“طارق البشري … القاضي  المفكر”

(قراءة في كتاب) تحرير: د.إبراهيم البيومي غانم

تعد الشهادة -المرادفة للإقرار والاعتراف- إحدى الممارسات الشرعية الاجتماعية التي أرساها الإسلام وجعلها في محل مساءلة ومحاسبة وقرنها بالحق والقسط والعدل وألحقها بمهام الأنبياء والمرسلين تجاه أقوامهم وجعلها سنة جارية بين الناس تجاه بعضهم البعض، فهم شهداء الله في أرضه ولخلقه وعليهم. وأحد مظاهرها وأشكالها تأتي في صورة تكريم واحتفاء وإظهار الثناء والتقدير لأهل الفضل والمكانة، فهي باب من حفظ الحقوق وترميز القدوات وإيجاب الرحمة ووصل للأعمال بعد الممات، وتصبح الشهادة بصورها تلك ضرورة ملحة حين يتعلق الأمر بقضية عامة تتصل بهموم الأمة ومن سار في ركاب سد ثغورها بالمعنى الحضاري العام. من أجل ذلك تستعرض هذه الدراسة مصنفًا توثيقيًّا لشهاداتٍ وقراءاتٍ بحق أحد فضلاء الأمة الإسلامية المعاصرين وواحد من أهم “نفر الفقه الحضاري”، وأحد رموزها الفكرية والفقهية والقضائية المستشار “طارق البشري” رحمه الله. وبما أن هذا الأوراق التي بين أيدينا تكتب وقد وافته المنية؛ فإنها بمثابة تجديد لتلك الشهادات وذلك التكريم وتذكير بما قدمه جمع من الأعلام والمثقفين بحق المستشار البشري رحمه الله تعالى في هذه المناسبة، وقد تحول هذا التكريم والاحتفاء وتلك الشهادات إلى سفر عظيم يليق بالمحتفى به، وحمل بين أوراقه فيضا جارفا من الامتنان والاعتزاز والمحبة والفخر والتأمل المتنوع لما قدمه المستشار البشري وما يمثله ويجسده من قيم وفكرية إسلامية.

ويمثل المستشار طارق البشري -رحمه الله- رمزا وعَلَمًا من أعلام القضاء والفكر والثقافة في تاريخنا المعاصر، وأحد أئمة “الفقه الحضاري” و المجددين للتراث، فمنذ هجرته من العلمانية وانفتاحه على الفكرية الإسلامية -كما كان يسميها- شغل موقعا مهما في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة. فهو بسمته الهادئ الوقور صوت مسموع وقامة كبيرة، مؤرخا ومفكرا وداعية إصلاح سياسي، ويمثل -رحمه الله- جملة من القيم الإنسانية الرفيعة، والمبادئ الأخلاقية والعلمية النبيلة؛ التي امتزج فيها تواضع العلماء مع شموخ القضاة، ونزاهة المؤرخ مع الوطنية الصادقة، وعمق المنهج مع أصالة التجديد، والنظرة الكلية لتاريخ الأمة مع همِّ القضية الوطنية، وبالأحرى قضية الاستقلال الحضاري والعقيدي. وقد دخل عالم التأريخ بأدوات القاضي، وخاض بحار الفكر بروح الإصلاحي، وكان تركه للقضاء تحريرا من قيود يوجبها منصبه، وفتح أمامه بابا واسعا لأنْ يضيف إلى مسيرته الزاخرة بالعطاء الفكري.

وتقدم هذه الدراسة عرضا وقراءة في قراءة آخرين للمستشار البشري رحمه الله وكيف نظروا إلى إسهامه؛ تحليلا واستفادة ونقدا في ضوء كتاب “طارق البشري: القاضي المفكر”(*)، وهو أحد الكتب التي تناولت سيرته ومسيرته وفكره وحراكه التجديدي والإصلاحي والغوص في جوانب هذ الشخصية الفذة والقامة الجليلة. ويمثل خلاصة جهود مجموعة من القامات العلمية والأكاديمية والثقافية من أصدقاء وتلاميذ الأستاذ الجليل المستشار البشري رحمه الله تعالى في الندوة العلمية الأهلية التي عقدت للاحتفاء به، الذين شاركوا بالبحوث والدراسات حول حياة المستشار البشري رحمه الله أو بالكلمات والمداخلات التي ألقيت إبان الندوة. واجتهد المنظمون في تغطية الجوانب المختلفة لشخصية المستشار طارق البشري: قاضيا ومؤرخا ومفكرا، وإنسانا قبل كل هذا، وذلك عبر أبحاث الندوة والتعليقات والتعقيبات التي وردت بشأنها، كما تم إثبات الكلمات غير المكتوبة التي ألقاها الأساتذة الذين أسهموا بالاحتفاء بالمستشار البشري.

يمثل هذ الكتاب توثيقا “للندوة العلمية الأهلية” التي عقدت للاحتفاء بالمستشار طارق البشري بعد انتهاء ولايته القضائية بمجلس الدولة المصري في ربيع الأول 1419 ه – يونيو 1998 م، وكان بشكل عام توثيقا لعدد من الشهادات والإشادات التي قدمها أصدقاء وزملاء وتلامذة المستشار البشري بحقه والثناء على سيرته ومسيرته، وبحثهم في جوانب وقسمات حياته وشخصيته وأعماله الفكرية والقضائية. واتسمت الندوة بأنها كانت أهلية خالصة لم تنظَّم من أي جهة أو مؤسسة، وكانت ثمرة جهود تطوعية لعدد من أصدقاء المستشار البشري وتلامذته، ولقيت الندوة ترحيبا كبيرا في الأوساط العلمية الأكاديمية والثقافية.

تولى تحرير بحوث الكتاب والكلمات التي ألقيت فيه د.إبراهيم البيومي غانم؛ وهو مفكر إسلاميّ مصريّ وأحد قامات مدرسة المنظور الحضاري الإسلامي، يعمل أستاذًا للعلوم السياسيّة ورئيسا لقسم البحوث واستطلاعات الرأي العام في المركز القوميّ للبحوث الاجتماعية والجنائيّة في مصر، وله العديد من الكتابات والمقالات في المقاصد الشرعية والفكر السياسي الإسلامي وتقنين الشريعة والأوقاف.. وهو أحد تلامذة المستشار البشري، وقد كتب البشري مقدمات لعدد من مؤلفاته كمقدمته لكتاب “الأوقاف والسياسة في مصر”.

مساحات ومحاور التركيز

تناولت الندوة جوانب متعددة من حياة البشري؛ من الحديث عن الجوانب الإنسانية، والبحث في السيرة الذاتية والأصول الاجتماعية والتي قدم بحوثها كل من: د. إبراهيم البيومي ونجل المستشار البشري الدكتور عماد، إلى التأمل في الأصول المنهجية والملامح الفكرية الرئيسية عند “طارق البشري” وقدم بحوثها: د. سيف الدين عبد الفتاح، ود. نادية مصطفى، ثم الوقوف على أدواره ووظائفه قاضيا ومؤرخا ومفكرا وفقيها، وقدم بحوثها: المستشار مصطفى حنفي، د.قاسم عبده قاسم، د. محمد سليم العوا، الأستاذ هشام جعفر. وقد كان القسم الأول من الكتاب للكلمات، والقسم الثاني منها للبحوث.

ونظرا لأن الكتاب تناول سيرة ومسيرة واحد من أهم أعلام الفكر والقانون في التاريخ المعاصر بشخصيته متعددة الجوانب والأدوار والتأثير، فإن هذا التنوع انعكس على الإسهامات المقدمة في هذا السفر العظيم. وعند النظر في مساحات ومحاور التركيز التي ناقشها الكتاب حول المستشار البشري وعنه، نجدها كالتالي:

أ. الأصول الاجتماعية:

كان للأصول الاجتماعية للمستشار البشري ونشأته بين العمائم والطرابيش تأثير كبير في حياته وتحولاته، وفي دراسة “معالم في سيرة طارق البشري” التي قدمها (د. إبراهيم البيومي) بحث التنسيب والأصول الاجتماعية للبشري، عبر الوقوف على نسبه العائلي، وما له من أثر في تكوينه النفسي والوجداني والفكري؛ حيث ينتسب البشري لعائلة ممتدة كبيرة العدد، متوسطة الحال عالية القدر في الأدب، جده لأبيه “الشيخ سليم البشري” الذي بعد رحلة علم بالأزهر أصبح شيخا للسادة المالكية بمصر، وفي سنة 1317 ه (1900م) عُيِّن شيخا للجامع الأزهر ولكنه استقال سنة 1904م على إثر مواجهة جرت بينه وببين الخديوي عباس حلمي الثاني، وكانت تتعلق في مجملها بمبدأ استقلال الأزهر، ولكنه أعيد شيخا للأزهر مرة ثانية من سنة 1327ه-1909م إلى وفاته في 12 من سبتمبر 1917م، كما أنه عرف بزهده، وله مصنفات من تأليفه كان بعضها يدرس في الأزهر، وأنشأ هيئة كبار العلماء، وكان حريصا على إصلاح الأزهر من داخله ومقاوما لتسرب دعوات الاستشراق أو نزعات التغريب إليه، وأغلقه في وجه النفوذ الإنجليزي.

أما المستشار “طارق البشري” فقد أمضى سنوات طفولته وحتى مطلع شبابه تحيط به العمائم والطرابيش، التي لم تكن مجرد أغطية للرؤوس بل كانت رموزا لتكوينات ثقافية واتجاهات فكرية مختلفة للشيوخ ذوي الثقافة الأزهرية، والأفندية خريجي المدارس المدنية الحديثة. كما ذكر تأثير ما أمضاه البشري من وقت بين “المدينة” و”الريف” فقد أتاح له تردده على الريف معرفة وجه آخر من الحياة الاجتماعية في مصر، تسير فيه الحياة على وتيرة قائمة على الدين والزراعة والأسرة الممتدة، والدور الوظيفي للتكوينات الاجتماعية الموروثة مثل “الطرق الصوفية” في إيصال الثقافة الدينية والتربية الوجدانية، كما أدرك أثر ازدواجية نظام التعليم على القرية؛ حيث يأخذ التعليم الحديث من الريف صفوته ويفرغه من طاقاته، والتعليم الأزهري يربي له صفوته ويضيف إليه. وفي المدينة؛ لاحظ أيضا ازدواجية ثقافية واجتماعية بين “المطربشين” و”المعممين”. فـــــ”العمامة” و”الطربوش” و”المدينة” و”القرية” كلمات أربعة تلخص المحيط الاجتماعي بمعناه الخاص ومدلوله العام الذي نشأ فيه أستاذنا البشري منذ مولده إلى تخرجه في كلية الحقوق سنة 1953م.

ب. التنسيب الفكري ومصادر التكوين:

بحثت دراسة د.إبراهيم البيومي مصادر التكوين الفكري والثقافي المتنوعة للبشري، سواء المرتبطة بالأسرة والمراحل الدراسية أو بمحل عمله أو مكتبته الخاصة، وكذلك تأثره بمعاصريه؛ بهدف الوقوف على المعالم الرئيسية لمسيرته الفكرية، والتعرف على المنابع الفكرية والثقافية التي استقى منها. كما ركزت على علاقته بالتيارات الفكرية والسياسية الرئيسية في المجتمع ورؤيته لها وموقفه منها. وثمة أربعة مصادر –في هذا الإطار- أسهمت بدرجات متفاوتة من حيث الكم والكيف في التكوين الثقافي والفكري للمستشار البشري:

  1. المناخ الثقافي العام الذي نشأ فيه وتأثر به وتسربت قضاياه إلى وعيه منذ صباه الباكر؛ وهو ذلك المناخ الذي شكلت القضية الوطنية ملامحه الأساسية في مصر خلال الثلاثينيات والأربعينيات إلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين؛ حيث سيطرت القضية الوطنية (الجلاء والاستقلال) على ذلك المناخ لتحتل مكانا مركزيا في وعي طارق البشري ووجدانه وصارت إحدى المحاور الرئيسية في اهتماماته الفكرية والسياسية، وظهر أثر هذا الاهتمام في معظم مؤلفاته. والأمر الآخر المتعلق بالمناخ الثقافي اتصال الأستاذ البشري بما يمكن تسميته “دوائر المجال الثقافي الحيوي”؛ التي أحاطت به وتمثلت في عائلته من أصحاب العمائم وأصحاب الطرابيش، ودائرة النخبة الثقافية الجديدة من أهل المدينة وأساليبها الحديثة في نشر الوعي وإشاعة الأفكار والمعارف الجديدة وخاصة عن طريق الصحافة والإذاعة والمسرح والسينما، بالإضافة إلى المجتمع الثقافي الريفي وممارساته الثقافية الروحية من قبل شيوخ القرية.
  2. نظام تعليمه الرسمي الذي سلكه عبر مراحله المختلفة، وبالرغم من أنه أمضى سنوات تعليمه الرسمي بطريقة عادية إلا أنه قد ترك أثرا بعيد المدى في تكوينه المعرفي والفكري. وقد كانت مرحلة دراسته الجامعية بكلية الحقوق يغلب عليها منهج المقارنة بين القانون المدني القديم والجديد آنذاك، ما أفاده في تعميق رؤيته للأمور وضرورة النظر إليها من زوايا عدة والموازنة والترجيح. وفيها تأثر بعدد من أعلام الفقه والشريعة أبرزهم الشيخ “عبد الوهاب خلاف” والشيخ “على الخفيف” والشيخ “محمد أبو زهرة”، وقد أتاح له ذلك الاطلاع على الفقه الإسلامي بمادة الشريعة الإسلامية التي أبقته مجذوبا إلى الإسلام كنظام في المجتمع والمعاملات.
  3. قراءته الحرة ومكتبته الخاصة؛ حيث كانت قراءته الأولى من الثانية عشر حتى الخامسة عشر من عمره في المكتبة الخاصة لوالده، وكانت لجده الشيخ سليم البشري مكتبة أزهرية كبيرة، ولكنه لم يدرك منها سوى كتاب واحد فقط وهو مخطوط “ثبت إجازات الشيخ سليم البشري على ثبت الشيخ أمين”. أما جده لأمه كانت له مكتبة قيمة تحتوي على كتب فقهية وأدبية كثيرة. ومنها انتقل إلى مكتبة مدرسته الثانوية التي كانت عامرة بالكتب الأدبية بصفة خاصة. وفي المرحلة الجامعية كان يتردد بكثرة على مكتبة كلية حقوق القاهرة وفيها واصل قراءته الحرة. وبعد تخرجه واصل قراءته الحرة وصار أكثر تركيزا في مجال عمله القضائي والقانوني وكان يطالع في مكتبة مجلس الدولة ومكتبة محكمة النقد ومكتبة نقابة المحامين وقرأ مجلات القانون القديمة ومؤلفات أساتذة القانون، وقد أفادته تلك القراءات المركزة في المجال القانوني فيسرت له مادته. وانعكست اهتماماته بالقراءة الحرة على مكتبته الخاصة التي تضم حوالي 10 آلاف كتاب.
  4. تأثره بمعاصريه من كبار العلماء والمفكرين وقراءته لهم وتقديره لبعضهم؛ وصاحب الأثر الأكبر فكريا وعقليا في الأستاذ البشري هو الشيخ محمد الغزالي، وأهم ما في هذا التأثير أنه مبني على قاعدة معرفية إسلامية. وكان الأستاذ خالد محمد خالد” من الأعلام الذين عاصرهم البشري وأُعجِب به، ووافقه في بعض آرائه وانتقد البعض الآخر، وتابع آراءه واجتهاداته الفقهية والفكرية والسياسية، وكذلك شيخ الأزهر “جاد الحق علي جاد الحق الذي كانت له مواقف قوية في دعم استقلال الأزهر وسعيه للنهوض به علميا وعمليا وفي الدفاع عن الإسلام ومعتقداته.

ج. الجوانب الاجتماعية والأسرية:

تناولتها دراسة نجله الدكتور عماد؛ حيث بحث فيها الجانب الأبوي من حياته ومنهجه التربوي وقدم عددا من الملامح لعلاقته بأبنائه، وشكلت عدة مشاهد وذكريات جملة من انطباعاته عن المستشار البشري كأب، والتي كان منها:

اعتماده في نهجه التربوي مع أبناءه على المحتوى الموضوعي باستقراء المواقف والأفعال وبعملية صناعة الإنسان لا التلقين اللفظي، وتركه هامش لحرية الاختيار بشأن مستقبلهم الذي يتسع مع العمر حتى المسئولية الكاملة وتحول معه موقفه منهم إلى الناصح الأمين، وكان أكبر همه عدم التهاون أو التقصير في مسئولياتهم العامة. كما كان حريصا على سيادة أسلوب الصراحة بينهم جمعيا، والمناقشة وتبادل الرأي، واحترامه لأصغر شؤونهم، وقدرته على تفهم خصائص واهتمامات وشخصية كل منهما –عماد وزياد- على حدى والتعامل معها رغم التمايز الشديد بين شخصياتهما، كما أعطاهما مساحة لأخطاء التجربة الأولى مكتفيا بالمراقبة، وكان حريصا على دعم أواصر الصداقة بينهما، وسعة صدره عند مناقشاتهما معه. وكان نهجه في متابعة قراءاتهما إما مشاركا بالتصويب والتصحيح وإما مراقبا. وكان حريصا على غرس النزوع الديني لديهم وكانت سيرة رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) ماثلة دائما في عقله ووجدانه، وكانت أول نصائحه عند التحاق عماد بكلية الحقوق أن عليه بالشريعة الإسلامية، فبدونها ليس ثمة قانون،.

وعلى المستوى الاجتماعي؛ كان شديد الاهتمام بأمور الفكر العامة والسياسة في معظم مجالسه. وكانت علاقاته بالأشخاص والأماكن تُظهِر مقدار ما يحمله البشري من مشاعر رومانسية، كما أنه تمكن من صياغة أسلوب ديناميكي ينطلق من منهجية حياتية شديد الثبات، فحبه وتقديره لمن يعرفهم من الشباب الجاد يكاد يطاول حبه لأصدقائه عظيمي الشأن في نفسه ويكفيه منهم الجدية والإخلاص ليسارع في معاونتهم، ودافعُ ذلك إحساسه بالمسئولية الوطنية التي تستوجب منه المساهمة في إعداد جيل جديد من الجادين النابهين. وعلى المستوى الأفقي من علاقته الاجتماعية بأصدقائه كان هناك ائتلاف فكري وأيديولوجي؛ حيث يجمع فيهم بين الإسلامي والماركسي، والفنان والمهني، والقانوني والطبيب..، وذلك لإخلاصه وصدق مشاعره واتساقه مع مبادئه. كما أن صداقته لم تقتصر على الأشخاص فقط؛ بل تجلت في علاقته بالأماكن، فثمة علاقة صداقة عميقة تربطه بحجرة مكتبه المكدسة بالكتب بترتيب يحمل خصوصيته، التي كثيرا ما كان يهرب إليها لحظات الشدة أو أوقات التأمل العميق. وكذلك علاقته بقرية والدته وذكرياته عن دوار جده الكبير المفتوح على مصراعيه للعديد من الزعماء الكبار.

د. معالم التحول والهجرة:

كانت معالم التحول عن العلمانية والهجرة إلى الفكرية الإسلامية محور ورقة “معالم في سيرة طارق البشري”؛ حيث تناولت وقائع هجرته ومعاناته في المرحلة الانتقالية وتتبعت تجلياتها في كتاباته وبحوثه؛ فقد كانت هزيمة يوليو سنه 1967م، بالنسبة له ولكثيرين غيره من أعضاء النخبة الفكرية، نقطة تحول أساسية في مسار تطوره الفكري والمعرفي وكان الأمر الأكبر الذي تركته الهزيمة هو أنها وضعت ما كان سائدا قبلها من مسلمات فكرية وسياسية على بساط المراجعة وإعادة النظر، وعلى إثرها بدأ يمارس البشري نوعا من النقد الذاتي لتصوراته وأفكاره وتقويماته لأوضاع الماضي والحاضر، وكان هدفه الأساسي من عملية النقض التي مارسها هو إعادة تركيب المعيار الذي يستخدمه في الحكم على الأحداث التاريخية؛ حيث توصل إلى أن هذا المعيار لا بد أن يتضمن البعد العقدي الحضاري إلى جانب البعدين الاقتصادي والسياسي. وكان قبل ذلك علمانيا في تفكيره، يفصل بين الشؤون العامة -بما فيها الشأن السياسي- وينظر إليها على أساس علماني قح، وبين الشؤون الخاصة التي ينظر إليها على أساس أخلاقي ديني.

وقد عمق في ذلك الحين قراءته للفكر السياسي والفلسفي الغربي، مع توسعه في الاطلاع على تاريخ الحركات السياسية الغربية والثورات الاشتراكية في العالم وما ارتبط بها من تجارب ثورية وحركات تحررية في البلدان المستعمرة. وكان مفهوم الاستقلال الوطني هو المفهوم المركزي في نموذج التفكير العلماني لطارق القديم وكانت المفردات الرئيسية لهذا الاستقلال تتلخص داخليا في الأبعاد الاقتصادية والسياسية وخارجيا في قضايا الوحدة العربية وتأسيس كيان دولي عربي قوي وإقامة نظام اقتصادي وطني على أساس “العدالة الاجتماعية”، الأمر الذي كان يعكس توجهه الاشتراكي آنذاك. وكان أهم وأول عمل علمي كبير يدلنا على رؤيته القديمة هو كتابه الضخم “الحركة السياسية في مصر”؛ الذي حدد في مقدمة طبعته الأولى معيار نظرته إلى القضية المركزية الكبرى -أي “قضية الاستقلال الوطني”- وقدم هذا المعيار على أساسين رئيسيين، هما: الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، وقيم إسهامات القوى السياسية والتاريخية الفكرية التي صنعت أحداثها.

وقد استغرقت ممارسته للنقد الذاتي بضع سنوات امتدت إلى منتصف السبعينيات تقريبا، وكانت تلك الفترة مرحلة انتقالية ومعاناة فكرية جعلته يمكث فترة لا يعرف كيف يكتب فاقدا للتوازن، وطوال تلك المعاناة لم يفارقه السؤال الأساسي “سؤال الاستقلال الوطني” وشروط الانعتاق من إرادة القوى الاستعمارية، وقاده هذا السؤال إلى سؤال الهوية الذي خلص منه إلى أن إرادة الاستقلال تعني -قبل الاستقلال الاقتصادي- شعور الجماعة بتميزها وترابطها وإحساسها بالانتماء المشترك، وذلك يأتي أساسا من الجانب العقدي والحضاري، الذي لا يعطيه النموذج العلماني حقه؛ فالعلمانية تفقد الهوية لأنها تنفي البعد الروحي والعقدي معا ومن ثم تُفقِد الشخص إرادة الاستقلال التامة.

وظهرت بواكير هجرته من العلمانية إلى الإسلامية مكتوبة لأول مرة عام 1979 في مقال له بعنوان “رحلة التجديد في التشريع الإسلامي”، وكان في وقت احتدم فيه الجدل حول المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وجعلها المصدر الرئيسي للتشريع في أواخر عهد السادات، وكانت الفكرة الأساسية للمقال هي إثبات صلاحية الشريعة لمعالجة مشكلات الواقع المعاشة، وفي نفس الفترة خلص إلى بلورة مفهومين من أهم المفاهيم في تطور فكر “طارق الجديد” وهما “الموروث” و”الوافد” وهما من كلمات المفتاح الأساسية في فهم جانب كبير من البناء الفكري لطارق البشري؛ حيث أصبح يوظفهما كمفهومين تحليليين في كتاباته التي ظهرت ابتداء من 1980، ذكر منها بصفة خاصة دراسته التي ظهرت في ديسمبر 1980 بعنوان “الخلاف بين النخبة والجماهير إزاء العلاقة بين القومية العربية والإسلامية“، ثم المقدمة الجديدة للطبعة الثانية من كتابه “الحركة السياسية في مصر” في أكتوبر 1981، وكذلك كتابه الضخم “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية” 1982، ودراسة “نحن بين الموروث والوافد” في فبراير 1983، بالإضافة إلى بحوثه وفتاويه في الموضوعات السياسية والقانونية؛ فتوالت بحوثه ودراساته مسجِّلة الإسهامات الفكرية والنظرية لما وصفه بـــــ “طارق البشري الجديد”.

وقد نقلت هذه الهجرة المستشار البشري من مسار النخبة المتغربة والداعية إلى التغريب إلى مسار النخبة الأصيلة الداعية إلى التجديد على أساس الإسلام ومقاصده، ما أحدث لديه نقلة معرفية نحو الإطار المرجعي الإسلامي انعكست في منهجه في البحث والنظر ومعاييره في الحكم على الأمور وتقديرها وكذلك في رؤيته لذاته وللعالم من حوله، ثم توالت أعماله العلمية على أساس المرجعية الإسلامية التي أصبح لها حجية مطلقة لديه وسلطة للفصل كاملة.

ه. منهجيته في النظر:

قدم عدد من البحوث قراءة لمنهجية البشري في النظر التي أرساها في كتاباته وإنتاجه الفكري في مختلف القضايا التي ناقشها وتناولها بالدراسة. فقد قدم د. سيف الدين عبد الفتاح دراسة حول “المسألة المنهجية في فكر الحكيم البشري” واقترح فيها بعض المسارات لدراسة المسألة المنهجية في كتاباته؛ حيث أكد:

  1. أن من أهم الإسهامات الكبرى للبشري في المسألة المنهجية؛ تأصيل مناهج النظر ومرجعية التأسيس في التراث الإسلامي والإنساني، وكذلك الواقع، والقدرة على تحديد النَسب والعلاقات والوظائف والأدوار لدوائر التعامل التي تحيط بالباحث المسلم في إطار مرجعية التأسيس المتمثلة في: العقيدة الدافعة، والدين الجامع، ومصادر المرجعية؛ فمثلا نجد أن المجتمعات العربية عندما كانت تحت سيطرة أجنبية، صار هناك ازدواج بين المؤسسات القديمة والحديثة وتسرب النفوذ الأوروبي في كثير من المجالات؛ حيث استدعى الاحتلال أسلوبا عاجلا عمليا للإصلاح اعتمد على بناء مؤسسات جديدة موازية للقديمة، ولكن امتد إليها الاحتلال الأجنبي بنفوذه ليسيطر على ويغير وظائفها باسم الحداثة لتثبيت التبعية له، ونتاج ذلك كان الانفصام والازدواج بين حركتي الحفظ والتجديد والتقليدية والتحديث.
  2. أن مناهج النظر تحيل إلى مناطق بحثية ممتدة، وقضايا مهمة تعتبر من المستلزمات المنهجية السابقة للتعامل مع الظاهرة أو تناولها، وأن للمنهج مستويات تتعلق بكل من: الأصول المرجعية، والواقع كمرجعية، والجماعة المرجعية، والجماعة العلمية، وشبكة الإسنادات المرجعية، وكذلك أصول النظر للقضية موضوع البحث في سياقاتها الحضارية والتاريخية، وتحديد زاوية النظر وبؤرة الاهتمام. وعلى أساس من قواعد مناهج النظر تتحرك أصول التناول والتعامل، التي تمثل المسلك والطرائق والأدوات.
  3. وفي آليات التعامل مع عالم المفاهيم في إطار المشروع الفكري للمستشار البشري، فإن المفاهيم وافدة وموروثة لا بد أن تتحرك ضمن ما يمكن تسميته بمفاهيم الموقف، وأن الوعي بالمفاهيم يجب التعامل معه بإدراك لما تعنيه “دائرة مفاهيم الذات الحضارية”. ومن أهم آليات التعامل مع المفاهيم في هذا إطار: تسكين المفهوم في وسطه ومناخه العام، واستخراج المسكوت عنه ضمن ثنائيات التعامل الفكري، وإشكالية التراث والمعاصرة، وعرض خرائط الأفكار من مدخل خريطة المفاهيم.

ونبهت الدراسة إلى أن المعالجة المفاهيمية في إطار أصول التعامل المنهجي هي التي تولد عنصر المواقف الواعية المتجددة من مفاهيم متنوعة، وأن الموقف المنهجي هو الموقف التأسيسي القادر على مواجهة عالم المفاهيم، وأن التعامل معه لا بد أن يقترن بالمجالات الحيوية وأهمها عالم الخطاب.

  1. أما دور “خرائط الأفكار في دراسة الواقع” فإنها من أهم القسمات المنهاجية في تعامل المستشار البشري مع الموضوعات والقضايا؛ حيث يحول العوالم الأخرى (الأحداث والأشخاص والأشياء) إلى عالم أفكار، من خلال التعرف على ملامح الوعاء الزمني، ومعاني الزمان المعاصر، ورصد المهام المتنوعة لتفهم عناصر الخرائط الفكرية، ورصد المفاهيم الكبرى، وعالم أشخاص الخريطة الفكرية، وكذلك عالم القضايا والخبرات المتعلقة بأجندتها، والحالة التي تحيط بواقع حركة الفكر. ومن ثم تبرز منهجيته في التعامل مع الواقع بما يعنيه من: ضرورة التعرف على الظاهرة وعناصرها والبحث في أصول القابلية لها في الداخل، وضبط عناصر التأثير والتأثر بين الداخل والخارج، والبحث عن السنن الحاكمة لعالم الأفكار، وتأكيد أن الدفاع الأمثل عن الوجود هو بالتجديد والتفاعل مع الواقع، وأن الظرف التاريخي وأوضاع التحدي القائمة أمام الأمة تولد أسلوب المواجهة للدفاع عن الإسلام.
  2. تمثل “دوائر ووحدات الانتماء” مدخلا للحديث عن وحدات التحليل المنهجي في معظم دراسات وبحوث البشري؛ حيث جمع فيها بين وحدات التحليل للتقويم ووحدات التحليل لوصف الواقع، في إطار فقه تتكامل فيه وحدات التحليل لتشكل رؤيته الجامعة. ويرى البشري أن المجتمع يتكون من وحدات انتماء لا حصر لها تتنوع من حيث معيار التصنيف، وبسبب ذلك فهي تعتبر وحدات انتماء جامعة مع تنوع معايير تصنيفها وليست مانعة لغيرها من الانتماءات، فهي متداخلة ومتشابكة وتختلف اختلاف عموم وخصوص، وأجناس وأنواع، وأصل وفروع، ومن هذه الوحدات تظهر في كل مرحلة تاريخية وحدة الانتماء العامة التي تعتبر الحلقة الكبرى الأساسية الحاكمة لغيرها التي يتشكل المجتمع وفقا لما تفيده، وتتبلور وحدة الانتماء العامة وفقا للأوضاع التاريخية والاجتماعية التي ترشحها لأن تقوم بالوظيفة الأساسية وأن تستجيب للتحديات الأساسية.
  3. أن الأجندة البحثية للبشري عند تفحص أصولها تتمثل قواعد النموذج المقاصدي، وتتحرك صوب حفظ كيان الأمة وأصول بقائها وسنن ترقيتها وعمرانها، والاهتمام بدائرة الضروري في البحث والمنهج، وتأصيل المرجعية الجامعة، والمنهج الضابط لسلم أولويات أجندته البحثية.

وكل ما سبق يؤكد الاهتمام الرصين بقضية المنهج لدى البشري ومدرسته، وأن المنهج لديه رؤية متكاملة تستند إلى إطار المرجع والتأسيس وتشتق منه مناهج النظر، ومناهج النظر ولدت لديه ملكة في التعامل مع مراجع التأسيس والتراث الممتد الفقهي منه والتاريخي، فضلا عن الواقع المعيش، ومناهج التعامل معه، والتراث الإنساني وإمكانات الإفادة منه، وأن مناهج النظر لا تقتصر على أدوات المنهج وتطبيقها بل عناصر الرؤية الجامعة الحاكمة التي تعطي التنظير والواقع حقهما في تفاعل بين شطري منهج النظر وتفعيله، وأن على من يتصدى لعملية الإصلاح أن يكون من المهارة والدقة بحيث لا يُهلك أو يهلك.

أما منهجه كفقيه قانوني؛ فقد تناولته دراسة “د. محمد سليم العوا” التي سرد فيها لمحات من منهجية المستشار البشري في التفسير القانوني والفقهي، وقدم عدة نماذج توضيحية للعناصر التي يوظفها البشري في تفسيره للقانون؛ التي جمع فيها بين فقه الشريعة وفقه القانون الوضعي، واستفاد من قواعد أصول الفقه الإسلامي وطرق الاستنباط فيه، ومن قواعد الجمع بين النصوص جمعا يؤدي إلى إعمالها بلا إهمال، وإلى نفي شبهة التعارض عنها، وإلى ترجيح العدالة. وكل ذلك علامة دالة على أثر فقهه العظيم في التراث القانوني المعاصر، ويؤكد ذلك إدراكه طبيعة الفقه وماهية الفقيه، وسبيله كفقيه شرعي وقانوني تفسير النصوص القانونية وبيان معانيها متوسلا بالتحليل؛ نظرا واستنباطا للأحكام في علم أصول الفقه، وتركيبا؛ بوضع الأحكام في نسق قانوني واحد، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى تأصيلا؛ بِردِّ الأحكام القانونية إلى أصول جامعة يفهم بها أهداف التشريع وغاياته.

وذكر العوا –في هذا الإطار- رأي البشري في أن هدف التفسير هو معرفة معاني الألفاظ المفردة، والجمع بين أحكامها في نسق قانوني واحد بمقارنة جزئيات المادة القانونية ببعضها؛ لرفع التعارض المحتمل، وإذا كان لكل لفظ معناه المعجمي؛ فإنه يكتسب من السياق الذي يرد فيه ظلالا خاصة، وبالجمع بين الأمرين يظهر معنى نص القانون؛ فالقانون عنده هو إعمال عضوي متفاعل للأحكام قائم على التحليل والتركيب. ومن ثم يرى البشري أن المفسر في الحياة القانونية حين يحرك النص ويُعمِله عليه أن يضع في الاعتبار جميع ما يترتب عليه من آثار، وأن يكشف عما بداخله من عناصر نمت وتطورت بحكم نمو المجتمع وتطوره، وهنا تظهر مسئولية المفسر باعتبار عمله فنا مستقلا لا يتتبع فيه عمل المشرع ولا مسئوليته؛ ففعل المشرع استخراج مادة الأحكام من بين حاجات الناس وأحوالهم، والمفسر يُعمِل فيها فنه ويكشف عما بداخلها ويجعلها حركة حية تعالج أحوال الناس بإدراكه روح العدل المستترة بداخله، لكن ليس من شأنه بحث عدالة التشريع من عدمها؛ فطبيعة الأحكام أنها تستمد نفوذها من اتصالها بالجماعة وتنبع عنها وتجري بينها بأحكامها، حتى إذا لم تصادف واقعا ملموسا تفنى بطبيعتها دون الحاجة لإلغائها.

وقدم د. العوا عدة نماذج توضيحية للعناصر التي يوظفها البشري في تفسيره للقانون، والتي تلعب دورا وتأثيرا في فتاواه القانونية؛ منها تأثير الحقائق الاقتصادية والاجتماعية في تفسير القانون، فإذا كانت الحقيقة القانونية مفارقة للحقيقة الواقعية الملموسة فإنها تقود إلى نتائج خاطئة، لذا لم يتردد البشري في استنباط الذرائع للتواصل مع الواقع الحالي والاعتراف به كمركز قانوني في مثل تلك الحالات. كما أنه وظف قواعد الفقه الإسلامي في تفسير القانون الوضعي، بحيث يوسع الفقيه في تفسير النصوص ما ضيقه القانون، مستخدما قاعدة الاستحسان الأصولية، وأنه لا تكليف بمستحيل. كما اعتنى البشري أيضا بتفسير النصوص تفسيرا يصل بها إلى تحقيق العدل.

وعرض د. قاسم عبده في ورقته حول “المستشار البشري كمؤرخ، منهجيته في التناول التاريخي للأحداث والوقائع وقراءة التاريخ من خلال المنهج التحليلي، ويرى في مناقشته لكتابين رئيسيين له في التاريخ؛ أولهما “الحركة السياسية في مصر 1945-1952م” وثانيهما “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”، أنه قد التزم بالصرامة المنهجية ودقة التحري والتحقيق وبراعة الاستنباط؛ وهي خصائص يكتسبها القاضي تجعل منه “مؤرخا محترفا”. كما كشف عن الإمكانيات الجليلة للمؤرخ الحقيقي؛ حيث درس الظاهرة من داخلها دون رص الحوادث أو الجنوح للتعميمات والاستنتاجات الكلية المبنية على أدلة تاريخية جزئية. وكذلك أن المؤرخ مطالب أن يقرأ التاريخ قراءة تلبي حاجات مجتمعه، وأن يبحث عن عناصر بعينها في النسيج التاريخي للأمة خدمة لأهداف تسعى إليها في حاضرها ومستقبلها، وقد كان انشغال البشري بالتاريخ نابع من سؤال ألح على جيله حول مصير الأمة في وهمومها الحاضرة والمستقبلية، ليقدم قراءة موضوعية تحاول فهم حقائق التاريخ المصري لصالح مجتمعه وتبرز المسلمات والثوابت في العقول والقلوب. ويكشف الكتابان عن قدرة المؤرخ وعمق المفكر؛ إذ جمع بين وضوح الرؤية التاريخية على المستوى النظري، والقدرة على التفاعل الجدلي مع المادة التاريخية على المستوى المنهجي، وسلاسة العرض والتحليل والاستنباط والاستنتاج على مستوى الكتابة التاريخية فضلا عن دقة المصطلح والصرامة والموضوعية واعتماده على التحليل التاريخي الموضوعي للظاهرة الواحدة، ورؤيته للوظيفة الاجتماعية/الفكرية التي يلعبها الباحث التاريخي لصالح حاضر الجماعة الوطنية ومستقبلها.

و. مسيرته القضائية:

تعرض عدد من الكلمات والبحوث للمسيرة القضائية للمستشار البشري وإسهاماته القانونية وفتاواه التشريعية؛ فقد كان –رحمه الله- في حياته القضائية مثالا كريما طيبا وصاحب أمانة علمية وأفق واسع وصاحب فكر موسوعي وعقل قانوني صافٍ ومنطق سليم وذهن مرتب وجهد كبير، وكان متخلقا بالشجاعة في الحق في مواجهه الضغوط الاجتماعية والسياسية ولا يخاف في الله لومة لائم، والشجاعة في العودة عن الخطأ، وحياد القاضي وأدبه في النقد، يصدر حكمه ملتزما بالقانون مستوعبا للواقع ومستشرفا للمستقبل. وهو أحد القضاة الموسوعيين الذين زخرت بهم الأمة؛ فهو يمتلك ثقافة واسعة وموسوعية فكرية وفقهية قادرة على الاستنباط عند اللزوم وعلى التكييف الذي يسميه الأصوليون تحقيق المناط وتنزيل النص، انطلاقا من فقه النصوص وفقه الواقع وفقه المقاصد. وقد ترك بصمة واضحة في كل قسم عمل فيه بمجلس الدولة، وانعكس إيمانه العميق بالحريات على أحكامه. كما كان يتصدى لأي قضية يتناولها من كافة جوانبها، فيضع القاعدة القانونية في سياقها التاريخي والاجتماعي ثم يصدر حكمه.

وقد أكد المستشار مصطفى حسني في دراسته عن المستشار البشري كقاض في مجلس الدولة، أنه ترك بصمة كبيرة بأخلاقه وعلمه وفكره، وضرب بها نموذجا للقاضي الإداري في مصر، وأنها صفات وإن كانت لازمة لأي قاضٍ، فإنها للقاضي الإداري أشد ضرورة؛ فعليه أن يكون عالما بالأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كي يوازن بين المصلحة العامة والفردية. كما أشار إلى أنه -وكل من عمل مع المستشار البشري- تعلموا من أخلاقياته التواضع فبالرغم من مكانته وعلمه لم يسفِّه رأيا ممن هم أقل منه إن بدا مرجوحا يستفيد منه في الحكم، وكذلك شجاعته والتي تتمثل في قول رأيه في الوقت المناسب، بصرف النظر عن الظروف التي يواجها؛ ما جعله موضع ثقة واطمئنان لحكمه من المتقاضين والمحامين، فهو ينظر للقضاء باعتباره وسيلة لتغيير المجتمع لما هو أفضل من كافة النواحي. والقضاء عند المستشار البشري رسالة يتهيأ لها بالعلم والفكر والقراءة والدراسة الموضوعية؛ لذا فإنه متميز في أسلوبه في الأحكام، ليس من جهة تمكنه من اللغة العربية وجزالة عباراته ودقته فقط، بل تميز عن غيره برجوعه في أحكامه إلى قواعد الفقه.

وعقَّب المستشار سالم عبد الهادي مذكرا بفضل المستشار البشري ومكانته وعلمه، وأنه -رحمه الله- نظر للمجتمع بعين القاضي في كل ما كتب عن مصر، كما أكد أن للمستشار البشري أثر كبير في أحكامه وأن مجلس الدولة شهد بعد أربعينيات القرن الماضي أصول الفقه تظهر آثاراها في أحكامه وفي فتاوى الجمعية العمومية بفضل المستشار البشري.

ز. قراءات في أعماله:

قدمت بعض الدراسات قراءة في كتابات الأستاذ البشري؛ حيث كانت دراسة الأستاذ هشام جعفر “اتجاهات الكتابة عند طارق البشري” عرضا توثيقيا عاما لها؛ هدفه ضرب الأمثلة على الاتجاهات والدروب التي اتخذها فكر الأستاذ البشري، وخُتِمت بعرض لمجموعة كتابات المستشار البشري حسب ترتيب صدورها، مبينة ما تتسم به من شمول واتساع مجالي وامتداد زماني، بالإضافة للإحاطة بالموضوع المبحوث ممتزجا “بمنهج النظر”؛ وذلك من خلال ثلاثة مداخل:

المدخل الأول كان للتعامل مع كتابات البشري وفقا لمجالاتها وموضوعاتها، ومنها: مجال الدراسات التاريخية، ومجال الفكر السياسي، ومجال الفكر السياسي للنظم والمؤسسات. وتوزُّع كتابات الأستاذ البشري لمجالات عدة ليس سببه الانفصال فيما بينها بل التداخل والترابط الشديد، وأن منهجيته في الكتابة أنها رسالة يمارس بها “السياسة الإصلاحية” وهدفها ومقصدها مصلحة الأمة جميعها.

والمدخل الثاني؛ رد فيه كتابات البشري إلى المفاهيم التي تمثل حجر الزاوية في مشروعه الفكري، وأشار إلى ثلاثة مفاهيم أساسية تندرج تحتها كثير من المفاهيم والمقولات الفرعية: أولها؛ مفهوم الاستقلال الوطني بشعبه الثلاث: السياسي، والاقتصادي، والحضاري (المستوعب للسابقيْن)؛ الذي يكاد يكون مبثوثا في جميع كتبه ودراساته خاصة كتاباته التاريخية. وثانيها؛ مفهوما الموروث والوافد؛ الذي قدمهما كإطار تحليلي ونسق معرفي لفهم واقع الأمة المزدوج والمختلط، المعبر عن حالة الاضطراب الحضاري بين المسلمين والغرب، في محاولة لتقديم مفهوم “محايد” تجنبا للمعارك بين الإسلاميين والعلمانيين. وتمثل سلسلة كتبه “في المسألة الإسلامية المعاصرة” مثالا تطبيقيا لذلك. وثالثها؛ مفهوم دوائر أو وحدات الانتماء، وهو “مفهوم مظلة” مرتبط بعدة مفاهيم: كالتيار الأساسي الجامع لقوى الأمة والمعبر عن القاسم المشترك بينها ومكوناتها السياسية والاجتماعية، ومفهوم “المشروع الوطني” وهو مجمل الأهداف التي يتراضى أهل مرحلة تاريخية معينة على إنجازه ويفق تصور شامل للأوضاع المطلوبة؛ ووسيلة تحقيقه “الحوار الوطني”.

والمدخل الثالث ركز على تطور شخصية البشري وهجرته من العلمانية إلى الإسلام؛ وكانت كتاباته في المرحلة الفكرية الأولى في مجلتي “الطليعة” و”الكاتب”، ابتداء من منتصف الستينيات، بالإضافة إلى كتابيْ “الحركة السياسية في مصر”، و”سعد زغلول يفاوض الاستعمار”، أما المرحلة الجديدة فتمثلها كتاباته اللاحقة، وهذا المدخل للتتبع التاريخي لكتاباته وتقديمها متسلسلة حسب تاريخ إصدارها من شأنه مساعدة الباحثين في فهم كتاباته في سياقها الزمني، والتي كانت تعبيرا عن آمال الأمة وآلامها.

كما عرضت وناقشت دراسة “قراءة في فكر البشري حول المسألة الإسلامية المعاصرة” بشكل مركز بعض إسهاماته الفكرية؛ من خلال قراءة قدمتها د. نادية مصطفى، في سلسلة كتاباته التي صدرت تحت عنوان: “في المسألة الإسلامية المعاصرة”. مؤكدة ضرورة القراءة المقارنة التراكمية في أعمال الأعلام، وخاصة المستشار البشري؛ حيث إن فكره يتبدى في عدة مصادر، وتجربته مرت بتحول في نسقه الفكري -من البحث في نطاق المنظور الغربي فقط إلى إطار أكثر رحابة ومقارنة- انعكس على هذه الأعمال. وسواء كانت علمية القراءة من العام إلى الخاص أو العكس، يمثل مضمون الكتابات كلا متكاملا وبناء تراكميا ومنهاجية فكرية، ويمثل عملية تأصيل وتعميق لفكره الذي خرج من رحم الوطنية المصرية إلى عالم أرحب هو عالم الوطنية الإسلامية.

وركز د. قاسم عبده في دراسته على “المستشار البشري كمؤرخ” من خلال كتابين رئيسيين له؛ أولهما “الحركة السياسية في مصر 1945-1952م” الذي نشره في طبعتين تمثل كل منهما قراءة مختلفة للتاريخ السياسي المصري في تلك الفترة (الأولى في 1972، والثانية في 1982 بمراجعة وتقديم جديد)؛ حيث أعاد البشري قراءة تاريخ الحركة السياسية في مصر، وأعاد ترتيب المادة التاريخية للكتاب ومعطياتها وفق ما أدركه خلال ما يزيد عن عشر سنوات. ولم يقف الأمر عند حدود المراجعة بل قدم البشري منظورا تاريخيا ومنهجا في معالجة التاريخ السياسي، وأهمية إدراك الظاهرة التاريخية في سياق تاريخي موضوعي بعيدا عن التعميمات الأيديولوجية أو المواقف الفكرية “سابقة التجهيز”.

والكتاب الثاني “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”؛ والذي كان نتيجة لسؤال راود البشري بعد أزمة الثقة أعقاب هزيمة يونيو 1967م؛ حيث أدرك أن الهزيمة العسكرية لا تمثل خطرا بحد ذاتها، وإنما يأتي الخطر من إدراك العدو أن ضمانه الأساسي يأتيه من تفتيت عرى التماسك في الجماعة وإفساد قوامها بإثارة الانتماءات المعارضة أو الثانوية، ما دفع البشري لتسليط الضوء على ترابط المصريين واتحادهم الذي كان سببا في تقدمهم في مواجهة الاحتلال البريطاني في ثورة 1919م، باحثا عن دقائق العلاقة بين المسلمين والأقباط خلال تلك الفترة.

واختتم د. قاسم ورقته بتأكيد صعوبة تقديم دراسة حقيقية عن طارق البشري المؤرخ، وأن تراثه الفكري يجب أن يدرس “جملة” لأن الدراسة “الجزئية” لا يمكن أن تكون كافية للتعرف على واحد من أقطاب حياتنا الفكرية في النصف الثاني من القرن العشرين.

ح. المعالم الإيمانية:

كانت المعالم الإيمانية أحد الجوانب الشخصية للمستشار البشري التي تناولتها بعض الكلمات والبحوث، وكيف أنه حتى في مرحلة علمانيته كان هناك جانب إيماني لصيق به وظاهر منه؛ إذ أحاط به الوعي المشيخي من كل جانب، واستحضاره الدائم لله وعلاقته به سبحانه بأبعادها المتباينة كانت أحد الأسباب الرئيسية في تحولاته الفكرية وتمثل جوهر موقفه الفلسفي العام؛ حيث كان استحضاره لله متواجدا بشكل دائم؛ بالرغم من أن اهتمامه سياسيا بالدين لم يكن قد تبلور. وأخذ ذلك أبعادا متعددة، كان منها التمسك بالقيم والتعاليم الدينية بوصفها تعاليم إلهية، كما أنه مكنه من التسليم الصوفي بتدابير القدر، وأثر ذلك على خلقه وشخصيته في رباطة جأشه وقوة شكيمته، وصبره وزهده وقوته في الشدائد وقوته في الحق مهما كانت العواقب، كما أن من العلامات المميزة في البعد الديني لشخصيته أن علوم الشريعة الإسلامية جعلته يستهوي دراسة القانون.

كما ذكر د. إبراهيم البيومي في دراسته بعضًا من “المعالم الإيمانية” لطارق البشري الجديد وأهم هذه المعالم: حجه إلى بيت الله الحرام أكثر من مرة، وأن البشري كانت قمة استعادته لهويته الإسلامية في رحلة الحج الأولى وصار بناؤه الفكري والسلوكي على أساس إسلامي. وكذلك قيامه بعمل وقف خيري لوجه الله؛ والموقوف هو طارق البشري الجديد نفسه ومنشئ الوقف هو “طارق الجديد”، فهو الواقف والموقوف، فقد أعلن فيها المستشار البشري وقف قلمه وأوراقه كحرم آمن لا ينفتح لغير النظر والفهم. وتعلقه ببيوت الله، وخاصة بعض المساجد كمسجد السادة المالكية حيث دفن جده الشيخ سليم البشري. وأخيرا، فإن “طارق البشري الجديد” ينهي كتاباته كلها تقريبا بكلمتي “الحمد لله” وهو ما لا نجده في كتابات “طارق القديم” العلماني حيث كان يرى الدين باعتباره علاقة بين العبد وربه فقط، ولا أثر له في تيسير شؤون الحياة الجامعة للأمة.

ملاحظات وتعقيبات

تناولت الكلمات والأبحاث التي تضمنها هذا الكتاب جوانب متعددة من شخصية المستشار طارق البشري، ومن اليسير ملاحظة الإجماع الذي عبر عنه أصحاب الكلمات ومقدمو الأبحاث حول ريادة الأستاذ البشري رحمه الله في مجالات الفكر والقضاء والثقافة حتى صار مثلا أعلى وقدوة يحتذى بها لكل متطلع إلى النهوض بوطنه وإلى الرقي بأمته، كما أنه من اليسير ملاحظة هذا الفيض الجارف من المشاعر والمودة والتبجيل والإجلال له الذي بدى في جميع أركان الكتاب كأنما تسري فيه روح هذا الاحتفاء والاحتفال والتكريم تجاه البشري بمزيج من الموضوعية والدقة والعمق في الطرح لما قدمه البشري من إنتاج فكري وفتاوى قانونية وشرعية وقضايا تأصيلية وتاريخية وتجديد فقهي.

وقد بدت حالة من التكامل والترابط بين موضوعات ودراسات الكتاب المختلفة؛ حيث تجمع فيما بينها: الإجمال والتفصيل، والكلي والجزئي، والإطار العام والنماذج التوضيحية. وإلى جانب محتوى كتبه وإسهاماته فإن الكتاب يسهم في التعرف على سياق انتقاله من موضوع لآخر أو من جانب لآخر وكيفيته، ومن العلمانية الوطنية إلى الإسلامية الوطنية.

ومن الأمور الملاحظة فيما قُدم من دراسات وبحوث في هذا الكتاب أن بعض موضوعاتها ربما يحتاج لمساحة أكبر لتناول الجوانب الفكرية والمنهجية والقضايا المتصلة بما قدمه المستشار البشري. فقد أشارت د. نادية مصطفى في قراءتها للمسألة الإسلامية المعاصرة أنها تتضمن بعض التعبيرات وجملة من المفاهيم تمثل حججا عقلية ومنطقية بالغة الأهمية في تدعيم حالة الحوار مع الآخر وتدعيم حالة الفهم للوضع الراهن وللذات، وأنها من التعدد والكثرة التي تستلزم مساحة أوسع لتناولها وطرحها. وكذلك دراسة منهجه كمؤرخ وإن كانت تمثل نموذجا توضيحيا لمنهجية النظر لدى المستشار البشري، إلا أنها كانت تستلزم توسعا أكبر في بحث منهاج النظر التاريخي له. كما أن هناك حاجة لمزيد من التفصيل والتوسع في دراسة ما قدمه المستشار البشري في ساحة القضاء؛ حيث قدمت ورقة المستشار مصطفى حنفي حديثا “عن” فترة ولايته القضائية أكثر من الحديث “فيها” وفي إسهاماته قضائيا وقانونيا لكنها تتكامل “بدرجة ما” مع الدراسة التي قدمها د. العوا كنموذج توضيحي لها.

وبشكل عام؛ فإن هذا الكتاب يحمل تقسيما بديعا وتناولا متنوعا وعميقا لسيرة ومسيرة المستشار البشري، ويستلزم البناء عليه وإعادة تحديثه ليضيف ما هو جديد في حياة المستشارة البشري الشخصية والفكرية وما جد عنده من قضايا وكتابات، ومعالجة ما تم طرحه ومناقشته بما تناسب حينها مع الظرف الذي كتبت فيه تلك البحوث والدراسات.

____________________

هوامش

* إبراهيم البيومي غانم (محرر)، طارق البشري: القاضي المفكر، (القاهرة: دار الشروق، 1999).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى