تهويد القدس ودلالات العولمة

حول البعد الحضاري –الثقافي –العقيدي في صراع القوى وموازينه

إن عملية تهويد القدس –عاصمة موحدة لإسرائيل – والتي تُسَتَحْكَم حلقاتها أمام أنظار مسلمي العالم، شعوباً وحكومات، لتعد أقصى التعبيرات عن طبيعة تحديات المرحلة الراهنة بين مراحل تطور الهجمة الغربية –الصهيونية على الإسلام والمسلمين في العصر الحديث.
ففي قلب هذه المرحلة الراهنة –في نهاية القرن العشرين-والتي تتم في ظل تحولات عالمية توصف بما يسمى “العولمة” – في قلب هذه المرحلة ومن طياتها يبرز البعد الحضاري –الثقافي لهذه الهجمة على نحو غير مسبوق ، أو على الأقل على نحو يرتدي معه أكثر أقنعته خطورة . ومن هنا تكتسب هذه المرحلة ، التي تشهد أيضا استحكام عملية تهويد القدس ، خصوصيتها وخطورتها في آن واحد.
فإذا كانت الأمة الإسلامية دائما في قلب العالم سواء في مرحلة نموها وقوتها ووحدتها وصعودها أو في مرحلة جمودها وتخلفها وضعفها وتجزئتها ، وإذا كانت المراحل المتعاقبة من تاريخ الأمة تبرز التطور في هذا الوضع المحوري ، سواء كانت الأمة شاهدة أو مشهودة ، فإن المرحلة الراهنة من تاريخ الأمة ، في نهاية القرن العشرين وبعد انتهاء الحرب الباردة ،إنما تمثل مرحلة من إعادة تشكيل هذه الأمة في العصر الحديث . وهذه المرحلة من إعادة التشكيل ليست إلا حلقة من حلقات سابقة في مسلسل التحول من الشهود إلى المشهودية والتي تسارعت سيناريوهاته خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ، والتي مارس فيها “الخارج” أو” الآخر” أو “الغير تأثيراته على الأمة وبصورة متصاعدة لا تعكس فقط ما أضحى عليه” الخارج من قوة ومكنة ولكن ما أضحى عليه ” الداخل” من ضعف. وكان سقوط فلسطين في أيدي الصهيونية من أجل علامات هذه التحولات من الشهود إلى المشهودية.
فالمشروع الصهيوني أعلن عن جذوره الفكرية ومخططاته العملية منذ مائة عام –أي في نهاية القرن التاسع عشر –وذلك عبر مفترق طرق خطير من المفترقات التي كانت تمر بها المواجهة بين الغرب والمسلمين (استكمال الاحتلال العسكري للأرض) . ثم وُلدت إسرائيل 1948 في مفترق طرق آخر حين بدأت في التبلور حركات التحرر الوطني من أجل الاستقلال من ناحية وحين بدأ وجه ” الاستعمار الجديد ” في التشكل من ناحية أخرى ، وذلك في ظل الحرب البادرة والقطبية الثنائية التي ألقت على العالم بشباك “الصراع الأيديولوجي ” . وبعد وطأة هزيمة يونية 1967 و استلاب نتائج انتصار أكتوبر المجيد ، ثم تحت ستار التسوية السياسية السلمية تصاعدت العمليات المعلنة لتهويد القدس وذلك أيضا في ظل تصاعد عمليات العولمة منذ نهاية الثمانينيات .
وبقدر ما كان استمرار عملية التهويد الدءوبة مؤشراً عن عجز القوة الإسلامية العسكرية والسياسية فقط بقدر ما كان مؤشراً أيضا على التحدي الحضاري –العقيدي ، فهو مناط التحدي الحقيقي في صراعات القوى العالمية ، فالذي يشكل الأطر المادية للصراع مع إسرائيل هو البعد الحضاري –العقيدي . ولذا لم تكن الغاية النهائية للهجمة الغربية في العصر الحديث منذ بدايتها وفي تطورها متحالفة مع الصهيونية ، لم تكن هذه الغاية النهائية تتمثل في السيطرة على الأرض والثروة فقط ولكن أيضا إسقاط النموذج واستبداله . ولذا تحالفت الأدوات العسكرية والاقتصادية مع نظائرها الثقافية – الحضارية لتحقيق هذه الغاية النهائية عبر مخطط استراتيجي تتوالى تكتيكاته على الساحات المختلفة للمواجهة : السياسية ، العسكرية ، الاقتصادية والثقافية –الحضارية .
فإذا كانت الهجمة الأوربية الحديثة على عالم الإسلام منذ القرن السادس عشر قد بدأت مع الكشوف الجغرافية ثم تطورت أشكالها وآلياتها وأهدافها من السيطرة التجارية إلى التدخلات السياسية إلى اقتطاع الأطراف إلى الهجوم على القلب ثم استكمال احتلال أراضي المسلمين وتجزئتها ، فإن الأداتين الاقتصادية والعسكرية قد لعبتا الدور الأساسي خلال القرون الأربعة الأولى منذ بداية الهجمة ، وذلك لتحقيق الدوافع والأهداف الاقتصادية والسياسية للقوى الأوربية البازغة على الساحة العالمية ، بالسيطرة على الأرض والثروة . ولم تنفصل هذه القاعدة عن الغاية النهائية أي الانتصار على “النموذج ” في الإسلام أي الانتصار على “العقيدة” في الإسلام تلك العقيدة التي هي للأمة بمثابة الروح والقلب للجسد ومن ثم فهي تنعكس على صميم الخصوصية الإسلامية المشتركة الحضارية والثقافية للشعوب الإسلامية.
ولذا ، ونظراً لأن البعد الحضاري –الثقافي –العقيدي يعد بعداً محورياً في صراع القوى ففيه تكمن المداخل إلى ساحات الصراع الأخرى ، وإليه ونحوه تصب نتائج الصراع في هذه الساحات الأخرى ، لهذا كله فلقد شهدت المراحل المتتالية من الهجمة الأوربية الحديثة توظيفا لأدوات ثـقافية –حضارية (الاستشراق ، التبشير ، المدارس الأجنبية ..) لتمهد للأداتين الأخريين وتدعم من تأثيرهما وذلك بتوفير النخب المتعاونة وتهيئة الأطر المناسبة للحركة تحت مسميات الإصلاح والتحديث والتنوير . حقيقة كانت أوضاع القوى والعقل لدى المسلمين قد وصلت حالة من التردي مكنت الأخر من عالم المسلمين ، ولكن الحاجة للإصلاح والتحديث والتنوير كانت من داخل النموذج لتجديده وليس لاستبداله بنموذج آخر يسعى إلى الهيمنة والسيطرة باستبعاد وإقصاء وتشويه بل وتصفية النماذج الأخرى بكل وسائل القسر والإكراه التي تنبثق عن القوة المادية .
والآن ، وفي نهاية القرن العشرين وفي قلب المرحلة الراهنة من التحديات التي تواجه عالم المسلمين يحتل البعد الثقافي – الحضاري مرتبة متغيرة .
فلقد أضحت ساحة الثقافة – والحضارة آخر ساحات الهجوم “علنياً” وآخر خطوط دفاعنا . كما أضحت الأداة الثقافية –الحضارية في تناغم شديد واندماج واضح مع الأدوات الاقتصادية والسياسية وذلك في غمار عمليات “العولمة” .
ولا غرابة إذن أن يلحظ المراقب والباحث والأكاديمي أن ساحة الخطاب الغربي ، الذي تم تدشينه بقوة منذ عقد ، حول “العولمة ” زاخرة عامرة بما يتصل بالثقافة والحضارة والدين ، وهذا هو دأب العلاقة بين السياسة وبين الأكاديمي في الغرب : ففي مرحلة الاحتلال العسكري والاستعمار التقليدي طغت الدراسات والنظريات الاستراتيجية –العسكرية على غيرها ، وفي مرحلة الاحتلال الاقتصادي والاستعمار الجديد والتبعية (بعد موجات الاستقلال السياسية ) طغت دراسات الاقتصاد السياسي الدولي الجديد ، والآن تنمو الاهتمامات حول “العولمة والثقافة ، العولمة والهوية ، الثقافة العالمية ، العولمة الثقافية ، كما يعلو الخطاب عن حوار الحضارات أم صدام الحضارات وعن حوار الأديان ليس في الأوساط الأكاديمية والثقافية فقط ولكن السياسية أيضا . وهذا الوضع الآن لا يعكس إلا تأكيد القناعة بأن المواجهة ليست حول السياسة والاقتصاد فقط ولكن الحضارة والدين في قلبها وفي المقابل كان لابد لخطابنا العربي –الإسلامي سواء السياسي أو الأكاديمي أن يلقف الطعم ، كما لقف قبل عدة سنوات طعم “النظام العالمي الجديد ” –وأن يبدأ في استهلاك هذا الخطاب الغربي الكاسح عن “العولمة” وأن يتساءل : هل العولمة ظاهرة أم علمية؟ حديثة أم قديمة ؟ ما هي أبعادها ومضامينها؟ وما هي القوى المحركة لها ؟ ما هي آثارها ؟ هل يمكن تقديم مفهوم واضح عنها محل رضاء وقبول ؟
وبالرغم من تعدد وقائع العولمة وتجلياتها كعملية لا يمكن إنكار وجودها في مجالات مختلفة ، وبالرغم من ضرورة وحيوية الإحاطة بالتنوع في الاتجاهات حول تقويم أثارها سلباً أم إيجاباً ، إلا أن ما يفرض نفسه بوضوح هو ما يتصل بمستوى تناول “العولمة ” كأيديولوجية وكسياسات جارية على الأصعدة المختلفة . فمما لا شك فيه أن محتوى هذه السياسات يعكس آثار انتصار النموذج الغربي كنموذج بلا منافس أو متحدي في الوقت الراهن . ولذا فإن أيديولوجية العولمة إنما تنبثق عن الليبرالية الجديدة وعن سياسات القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة . ومن ثم فإن العولمة عملية إرادية تعكس اتجاه نموذج حضاري للهيمنة بسبل إكراهية وقسرية –على النماذج الأخرى ليس على الأصعدة الاقتصادية والسياسية فقط ولكن على الصعيد الثقافي بالضرورة . وعلى هذه النماذج الأخرى أن تتكيف وتنخرط أو أن تقاوم وتقدم الاستجابات اللازمة لمواجهة تحديات العولمة .
ولذا فإذا كانت التحديات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تبرز من إطار سياسات العولمة وفي ظل عملياتها إنما تمثل درجة متقدمة ومتطورة من الخطورة التي سبق وواجهتها الأمة ولو في ظل سباقات أخرى وبأشكال أخرى للتدخلات الخارجية (الإصلاحات والتنظيمات ، الاستعمار التقليدي ، الاستعمار الجديد ، الحرب الباردة ) إلا أن المجال الحقيقي للتحديات الأكثر خطورة والتي اكتسبت أبعاداً متطورة هو المجال الحضاري –الثقافي في ظل عمليات العولمة الراهنة التي لا تعكس مجرد تدخلات خارجية ولكن اختراق واجتياح الخارجي للداخلي .
بعبارة أخرى فإن المرحلة الراهنة من تطور النظام العالمي هي المرحلة التي يخوض فيها “الغرب” المعركة في مواجهة “الباقي” لاستكمال تنميط العالم ليس اقتصاديا فقط على النمط الرأسمالي أو سياسياً فقط على نمط الديموقراطية البرلمانية ولكن أيضا في إطار منظومة القيم الثقافية –الحضارية الغربية . ولن يكتمل الانتصار الاقتصادي أو السياسي بدون الثقافي الحضاري . وفي المقابل فإن الفشل على الساحة الثقافية –الحضارية يحمل كل إمكانات نمو مراكز قوة عالمية بديلة قد تنعكس معها وبها مسار التفاعلات العالمية وتوازنات القوى العالمية. بعبارة أخرى أيضا بقدر ما أضحت تواجهه الساحة الثقافية –الحضارية من أخطار بقدر ما تحوي من فرص وإمكانات لإنبعاث جديد من خلال تجديد ثقافي –حضاري يكون بمثابة المنطلق نحو التحدي المادي في أبعاده الاقتصادية والعسكرية . هكذا يرشدنا سلم منظومة القيم الإسلامية وآفاق تشغيل فعاليتها إلى أولوية الأبعاد غير المادية ولكن دون انقطاع عن الأسباب المادية .
لا غرابة إذن – على ضوء كل ما سبق – أن نقول أنه إذا كان تهويد القدس –عاصمة موحدة لإسرائيل – لا يحمل تحذيرات مباشرة أمام من رفعوا شعار “السلام خيار استراتيجي مع إسرائيل ” توازي في الخطورة ما يمثله – في نظرهم – توقف عملية السلام أو انتهائها (يتم دائما تأجيل قضية القدس إلى ما يسمى المرحلة النهائية من التسوية ) فإن هذا الأمر ليضيف دلالة هامة إلى الدلالات التي نخرج بها من المتابعة والمقارنة بين أسانيد خطاب المدافعين عن هذا الخيار وبين أسانيد خطاب الرافضين له . فإن هذه المقارنة تجعلنا نقف أمام مجموعتين متقابلتين من المفردات “القيمية” من ناحية المصلحة ، الدولة ، السلام ، ومن ناحية أخرى العقيدة ، الأمة ، الجهاد .
إن هذه المقابلة تبدي لنا أن هناك تناقض بين المجموعتين . إلا أنهما يجدر ويجب أن تكونا متكاملتين في التوظيف نحو غاية مشتركة : حقوق الفلسطينيين وحقوق المسلمين والعالم في القدس . فإن جناحي الصقور والحمائم الإسرائيليين ليسا طرفي نقيض ولكنهما يتوزعان الأدوار.
وإذا لم يتحقق هذا التكامل على صعيد صفوفنا فهذا لن يعني قصوراً في القوة المادية ولكن تمكن الصدع في خط الدفاع الحضاري –الثقافي من صفوفنا. فهو الخط الذي تكمن فيه كل فرص الإحياء والتجديد بقدر ما تحوطه كل المخاطر والتهديدات في ظل دلالات العولمة ولهذا فإن رفض تهويد القدس –فعلاً وليس قولاً فقط سيكون هو الدليل على تحصين خط دفاعنا الأخير بل وبداية إحيائه وتجديده.

نشر في مجلة القدس، العدد 4، أبريل 1999.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى