قراءات في الدلالات السياسية لقانون الاضطهاد الديني

وصف ما حدث:

في سبتمبر 1997 تقدم النائبان أولين سبيكتر وفرانك وولف بمشروع قانون “حماية الأقليات الدينية”. وفي 25 مارس من نفس العام بدأت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي مناقشة مشروع القانون، وتضمن المشروع أسماء أربع دول متهمة باضطهاد الأقليات وهي مصر والسودان والصين والمملكة العربية السعودية. وقد وافق مجلس النواب على القانون في 15 مايو 1998 بموافقة 375 صوتاً ضد 41 صوتاً.

ويمنح القانون الأمريكي للولايات المتحدة حق الوصاية على الأقليات الدينية وإنشاء مكتب لرصد الاضطهادات الدينية وفرض عقوبات على الدولة الضالعة في ممارسة الاضطهاد الديني، ويقضي مشروع القانون بقطع المساعدات الأمريكية عن حكومات الدول التي يثبت، بواسطة مكتب رصد الاضطهاد الديني، أنها ضالعة في ممارسة الاضطهاد الديني لجماعات من مواطنيها أو رعاياها يعيشون على أرضها. ويأتي هذا الأمر (قطع المساعدات) في إطار أشمل من العقوبات تتضمن المقاطعة والحصار ومنع المعونات الدولية، وتسهيل حق اللجوء السياسي والمواطنة وحماية الجاليات الأجنبية. كما ينص القانون على قيام الرئيس الأمريكي بإعطاء تعليمات صريحة لمندوبي الولايات المتحدة في البنك الدولي وصندوق النقد والمؤسسات المالية والتجارية الدولية للتصويت ضد المنح الموجهة للدول التي يدينها التقرير السنوي الصادر عن مكتب رصد الاضطهاد الديني. كما يفرض القانون عقوبات الحرمان من تأشيرات دخول أراضي الولايات المتحدة الأشخاص الضالعين في ممارسة هذا اللون من الاضطهاد. كما نص القانون على تعديل قانون الهجرة واللجوء السياسي في الولايات المتحدة لمنح استثناءات من شروط الهجرة لمن يقع في حقهم اضطهاد ديني.

في 19 يونيو بدأ مجلس الشيوخ الأمريكي مناقشة مشروع قانون جديد لمكافحة الاضطهاد الديني يحمل اسم “قانون الحريات الدينية الأولى” أعده السيناتور الأمريكي دان نيكلز، وذلك ليحل محل القانون الذي قدمه أرلين سبيكتر وفرانك وولف. وبعد مناقشات استمرت خمسة شهور أقر الكونجرس الأمريكي في 10 أكتوبر 1998 القانون بعد أن أدخلت عليه تعديلات استجابة لتحفظات المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية.

وكانت جماعات ضغط مسيحية أصولية أمريكية دعمت مشروع القانون إضافة إلى بعض منظمات أقباط المهجر في الخارج، فعلى سبيل المثال في 24 مارس 1998 وقبل يوم واحد من مناقشة مشروع قانون الاضطهاد الديني، نشر ما يسمى بالاتحاد القبطي العالمي إعلاناً على صفحة كاملة في جريدة واشنطون بوست يتضمن العديد من المزاعم عن اضطهاد الأقباط في مصر، ودعا الإعلان أعضاء الكونجرس إلى تأييد مشروع القانون.

وبعد زيارة لمصر قام بها فرانك وولف التقي خلالها الرئيس مبارك في 9 يوليو 1998، أعلن وولف في مؤتمر صحفي عقد بواشنطن في 25 يوليو لإعلان نتائج زيارته وجود تفرقة وعدم مساواة في الوظائف والمناصب الحكومية، واتهم الحكومة المصرية بتجاهل قضية اضطهاد الأقباط.

قامت الحكومة المصرية بحملة مضادة تجاه الزعم باضطهاد الأقباط، حيث دعت مجلس كنائس نيويورك الذي عقد في 26 مارس 1998 مؤتمراً صحفياً عن نتائج زيارة أعضاء المجلس لمصر بدعوة من الرئيس مبارك، أكد خلاله أعضاء الوفد عدم وجود أي اضطهاد ضد الأقباط في مصر.

باستثناء السـيد موريس صادق – مدير مركز الوحدة الوطنية – لا نكاد نجد انقساماً – بما تعنيه الكلمة – حول هذا القانون بمعنى وجود فريق معارض وفريق يوافق عليه، بل كان هناك إجماع على رفض القانون بمسوغات وحجج متعددة: ومسوغات السيد موريس صادق لقبول القانون الأمريكي هي:

1 – مسألة الإساءة لبلد والتدخل في شؤونه الداخلية كانت قضية ما قبل عام 2000، أما اليوم فشبكة الإنترنت متاحة للجميع، ولم نعد نحيا ذلك العصر الشمولي، بل نحن في عصر تمتع فيه العالم بالحريات، كما أن القانون يحمي جميع الأقليات في العالم.

2 – عندما احترم رعاياي وأطبق عليهم مبادئ حقوق الإنسان، عندها لن تتدخل الولايات المتحدة.

3 – تدخل الولايات المتحدة مثله مثل فرنسا التي وضعت قوانين الحريات في العالم وطبقتها جميع الدول من دون أن تتحدث عن تدخل الفرنسيين في شئونها؛ فالقانون المثالي يطبق في أي مكان.

واستند الإجماع الذي شهدناه في الموقف(*) من قانون الاضطهاد الديني إلى مسوغين:

أ – مسوغات الرفض في إطار إدراك السلوك والواقع الأمريكي:

في هذا الإطار يرى صلاح الدين حافظ، ويشايعه في هذا جل كتاب مصر، أن الولايات المتحدة صاحبة مصلحة في استغلال هذه القضية، وأن لها هدفاً دعائياً وسياسياً من ورائها أكثر مما يتوفر لها من أهداف دينية أو ديمقراطية تتعلق بحقوق الإنسان. وفي هذا يستعيد مقولة ناعوم تشومسكي التي يرى فيها أن الولايات المتحدة تستهدف، باستغلال حقوق الإنسان، إسباغ الشرعية على مصالحها وسياساتها، وبخاصة تدخلاتها في شئون العالم الثالث. كما استعار مقولة المفكر والباحث المصري جمال حمدان التي يؤكد فيها أنه لا يمكن الفصل بين الطائفية – في أي مرحلة من مراحلها – عن الاستعمار، فهو الذي غذاها؛ إن لم يكن قد أوجدها، وهو الذي اتخذ منها أداة سياسية يدعم بها وجوده. ويرى أن الضغوط الأمريكية على مصر، والتي تتخفى تحت دعوى فحص قضية اضطهاد الأقليات، وبخاصة المسيحيين، تهدف أساساً إلى ممارسة الابتزاز إزاء مصر ومعاقبتها على ما تراه واشنطن خروجاً منها على قواعد التحالف والصداقة، التي من أجلها تنساب المعونة الأمريكية سنوياً، والتي يجرى التهديد بقطعها بين الحين والآخر. وفي حديثه عن الإدارة الأمريكية يرى صلاح حافظ أن، الأصل في الضغوط التي تتعرض لها مصر أمريكياً هو الدور اليهودي، ولذا كان شعاره “فتش عن اليهود”، وبخاصة اللوبي اليهودي الأمريكي. وأخيراً صاغ صلاح الدين حافظ مسوغه الأخير لرفض الموقف الأمريكي، حيث أعلن أن هذه القضية مسألة داخلية لا تحل في الولايات المتحدة، كما قال البابا شنودة، بل تحل في مصر(1).

ويشير الدكتور علاء غنام إلى أن مسوغات رفضه تكمن في تحيز القانون الأمريكي لأقليات بعينها في حين لم يذكر مسلمي ومسيحيي فلسطين، ولا مسلمي البوسنة والفلبين والهند وأثيوبيا مثلاً، وأضاف أن هذا الانعكاس للوضع الدولي غير المتوازن سيؤدى إلى مزيد من إلقاء الوقود على النيران الخامدة، مما سيدفع إلى مزيد من الانقسامات والانفصالات والحروب الداخلية. ويضيف أن ملف المصالح الأمريكية هو الذي يسمح لجماعات الضغط بتقديم مثل هذه القوانين المنحازة مستخدمة غطاء حقوق الإنسان وديمقراطية النظم(2).

والدكتور نبيل لوقا بباوى يرفض هذا القانون من منطلقين: أولهما أنه يخالف الدستور الأمريكي، وبخاصة المادة الأولى منه، التي ترفض إصدار الكونجرس الأمريكي لأي قانون يمس العلاقات الدينية في الدول خارج أمريكا. كما يرفضه لأنه مطابق للأعراف والقوانين الدولية التي تنص على سيادات الدولة وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول تحت أي مسمى(3).

ويرى الأستاذ مصطفى مشهور – مرشد عام جماعة “الإخوان المسلمون” – أن مثل هذا القانون أحد الوسائل الخبيثة التي يلجأ إليها الأعداء لإثارة الفتن والحروب بين الدول العربية وداخل هذه الدول لإضعافها وحصارها ومحاولة تفتيتها، ودعم تواجد الجيوش الأمريكية في بلادنا للحفاظ على البترول من أن يتحكم فيه أصحابه(4).

ويرى الدكتور رفعت السعيد، أن أهم مسوغ للرفض هو الحال الأمريكي نفسه الذي يعاني من مشاكل اجتماعية حادة في الداخل بسبب التمييز الحادث فيه على أسس دينية أو عرقية، حيث لا مكان فيه عالياً لزنجي أو مسلم أو حتى أرثوذكسي إلا على سبيل تمثيل النموذج لتفادى اللوم على الرغم من تمتع الجميع بالمواطنة الأمريكية(5).

ب – مسوغات الرفض في إطار إدراك الواقع القبطي المعاش:

يرى الكاتب صلاح الدين حافظ أن المسلمين والمسيحيين عاشوا ويعيشون معاً في البلاد العربية أخوة في الوطن، شركاء في العقيدة السماوية، وإن اختلفت مسميات الأديان، وأن الجميع مارسوا شعائرهم الدينية على مدى العصور بحرية لا يوجد مثيلها في مجتمعات غربية “متحضرة” نزعت عن الدين السماوي وجهه السمح، وأطلقت للمادة العنان وصولاً – للإلحاد السافر. كما يرى أن المسيحيين العرب لعبوا دوراً رائداً في بناء الوطن، ليس من منطلق كونهم أقلية دينية منعزلة، بل من منطلق كونهم مواطنين شركاء في الحقوق والواجبات، وأن أدوارهم برزت في كل مجال: دفاعاً عن حرية الوطن واستقلاله، وإسهاماً في بناء الثقافة والفكر، وترسيخاً لحرية الإيمان وممارسة الشعائر. وفي هذا الصدد يعطينا مسوغاً تاريخياً يتمثل في موقف المسيحيين العرب في الحرب ضد الغزوات الصليبية الأوربية قديماً، أو موقف الكنيسة القبطية من التعصب والغطرسة الإسرائيلية ومن التطبيع حديثاً(1).

ويرى الأستاذ حليم تادرس أن مصر بذلت جهوداً كبيرة لدعم المسيحيين فيها، حيث أهدت الدولة للكنيسة أراضي ليقيم عليها الكاتدرائيات والأديرة، وهذه الدولة هي التي تحمي أقباط مصر من عنف جماعات الإسلام السياسي التى تدعمها الولايات المتحدة، ويرى أن أقباط المهجر لديهم شعور بالذنب نتاج هجرتهم مصر، وأنهم أخطأوا ترجمة هذا الشعور، وأن الحكومة المصرية على مر العصور لم تحارب الأقباط في ديانتهم، وأن الشأن المصري ليس لأي أجنبي أن يناقشه أو يتدخل فيه(2).

ويرى د.حسن أبو طالب أن الأقباط ليسوا أقلية بالمعنى المتداول في الدراسات الاجتماعية والسكانية، فهم جزء عضوي من النسيج الاجتماعي المصري. كما يرى ضرورة عدم إشراك قوى خارجية في سبيل الوصول إلى حل لمسألة مصرية. كما يرى أنه لا تمييز في مصر بين المسلمين والأقباط في الترقي أو نيل الوظائف العالية، وأن المستثمرين الأقباط يحصلون على الفرص نفسها(3).

ويرى الأنبا اسطفانوس الثاني بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك في رسالته إلى الكنيسة الأمريكية الكاثوليكية، أن المجتمع المصري قوى ومتحد ومتماسك، وأن ليس بين المسيحيين والمسلمين فيه أية حواجز جغرافية أو تاريخية أو اجتماعية أو نفسية، وأن القوانين المصرية تسرى على المسيحي والمسلم بقضاء عادل شهد له العالم(4).

ويرى الدكتور رفعت السعيد يرى أن التدخل الأمريكي مرفوض لأنه يربكنا ويربك كل الذين يعلون من شأن الوحدة الوطنية، بل ويربك الكنيسة القبطية والمجموع القبطي، فمحاولة الحديث في هموم الأقباط لن يكون معناه إلا أننا نصب في خانة التدخل الأمريكي. كما أن الجمهور المصري الرافض للولايات المتحدة ومشاكلها سوف يستثار من جراء هذا المسلك القبطي بمعاونة الأمريكان وسيزداد تعصباً وتشبثاً بالمشاعر السلبية ضد من سيسميهم آنذاك “نصارى” وليس أقباطاً(1) .

وفي شهر نوفمبر تجدد الاهتمام بالقضية في وسائل الإعلام المصرية إثر نشر صحيفة “صنداى تلغراف” البريطانية تحقيقاً مطولاً عن ما ادعته اضطهاد للأقباط في مصر، وذلك بسبب أحداث قرية الكشح في سوهاج.

قامت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بنشر تقرير عن أحداث قرية الكشح، قامت السلطات المصرية على إثره باعتقال أمين عام المنظمة الأستاذ حافظ أبو سعدة وتقديمه للنيابة، ثم تم الإفراج عنه بعد ضغوط دولية.

إن وصف ما حدث بشأن الموضوع الذي نحن بصدده أمر بالغ الأهمية لأنه – فيما أتصور – يدخل في صلب إدراك الدلالات السياسية والفكرية لما حدث. إن صدور قانون الاضطهاد الديني من الكونجرس الأمريكي وما ارتبط به من جدل بين النخبة الثقافية والسياسية المصرية، بالإضافة إلى ما نشر من أحداث انبعث بها الحديث من وضعية الأقباط في مصر، لا يمكن بحال فصله عن أحداث أخرى جرت على المستوى العالمي منها:

1 – مثول ديكتاتور تشيلي السابق “جستو بينوشيه” أمام المحاكم البريطانية للنظر في تسليمه للعدالة الأسبانية لمحاكمته عن جرائم قتل جماعي وتعذيب ارتكبها إبان حكمه لتشيلي الذي استمر سبعة عشر عاماً.

2 – عناصر من قوات حلف دول شمال الأطلسي في البوسنة تعتقل المسؤول العسكري عن المذابح الجماعية في منطقة سربرنيتشا، الجنرال راديسلاف كرستك، إبان انتقاله بسيارته على طريق عامة مع سائقه، وبلا حراسة شخصية، ويتم تسليمه إلى محكمة الجزاء الدولية في لاهاي لمواجهة تهم عن مسؤوليته في مجازر الحرب الأهلية في البوسنة، كما تعلن واشنطن عن مكافأة (خمسة ملايين دولار) لمن يعتقل اثنين من كبار المسؤولين الصرب المتهمين بجرائم حرب أيضاً هما الزعيمان البوسنيان السابقان رادوفان كارادجيتش وراتكو ميلاديتش.

فالحدثان الأخيران لهما تعلق بخطاب حقوق الإنسان على المستوى العالمي، على الرغم من وجود تباين بينهما في الدلالة، فالأول (حادث بونشيه) تعبير عن تنامي مطالبة قوى المجتمع المدني بتطبيق حقوق الإنسان، أما الحدث الثاني فهو توظيف لخطاب حقوق الإنسان لتحقيق مصالح للولايات المتحدة، وإن كان الحدث في ذاته يعد عملاً إيجابياً، أو توظيفاً إيجابياً.

في الدلالات السياسية والفكرية:

يلاحظ أن الجدل الدائر حول وضعية الأقباط في مصر والذي انبعث نتاج أحداث متعددة ومتباينة [تصريح المرشد العام للإخوان – قانون الاضطهاد الديني – أحداث قرية الكشح]؛ إن هذا الجدل يمثل أحد أبعاد الأزمة التي يعاني منها الخطاب العربي في زمن لا يستطيع أن يدرك فيه السياقات المتحولة التي نحن جزء منها.

ويلاحظ على جزء كبير من الجدل الدائر حول الموضوع، غلبة الخطاب الاستغاثي، الذي يمثل بحق نفسية المهزوم الذي يرى الجميع متآمراً عليه. الخطاب الاستغاثي خطاب اختزالي يختزل الأبعاد المركبة للظاهرة، والعوامل المعقدة اللازمة لفهمها وتفسيرها إلى عامل وحيد أو عوامل محدودة ومحددة، لذا فإنه يتعامل بمنطق الكتل المصمتة التي لا يدري ما بداخلها، ولا يدرك التنوع والتعدد والاختلاف والتباين بينها (فأقباط المهجر كتلة واحدة، والغرب شيطان واحد يجب أن يرجم)، وهو ثانياً ونتيجة للسمة الأولى لا يرى في الحدث إمكانية للفعل أو آليات التعامل معه، وإنما يقف فقط عند حد إعلان المواقف وطرح وجهات النظر بغية إبراء الذمة، لذا فهو ثالثاً خطاب يتسم بالعمومية الشديدة لأنه ليس مطالباً أو مدعوا للفعل، ولا يعرف جمهوره بالتحديد، وهو حين يسعى لاستدعاء التاريخ لمعالجة قضايا حديثة، لا يدرك التحولات التي حدثت والتغيرات التي طرأت، لذا فهو ينحو نحو الحديث عن الينبغيات واليقينيات والقيم المجردة دون حديث عن الحاضر الذي ينبغي أن نفهم لغته وندرك مراميه، وأحد ملامح الحاضر الأساسية هو التداخل بين الداخلي والخارجي تداخلاً يتطلب منا مناقشة مشاكلنا بشفافية ووضوح.

أولاً: الدولة القومية في عالم متغير:

أ  – الدولة القومية نتاج مشروع الحداثة:

نشأت الدولة القومية في أوربا على أنقاض حكم العائلات والسلالات، لذا فإنها قامت محاولة دمج قوميات متعددة وصهرها معاً (فرنسا وأسبانيا)، وإما غلبة قومية على قوميات سواها (بريطانيا وروسيا)، بعبارة أخرى فإن الدولة القومية سعت لخلق التجانس وتجاوز التعددية لأنها ارتبطت بمشروع الحداثة الغربي الذي كان جوهره الأساسي هو إيجاد قيم ومعايير واحدة (التنميط) حتى يسهل التعامل مع الأسواق الواسعة والجماهير العريضة. ولعبت الدولة دوراً هاماً في تدويل المشروع الحداثي عن طريق حركة الاستعمار التي طالت أجزاء المعمورة جميعاً، وكان من ضمن ما تم تدويله “الدولة القومية” التي تحولت إلى مأساة عندما فرضت كإطار سياسي لمجتمعات أخرى وفي بيئات مغايرة للبيئة الأوربية التي نشأت فيها.

ولقد تضخم كيان الحكومات في ظل المنظومة الغربية التي تقوم على الفرد محوراً وتطور مساراً ومآلاً ومصلحة، وعلى الرغم من أن الأفراد هم الذين أنشأوا الدولة وفقاً لنظرية العقد الاجتماعي، إلا أنها تحولت إلى ظاهرة متجاوزة لكيان الفرد ذاته والمجتمع الذي أنشأها، مكتسبة آليات ذاتية في تطويرها وتطورها (ظاهرة متجاوزة مستقلة بذاتها)، وأظن أن “الدولة” كانت في المشروع الحداثي “المطلق” الذي آمن به الفرد، وحل محله “الإله” الذي تخلى عنه.

ولقد تضخمت الدولة في الدولة الصناعية عن طريق توسيع دورها ومجال حركتها، حتى شهدنا بحلول منتصف القرن اتساعاً في نطاق الوظائف التي تؤديها المؤسسات العامة، بحيث بات لا يشمل فقط التوسع فيما توفره من البنية الأساسية والمرافق العامة، بل وشمل أيضاً دعماً أوسع للتعليم والرعاية الصحية وبرامج الرفاهية الاجتماعية، وخلال العقود الثلاثة ونصف العقد التي انقضت بين 60 – 1995 تضخم حجم الحكومة في البلدان الصناعية إلى مثل ما كانت عليه في أوائل الستينيات، وكان الدافع إلى معظم هذا التوسع زيادة أوجه الدعم المختلفة.

ويلاحظ أنه في أواخر المشروع الحداثي بدأت تظهر كيانات تتجاوز إرادة الدول مثل الشركات متعدية الجنسية، ومنظمات الإغاثة العالمية، كما أدت التطورات والتحولات المستمرة التي صاحبت عمليات وسياسات العولمة إلى “إعادة التفكير في الدولة”. في ظل عالم متغير، واندفع الجدل النظري حول وضعية الدولة القومية في المستقبل حيث تطرح رؤى وتصورات متعددة. فيرى قسم من الباحثين أن عالم اليوم متآلف من قوى جديدة وأسواق مفتوحة وكيانات عملاقة مما يجعل ظاهرة الدولة ثانوية، وقسم آخر يرى خلاف ذلك حيث يعتبر الدولة وحدة مهمة في النظام العالمي، وما يحدث الآن نتيجة ظاهرة العولمة هو إعادة صياغة مفهوم الدولة وترتيب أمورها وآلياتها في وجه التحولات الحادثة والتحديات القادمة.

وبغض النظر عن الجدل الدائر حول وضعية الدولة القومية في المستقبل، فإن من المؤكد أن الدولة الآن تعيد رسم وتحديد أدوارها ووظائفها، وهي نتاج تطورات كثيرة وتحولات عميقة؛ فإنها قد خسرت الكثير من وظائفها المعهودة بسبب التحولات الاقتصادية والاتصالية كما انتقلت إلى مواقع جديدة، أو زاد تركيز نشاطها في مواقع بعينها. بعبارة أخرى، فإن القدر المتيقن حول وضعية الدولة القومية في المستقبل هو أن التطورات الحادثة في العالم تفرض تحديات على دور الدولة، وهي تسعى للتكيف مع هذه التطورات والاستجابة لها.

وأتصور أن أحد التحديات التي تواجه الدولة في المستقبل هي قدرتها لتنظيم العلاقات بين التعدديات التي باتت حقيقة واقعة في المجال المحلى كما في المجال الخارجي، كما يزداد بروزها نتيجة العولمة التي هي أقرب إلى أن تكون ما بعد حداثية، مما يؤدى بها إلى عمليات تفكيك غير منظم للكيانات والقوى الضعيفة على أسس مختلفة (هوية – جيلية – جغرافية – لغوية..).

ب – الدولة المحدثة في واقعنا العربي:

الدولة العربية المحدثة حملت هيكليات ومؤسسات الدولة الحديثة المستوردة، لكنها أيضاً اخترقت هذه الهيكليات والمؤسسات بخصوصيات من الحضارة العربية الإسلامية. ولقد كانت هذه الدولة بحكم نشأتها أداة التحديث الأساسية (التغريب)، ثم حدث وأن أصبحت أداة التنمية في الخمسينيات والستينيات (التنمية على النمط الغربي)، وهي الآن في التسعينيات أحد أهم آليات إقرار سياسات العولمة.

ولقد كان التدخل في شئون الأهالي أو الناس أو المجتمع سياسة دائمة للدولة المحدثة في الواقع العربي منذ بداية تكوينها، وكان هدف هذه السياسة هو إدماج القطاع الأهلي بكل مكوناته في البيروقراطية العامة للدولة واتخذ ذلك مسالك عدة (إدارية، وتشريعية، وسياسية)، واستطاعت الدولة المحدثة بهذه المسالك أن تقتلع العمل الأهلي من إطاره الاجتماعي وأن تعيد هيكلته وتثبته داخل الإطار المؤسسي الحكومي.

كما عمدت الدولة العربية المحدثة إلى اتباع سياسات تمييزية بين الداخل (المحلي) والخارج (الدولي) بأشكال وأساليب متعددة، حيث مالت للخارج على حساب الداخل الذي كان البعد الغالب في شرعيتها، وقد أبرزت التطورات الأخيرة بشأن الدولة العربية المحدثة مشكل على جانب كبير من الأهمية يتعلق بأن الدولة العربية تتآكل إزاء الخارج، وتعيد رسم دورها ووظيفتها وتوزيع مراكز ثقلها في الداخل، ولكن الدولة المنسحبة المتآكلة إزاء الخارج تقيد فاعليات الأمة (المجتمع – الأهالي)، وباتت المعضلة التي تواجهها هي حالة الفراغ الناتجة عن ذلك، حالة الفراغ هذه لن يملأها غير الخارج؛ بحكوماته وشركاته ومنظماته الأهلية.

ثانياً: خطاب حقوق الإنسان بين المستويين العالمي والمحلي:

خطاب حقوق الإنسان له سياق داخلي (داخل الدولة) وآخر خارجي يتحرك فيه، ولا يمكن فهم وإدراك تجليات هذا الخطاب على المستويين الدولي والمحلي إلا بادراك السياق الذي يتحرك فيه. ولكن اختلاف السياقات بين الخارجي والداخلي لا يعنى إلا توظيفات مختلفة لخطاب حقوق الإنسان في ظل أهداف ومصالح مشتركة استطاعت القوى المهيمنة في النظام الدولي أن تبنيها مستفيدة من بعض النخب المحلية في دول الجنوب، فمن الحقائق الأساسية التي يؤكدها خطاب حقوق الإنسان أنه بعد الحرب الباردة برز اتجاه يحاول إقرار المرجعية الحضارية الغربية (الأمريكية أساساً) ويقيمه على العالم بأسره مستخدماً شتى الوسائل، وهذه الجهود تتشابك وتترابط وتدعم وتؤكد، نخب حقوق الإنسان في العالم الثالث ومنها مصر.

أ  – عولمة خطاب حقوق الإنسان:

1 – يحسن التأكيد – بداية – على أن كثيراً من الدول، وخاصة الدولة المهيمنة أو القوى الكبرى في النظام الدولي، سعت، ومازالت تسعي، إلى استخدام خطاب حقوق الإنسان كسلاح في سياستها الخارجية وذلك لتحقيق أهداف أيدلوجية أو استراتيجية أو اقتصادية خاصة بها، سواء خلال الحرب الباردة أو بعدها، ويتخذ ذلك شكل التركيز على أبعاد حقوق الإنسان التي تخدم مصالحها وتجاهل ما دون ذلك.

ولقد أدى هذا الاستخدام المصلحي لخطاب حقوق الإنسان على المستوى الخارجي إلى ازدواجية المعايير عند تطبيق هذه الحقوق أو الدعوة إلى الالتزام بها من جانب الدول الكبرى في النظام الدولي، والدوافع الكامنة وراء هذه الازدواجية. وقد أضعف هذا الاستخدام من المصداقية الفكرية والقيمية – في دول الجنوب – لضرورة الالتزام بخطاب حقوق الإنسان.

2 – بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك دول الكتلة الشرقية لم يعد مطروحاً – على الأقل على المستوى التطبيقي – غير النموذج الليبرالي لمفهوم حقوق الإنسان، فقد اكتسب هذا الفهم قوة دفع كبيرة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وقبل ذلك كان لا يزال هناك حديث عن نموذجين مختلفين لحقوق الإنسان أحدهما يركز على حقوق الفرد والحقوق المدنية والسياسية، والآخر يطرح حقوق الجماعة في مقابل حقوق الفرد، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في مقابل الحقوق المدنية والسياسية.

وسعت – بعد الحرب الباردة – دول وأطراف كثيرة (رأسمالية أساساً) إلى عولمة الفهم الغربي لحقوق الإنسان، حيث يصير المقصود بالعولمة هنا فرض نسق قيمي واحد يتضمن معايير محددة سلفاً، وتمثل توجهاً أيدلوجياً بعينه بشأن مسألة حقوق الإنسان، أي تقويم ما تحقق في هذا المجال وفقاً لمعايير عالمية، والمقصود بالعالمية هنا الحضارة الغربية أساساً، مستغلة غياب أي نسق حضاري ثقافي منافس تسانده القوة السياسية لدولة أو دول كبرى.

ويلاحظ بصفة عامة أن اتجاه العولمة بهذا المعنى اتجاه اختزالي لمضمون حقوق الإنسان حتى في ظل المواثيق الدولية والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان (التي كانت تعبيراً عن القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية وهي بالأساس قوى غربية) حيث يتم التركيز فقط على الحقوق المدنية والسياسية للمواطن دون الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشعوب؛ ثم طال الاختزال الحقوق المدنية والسياسية لتصبح حرية الفكر والاعتقاد والتعبير هي التجسيد لكل خطابات حقوق الإنسان، على اعتبار أن التحرر الفكري يواكبه تحرير اقتصادي ودعم لآليات السوق، وهو ما يعني اقتصاداً مفتوحاً أمام الشركات متعدية الجنسية دولية النشاط.

3 – إن من مقتضيات عولمة خطاب حقوق الإنسان بالمعنى المتقدم، أنه لم يعد خطاباً ملكاً خالصاً للحكومات، وإنما أصبح أيضاً وفي نفس الوقت مطلباً من مطالب قوى “المجتمع المدني” العالمي بمؤسساته وفعالياته، وهذه القوى لها دور متنامى في صنع السياسة الخارجية لدولها [انظر كيف لعبت القوى الدينية المحافظة في المجتمع الأمريكي دوراً في صياغة وإصدار قانون الاضطهاد الديني]، وهذه القوى قد تتطابق توجهاتها مع توجهات حكوماتها الخارجية، ولكن يظل أيضاً هناك قدر من المفارقة والتمايز بين الاثنين [القبض على الجنرال بونشيه].

ويدعم من هذا التطور أنه برزت الآن على مستوى الجدل النظري حالة اللا حسم على المستوى المعرفي والمفاهيمي لحقوق الإنسان على الساحة الدولية مستفيدة هذه الحالة من اتجاه ما بعد الحداثة على المستوى المعرفي والثقافي، وقد أدت هذه الحالة إلى بروز الحديث عن خطاب حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية، ويظل هذا الجدل قابلاً للتشكل والتشكيل – بمقدار المساهمة الجادة والواعية من الأطراف الفاعلة – لصياغة مفهوم خاص لحقوق الإنسان يدرك المشترك الإنساني العام بين الحضارات والثقافات (الفطرة بالتعبير الإسلامي) وقادر على تطوير نسق مستقل – على المستوى النظري والعملي – يدرك الخصوصيات المختلفة للحضارات والثقافات.

ب – خطاب حقوق الإنسان على المستوى المحلي:

ليس غرضي من هذا الجزء هو تتبع وضعية خطاب حقوق الإنسان على المستوى النظري (الفكري) والتطبيقي (حركة منظمات حقوق الإنسان) في الواقع العربي، ولكن هدف هذا الجزء هو – فقط – إبراز السمات العامة لخطاب حقوق الإنسان في الواقع المحلي، وأحب أن أؤكد وجود ظلال من الخبرة المصرية على هذا الجزء من الورقة وذلك بحكم الانتماء الجغرافي للباحث، وتظل الخبرة المصرية لها أهميتها نتيجة أن خطاب حقوق الإنسان فيها متقدم بخطوات كثيرة عن خبرة دول عربية أخرى، وتظل هذه السمات قابلة للتعميم على الخبرة العربية، بل وخبرة دول الجنوب، وهكذا، فإن الخبرة المصرية لها أهميتها في هذا المجال.

1 – انتقل اهتمام المثقفين العرب من قضية لأخرى على مدار العقود الثلاثة الماضية:

ففي سبعينيات القرن العشرين شهد العالم العربي اهتماماً متصاعداً بين طائفة من المثقفين بفكرة الديمقراطية، وبات هؤلاء المثقفون ينظرون إلى الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطية على أنها الوصفة السحرية التي ستزول بها كل أسقام وأمراض المجتمع العربي، واستثار الجدل حول الموضوع خيال الكتاب العرب للمساهمة في مناقشات مترامية الأطراف على صفحات الجرائد والدوريات والمجلات المتخصصة التي صدرت في أماكن شتى، كما عقد في الثمانينيات مؤتمرات وندوات وصدرت كتب ومجلدات تناقش مكانة الديمقراطية في المجتمعات العربية المعاصرة، وتحول النقاش والجدل إلى حركة في الواقع السياسي العربي، فشهدنا تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان سنة 1983، التي أعقبها تأسيس منظمات ومؤسسات قطرية تعني بحقوق الإنسان في بلدانها، ثم تلي ذلك في التسعينيات الانتقال إلى الجيل الثاني من أجيال خطاب حقوق الإنسان، حيث شهدنا زيادة كبيرة في إنشاء هذه المنظمات، وتوسع في نطاق ومجال عملها بحيث أصبح عندنا عدداً من المنظمات المتخصصة [تشير التقديرات إلى أن عدد المنظمات المصرية العاملة في مجال حقوق الإنسان بلغ اثنتي وعشرون منظمة] في موضوعات وقضايا بعينها من قضايا حقوق الإنسان (منظمات للمرأة وأخرى للسجناء وثالثة فكرية فقط..)والمتتبع لنشأة المنظمات المتخصصة في مجال محدد من مجالات حقوق الإنسان يجد أن هذه النشأة مترابطة أساساً بالناشطين في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، حيث اكتسب هؤلاء الناشطين فيها خبرة ودراية بأطراف ومسالك التمويل، ثم كان انتقالهم من المنظمة المصرية إلى إنشاء منظمات وهيئات أخرى خاصة بهم.

ويلاحظ بحق الدكتور وليد قزيحه – أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة – أن كثيراً من المثقفين الذين اهتموا بموضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان كانت خلفيتهم علمانية، أو ذات صلة بالحركات الوطنية العربية والشيوعية، ويعزو ذلك إلى انهيار الناصرية وفشل حزب البعث في التصدي لمهام الصحوة الوطنية والاجتماعية وتحرير فلسطين، كل ذلك نزع المصداقية عن حقبة كاملة من الصراع العربي السياسي. لذا أضحى كثير من المثقفين العرب، بعد إصابتهم بخيبة الأمل والإحباط إزاء تجربتهم السياسية وامتلائهم بالغضب تجاه أداء الأنظمة العربية ينظرون إلى الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي أنها الحل لمشاكل ومعضلات الواقع العربي.

ومع اتساع المناقشة حول الديمقراطية في الثمانينيات ازداد تداول خطاب حقوق الإنسان أكثر فأكثر في الخطاب العربي بالنسبة للشيوعيين والماركسيين والتحرريين من المثقفين العرب، وكان الشيوعيون والماركسيون هم أكثر المثقفين اهتماماً به وبخاصة في التسعينيات، وهذه المرة، ليس نتيجة فشل مشروع دولة ما بعد الاستقلال، ولكن نتيجة سقوط “المشروع الشيوعي” بسقوط الاتحاد السوفيتي، وأراد هؤلاء أن يجددوا مشروعهم السياسي ويضخوا فيه دماء جديدة، فكانت قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني هي المرشحة لضخ هذه الدماء، خاصة أن جزءاً كبيراً منهم قد أدركوا التحولات العالمية بعمق، ورأوا أن هذه القضايا هي أيدلوجية النظام الدولي الجديد فتجاوبوا معها سريعاً. وكان من مقتضيات هذا التجاوب تغيير النسق الفكري والأيدلوجي السابق [المرتكز إلى الاشتراكية] إلى نسق فكري جديد يرتبط بقيم وأفكار الليبرالية.

2 – تداعيات تمويل منظمات حقوق الإنسان:

من أهم عناصر خطاب حقوق الإنسان على المستوى المحلي في جانبه التطبيقي هو الحديث عن تمويل منظماته وهيئاته، لأن الحديث عن التمويل لا يعنى الحديث عن موارد إنفاق هذه المؤسسات، بل يعني حديثاً عن مشروعها أولاً، والأجندة التي تعمل وفقاً لها، والأولويات التي تتبناها، والجمهور الذي تستهدفه، كما أنه يرتبط بقضية الخصوصية، خصوصية خطاب حقوق الإنسان، ارتباطاً كبيراً.

يلاحظ بصفة عامة أن منظمات حقوق الإنسان – فيما عدا المنظمة العربية – اعتمدت في تمويلها على الوارد من الدول الغربية، ولم تستطع أن تطور شبكة تمويلية عربية أو مصرية خاصة بها [ربما يجد ذلك تفسيره في الأطراف والشخصيات العربية المتوقع أن تساهم في تمويل وبناء هذه الشبكة ربما يستعدون حكومات الدول عليهم نتيجة لذلك]، وقد أدى إلى ذلك “تسميم سياسي” بتعبير أستاذنا الدكتور حامد ربيع  حيث أصبح المشتغلون بحقوق الإنسان – أو جزء كبير منهم – يقومون بقراءة أجندة الممولين (الأجندة الغربية) وتفهم محتوياتها، وصياغة مقترحاتهم للحصول على التمويل الأجنبي الداعم لهذه الأجندة، وقد أدى هذا إلى زيادة عولمة الخطاب الغربي لحقوق الإنسان متمثلاً في الإعلاء من شأن قضايا حرية الرأي والاعتقاد دون النظر إلى ثوابت الأمة، بالإضافة إلى قضايا المرأة التي تم اختزالها إلى بعض القضايا المحدودة ويأتي على رأسها قضايا الختان.

وقد أدت قضية التمويل الأجنبي في منظمات حقوق الإنسان إلى عدم تحول هذا الخطاب إلى “خطاب جماهيري” أي يتجاوب مع مطالب جماهيرية حقيقية وتسانده الجماهير، بل تحول إلى “خطاب نخبة”. واستمدت هذه المنظمات شرعيتها وحمايتها من الخارج، فخطاب هذه المنظمات يتجه إلى الخارج أساساً ؛الذي تحول إلى   جهة المساءلة وحامي هذه المنظمات من عسف السلطة المحلية [حادث حافظ أبو سعدة].

إن الدمج بين منظمات حقوق الإنسان الوطنية والعالمية في خريطة الاهتمامات، وأجندة الأولويات، والتوجه بالخطاب …إلخ يجد تفسيره في عاملين هامين الأول: يختص به التمويل، أما الثاني فنجده في الأيدلوجية السابقة التي كان ناشطو هذه المنظمات يعتنقونها، وهي أيدلوجية علمانية غربية أساساً، سمحت لهم بالتحرك من موقع لآخر فيها، أي على نفس الأرضية.

3 – منظمات حقوق الإنسان قوة سياسية وثقافية فوق الدولة والمجتمع، وحكم بين القوى السياسية:

تسعى منظمات حقوق الإنسان في الواقع المحلى مستفيدة في ذلك من شبكة علاقاتها الخارجية (الحماية الدولية) وأزمة الأحزاب السياسية في واقعنا العربي إلى أن تصبح هذه المنظمات حكماً على الدولة والمجتمع، بل وحكماً بين القوى السياسية، فالمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان تنصب من نفسها وخطابها سلطة فوق الدولة بدساتيرها وقوانينها، وفوق المجتمع بثقافته وتقاليده وأعرافه [ختان الإناث كمثال لتقويمها لثقافة وتقاليد المجتمع]، بل إن هذه المنظمات عادة ما تطرح نفسها كحكم بين الأحزاب السياسية في المجتمع عن طريق تقويم أداء هذه الأحزاب ونشاطها [تقرير مراقبة الانتخابات المصرية 1995].

إن هذه الممارسة الجديدة في المجال السياسي فيما أتصور تعيد تعريف السياسة في واقعنا، حيث يلاحظ أن السياسة قد اكتسبت في الواقع العربي – متأثرة بالخبرة الغربية – معنى صراعياً حيث يكون كل طرف متصارعاً مع الطرف الآخر، خصماً منه، لتحقيق مصالح حزبية أو تنظيمية أو الوصل إلى السلطة – أية سلطة: أي مكامن اتخاذ القرار.

ولكن هناك نوع آخر من السياسة هي ما أطلق عليها “السياسة الإصلاحية” [بالطبع لا يجسدها ممارسة منظمات حقوق الإنسان القائمة، ولكن يظل خطابها يحمل إمكانية لذلك] والتي يقصد بها توفير البنية الأساسية للممارسة السياسية والتي يعاني العمل السياسي الصراعي من افتقادها، وأقصد بالبنية الأساسية للممارسة السياسية هي ثقافة الحوار والإيمان بالتعددية والثقة في العمل العام والاهتمام به …إلخ أي توفير البنية الاجتماعية والثقافية/ القيمية اللازمة للعمل السياسي. فالمقصد الأساسي من الممارسة السياسية الإصلاحية هو تحقيق حضور الأمة في المجال العام، لأنه بدون هذا الحضور لا يمكن أن يتم تفعيل المجال السياسي، بل وأية مجالات أخرى [لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة انظر مقالي: العمل السياسي الإسلامي بين الوجهة الإصلاحية والنزعة التنافسية].

وأخيراً إن فاعلية هذه المنظمات التي يتوقع أن تزيد في المستقبل تطرح قضية مستقبل الأحزاب السياسية في واقعنا العربي التي تعاني من مشاكل جمة قللت من فعاليتها في العملية السياسية، بل تحولت الفاعلية السياسية عنها نحو جهات وأطراف أخرى (العصبية – منظمات حقوق الإنسان – المستقلون …).

وبعد، فإن الجدل الذي أثير بمناسبة قانون الاضطهاد الديني وتوابعه استدعي مفهوم الأقليات، حقوقها ووضعها، والعلاقة بينها وبين الأغلبية.

إن مفهوم الأقلية في الذاكرة التاريخية لأمتنا يستدعي الامتيازات الأجنبية، وتفكيك الدولة العثمانية التي لعبت الأقليات فيها دوراً كبيراً في إضعافها أولاً ثم سقوطها بعد ذلك، وما يزال المفهوم يحمل إمكانية لحدوث التفكيك أيضاً خاصة بعد اكتسابه قوة دفع تحريضية كبيرة من قبل الدولة المهيمنة في النظام الدولي المنعوت بالجديد.

إن مفهوم الأقليات ينطلق أساساً من النظرة الغربية التجزيئية لحقوق الإنسان، حيث تقسم الكيان الإنساني إلى كيانات ذرية (حقوق الطفل، والمرأة، وحقوق الأقليات…) بينها صراع لأن الكل يتحدث عن حقوقه إزاء الآخرين، وهذا بخلاف مفهوم التعددية في خبرتنا الحضارية الذي يقوم على الاعتراف بالاختلاف والتنوع في ظل مفهوم الأمة الواحدة التي تتعدد فيها دوائر الانتماء، ولكنها دوائر متضافرة لأنها تقوم على فكرة الواجب، أي واجب كل طرف تجاه الآخرين.

 _____________________

الهوامش

(*) ليس غرض هذا الجزء هو تتبع الجدل الذي انبعث نتيجة القانون والذي ساهمت كل القوى والأطراف الثقافية والسياسية فيه، بل غرضي هو ضرب الأمثلة فقط على بعض جوانب هذا الجدل الذي تكرر مرات ومرات مع تعدد الأحداث المتعلقة بوضعية الأقباط في مصر.

(1) صلاح الدين حافظ، العناية الإلهية الأمريكية واضطهاد الأقباط، صحيفة الأهرام، 12/11/1998.

(2) د.علاء غنام، ميزان أقليات مجلس النواب الأمريكي، صحيفة الأهرام، 8/4/1998.

(3) نبيل لوقا بباوي، قانون الاضطهاد الديني الأمريكي؛ عدم دستوريته ومخالفته للميثاق الدولي، صحيفة الأهرام، 25/5/1998.

(4) مصطفى مشهور، الاضطهاد الديني للمسلمين وليس لغيرهم، صحيفة الشعب، 16/6/1998.

(5) د.رفعت السعيد، الوحدة الوطنية وسياسة إغماض العين، الأهالي، 2/9/1998.

(1) صلاح الدين حافظ، العناية الإلهية الأمريكية واضطهاد الأقباط، مرجع سابق.

(2) حليم فريد تادرس، ممن وضد من تحميهم أمريكا؟، صحيفة الأهرام، 8/4/1998.

(3) حسن أبو طالب، الحال القبطية في مصر والذود عن الوحدة الوطنية، صحيفة الحياة اللندنية، 15/4/1998.

(4) الأنبا اسطفانوس الثاني، مجتمعنا المصري متماسك، صحيفة أخبار اليوم، 16/5/1998.

(1) د.رفعت السعيد، الوحدة الوطنية وسياسة إغماض العين، مرجع سابق.

 

  • نُشرت هذه الدراسة ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى