم الدولة في أفغانستان.

إيران كانت على وشك الدخول في حرب مع طالبان في عام 1998 بسبب حصار الحركة القنصلية الإيرانية في مزار الشريف وقتل 8 دبلوماسيِّين إيرانيِّين، وقامت طهران بدعم الاحتلال الأجنبي لأفغانستان في 2001 ومدِّه بالمعلومات الاستخباراتية من أجل انتزاع طالبان من السلطة ووضع حكومة لا تعادي الجار الغربي. ولكن وجود القوات الأجنبية الحالي في أفغانستان يقيِّد قدرة إيران على الانتشار في البلاد، وبالتالي فإن طهران تؤيِّد خروجها، ولكن في نفس الوقت لا تريد أن ترى حكومة تقودها طالبان في كابل مرة أخرى، فالخيار الأفضل لطهران هو دعم حكومة ديمقراطية، ويكون الجناح غير المتشدد من طالبان جزءًا منها؛ وقد بدأت بالفعل طهران مدَّ سبل التواصل مع طالبان واستضافت وفدًا من الحركة في بداية العام الحالي في طهران.

أما في حالة عدم ضمان وقف التهديد من الأراضي الأفغانية ضد المصالح الإيرانية بعد الانسحاب الأجنبي، فمن المتوقع أن تعيد طهران توجيه ميليشياتها الشيعية الأفغانية التي كانت قد أرسلتها للحرب في سوريا تحت مسمَّى “لواء فاطميون” وقوامها 10-15 ألف مسلح ووضعها على الأراضي الأفغانية[33].

  • أطراف أخرى

بجانب كل الأطراف المذكورة أعلاه توجد أطراف أخرى لها مصالح في أفغانستان ومنها: تركيا، والسعودية، وقطر، وطاجيكستان، وأوزباكستان وتركمانستان، بيد أن دورها ليس بأهمية الأطراف المذكورة أعلاه.

يتَّضح مدى تعقُّد البعد الإقليمي والدولي للصراع الأفغاني ومحادثات السلام، وفي محاولة لتبسيط الصورة -مع الإقرار بصعوبة ذلك لكثرة التفاصيل والمحددات- فمن الممكن تخيُّل العلاقات الإقليمية والدولية في ما يتعلَّق بملف السلام من خلال الرسم التوضيحي التالي، حيث تمثل الخطوط الصلبة علاقات دعم بينما تمثل الأسهم ذات الخطوط المتقطعة علاقات العداء:

من الممكن بالطبع أن تتغيَّر هذه التحالفات مع التطورات في المفاوضات الحالية ومع إتمام خروج القوات الأجنبية، فالأمر يشهد تغيرات متتابعة وسريعة.

ومن خلال هذا العرض السريع لمصالح بعض الأطراف الخارجية الفاعلة في المشهد الأفغاني يتَّضح أن الجميع تقريبًا يريد السلام والتوافق الداخلي، ولكن لكلٍّ منهم هدفه الخاص من وراء ذلك، فكل طرف يسعى لاستقرار يضمن له تحقيق ما يريد من مآرب، بيد أن مصالح الأفغان أنفسهم ليست على أجندة أيٍّ من هذه القوى.

ختامًا- أسئلة هامة

يبقى أن نطرح بعض الأسئلة التي تهم متابعي الملف الأفغاني ونحاول الاقتراب من إجابتها.

  • هل تغيرت أو ستتغير حركة طالبان؟

إذا نجحت طالبان في تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانسحاب الأجنبي فهل سنرى نهجًا مماثلًا لإدارة طالبان في تسعينيات القرن الماضي؟ للإجابة على هذا التساؤل لا بدَّ من رؤية الوضع من وجهة نظر الحركة وتقييم الضغوط الممارسة عليها من أجل تعديل سلوكها فيما يخصُّ ملف حقوق الإنسان بمفهومه السياسي الغربي، فالحركة خرجت “منتصرة” على أكبر قوة في العالم، مرة أخرى، بعد 20 عامًا من الصراع والصبر والمراوغة، وأيضًا فإن الحركة لها قوة تتعاظم على الأرض وفي موقف أفضل من الحكومة المركزية الحالية المنقسمة على نفسها، وذلك بالإضافة إلى الاعترافات الدولية المتزايدة بشرعية الحركة ومركزية دورها في الساحة الأفغانية، كل هذا يضاف إلى المؤسس العقيدي والقبلي للحركة والذي من الواضح أنه لم يتغيَّر طوال السنوات الماضية. ومن ثم لا يُتوقع أن تكون الحركة قد تغيَّرت كثيرًا في رؤيتها في إدارة الدولة، بينما يرى المبعوث الأمريكي للسلام في أفغانستان زلماي خليل زاد أن الاعترافات الدولية بالحركة قد تمثل عامل ضغط لتعديل السلوك[34].

وفي ما يتعلق برؤية طالبان للأطراف الأفغانية الأخرى كشركاء في السلام، فبجانب رؤيتها الدونية للحكومة المركزية فقد حدث موقف خلال محادثات السلام في موسكو من الممكن أن يكون مؤشِّرًا على استمرار مواقفها من الأطراف الداخلية الأخرى، ذلك أن عبد الرشيد دوستم -المارشال الأوزبكي في الجيش الأفغاني والذي ساعد القوات الأجنبية في التخلُّص من طالبان في 2001- ذهب للملا فضل وسأله عن صحته، فردَّ عليه الملا بوصفه بالخائن والقاتل؛ مما جعل دوستم يغادر بقية الاجتماع [35].

في تقرير مرفوع عنه السرية لمجلس المخابرات الوطني الأمريكي فإن صلب موقف طالبان في المحادثات الحالية بالإضافة إلى قلة التغيرات في قيادات الحركة هي من ضمن المؤشرات إلى “تراجع معظم التقدُّم الذي أحرز في العقدين الماضيين” في حال رجوع السلطة في يد طالبان[36].

  • هل أي من الأطراف الداخلية مرشح لزيادة قوته بدعم داخلي أو خارجي؟

بالطبع ستشهد الساحة الداخلية الأفغانية تغيرًا في مقدار قوى الأطراف بعد الانسحاب الأجنبي، ولكن هل سيكون أيًّا منها بقوة طالبان ويمثل تهديدًا للحركة؟ من غير الواضح ما سيكون عليه وضع مكونات الحكومة المركزية الحالية إذا استولت طالبان علي السلطة، فالقوات العسكرية وشبه العسكرية الأفغانية الحالية قوامها 350 ألف مجند من عرقيات مختلفة؛ فلو تفتَّت الحكومة وحدثت فوضى فمن الممكن أن ينضم أفراد الجيش الأفغاني لجماعات مسلَّحة مختلفة أو تكوين ميليشيات منفصلة، وقد ينضم الجنود الباشتون لطالبان، ويوجد مؤشرات متزايدة للقلق فقد زادت نسبة الهجمات ضد الجيش من عناصر داخله هذا العام بنسبة 82 بالمئة عن العام الماضي -في الفترة بين 1 يناير و1 أبريل- وقتل فيها 115 جنديًّا وجرح 39 آخرون[37]. وفي حال تفكك الجيش فستستقطب كل قوة إقليمية فصيلًا أو فصائل مسلحة وتعود مشاهد الحرب الأهلية للظهور.

  • ما هي السيناريوهات المتوقعة بعد الانسحاب الأجنبي؟

يرى الخبير في الشأن الأفغاني توماس راتيج أن الوضع بعد الانسحاب لن يخرج عن ثلاثة سيناريوهات[38]؛ الأول هو الانهيار المباشر للحكومة المركزية، حيث إن الانسحاب الأجنبي يضرُّ بالروح المعنوية للقوات الحكومية ولكنه يرى أنه سيناريو غير متوقَّع لأن الولايات المتحدة أكَّدت استمرار الدعم المادي والعسكري للحكومة، وأن كثيرًا من القوات الحكومية لديها عداءات شخصية من طالبان نتيجة الهجمات المتواصلة، ممَّا سيجعلهم يواصلون القتال طالما لديهم دعم خارجي.

ولكن يلاحظ خلال التطورات الأخيرة أن الولايات المتحدة ترى صعوبة في كيفية استمرار المساعدات العسكرية للحكومة المركزية، ففي ظل رفض طالبان أي وجود أجنبي -عسكري أو مدني متعاقد- حتى لتأمين السفارات ومطار كابل، وبالتالي تجد الولايات المتحدة والناتو صعوبة كبيرة في تدريب القوات الحكومية لضمان قدرتها على تحقيق الأمن بعد الانسحاب؛ وكانت آخر المحاولات عند كتابة هذا التقرير هو مطالبة الناتو دولة قطر بتدريب القوات الخاصة الأفغانية على أراضيها[39].

أما السيناريو الثاني وهو انهيار الحكومة المركزية على المستوى المتوسط وبعد فترة من الزمن، حيث إنها منقسمة وضعيفة ولن تستطيع الفوز في الصراع مع طالبان، وهذا سيكون بمثابة إعادة لأحداث سنة 1992، عندما خسر الرئيس نجيب الله الدعم المادي الروسي، ممَّا دفع القوات الحكومية للالتحاق بالطرف الذي يظن أن له الغلبة وهو طرف المجاهدين، وبعد اجتياح طالبان للمشهد السياسي والعسكري اضطر كثير من الفرقاء للانضمام تحت الضغوطات والتهديدات.

ويرى الباحث الألماني أن السيناريو الأخير -وهو غير مستحيل- هو أن ترجع التيارات السياسية والحركات المسلَّحة -بما في ذلك طالبان- لرشدهم بعد خروج القوات الأجنبية ويجلسون للوصول لحل سياسي، وفي حال تمَّ ذلك ستستطيع طالبان من موقف قوَّتها أن تفرض كثيرًا من رؤاها على الأطراف الأخرى، وحينئذ ستصل أفغانستان للسلام المنشود، ولكن تحت سلطة محافظة تجاه الحقوق والحريات؛ فإمَّا هذا أو إعادة إنتاج حروب التسعينيات الفصائلية.

___________________________________________

الهوامش 

[1] Susannah George, The leaked U.S. plan to end the war in Afghanistan, The Washington Post, 13 March 2021, available at: https://wapo.st/3A69EXY

[2] Global Peace Index, available at https://www.visionofhumanity.org/maps

[3] تعثر الاتفاق بين الحكومة الأفغانية وطالبان بسبب خلاف على الصياغة، رويترز، 30 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://reut.rs/3hd5KUz

[4] Ashraf Ghani, Ashraf Ghani: Afghans and their international partners have paid the costs. Now we’re taking a risk for peace, The Washington Post, 14 August 2020, available at: https://wapo.st/3xVX4ZE

[5] Adam Nossiter, Ashraf Ghani, Afghanistan’s President, Has Little Sway Over Its Future, New York Times, 10 April 2021, available at: https://nyti.ms/3w6aYas

[6] د. أحمد موفق زيدان، الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، قناة المنطلق – صالون ثقافي، موقع YouTube، 28 أكتوبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://youtu.be/jmqJlMUhftE

[7] حميد الله محمد شاه، استباقا للمفاوضات مع كابل.. لماذا عدَّلت طالبان مكتبها السياسي والقيادة العسكرية؟، الجزيرة.نت، 21 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3jjmr3q

[8] Mujib Mashal (et al.), Violent Attacks Plague Afghanistan as Peace Talks in Doha Slow, New York Times, 19 September 2020, available at: https://nyti.ms/3xWWRFx

[9] Exclusive: Details of Proposed Draft for Afghan Peace, Tolo News, 7 March 2021, available at: https://tolonews.com/afghanistan-170504

[10] Hamid Shalizi, Exclusive: Afghan president, rejecting U.S. peace plan, to offer election in six months, officials say, Reuters, 23 March 2021, available at: https://reut.rs/3hqJO8X

[11] Taliban slam Afghan president’s proposal for new election, France 24, 24 March 2021, available at: https://bit.ly/2Uzt3Ao

[12] الدكتور أحمد موفق زيدان – الانسحاب الأمريكي من أفغانستان – المناقشات، قناة المنطلق – صالون ثقافي، موقع YouTube، 29 أكتوبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://youtu.be/iOjwFG_gtdE

[13] د. أحمد موفق زيدان، الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، مرجع سابق.

[14] ‘It’s Time To End This Forever War.’ Biden Says Forces To Leave Afghanistan By 9/11, NPR, 15 April 2021, available at: https://n.pr/3vUiepC

[15] National Security Strategy of the United States of America, The White House, December 2017, available at: https://bit.ly/3A656ko

[16] Stephanie Savell and 5W Infographics, This Map Shows Where in the World the U.S. Military Is Combatting Terrorism, Smithsonian Magazine, January/February 2019, available at: https://bit.ly/3gXt7mc

[17] Emma Ashford,  An End to Endless War? Cato Unbound, 19 May 2021, available at: https://bit.ly/3qr5Lss

[18] Pakistan’s Support of the Taliban, HRW, 2001, available at: https://bit.ly/3x4gRWW

[19] Gibran Peshimam, Pakistan seeks Afghan settlement before foreign troop pullout: Khan, Reuters, 4 June 2021, available at: https://reut.rs/3dfTD83

[20] د. أحمد موفق زيدان، الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، مرجع سابق.

[21] FM Shakil, China’s Pakistan investments a double-edged sword, Asia Times, 2 February 2021, available at: https://bit.ly/3h4Awz6

[22] Dipanjan Roy Chaudhury, India announces set of development projects for Afghanistan as country prepares for transition, Economic Times, 24 November 2020, available at: https://bit.ly/3digP5V

[23] حسن الرشيدي، ماذا تريد الهند من أفغانستان؟ البيان، 8مارس 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3jjrvos

[24] Timor Sharan, Andrew Watkins, A New Playbook? Europe, India, and Afghanistan beyond 2021, Friedrich Ebert Stiftung, available at: https://bit.ly/3jk5LZy

[25] Harsh V. Pant, How India came around to talking to the Taliban, ORF, 26 September 2020, available at: https://bit.ly/3A1aZzr

[26] Wang Bing Nan, China Interest in Afghanistan after the U.S withdrawal, Modern Diplomacy, 31 May 2021, available at: https://bit.ly/2Tc7kOz

[27] Gerry Shih, In Central Asia’s forbidding highlands, a quiet newcomer: Chinese troops, Washington Post, 18 February 2019, available at: https://wapo.st/3A5aKTR

[28] Naweed Jafari, Can China be a peacemaker in Afghanistan?, The Lowy Institute, 20 October 2020, available at: https://bit.ly/3gV90VP

[29] Federica Lai, China’s economic influence in Afghanistan in a Belt & Road context, Asia Power Watch, 1 December 2020, available at: https://bit.ly/3diJrMq

[30] Ayaz Gul, China Offers to Host Afghan Peace Talks, VOA, 18 May 2021, available at: https://bit.ly/2U4DBrc

[31] Charlie Savage (et al.), Russia Secretly Offered Afghan Militants Bounties to Kill U.S. Troops, Intelligence Says, New York Times, 26 June 2020, available at: https://nyti.ms/3h93qOG

[32] حميد الله محمد شاه، خبراء يجيبون.. هذه أهداف طالبان من زيارة موسكو وطهران، الجزيرة، 1 فبراير 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3jilzvX

[33] Colin P. Clarke and Ariane M. Tabatabai, What Iran Wants in Afghanistan, Foreign Affairs, 8 July 2020, available at: https://fam.ag/3h8ziCR

[34] Missy Ryan and Susannah George, As the U.S. departs Afghanistan, will the old Taliban reemerge?, Washington Post, 1 May 2021, available at: https://wapo.st/2UxBKev

[35] Thomas Ruttig, A Troika of Four: Looking back at the March 2021 Afghanistan meeting in Moscow, Afghanistan Analysts Network, 2 April 2021, available at: https://bit.ly/3wZQe5l

[36] Afghanistan: Women’s Economic, Political, Social Status Driven by Cultural Norms, National Intelligence Council, 2 April 2021, available at: https://bit.ly/3x33aHz

[37] Gabriel Dominguez, Enemy-initiated attacks in Afghanistan increased by nearly 37% in first quarter of 2021, Janes, 30 April 2021, available at: https://bit.ly/2UJDzoX

[38] Afghanistan After the US Withdrawal: An Elusive Peace, Three Questions to Thomas Ruttig, Institut Montaigne, 30 April 2021, available at: https://bit.ly/2U3jSIg

[39] Rupam Jain (et al.), Exclusive NATO approaches Qatar to seek training base for Afghan forces after withdrawal, Reuters, 14 June 2021, available at:  https://reut.rs/35T45P5

فصلية قضايا ونظرات- العدد الثاني والعشرون ـ يوليو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى