قانون الأحوال الشخصية ودلالاته المرجعية والثقافية: كيف نظر المصريون إلى القضية؟

مقدمة

يمثل الوضع القانوني في مصر والعالم والإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر وما بعد ذلك واحدًا من أهم جوانب التحول والتغير على مستوى المرجعية الكلية وعلى مستوى الأحكام الجزئية، وتأتي فترة الدراسة محل النظر (1919-1952) في مصر امتدادًا لهذا التحول في شكل وطبيعة القانون، ولكن ابتداءً لا بد أن نؤكِّد أننا لسنا بصدد دراسة قانونية بحتة، كما أننا لسنا بصدد دراسة تاريخية توثيقية بحتة، ولكن بصدد عملية رصد للتحولات الثقافية والمرجعية وأثرها على التحولات الاجتماعية في مصر خلال هذه الفترة، من خلال دراسة قانون الأحوال الشخصية لعام 1929م في مصر كونه القانون الأكثر التصاقًا من غيره بحياة الناس والمجتمع، أو بقولٍ آخر هي دراسة حول قانون الأحوال الشخصية والتحولات الاجتماعية في مصر بين ثورتي 1919 و1952.
كما تحاول الدراسة أن تقف على درجة وحجم التغيُّر في قانون الأحوال الشخصية خلال حقبة ما بين الثورتين وعلاقة ذلك التغيُّر بالتحولات الاجتماعية في مصر خلال هذه الفترة، وأي منهما (قانون الأحوال الشخصية/ التحولات الاجتماعية) أدَّى لإحداث تغيير في الآخر؟ وهل يعبِّر حجم ومستوى التغير في قانون الأحوال الشخصية عن التغير في المجتمع خلال هذه الفترة؟ وما هو موقعه من القانون العام وخاصة من الناحية المرجعية، وما هو موقف الناس/المجتمع من التغيير في القانون وخاصة قانون الأحوال الشخصية؟

أولًا- قانون الأحوال الشخصية 1929: (سياقات وحواضن)

لا يمثِّل قانون الأحوال الشخصية لعام 1929 ولا القانون عامة جزيرة منعزلة، وإنما يأتي في إطار عام سياسي وثقافي واجتماعي، يرى الباحث ضرورة تسكينه بداخله كبدايةٍ لازمةٍ لدراسته، حتى تتَّضح بيئة القانون وظروف إصداره والعوامل المؤثِّرة في ذلك، وكذلك درجة التوازي بين التغيُّر في القانون والتغيُّر في المجتمع، ولذا ستتعرض الدراسة -حسب المساحة المتاحة- للسياقات التالية:
أ) السياق السياسي: يأتي القانون في وقت تقع فيه مصر وكثير من بلدان العالم الإسلامي تحت الاحتلال الاجنبي، فمصر يومها كانت تحت الاحتلال الإنجليزي منذ أربعة عقود، وتعاني الاستبداد الداخلي فكان المجتمع محاصرًا بين قهر المحتل واستبداد الملك، وفي ذات السياق يجب أن نؤكد أن مصر وقتها كانت تعيش ثمانية عقود من انكسار مشروع محمد علي، وأربعة عقود من الاحتلال الإنجليزي، والعقد الأول من سقوط الخلافة. وكان انكسار مشروع محمد علي بدايةً لخلفاء ضعفاء بعضهم مُتأثِّر بالثقافة الغربية، وهو ما أدَّى لتحولات منذ عهد إسماعيل تعاظمت بعد سقوط مصر تحت نير الاستعمار، وتفاقمت بعد تشكُّل طائفة علمانية ضمن الحركة الوطنية، وهي الطائفة التي لعبت دورًا رئيسًا في ثورة 1919.
ب) السياق الفكري: يمكن أن نرصد عدَّة تحولات كبرى في الجانب الفكري خلال هذه الفترة من تاريخ مصر، لعل أهمها تحول النظر للغرب والأخذ عنه في مجتمعاتنا من مجرَّد الأدوات والأساليب إلى الأفكار والمرجعيَّات ممثلًا في النظريات السياسية والفلسفية والاجتماعية والأدب والشعر، ولكن هذا التحوُّل لم يكن قد تحوَّل لسمة عامة في المجتمع، وإنما جرى ذلك في نطاق الشرائح الاجتماعية والبيئات والقوى السياسية ذات الاتصال بالمصالح الأوروبية، واستمرَّت الحركات الوطنية والرؤى الاجتماعية تصدر عن الأصول الإسلامية في السياسة وغيرها(1)، حتى تجلَّى التغريب للنخبة في ثورة 1919، وأخذ يتطوَّر بعدها شيئًا فشيئًا.
وانتشرت خلال هذه الفترة الكثير من الدعوات الإصلاحية، يمكن أن نشير منها إلى مشروع الإمام محمد عبده ومدرسة الإحياء والتجديد ومشروع إصلاح القضاء الشرعي الذي اقترحه الأستاذ الإمام، وهو مشروع يدخل ضمن تجديد الفقه والفكر، ومشروع الاستقلال القانوني خلال الثلاثينيات الذي يُعَدُّ السنهوري باشا أبرز رموزه ومن قبله مشروع تقنين الشريعة الإسلامية، وهي مشروعات تدخل ضمن الإصلاح القانوني، وعلى الصعيد المجتمعي ظهرت خلال الثلاثينيات حركية إسلامية تنظيمية تهتم لأمر المجتمع ونفاذ الشريعة بين أفراده مثل الجمعية الشرعية 1912، وأنصار السنة 1926، والشبان المسلمين 1927، والإخوان المسلمون 1928.
وكان واحدًا من أهمِّ التحولات خلال هذه الفترة هو ظهور تيار علماني وطني لأول مرة، وهو ما كان بعد أن انفلت العقال الإسلامي الجامع لتيار الوطنية الإسلامية الذي كان الحزب الوطني يمثله على عهدي مصطفي كامل ومحمد فريد، وتصدر هذا التيار العلماني الوليد لقضايا الأمة ومقاومة المحتل الأجنبي والمستبد الداخلي معًا، وهو ما أكسبه شرعية الوجود في البيئة الإسلامية والعربية(2).
ج) السياق الاجتماعي: لا نستطيع أن نقول إن المجتمع وقتها كان على طبيعة واحدة متجانسة، فهو من ناحيةٍ يغلب عليه الفقر ويسوده الإقطاع، ومن ناحية ثانية يعيش تحت احتلال عمد إلى خلق طبقة تستفيد منه وتلتقي معه في المصالح، وهو من ناحية ثالثة مُقسَّم بين خريجي المدارس الحديثة والقافلين من البعثات الخارجية وطلاب الأزهر أصحاب العلم الشرعي والإنساني، كما كان واحدًا من أهم جوانب التغيير حينها خروج المرأة للتعليم بعد ثورة 1919 ومشاركتها في المجال العام في ثورة 1919 وما بعدها، ثم مشاركتها في جمعيات ومؤتمرات وساهمت في قيام مؤسسات خاصة بها، وهو ما أسماه عبد الرحمن الرافعي “نهضة نسائية” وسُمِّي التغيُّر في الحالة العمَّالية بـ”النهضة العمالية”(3).
إلا أن كل هذه التحولات على مستوى المرأة والنخبة صاحبة التعليم الغربي لم تكن خلال بواكير القرن العشرين قد اكتسبت بعد الطابع المجتمعي العام، وإنما طابع النخبوية سياسيًّا ومجتمعيًّا، إلا أن هذه التحولات النخبوية -وفي ظل الانكسار السياسي والتغرُّب المرجعي- تطوَّرت بشكل كبير فيما بعد، ما أدَّى لظهور حركات إسلامية تنظيمية تدعو لنفاذ الإسلام بين المسلمين، وهذا يعني أن العلمنة والتغرُّب قد زادا بشكل أدَّى (خاصة بعد سقوط الخلافة) لخلق ردِّ فعل مجتمعي إصلاحي يدعو لتجاوز هذه التطورات التي لم تصل مداها الأكبر إلا بعد نهاية الحقبة محل الدراسة بعد ثورة يوليو 1952، وهذه الحركات وإن كان لدعوتها جانب سياسي أو فكري أو حتى اقتصادي إلا أنها تأتي ضمن إطار مجتمعي، لأنها كانت أكثر ارتباطًا بالمجتمع والتحوُّل فيه، منه بالعمل السياسي الذي أتى متأخِّرًا في عمل بعضها ولم يكن ضمن مشروع البعض الآخر، فهي حركة مجتمعية ذات أبعاد فكرية وسياسية.

ثانيًا- عملية التقنين في مصر: (قراءة في تطور المرجعيات)

بدأت عملية التحول القانوني منذ دخول الأمة فيما يُسمى بـ”قرون الانحدار” التي تعتبر الحملة الفرنسية على مصر علامة على بدايتها(4)، وهي الفترة التي شهدت تحوُّلات كبيرة على مستوى المرجعية والقانون والمجتمع أيضًا، فرغم قوة الدولة في عهد محمد علي إلا أنها شهدت بدايات حالة من الازدواجية بين الوافد والأصيل، كما أنها استحدثت أدوات غربية ونظمًا للعمل والإدارة من خارج المجتمع المصري والإسلامي، وبداية من هذا التوقيت تحوَّلت العلاقة بين الدولة والمجتمع إلي مركزيَّة شديدة لصالح الدولة بعد أن كان للمجتمع درجة فعل كبيرة، بالإضافة إلى البعثات العلمية ودورها في الازدواجية والتغريب، وكذلك سعى محمد علي لقتل الرُّوح المقاومة في المجتمع ليستقرَّ له السلطان، وهو ما أدَّى لخلق مجتمع ضعيف ودولة قوية. وفي هذا الإطار تسرَّبت عمليات التقنين من خلال اللوائح والقوانين الإدارية خاصَّة من نشأة الدواوين الحديثة على طريقة الوزارات وتقنين التجارة مع الأجانب وفق أعراف مشتركة معهم خاصة في ظلِّ الإطار العثماني لما عُرف بالامتيازات الأجنبية، فأصبحت عملية تغريب القانون مجرد إجراءات أو قرارات سلطوية استبدادية لا يملك المجتمع إمكانية إلغاءها أو تعطيلها في كثيرٍ من الأحيان، ولكنها بقيت محدودة طوال فترة محمد علي.
كان انكسار مشروع محمد علي وضعف خلفائه من بعده وغرق البلاد في الديون؛ طريقًا لفرض القانون الغربي جبرًا في مصر، فكانت البداية الرسمية بإنشاء المحاكم المختلطة عام 1875، والتي أخذت قانونها ونظام القضاء فيها عن المحاكم الفرنسية والإيطالية والبلجيكية، ووضعه محام فرنسي كان متواجدًا في مصر في ذلك الوقت اسمه “مونروي” بتكليف من نوبار باشا وكان غالبية القضاة من الأجانب(5)، وكان ذلك من امتدادات الامتيازات الأجنبية في مصر والتي استفحلت مع تعاظم النفوذ الأجنبي في عهد الخديوي إسماعيل.
يُسَمِّي المستشار طارق البشري ما حدث في هذه الفترة بـ”الاضطراب في البناء التشريعي وهياكله وأنساقه”، ويرجعه إلى تفاعل أسباب ثلاثة تتعلَّق بجمود الوضع التشريعي الآخذ عن الشريعة الإسلامية، وهو ليس جمودًا في الشريعة نفسها إنما في الفقه الآخذ عنها، وازدواجية الطابع الإصلاحي في مصر والدولة العثمانية حيث إبقاء القديم على ركوده وإنشاء الجديد بجانبه، على غير انبثاق منه ولا تفاعل معه، والغزو الأوروبي السياسي والاقتصادي ثم العسكري، ويرفض المستشار البشري كون هذا التحول قد حدث نتيجة جمود رجال الشريعة الإسلامية ورفضهم تقنين أحكامها كسبب رئيس، مشيرًا إلى إصدار المجلة العثمانية وقتها (مجلة الأحكام العدلية) وجهود محمد قدري باشا في مصر في تقنين الأحكام، ويرى أن قبول المصريِّين لهذه التشريعات كان نوعًا من التنازل للحصول على الاستقلال المطلوب وهو ما لم يحدث وقتها(6).
ومنذ احتلال مصر حتى ثورة 1919 كان القانون الوضعي قد أخذ موضعه في مصر سواء فيما أُنشئ باسم المحاكم الأهلية التي أعدَّت كبديل متنام للمحاكم الشرعية التي راح دورها يتراجع شيئًا فشيئًا ونطاق اختصاصاتها يضيق.. ونشأة كليات الحقوق إلى جوار الأزهر، وأصبحت القوانين المأخوذة عن الغربيِّين هي الأبرز في التعليم القانوني والمحاكم.. وصولًا إلى عشرينيات القرن العشرين؛ حيث برزت قضية قانون الأحوال الشخصية.
ومن ناحيةٍ أخرى، يمكن أن نسمِّي ما حدث في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين بـ”مشروع الاستقلال التشريعي”، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدعوة للإصلاح نفسها قد تحوَّلت مرجعيَّتها من داخل الشريعة والدوران في فلكها (مشروع الشيخ محمد عبده – محمد قدري باشا – مجلة الأحكام العدلية)، إلى دعوات لا تهتم بالشريعة بقدر ما تهتم بفكرة الاستقلال ذاتها وبإطار قومي بشكل كبير بعد أن كان الإطار أمميًّا، حتى النظر للشريعة الإسلامية كان من حيث كونها تمثِّل استقلالًا عن الآخر وليس من كونها المرجعية الحاكمة، إلا أن مشروع الاستقلال الذي كان السنهوري أبرز رموزه ودُعاته، لم يسلم من التقليد -تقليد الفقه القانوني الغربي ربما على حساب الشريعة- ولم يَخْلُ من العيوب، إذ لم يكن الاستقلال المتحقِّق وقتها (حسب البشري) فقط استقلالًا للذات، بل كان أيضًا استقلالًا عن الذات(7).
وبدخول الخمسينيات كان القانون المصري العام ينقل القانون الغربي كما هو، ويكفي هنا أن نذكر ملاحظة السنهوري باشا التي أثبتها عام 1953، أي بعد سبعين عامًا من إدخال التقنينات الغربية، حيث قال: “الفقه المصري ليس له طابع شخصي، ويكاد يكون تقليدًا محضًا للفقه الفرنسي، على وفرة المؤلفات الفقهية والرسائل والمجلدات في القانون المصري في جميع فروعه، وعلى اختلاف المؤلِّفين من مصريِّين وأجانب”(8)، ويؤكِّد ذلك مرة أخرى، بقوله عام 1962: “القانون المصري الجديد (المدني) يمثل الثقافة المدنية الغربية أصدق تمثيل، يمثلها في أحدث صورة من صورها”(9).

ثالثًا- قانون الأحوال الشخصية: (الشذوذ أم القاعدة)

على عكس الوضعية العامة للقانون خلال هذه العقود من التحوُّل التي انتهت بحالة تغريب كاملة وتقليد كامل، شهد به السنهوري باشا رائد مشروع الاستقلال المتمثِّل في القانون المدني، ظلَّ قانون الأحوال الشخصية يتطوَّر بخط آخر موازٍ للقانون العام وليس على نفس الخط، فرغم توارد القوانين الأوروبية إلى مصر وفرضها كقانون عام (فرنسي الطابع) إلا أن قوانين الأحوال الشخصية والوقف والميراث ظلَّت على مرجعيتها الإسلامية، وكان التحول الأهم فيها حول مسمَّى المذهب الذي تأخذ عنه، فكانت مصر منذ محمد علي وكونها تتبع الدولة العثمانية تعتمد المذهب الحنفي في كل شيء فيرجع القاضي لأرجح الأقوال في مذهب أبي حنيفة (رضي الله عنه) دون تدوين، أي يرجع لكتب المذهب ويبحث عن الراجح بين الآراء الموجودة فيها، وهو ما مثَّل صعوبة كبيرة في عمل القضاء جرى تجاوزها بعد ذلك بقانون مكتوب للأحوال الشخصية عام 1920، إلا أنه أخذ كثيرًا من مذهب مالك ومن غيره أيضًا، وتلقَّاه الناس بارتياح -حسب الشيخ أبو زهرة- فكان مشجِّعًا لذوي الرأي على مزيد من التقدم نحو الأخذ عن المذاهب الأربعة(10)، ويأتي هذا التحوُّل في المذهب في ظل دعوات إصلاحية كثيرة أبرزها دعوة الشيخ محمد عبده لإصلاح القضاء الشرعي قبل ذلك بعقدين تقريبًا ودعوة تلاميذه من بعد لنفس الهدف.
وجاء أول تعديل له بقانون رقم 56 لسنة 1923 ويتكوَّن من مادتين اثنتين فقط، ومضمونهما عدم صحة عقد الزواج إذا كان سن الزوجة أقل من ست عشرة سنة وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة، وهو تشريع لم يكن مأخوذًا عن أي من المذاهب الأربعة، غير أنه لم يخرج من الفقه الإسلامي كليةً، فهو يعتمد على رأي لابن شبرمة وعثمان البتي، وأبي بكر الأصم. وعكس القانون الأول، أثار هذا القانون ضجة وتلقاه الكثيرون بالنقد والتزييف، ولكن ألِفَه الناس بعد أن استوحشوا منه بعض الوقت(11).
وهذا التشريع وإن كان يعود لبعض فقهاء الإسلام إلا أن ذلك لا يمنع كونه يأتي تماشيًا مع حالة من التغريب اجتاحت القانون العام وطالت بعض أجزاء من قانون الأحوال الشخصية.
وتكوَّنت لجنة عام 1926 التي وصف الشيخ أبو زهرة أعضاءها بأنهم “رجال ذوي جرأة جلهم من تلاميذ الإمام محمد عبده الذين تأثَّروا بدعوته”، ووضعت هذه اللجنة اقتراحات لم تكن مقيَّدة بالمذاهب الأربعة، إنما تجاوزت ذلك لآراء فقهاء الإسلام عامة تقتبس منها ما تراه أنفع للأسرة، ولم تقف عند ذلك بل تجاوزته إلى الكتاب والسنة تستنبط منهما ولو ناقضت في ذلك ما قاله السابقون، وبعض مما أثاره الأستاذ الإمام في دروسه أو دعا للتفكير فيه، وثارت حول المشروع ضجَّة شديدة وصلت أصداؤها النيابة، وتأخَّر القانون على إثرها حتى صدر بمرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929، ولكنه اقتصر من المشروع على ما جاء في المذاهب الأربعة، فأخذ بالمقترحات المُستقاة منها وترك ما دون ذلك، إلا في الطلاق بلفظ الثلاث والطلاق المعلق، وطُرحت فكرة منع تعدد الزوجات وما من شأنه أن يؤدِّي إليها، كما طرُح الالتزام بكل شرط تشترطه الزوجة(12)، وكانت هذه الأطروحات في ظلِّ تنامي العمل النسوي المنصبِّ على ما أسماه حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية.
ثم تكوَّنت لجنة أخرى عام 1936 وصدر عن عملها قانون الميراث رقم 77 لسنة 1943 وابتدأ العمل به بعد شهرين من نشره في الجريدة الرسمية، وصدر عن عملها أيضًا قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946 ولم ينظِّم كلَّ أحكام الوقف وإنما بعضها فقط، إلى أن صدر القانون رقم 180 لسنة 1952 بإلغاء الوقف الأهلي(13). ونتج عن عملها أيضًا قانون الوصية رقم 71 لسنة 1946 وهو قانون عام شامل لكل أحكام الوصية تقريبًا، وأتى بتعديلات تجيز الوصية لوارث وتوجب الوصية لبعض الأقربين من ذرية الميت (الوصية الواجبة)(14)، وتأتي أقرب لجنة مشكلة لتعديل قانون الأحوال الشخصية بعد هذا القانون في عام 1956، ثم مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحَّد بين مصر وسوريا وغيرها من التطورات التي تقع خارج فترة الدراسة.
ومن خلال التحولات والتعديلات التي دخلت على قانون الأحوال الشخصية خلال الفترة ما بين 1919 و1952، يمكن رصد عدد من الملاحظات، تتعلَّق الملاحظة الأولى منها حول ثبات مرجعية القانون، فالتعديلات وإن كان بها بعض التغريب إلا أنها لم تخرج عن الإطار الإسلامي في عمومه وكان أقصى ما سَعَتْ له من تغيير هو تجاوز المذاهب الأربعة لغيرها والنظر المباشر في الكتاب والسنة، ويبقى أن كلَّ ذلك يحدث من داخل المرجعية وبالرجوع إليها حتى بعد ثورة 23 يوليو(15).
وهو الأثر الذي لا يزال ممتدًّا حتى اليوم -رغم ضخامة التحول- فلا يزال الأزهر الشريف يعتبر هذا القانون واحدًا من أهم الثوابت التي يجب الدفاع عنها، يؤكِّد ذلك المشروع الأخير للطلاق الشفهي الذي رفضه الأزهر وشيخه وشكل لجنة قانونية
شرعية للردِّ عليه، وكذلك تصريح شيخ الأزهر حول قضية تعديل قانون الأحوال الشخصية المطروح في مجلس النواب مؤخَّرًا، إذ يقول: “حين يتصدَّى الأزهر لمشروع قانون الأحوال الشخصية، هو يزاول عمله أو واجبه بحكم الدستور والقانون والعامة، لأن العامة لا تقبل الفتوى حول بناء الأسرة والزواج والطلاق إلا من عالم، فيجب ألا تستخفَّنا دعوات التطور إلى القول بأن الشريعة تخضع لغير العالمين بها”، وأضاف: “الأزهر لن يفرِّط في رسالته قيد أنملة فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية وكتاب الله وسنة رسول الله، نحن حراس على هذه الأمانات الثلاث”(16).
وثانية هذه الملاحظات أن اللجان التي تشكَّلت لتعديل القانون وشاب عملها بعض التغريب كانت تأخذ وقتًا طويلًا لإنجاز عملها، وتلقَّتْ مشروعاتها مقاومةً كبيرةً من المجتمع والناس وأهل الفقه، تأخَّر على إثرها إصدار القانون لسنوات بعد الانتهاء من إنجازه، وربما حدث له تغيير أو تعطيل مثل قانون 29 الذي ظلَّ مُعطلًا لثلاث سنوات ثم صدر بعده معدلًا مكتفيًا بالمذاهب الأربعة ومتجاوزًا لقضية اشتراط الزوجة أو تقييد تعدد الزوجات، وقانون الميراث الذي تأخَّر لسبع سنوات، وقانون الوصية الذي تأخَّر لعشر سنوات، وتأخَّر قانون الوصية لعشر سنوات، وهو تأخُّر يفيد قوة المقاومة الماثلة أمام هذه القوانين -رغم دورانها في الغالب في إطار الشريعة وليس سواها- وهو ما يفيد أيضًا في التعرُّف على حجم المخاطر التي كانت ولا تزال تقف أمام تحويل قانون الأحول الشخصية ليأخذ طابع العلمانية والتغريب كما هو الحال في القانون المدني.
وهنا يصبح من الضروري إيجاد وجهٍ لتفسير التعارض بين إلغاء الوقف الأهلي عام 1952 وبقاء المؤسسة الدينية صاحبة الكلمة الأخيرة في قانون الأحوال الشخصية، وهو ما يمكن ردُّه للدولة المركزية المستبدَّة، التي تعتبر الوقفَ واحدًا من الجوانب الاقتصادية التي تقع ضمن المجال العام التي تُحكم قبضتها عليه وتمتلك تصوُّرًا أُحاديًّا تفرضه فيه، على عكس قانون الأحوال الشخصية الذي لم تكن الدولة ترى ضرورة أو إمكان السيطرة عليه، وربما خضع الأمر لبعض الموازنات السياسية.
وخلاصة ما آل إليه الوضع القانوني في غالب البلاد العربية مطلع خمسينيات القرن الماضي أن كل البلاد العربية تطبق قوانين مأخوذة من الشريعة الإسلامية في مجال الأحوال الشخصية، وفيما عدا هذا المجال فإن أقطار الجزيرة العربية يغلب على قوانينها جميعًا الأخذ عن الشريعة الإسلامية، وفيما عدا الأحوال الشخصية وفي غير أقطار الجزيرة العربية، نجد نوعًا من سيادة التشريعات الآخذة عن الغرب في مجال العقوبات والتجارة ونظم المحاكم(17)، وهي خلاصة تؤكِّد أن قانون الأحوال الشخصية –خاصة في مصر- يأتي على سبيل الشذوذ الذي يثبت القاعدة وليس العكس.

رابعًا- بين الأحوال الشخصية والقانون العام: (الأصالة/ التغريب)

بالمقارنة بين مرجعية القانون العام وقانون الأحوال الشخصية تثور عدَّة أسئلة حول الأسباب التي أدَّت لهذا التباين بين القانونين، وإضافة إلى ذلك، هل يمكن أن نعتبر الشريعة الإسلامية هي السائدة في البلاد العربية استنادًا لقانون الأحوال الشخصية؟ وهل كانت هناك مقاومة حقيقية للتغيير في القانون العام كتلك المقاومة السالفة الذكر للتغييرات في قانون الأحوال الشخصية رغم اختلاف طبيعة التغير والتغرب لصالح القانون العام؟
فيما يتعلَّق بالتباين فإنه يرجع لثلاثة أسباب هي: قرب العهد بتطبيقات الشريعة الإسلامية، والعلمانية الوطنية، والآباء المؤسِّسون والظرفية السياسية.
أ) قرب العهد بتطبيقات الشريعة الإسلامية: سبق في الدراسة أن الفقه القانوني الآخذ عن الغرب تطوَّر من مجرد الأدوات إلى العقائد والأفكار، إضافة إلى أن البعثات العلمية تحوَّلت ما بين النصف الأول والثاني من القرن التاسع عشر من العلوم الطبيعية وإيفاد الرجال الناضجين لتعلُّمها، إلى العلوم الإنسانية وإعادة تشكيل الوجدان وإيفاد الصبيان لتعلُّمها(18)، إلا أن كل هذا الكم من التحوُّل لم يتعدَّ نطاق النخب صاحبة المصالح أو المتغرِّبة، وظلَّ المجتمع يأخذ عن الشريعة الإسلامية في الشؤون السياسية وغيرها(19)، لذلك كان من الصعب فرض تغريب قوانين الأحوال الشخصية التي تمسُّ عموم المجتمع، وسبقت الإشارة لعملية المقاومة لتغيير قانون الأحوال الشخصية، ولنفس السبب لقي القانون العام مقاومة كبيرة، دَلَّلَ عليها الاستاذ الدكتور محمد كمال الدين إمام بما كتبه إفرام البستاني عند شرحه لقانون العقوبات الأهلي -أحد القوانين التي فُرضت بديلًا عن الشريعة الإسلامية- والذي كان معاصرًا لبدء العمل به، من أن هذا التشريع لقي معارضة شديدة لمخالفته للشريعة وعوائد البلاد، وذلك ثابت في المضابط و”محاضر مجلس النظار”، واستدلَّ عليها أيضًا بما ورد في كتاب محمد رشيد رضا “المسلمون والقبط” من أن المسلمين في مصر “هاجوا” على الحكومة حين أرادت أن تجعل في المحكمة الشرعية العليا عضوين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية فحملوا عليها في الجرائد واجتمع علماء الأزهر لأول مرة للإنكار عليها(20). كما أن عملية العلمنة والتغريب لم تحدث مرة واحدة وإنما مرَّتْ بمراحل شتَّى منذ قدوم الحملة الفرنسية وحتى اليوم، وذلك يعني بالضرورة أن عملية إزاحة أو إقصاء الشريعة الإسلامية عن المجال العام لم تكن حينها قد تجذَّرت بالشكل الذي يمكن معه تبديل قانون الأحوال الشخصية في مجتمع تعلمنت فقط بعض نخبه، إلا أن مقاومة التعديل والتغريب في قانون الأحوال الشخصية ظلَّت هي الأكثر فعالية قياسًا على نتائجها ولم تكن مقاومة الشيوخ والفقهاء والعامة لتصل نفس النتائج في القانون العام لاعتبارات الاحتلال والاستبداد ومركزية الدولة وتغرُّب النخبة.
ب) العلمانية الوطنية: والتسمية للمستشار البشري، ويطلقها على التيار العلماني الذي نما في مصر خلال الفترة محل الدراسة وتبنَّى مقاومة المحتل والدفاع عن الوطن، ولم يكن يرفع الشعار العلماني جهارًا ولكنه ابتعد عن الإسلامية في تطبيقاته، ولعله في بدايته كان حريصًا على استعمال الشعور الديني السياسي ولديه مشروع للنهضة لا يعادي الإسلام ولكنه يتبنَّى معايير الاحتكام الغربية، ويسعى لبناء بلد ناهض على الطريقة الأوروبية، وفي ظلِّ هذه السمة لتيار العلمانية الوطنية وموقفه من الدين لم يكن مستغربًا أن يظلَّ قانون الأحوال الشخصية -رغم تغرُّب القانون العام- على إسلاميَّته المعبِّرة عن حقيقة المجتمع وغير المتصادمة مع النخبة العلمانية.
ج) الآباء المؤسِّسون والظرفية السياسية: إذا اعتبرنا أن الوفد وزعامته يمثلان “الأب المؤسِّس” لتيار العلمانية الوطنية في مصر، فإن ظروف الثورة ومقاومة الاحتلال والاستبداد، في ظل مجتمع إسلامي، تتطلَّب من الزعامة السياسية الحاذقة (سعد وقيادة الوفد من بعده) ألا تصطدم بالمجتمع ولا بميوله ورموزه حتى ولو مرحليًّا، ولذلك ليس من المنطقي أن تؤيِّد زعامة سياسية هذه طبيعتها وتلك بيئتها، عملية تغريب قانون الأحوال الشخصية على غرار تغريب القانون الوضعي الذي فُرض فرضًا.
وبالجمع بين هذه العوامل الثلاثة (قرب العهد بتطبيقات الشريعة الإسلامية – العلمانية الوطنية – الآباء المؤسِّسون والظرفية السياسية) تتَّضح بشدة أسباب بقاء قانون الأحوال الشخصية في مجمله محافظًا على مرجعيته الإسلامية على العكس من القانون العام.
ولكن هل يمكن أن نعتبر الشريعة الإسلامية هي الحاكمة في الأقطار العربية استنادًا لإسلامية قانون الأحوال الشخصية؟ أو بقولٍ آخر: هل يصح الاحتجاج بقانون الأحوال الشخصية على إسلامية مصر على سبيل المثال؟
بدايةً تجب الإشارة إلى أن سيادة مرجعيَّة ما، لا يعني واحدية القانون المُنضوي تحتها، فقد تحوي النظم القانونية للبلاد صاحبة المرجعية العلمانية بعض القوانين الإسلامية، وقد تحوي النظم القانونية للبلاد صاحبة المرجعية الإسلامية بعض القوانين غير الإسلامية، فمعروف أن الشريعة الإسلامية تعطي الحق لأهل الكتاب في أن يحتكموا لشرائعهم فيما لا يخالف ثوابت الشريعة الإسلامية، أو ما يطلق عليه في الوقت الحالي النظام العام، فلم تكن الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للقانون في مصر عقب الفتح الإسلامي لها، فقد وجد بجانبها العرف وشريعة الأقباط والتشريعات الصادرة عن ولي الأمر في شكل مراسيم(21).
وعلى الجانب الآخر، فإن العلمانية لا تعني عدم وجود قوانين مصدرها الدين، لأن العلمانية في شكلها الليبرالي لا تمحو كل القوانين الفرعية وإنما يمكن أن تستوعب بعضها ضمانًا للحريات الفردية واحترامًا للعقائد، وهو ما يظهر بوضوح في الدولة الليبرالية الغربية الحديثة.
وبالتدقيق يتَّضح أن الشريعة الإسلامية وإن لم تكن مصدر كل التشريعات الموجودة في مصر عقب الفتح، إلا أنها مرجعيَّتها جميعًا وتستوعبها في رؤيتها الكلية للكون والتشريع، وكذلك بالنسبة لعلمانية الدولة الليبرالية الحديثة إن لم تكن كل القوانين تُستقى من مصادر علمانية، إلا أنها تأتي من مرجعية علمانية ورؤية كلية للكون والتشريع، وبذلك يتَّضح أن ثمة فارق كبير بين المصدر والمرجعية، فقانون الأحوال الشخصية وإن كان يحتفظ بمرجعيَّته الإسلامية إلا أنه يأتي في إطار رؤية علمانية للتشريع تستوعبه بداخلها، فهو إسلامي التكوين، علماني التوظيف والتسكين، ولذلك فإنه لا يمكن أن نعتبر مصر على سبيل المثال بلدًا يطبق الشريعة الإسلامية استنادًا لقانون الأحوال الشخصية، إلا إذا أمكن أن نعتبرها بلدًا مسيحيًّا بعد الفتح الإسلامي كونها تسمح للأقباط أن يحتكموا لشرائعهم فيما لا يضر بمجالها العام.

خامسًا- حول القانون والتحولات الاجتماعية

تدور العلاقة بين القانون والمجتمع في أحد مسارين، فإما أن يُستخدم القانون كأداة لإحداث تغيير اجتماعي، وإما أن يكون القانون مستوعبًا أو معبِّرًا عن تغيُّر أو تحوُّل اجتماعي جديد أو موافقًا لوضع اجتماعي قائم، ولذلك فإن القانون يخضع للتغيُّرات التي تحدث في المجتمع بشكل عام ليتناسب مع تطوُّراته الجديدة، كما يخضع للظروف السياسية ورؤية القيادة السياسية للمجتمع وما يجب أن يحدث فيه من تحولات، ولذلك فإنه مع تحول الدولة للمركزية الشديدة على حساب المجتمع يتعزز الدور الأول للقانون كأداة لإحداث تغيير اجتماعي حسب رغبة السلطة، وبنفس الدرجة يصعب تطبيق الثاني (تغيير القانون ليناسب التطورات الاجتماعية) إذا ما كان على غير هوى النظام السياسي، ويتعزَّز هذا الدور مع التلازم الحاصل بين الدولة والقانون، وهو تلازم تزداد درجته بزيادة المركزية، ولكن وجود مسارين للعلاقة بين القانون والتحوُّلات الاجتماعية لا يعني الأحادية/الواحدية على الإطلاق وإنما يعني أنه في وجود عوامل محدَّدة تكون نسبة أحد المسارين أكبر من الآخر ليس أكثر.
بقدوم محمد علي تحوَّلت الدولة إلى مركزية ربما لم تر مصر مثلها منذ الفتح الإسلامي وبانكسار مشروعه ضاع الاستقلال السياسي، وحل الانهيار الاقتصادي فأصبحت الدولة شديدة المركزية وتعاني قهر المحتل، فعمد المحتل القاهر بالسلطة المركزية على تغريب القانون كأداة لتغريب المجتمع بعد ذلك، فلم يكد ينتهي القرن التاسع عشر إلا وكان القانون العام كله تقريبًا على الطراز الغربي، وحتى محاولات الاستقلال القانوني بعدها لم تسلم من التغريب والتقليد معًا، قياسًا على حجم التحولات الاجتماعية خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم تكن العلمانية قد تجاوزت بعض النخب وبعض أصحاب الأقلام ولكن جرت عملية تغريب القانون العام بالكلية لإحداث تغيير في عموم المجتمع وليس مجرد النخبة، وهو ما أدَّى لإحداث تغييرات اجتماعية عكسية كرد فعل لذلك، فوجدت إسلامية تنظيمية حركية كرد فعل للعلمانية وتغرب القانون.
إلا أن مركزية الدولة وسيادتها القاهرة لا تعني أن سلطتها مطلقة في فرض أي قانون في أي وقت بغض النظر عن حالة المجتمع وثقافته ومرجعيته، إذ قد يتعطل القانون لسنوات لعدم تقبُّل المجتمع له، وقد يُلغى صدوره كما سبق في بعض قوانين الأحوال الشخصية، وقد تتراجع الدولة عن بعض المشروعات بعد طرحها كما هو الحال في مشروع قانون الطلاق الشفهي في مصر العام الماضي 2017.
ويبقى التساؤل حول قانون الأحوال الشخصية الذي ظلَّ على إسلاميَّته رغم تحوُّل الدولة وفرض التحوُّل على المجتمع عن طريق القانون، هل عبَّر عن التحوُّلات الاجتماعية الشخصية في هذه الفترة أم أنه ظلَّ بعيدًا عنها؟ وهو ما يمكن أن نختبره في إطار استعراض أهم التغييرات الاجتماعية خلال هذه الفترة، كذلك استعراض أهم التغييرات التي طرأت على القانون.
خلال الفترة محل الدراسة جرت تحوُّلات كبيرة في دور المرأة في المجال العام، فشاركت المرأة في الثورة بداية من مظاهرة هدى شعراوي في 20 مارس 1919، والتحاق البنات بالتعليم الجامعي والتحاقهن بالبعثات التعليمية أيضًا، وكذلك تكوَّن الاتحاد النسائي عام 1923(22)، وكان ممَّا أثمرته ثورة 1919 تحول المرأة من دعاوى التعليم أو السفور أو حقوق الزوجة أو غير ذلك إلى حركة نسائية لها تنظيم ومطالب محدَّدة، منها ما يتعلق بالتعليم وسن الزواج ومنها ما يتعلق بالعمل السياسي(23)، وهو التحوُّل الاجتماعي الأهم خلال هذه الفترة حتى إن عبد الرحمن الرافعي وصفه بأنه “نهضة نسائية”، وبنفس الدرجة حدثت نهضة عمالية(24).
ورغم كون المرأة قد حصلت على الحق في التعليم بموجب دستور 1923، حيث نصت المادة 19 على أن التعليم الأولي إلزاميٌّ للمصريين بنين وبنات(25)، ومارست العمل السياسي فعليًّا خلال ثورة 1919 وبعدها، وتمَّ تعديل قانون الأحوال الشخصية سنة 1923 ليكون سن الزواج للبنات 16 سنة، بالإضافة لبعض المقترحات للجنة 1926 التي أعدَّت قانون الأحوال الشخصية لعام 1929، وتتعلق بتقييد تعدد الزوجات وإعطاء المرأة حق الاشتراط في العقد، إلا أن مطالب الاتحاد ظلَّت كما هي رغم النص على أغلبها في القانون والدستور، ما يعني أن التطبيق لم يكن قد وصل بعد لدرجة يرضى عنها الاتحاد.
وهنا يتبلور السؤال حول العلاقة بين التحولات المجتمعية الخاصة بالمرأة ودورها في المجال العام، والتغيرات القانونية المتعلقة بالمرأة في نفس الفترة، وأي منهما سبق الآخر، أم أن هذه التغييرات تأتي في إطار الدعوات الإصلاحية (وخاصة التشريعية منها) التي كانت سمة هذه الفترة وخاصة دعوة الإمام محمد عبده وتلاميذه ومن قبل مشروعه لتجديد المحاكم الشرعية ودعوته الدائمة لعدم الاكتفاء بمذهب أو حتى بالمذاهب الأربعة. أو بقولٍ آخر: هل تأتي تطورات قانون الأحوال الشخصية استجابة أو استيعابًا للتطورات الاجتماعية، أم تماشيًا مع الحالة التغريبية التي سادت عملية التقنين خلال هذه الفترة؟
بشيء من التدقيق يتَّضح أن تلك التغييرات تأتي في إطار التجديد التشريعي الفقهي المستوعب لحركة المرأة النازعة نحو التطور وقتها، وما أتى في ذلك متغرِّبًا يمكن فهمه في إطار رغبة المستبد في محاكاة الغرب أو أنه أُكره على ذلك، والتنازلات الطامعة في الاستقلال، وتغرُّب بعض النخب ورغبتها في التحديث على النمط الغربي.

خاتمة

بدخول الأمة مرحلة الانحدار وتحول وضعها الحضاري؛ تحوَّلَ وضعُها السياسي وضاع استقلالها، وأرغمها المحتل على ثقافته ومرجعيته، وتحولت الدولة بعد ذلك إلى المركزية الشديدة، وخاصة في مصر، وهو تحول كبير في العلاقة بين الدولة والمجتمع، يترتب عليه تغيير وضع القانون تشريعًا ونفاذًا، فيتحول القانون من يد المجتمع، لسلطة الدولة القاهرة التي تستخدمه لتشكيل المجتمع حسب رؤيتها له، وهو ما حدث في مصر والعالم الإسلامي وبيد المحتل أيضًا.
استُعمل القانون العام في مصر كأداة لإحداث تغيير اجتماعي وثقافي ومرجعي، لأن المجتمع الفاعل قد تلاشي بفعل السلطة، فأصبحت ساحة التشريع العام خالصة للدولة فقط حسب القائمين عليها، وحتى محاولات الاستقلال القانوني بعد ذلك لم تكن تستند للمرجعية بقدر ما كانت تستند لفكرة الاستقلال نفسها، فلم تكن تخلو من عيوب التقليد، وضياع الذات لحساب ثقافة ومرجعية الآخر الغالب وقتها، فلم يكن القانون العام بالمعبر عن المجتمع وتطوره ومرجعيته وإنما كان معبِّرًا عن محتلٍّ ونخبة متغرِّبة، وبقي فقط قانون الأحوال الشخصية يعبر عن المرجعية وثقافة المجتمع على عكس القانون العام.
وإجمالا انتهت الدراسة إلى عدد من النتائج هي:
– ظل قانون الأحوال الشخصية محافظًا على مرجعيته الإسلامية وثقافة مجتمعه المصري، ولكنه وإن كان إسلامي التكوين فهو علماني التوظيف والتسكين، لذلك لا يمكن الاستناد لقانون الأحوال الشخصية لاعتبار مصر تطبق الشريعة الإسلامية وإنما يستدل به على علمانيتها.
– لقيت عملية تغريب القانون مقاومة كبيرة، ولكن قياسًا على النتائج يتَّضح أن المقاومة لتغريب وتغيير قانون الأحوال الشخصية كانت أكبر منها في عملية تغريب القانون العام.
– يمثل قانون الأحوال الشخصية لعام 1920 وأهم ما ورد عليه من تعديلات في 1923 و1929 و1943 و1946، استجابة لدعوات تجديد الفقه والتشريع مستوعبًا حركة المرأة في المجتمع مع بعض الأجزاء المتغرِّبة التي لا تغيِّر المرجعية الكلية للقانون.
– أحدث تغرُّب القانون العام ونمو وتصدُّر تيار العلمانية الوطنية، ردَّ فعل مجتمعي تمثَّل في تكوُّن حركيَّة إسلاميَّة تنظيميَّة تدعو لأول مرة لنفاذ الإسلام بين مسلمين.
– ظلَّت مظاهر التغرُّب في المجتمع والثقافة في مصر نخبوية، ولم يكتسب تيار العلمانية الوطنية شرعية وجوده إلا من دفاعه عن الوطن وعدم التعارض مع مرجعيته، وكذلك مشاركة المرأة في المجال العام لم تتجاوز النخبوية طوال حقبة ما بين الثورتين.
*****

الهوامش

(*) باحث في العلوم السياسية.
(1) طارق البشري، الحوار الإسلامي العلماني، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الأولى، 1996) ص ص 19 ، 20.
(2) المرجع السابق، ص ص 23 – 25.
(3) عبد الرحمن الرافعي، ثورة 1919.. تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921، (القاهرة: مكتبة الأسرة، 1999)، ص 264.
(4) للمزيد انظر: هاني محمود، المقاومة الحضارية: دراسة في عوامل البعث في قرون الانحدار، (القاهرة: دار البشير، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 2017)، ص ص 22، 51 – 104، 232.
(5) حازم على ماهر، تطبيق الشريعة الإسلامية والنصوص الدستورية، (مصر-الإمارات: دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، 2018)، ص 129.
(6) طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الأولى، 1996)، ص ص 5، 6، 16.
(7) المرجع السابق، ص 20.
(8) المرجع السابق، ص ص 34 ، 35.
(9) المرجع السابق، ص 21.
(10) للمزيد حول القانون انظر: محمد أبو زهرة، الأحوال الشخصية، (القاهرة: دار الفكر العربي، الطبعة الثالثة، 1957)، ص ص 10، 11، 12.
(11) المرجع السابق، ص ص 12، 13.
(12) للمزيد حول القانون انظر: محمد أبو زهرة، المرجع السابق، ص ص 13، 14، 15.
(13) المرجع السابق، ص ص 15، 16.
(14) المرجع السابق، ص 16.
(15) حين تقدَّمت بعض الشخصيات النسائية عام 1967 تطالب ببعض التعديلات في قوانين الأحوال الشخصية اقتُرح عليهنَّ التوجُّه إلى المؤسَّسة الدينية باعتبارها صاحبة الكلمة الاخيرة في هذا المجال، انظر: أمل أبو الخير أبو الخير طه، التغير الاجتماعي وتشريعات الأحوال الشخصية في المجتمع المصري، (مجلة البحث العلمي في الآداب، العدد السابع عشر، 2016)، الجزء الأول، ص 11.
(16) الإمام الأكبر: الأزهر يقوم بواجبه حين يتصدَّى لمشروع قانون الأحوال الشخصية، حديث لشيخ الأزهر على قناة النهار، تاريخ الاطلاع 11مارس 2019، الساعة 12.20ظهرًا، متاح عبر الرابط التالي:
http://cutt.us/TXoeb
(17) طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، مرجع سابق، ص 23.
(18) طارق البشري، الحوار الإسلامي العلماني، مرجع سابق، ص 16.
(19) المرجع السابق، ص 20.
(20) حازم على ماهر، تطبيق الشريعة الإسلامية والنصوص الدستورية، مرجع سابق، ص ص 139، 140.
(21) المرجع السابق، ص 75.
(22) جابر عصفور، ثورة 1919 بعد تسعين عامًا..صعود المرأة الجديد، موقع بوابة الشروق، 15 أبريل 2009، تاريخ الاطلاع: 22 فبراير 2019، الساعة: 10:43، متاح عبر الربط التالي:
http://cutt.us/U6DVp
(23) جاءت مطالب الاتحاد النسوي في القسم الثالث والأخير “القسم النسوي” متضمِّنة ستة بنود تتعلَّق بحقوق المرأة في التعليم والانتخاب والقوانين المنظمة للزواج، وحدَّدت أهدافه بمطالب رئيسية أربعة، هي: 1- رفع مستوى المرأة من أجل تحقيق المساواة السياسية والاجتماعية بالرجل. 2- منح الطالبات حرية الالتحاق بالجامعات والمدراس العليا. 3- المطالبة بوضع قانون يجعل سن زواج الفتاة لا يقل عن 16 سنة. 4- إصلاح بعض طرق تطبيق القوانين الخاصة بالزواج لوقاية المرأة من الظلم الذي يقع عليها من تعدُّد الزوجات والطلاق. وكانت المطالب الاجتماعية في برنامج الاتحاد أهم من المطالب السياسية التي وضعها الاتحاد ليتمكَّن من الانضمام للاتحاد النسائي العالمي. انظر: عايدة العزب موسى، الحركة النسائية على مدى قرن: من ثورة 1919 إلى ثورة 2011، فصلية قضايا ونظرات، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد الثاني عشر، يناير 2019)، ص 150.
(24) ورغم حدوث كل هذه التحولات إلا أن التحولات النسوية هي الأقرب للقياس من مدخل قانون الأحوال الشخصية ولذلك سنتناول تأثيرها فيه بشيء من التفصيل.
(25) عايدة العزب موسي، الحركة النسائية على مدى قرن، مرجع سابق، ص 150.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى